فيصل بن عثمان تليلي
الحوار المتمدن-العدد: 6531 - 2020 / 4 / 7 - 04:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يبيّن علم النّفس السياسي أنّ الأبنية والمُمارسات السياسيّة تبنى وتتوجّه من قبل شخصيات الأفراد من خلال تكامل عمليات الإدراك والذاكرة والحكم والسعي للهدف وتنظيم الانفعالات. ومن هذا المنطلق نفهم تأثّر أساليب قادة النخبة واختياراتهم ونتائج تصرّفاتهم من خلال شخصياتهم . وقد أثبتت عديد البحوث حول شخصيات العالم وقادته تأثير الشخصيّة على سياسة البلد المتوخاة داخليّا وخارجيّا، كما تؤكّد على أنّ الميول والاتّجاهات والمخاوف والوساوس في شخصيّة القائد يؤدّي إلى تصرّفات مختلفة تصل حدّ الأفعال غير العقلانيّة أو المحطّمة أو العدوانيّة التي تكون نتائجها سلبيّة وكارثيّة.
غير أنّ علماء النّفس الاجتماعيين لا يعزون فقط النتائج السياسيّة للقادة لشخصياتهم، بل لابدّ من النظر في القيود والفرص والظروف التي يؤدّي فيها هؤلاء القادة أدوارهم.ويرى (Greenstein) أنّ شخصيات القادة السياسيين تكون هامّة عندما تتوفّر أربعة شروط:
* عندما يشتغل الفاعل السياسيّ موقعًا استراتيجيّا.
* عندما يكون الموقف غامضًا أو غير مستقرّ أو معقّدًا.
* عندما يكون الموقف محمّلا بالدّلالة الانفعاليّة أو الرّمزيّة.
* عندا يكون المطلوب التصرّف بسلوك بطريقة أحاديّة تلقائيّة أو اجتهاديّة.
ويشير "بيمان وبولاك" (Byman, D. & Pollack,K) إلى أنّ شخصيات القادة السياسيين تصبح ذات أهميّة بصفة خاصّة في الظروف التالية:
* عندما تكون السلطة مركزة أو فترة التغييرات السياسيّة الهائلة.
* عند تشكيل حكومة جديدة.
* عند التعامل مع أحداث محمّلة انفعاليّا أو قضايا تهدّد القيم المجتمعيّة.
* في حالة الأزمات السياسيّة الدّاخليّة أو الخارجيّة، وفي حالة خطر داهم على البلاد.
تميل دراسات الشخصيّة والسلوك السياسيّ إلى تناول موضوعات تتعلّق بكيفيّة تصرّف القادة أثناء الأزمات السياسيّة الخانقة، وبكيفيّة اختيارهم للمستشارين واتّخاذهم القرارات وطرائق تغيير آرائهم بتغيّر الظروف.
تجاوزت الدّراسات الحديثة النظرة إلى الشخصيّة على اعتبارها مجموعة ثابتة من الخصائص المستقرّة لتعتبرها تنظيما من القدرات أو الميول التي تُستحضر اعتمادًا على مطالب الموقف وعلى الجهاز التّنفيذيّ للفرد. ومن خلال هذه الرّؤية تشبه الشخصيّة الكمبيوتر الشّخصيّ الذي توجد فيه خصائص ثابتة نسبيًّا (المكوّنات الجامدة)، كما توجد فيه أيضا عدّة تطبيقات أو "برامج التشغيل" التي تفتح وتُغلق من خلال "معالج البيانات".
يؤكّد إخصائيو علم النفس السياسيّ أنّ عوامل الشخصيّة تؤثّر في استثارة القادة السياسيين لأهدافهم واتّجاهاتهم وتقييمها، وفي التّنسيق بين الأهداف المختلفة والرّبط بينها. كما تؤثّر الشخصيّة في الكيفيّة التي يستجيب بها القادة عندما يكون في وضعيّة معيّنة، ويفسّرون "المثيرات" ويُحوّلونها إلى "معلومات"، وأيضا في درجة تحمّل القادة إزاء موقف معيّن وفي تماسكهم وإدارتهم لانفعالاتهم.
كيف نقيّم الشخصيّة دون لقاء مباشر؟
تصطدم محاولة دراسة شخصيّة القادة وتأثيرها في السلوك السياسيّ ونتائجه بمشكلة القياس سواء بالنسبة إلى القادة الأموات أو الأحياء لصعوبة الوصول إليهم حتّى يكاد يستحيل مجرّد تخيّل تطبيق أيّة أداة معياريّة على الشخصيّة (اختبارات أو استبيانات أو مسوح أو حتّى مقابلات).
استطاع كتّاب السّيرة النفسيّة تجنّب مشكلة تقييم الشخصية دون لقاء مباشر من خلال وضع استنتاجات وتشخيصات إكلينيكيّة على أساس تركيب الحقائق المعروفة من السّيرة وإثرائها بالحقائق الأخرى المعروفة.
يقدّم (Greenstein) أهمّ مراحل قياس الشخصيّة (الأبحاث السيكوبيوغرافيّة): يعيّن كاتب السيرة النفسيّة أوّلا ظاهرتيّة الفرد موضوع الدّراسة ويصف الأفعال التي كثيرًا ما تكون مفاجئة وغير معتادة ثانيًا، يصوغ النّواحي الدّيناميّة (الآليات التي تفسّر هذه الأفعال) ثالثًا ثمّ يقترح أصول هذه الآليات (المصادر الدّيناميّة في خبرات الشخص الطفوليّة.
كما يُمثّل كلام القادة مصدرا وفيرًا للدّراسة والبحث من خلال تحليل مضمون النصوص المكتوبة أو المفرغة حرفيّا عن أحاديثهم المنطوقة (الخطب أو المقابلات) باستخدام السجــلات أو الوثــائق
الثقافيّة (الاتّصالات الحكوميّة، الخيال الشعبيّ أو حتّى الكتب المدرسيّة) بوصفها تعكس الخصائص التقييميّة أو الشخصيّة أو الجمعيّة للأفراد والجماهير.
كيف يتصوّر علماء نفس السياسة الشخصيّة؟
يفترض أغلب المنظرين أنّ الشخصيّة تتكوّن من أربعة عناصر من المتغيّرات وهي السّمات والدّوافع والمعارف والسياق الاجتماعيّ. والعناصر الأربع للشخصيّة يُمكن وصفها من خلال بعدين: علنيّ يُمكن ملاحظته أو داخليّ، يقع الاستدلال عليها في مرحلة ثانية، ثمّ يتمّ النظر في مستوياتها: نمطيّة أم أنّها تعتمد على المواقف والسياقات.
السّمات هيّ العناصر المعروفة والشائعة التي يُمكن ملاحظتها عن الشخصيّة، وتظهر من خلال الانطباعات الأولى مثل الصفات والأحوال التي نستعملها لوصف الآخرين، وهي خمس سمات: "الانبساط، الاندفاع" و"الدّفء، القبول" و "الضمير الحيّ" و"الثبات الانفعاليّ" و"الانفتاح على الخبرة". وتقدّم هذه السّمات صُورا عن القادة، وقد استعملت سابقًا لأخذ معلومات عن قادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة مثل (جورج واشنطن) الذي تمتّع بدرجات مرتفعة من يقظة الضمير والاندفاعيّة ولكنّه حصل على درجات منخفضة من القبول.
أمّا الدّوافع فهي الميول أو الرّغبات الكامنة التي تنشط أو تشبع أو تهدأ أو تندمج أو تتصارع مع دوافع جديدة، لذلك لا تتضمّن دائمًا أنماطًا ثابتة من السلوك.
تحتوي المعارف على تمثّلات عقليّة متنوّعة ومخطّطات ونماذج وتصنيفات ومعتقدات حول مجال وطبيعة السياسة وقيم واتّجاهات وتصوّرات عن الطبيعة والعالم والحقيقة والخير والجمال.
أمّا السياق الاجتماعيّ الذي يعدّه علماء النّفس الاجتماعيين جزءا من الموقف أو من البيئة، فيتضمّن من جهة الموقف المباشر وخصائص البناء الاجتماعيّ الأوسع من جهة أخرى مثل النّوع والطبقة الاجتماعيّة والسلالة والعرق والثقافة والتاريخ. ويعتقد علماء نفس السياسة أنّ للسياقات السياسيّة تأثيرًا كبيرا على شخصيّة الفاعل السياسيّ.
المصادر والمراجع:
1. دافيد أو سيرز وآخرون، المرجع في علم النفس السياسيّ، الجزء الأوّل، ترجمة: ربيع وهبة، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، القاهرة، 2010.
2. قدري حنفي، حول التفسير النفسي للتاريخ، الفكر المعاصر، العدد60، القاهرة، 1970.
3. Greenstein Fred.I, Personality and Politics: Problems of evidence, inference, and conceptualization, Princeton University Press, 1987.
4. Byman, D. & Pollack,K . Let us now praise great men bringing the stsesman back, in . Internatianal Security, 2001.
5. Elms, A.C , Uncovering Lives : The uneasy alliance of biography and psychology, Oxford University Press, New Yok, 1994
6. Greenstein Fred.I, Personality and Politics: Problems of evidence, inference, and conceptualization, Princeton University Press, 1987.
7. Etheredge L.S, Personality Effects on American Foreign Policy 1898-1968, A Test of interpersonal generalization theory, American Political Science Review, 72, 1978
#فيصل_بن_عثمان_تليلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟