أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - حديث عن عائشة: بقية الفصل السابع عشر















المزيد.....


حديث عن عائشة: بقية الفصل السابع عشر


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6530 - 2020 / 4 / 6 - 20:08
المحور: الادب والفن
    


2
لا يذكر مستو كم كان عمره، لما ضمته ألعاب الأولاد مع آية، وما لو أن البنت عنت له شيئاً قبل اختفائها مع حلول أوان مراهقتهما، ومن ثم تبادلهما نظراتٍ مختلسة خِلَل بابي الدار المتقابلين، الذين يفصل بينهما بضع خطوات تُشكّل عرض الزقاق في هذه البقعة منه. آنذاك كان والدها حياً، وكانت ما تفتأ حيّةَ، عمته زَري، وكذا شائعة العشق بينهما، المتسببة برفض زواجهما. في مجتمع الحارة، سمعة الفتاة تعادل شرفها، وأيّ إشاعة تمسّها يمكن أن تتسبب بإراقة الدماء، أو على الأقل في تدمير حياتها مستقبلاً. هذا درسٌ، استفاد منه الفتى البهيّ الطلعة، المظهرُ وعياً مبكراً على خلفية قراءاته منذ الصغر ما تحتويه مكتبة والده من قصص خيالية وكتب تاريخية ومجلات أدبية.
من ناحيتها، عُرفت آية في آلها كفتاة منطلقة، محبة للدعابة والطرافة. إلى ذلك كانت مثيرة، بقامة فارعة ممتلئة. فتنتها، تجلت بقسماتٍ دقيقة وبشرة نقية اللون، متوّجة بهالة من الشعر الأشقر والكثيف. شقيقاتها الثلاث، لم يكن بأقل منها حُسناً، سوى أنهن أكثر تحفّظاً. ارتبطن بعلاقة متينة فيما بينهن، وكن أيضاً يشعرن برابطة دم قوية مع أخيهن الوحيد غير الشقيق برغم ما في طبعه من صرامة وجفاء. كان بَدو قد طلّقَ امرأته القروية، التي سبقَ أن هربت من معاشرته غير المحتملة، مخلّفةً له ابنتين أكبرهن في السادسة والأخرى تصغرها بعامين. فما لبثَ أن تزوج بأخرى، جُلبت له أيضاً من إحدى قرى القلمون. كون آية تكبر مستو بسنة على الأقل، فإن ذاكرتها احتفظت بمشاهد من مضافة أبيه، زعيم الحي، وكيفَ كانت تستقبل رجالاً غرباء ذوي قيافة أنيقة وهيئة مهيبة، يتحدثون فيما بينهم باللهجة الشامية. كانت على علمٍ أيضاً بحكايتيّ حب، ربطت والدها وأخاها بكلّ من عمّة مستو وشقيقته، وما كان من مآلهما الخائب. لم تكن ترغب بتكرار ما حصل في الماضي، كيلا يتحطم قلبها: كفتاة ذكية، فوق كل شيء، جعلت مستو يُدرك أنها تحبه فعلاً، لكن بدون سماحها له بتجاوز حدودَ التقاليد.

***
ديبو، مثلما علمنا، كان نجيَّ عمه الصغير. اعتادا على الإفضاء لبعضهما البعض بأمور خاصة، بما في ذلك عذاب القلب. مستو، كان يغبط ابن شقيقه على مستقبله الواضح، مقارنةً بمستقبله هوَ، الغامض ـ كالخطوط البيضاء في فنجان والدته، حينَ يطيبُ لها أن تقرأ فيه طالعَ أحدٍ من أولادها.
كان ديبو قد بدأ دورة تدريبية في سلاح الدرك، علاوة على ضمانه رضا السيدة ريما كخطيبٍ لابنتها الوحيدة وكانت هذه تصغره بثلاث سنين. والده، سبقَ أن اقترحَ عليه الفتاة على أثر لغطٍ تناهى إليه عن تعلّق قلبه بابنة عمته عيشو. قال له وقتئذٍ بصراحة جارحة: " تكلمتُ مع كَولي، وأبلغتني أنها تود لو ظلت دون زواج العمرَ كله إذا لم يكن ثمة خطيبٌ غيرك ".
في العامين الأخيرين من حياة الحاج حسن، وكان منهكاً من الشيخوخة، حصلَ ابنه مستو على قدرٍ أكبر من الحرية، استغلها أولاً في الخلاص من قبضة شقيقه سلو، وكان هذا كما علمنا معلّمه في مشغل النول. بررَ تصرفه أمام الوالد المنزعج، بالتأكيد أنه سيعود للدراسة عن طريق التسجيل في معهد خاص ومن ثم يتقدم لوظيفة معلّم. بشأن مصاريف المعهد، تعهّدَ بتأمينها عن طريق العمل مع شقيقه حسينو في المناوبات الليلية بالبستان. هذا الأخير، كونه عريساً عقبَ زواجه من فتاة من أسرة كريمة، وافق على حلول شقيقه الصغير بمكانه مؤقتاً في مقابل مِنَحٍ مالية محدودة. لكن مستو راحَ يصرفُ المالَ في مقارعة الأقداح، وذلك بصُحبة صديقه الوحيد، وأيضاً في شراء ملابس جديدة كي يبدو ذا مظهرٍ لائق قدّام حبيبته. على هذه الحالة قضى العامين، اللذين أعقبا وفاة الوالد.

***
رابعة، عادت مع أسرتها من عمّان لتستقر أولاً في بلدة بصرى بالقرب من شقيقتها الكبيرة. وكانت قد حملت رجلها على هذه الخطوة، بعدما صدر عفو عام عن المشتركين بأحداث الثورة وفيهم أقاربه. تم قبول الرجل مباشرةً في سلك الدرك السوريّ، بوساطة ابن عمه، المجاهد أحمد بارافي، مع شخصية سياسية نافذة. ثم ما لبثت الأسرة أن انتقلت إلى دمشق، جنباً لجنب مع نقل رأسها إلى الخدمة في سجن القلعة. كان مضى عامان تقريباً على رحيل الحاج حسن، دونَ أن يتسنى له رؤية " خلّو "، ابن رابعة. برغم تجاوز سنّ الغلام السنة، قررت والدته إيفاءَ نذرٍ يخصّه وذلك بمشاركة الأهل والأقارب والجيران. قالت لوالدتها في نبرة أسى: " سيكون أيضاً على روح والدي، رحمه الله ".
قبل حلول الظهيرة، وكان الوقتُ بأول الصيف، تعلقت أنظارُ المشاركين في النذر بسيارة أنيقة، تلألأ على حديدها المصبوغ باللون الأسود ظلُّ الساقية المشبع بأشعة الشمس. كانت سيارة صالح، وما عتمَ هذا أن انهمك في مساعدة والدته على النزول منها. بمجرد انتصابها على الأرض المعشوشبة، ألقت السيدة شملكان نظرةً واهية على المكان. توهمت أنه بستان والد ربيبتها الراحلة، " ليلو "، وكانت العشيرة تقيم فيه عادةً ولائمَ النذور وسيرانَ النيروز. لكن ظنها كان خاطئاً، طالما أن ذلك البستان انتقل منذ فترة طويلة إلى ملكية شخص آخر من خارج العائلة. الاحتفال بالنذر، تم إذاً في جانبٍ من مزرعة آل شمدين، يقع فيها كوخ الناطور. هنالك أمام الكوخ، وقفَ مستو ليشمل بدَوره المدعوين بنظراته، علّه يحظى برؤية الحبيبة: كانَ قد لحظَ وجود بعض أقارب آية، ذكوراً وإناثاً، ما جعل قلبه يخفق بقوة.

3
قدْرٌ هائل الحجم، موضوع فوق أعواد مشتعلة، سائله المغلي المتدفق دفعة وراء دفعة مثل موج البحر، كان يطهى فيه القمحُ مع اللحم الضأن واللبن. إنها أكلة النذور التقليدية، ولعل كرد الحارة جلبوها معهم من موطن الأسلاف. بينما أفراد من العائلة يهتمون بالطهي، كان بعض الخدم يُخرجون من مطبخ دار الملّاكين الصيفية فطائرَ اللحمة والجبن والسبانخ. الملّاكين، وقد علمنا أنهم آل شمدين آغا، كانوا يعطفون على ناطور مزرعتهم الشاب، حسينو، ويتعاملون معه بطريقة الند للند. المركز السابق للوالد الراحل، فضلاً عن سمعته الحسنة في حياته، أسهما ولا شك في تعزيز علاقة الابن مع المخدومين. إلى ذلك، كان حسينو نشيطاً وأميناً في خدمته، كما أنّ الهدوء والقناعة والصبر كانت من خصاله الإيجابية. لما فاتحهم قبل عامين بأمر شقيقه الصغير، لم يمانعوا في عمله معه أثناء مناوبات الليل.
ها قد مر وقتٌ طويل نسبياً على مستو في الخدمة بالمزرعة، وأضحى أيضاً محل ثقة أصحابها. في هذه الظهيرة، المحتفية بوليمة النذر، كان إذاً يبحثُ بين الحاضرين عن فتاته. فما عتمَ أن ميّز هيئتها، المُسدل عليها الخمارُ الأسود شأن باقي النساء. مستو، لم يأخذ من والدته ملامحها الجميلة ورهافة شعورها، حَسْب، وإنما أيضاً ثبات جنانها وقوة شكيمتها. هكذا وقف لوحده بمكان مرتفع قليلاً، محمياً من الشمس بظلال كوخ الناطور وأشجار الصفصاف، النامية على الضفة العليا للغدير. كان يأمل بلفت نظر حبيبته، اللاهية مع شقيقاتها. بعد مضي دقائق، خالها حقباً، اقتربت الفتاة من مكانه بينما كانت تجمعُ الزنابقَ على طول ضفتيّ الغدير. خاطبها عندئذٍ بصوتٍ خافت، لكن بجسارة: " هلمِّ بنا إلى وراء الكوخ، لنتحادث قليلاً ". لاحَ أنها بالكاد سمعت صوته، بالنظر لشدة زقزقة العصافير في هذه البقعة من البستان، أينَ همدَ عبقُ الأزهار كثيفاً في ظلال الأشجار وكأنه ينأى بنفسه عن الهاجرة.
" لماذا طلبتَ أن تراني؟ تكلم بسرعة لأنني يجب أن أرجع إليهم "، قالت له آية. كشفت له وجهها الجميل، وفي المقابل، بقيَ بصرها مثبتاً بباقة الزنبق. لقد أذعنت إذاً لرغبته، فانتقلت بخفة إلى المكان المحدد، وكان حديقة صغيرة زرعها حسينو وراء الكوخ برغم أن خدمته في البستان ليلية غالباً.
" أردتُ أن تعلمي، بأنني لن أتزوج غيرك "، رد مستو. ثم ما عتمَ أن غصّ بجوابه. إذ كان يود أن يفتتح الحديثَ بكلمات الحب لا بمثل تلك الجملة، التي وجدها غبية. شاءَ أن يستدرك، لكنها عاجلته بالقول: " هذه مسألة بعيدة الاحتمال، لأنني في سن الزواج فيما أنتَ.. "
" ما أزال صغيراً "، أكمل جملتها وليسَ دونَ شعور بالمهانة. اتسعت عيناها مع تحويلها نظرها إليه مباشرةً، وكأنما استغربت مما فاه به. ثم أتبعت ذلك بهز رأسها نفياً: " بل أردتُ القول، أنك ما زلتَ تدرس "، قالتها وأردفت بسرعة: " لا تحاول بعد الآن التكلم معي، لأنك بالتأكيد تعرف ما جرى لعمتك وشقيقتك "
" شقيقتي! "، ندّت عنه بدهشة. وكان جوابها الابتسام، قبل أن تتراجع إلى الخلف وتعود أدراجها إلى مكان الوليمة. فكّرَ وهوَ يغلي حنقاً، فورَ غياب الفتاة عن عينيه: " كان لقاءاً سخيفاً، ولم أسمعها خلالها حتى كلمةَ الحب؛ ولعلها انتظرتها مني ". بعد ذلك استعاد آخر كلمات اللقاء، فتساءل في نفسه: " لكن أيّ شقيقةٍ هذه، مَن عنتها بمثالها؟ لا مِراء في أنها تعني رابعة، لأن عيشو اقترنت بمن أحبته كما هوَ معروف ".
حينما عاد بدَوره كي ينضمَ للأهل، راحَ يلقي نظرات فضولية على رابعة. لأول مرة، ينتبه إلى علامات التعاسة على ملامح شقيقته. ولو أنها كانت تتكلّفُ ملاطفة نساء العائلة والجيران، اللواتي افتقدنَ صحبتها مذ ذهابها قبل بضع سنين للاستقرار في عمّان ومن ثم حوران.

***
ذلك كان اللقاء الوحيد مع آية، وقد تكتّم عليه حرصاً على سمعتها، فلم يبُح به حتى لديبو، أقرب أصدقائه، خشيةً أن يفلت لسانه ذات مرة بتأثير الخمر. فيما بعد، حقَّ له أن يستعيد ثقته بنفسه، بتقديره أن اللقاء لم يكن بالسوء الذي تصوّره. لم يجُز ذلك له، إلا بعدما عاينَ أكثر من مرة نظراتِ الفتاة، المختلسة بعيداً عن الأعين الفضولية، وكانت مفعمة بالصفاء والود وربما العشق. اللقاء، وما تبعه من إشارات العيون، جعله ينضج بسرعة. بكّتَ نفسه أولاً، لأنه لم يقتصد في مصروفه، فبدد المال في السمر بالخمارة صُحبة ديبو. وكان يدفع الحساب دائماً تقريباً عن ابن أخيه، مُقدّراً حالته وهوَ على عتبة الزواج. قررَ هكذا التوقفَ عن التبذير، وكان ما يتقاضاه من الحراسة الليلية قليلاً على أيّ حال: فكرة مواصلة الدراسة، للتخرّج كمعلّم مدرسة يحظى بمكانة اجتماعية جيدة، ألحّت عليه أكثر من ذي قبل.
" ديبو، المُعرَّف من كثيرين كنصف مجنون، يستعد لتأسيس أسرة بعدما ضمنَ راتباً ثابتاً من خدمته في سلك الدرك. فماذا ينقصني، أنا المتعلّم؟ "، شَحَذَ داخله بهذه الفكرة المطمئنة. لكن ظل محتاراً باللغز المتعلق بشقيقته، وبعد طول تردد عزمَ على مفاتحة الوالدة في شأنه.

4
كانت سارة تخصّ مستو بعطفها أكثر من باقي الأولاد، لدرجة نمت بينهما علاقة أقرب للصداقة. تذكُرُ مولده في أحلك أيام الحرب، وأن والدتها هيَ مَن أطلقت عليه اسمَ " مصطفى " أملاً في أن يسبغَ عليه صاحبُ اللقب حمايته وبركته. لقد قادته الوالدة إلى رحلة ذكريات، لما انفرد بها ذات ظهيرة حارة في الإيوان كي يستفهم عن موضوع رابعة. عادةً، كان يأتي عند الفجر من البستان ويخلد إلى النوم فوراً في حجرةٍ يتقاسمها مع شقيقه الأصغر. الحجرة، تم تشييدها عقبَ وفاة الوالد باقتطاع مساحة من الحديقة، التي يُنزل إليها من أرض الديار بوساطة الدرج. شجرة زيتون، كانت قد زرعتها سارة بيدها وقتما حلّت في الدار كعروس، غدت الآنَ أشبه بحارس لتلك الحجرة؛ بجذعها المتين، المنقور مثل وجه المصاب بالجدري، وفرعيها الشبيهين بساعدَيّ العملاق.
" غبَّ انتهاء الحرب، اصطحبتك جدتك معها إلى الزبداني وكان عُمرك لا يتجاوز الثلاث سنين. راحت ثمة تعرضك على أقاربها ومعارفها، كأنك دمية جميلة أو تحفة نادرة! "، اختتمت الأم ذكرياتها مبتسمةً. تمتم مستو شاردَ الذهن: " رحمها الله ". لحظت سارة حالته، فأمسكت بيده تسأله: " ما بك، يا بنيّ؟ كأني بمسألة تشغل بالك؟ "
" ليست بالمسألة المهمة "
" نعم، إنني أصغي إليك؟ "، قالتها وهيَ تشدّ على يده مُشجّعةً. عندئذٍ، ودونما وعي تقريباً، فتحَ لها قلبه متدفقاً بالحديث عن ابنة الجيران. اختتم كلامه وكان محمرّاً من الحياء. علّقت الأم أولاً بضحكةٍ فرحة، قبل أن تعبّر عن القلق حدّ غشيان الدمع في عينيها: " أعرفُ كم هيَ جميلة، آية، وقد ولّدتها بيدي هاتين قبل مجيئك للدنيا بعام واحد. لكن كيفَ تضمن ألا يتقدم لها طالبٌ غيرك، وهيَ أضحت في سن الزواج؟ "
" إذاً أتقدم لخطبتها سلفاً، وعن طريق مَن أخرجتها من بطن الأم إلى نور الحياة! "، رد مستو بحماسة ودعابة في آنٍ معاً. ابتسمت سارة ولو دونَ حماس، ثم ما لبثت أن واصلت الكلام بجدية: " سهلٌ عقد الخطبة وحتى القران، لكن بناء حياة عائلية هوَ الصعب. هل من المنطقيّ أن تنتظرك الفتاةُ خمسَ سنين على الأقل، لحين أن تكمل دراستك وتصبح معلّماً؟ هكذا سيكون جوابُ أهلها، وهم محقون لو رفضوك ". قانطاً، كاد مستو أن يهدد بخطف الفتاة، لكنه كبحَ جماح نفسه. غمغم في صوتٍ أشبه بالتوسل والرجاء: " مع ذلك حاولي إقناعهم، أماه "
" المشكلة في والدها، بسبب حكاية قديمة "، قالتها سارة ثم سكتت. هنا، جفل الابنُ وقد تذكّرَ على حين فجأة الداعي الأساس لهذا الحديث مع الأم. تساءل متردداً: " الحكاية تتعلق برابعة، أليسَ صحيحاً؟ ". هزّت سارة رأسها بالإيجاب، معتقدةً أنه يعرفُ حكاية رابعة مع بدَو؛ أخي فتاته. لما أعربَ عن جهله بالموضوع برمته، قصّته عليه باختصار. في النتيجة، تركَ مجلسَ الأم في الإيوان واتجه إلى حجرته القائمة في ظلال أشجار الحديقة كي يدفن يأسه وكربه بين جدرانها.

***
في ليلة من مبتدأ الخريف، تأخر مستو عن مناوبته الليلية. كان قد عاد إلى مألوف عادته في الخروج مساءً إلى المدينة، لمقارعة أقداح الخمر. هذا التغيّر، جدّ على أثر ما علمناه عن يأسه من جدوى حمل أسرة آية على القبول به خطيباً. وكالعادة أيضاً، كان ابنُ أخيه، ديبو، رفيقَ أمسيات الراح والمجون. عبثاً كان تحذيرُ شقيقه حسينو له بعدم الحضور للمناوبة وهوَ ثملٌ، كذلك لم تنفع توسلات الأم.
وإذاً كان حسينو ينتظرُ شقيقه الصغير، فيخرج كل مرةٍ من كوخ الحراسة كي يلقي نظرةً على الدرب الزراعيّ، المسوّر على طوله بحائطين من الطين، تهيمن عليها أغصان الأشجار. وكانت الليلة مطبقة الظلمة تقريباً بفعل السحب الثقيلة، المنذرة بأولى عواصف المطر، حتى أنّ حسينو تعثّرَ مرةً بعدّة البستنة، المكوّمة على طرف مدخل الكوخ. وراء حديقة الأزهار، التي زرعها بيديه منذ سنوات، كان سياجٌ من نبات العلّيق يفصلُ مزرعةَ المخدومين عن بقية البساتين. من تلك الجهة، انطلق على حين غرة عيارٌ ناريّ، ما جعل غربانٌ ساكنة بين أغصان الأشجار تجفل وتطير مع زعقها المزعج. بدَوره، اهتز باطنُ حسينو، وقدّرَ على الفور أنها طلقة مسدس؛ ولعله لأحد النواطير. ما لبثَ أن اندفعَ إلى جهة مصدر الطلقة، وذلك على أثر سماعه لغطاً وصياحاً. على ضوء مصباح كبير، حمله أحد النواطير، بانَ بعدئذٍ لعينيه شخصٌ مطروح على الأرض المعشوشبة والرطبة.
" يا إلهي، إنه أخي..! "، صرخَ حسينو فاقداً صوابه.
كان الضجيجُ حوله على أشده، ولم يكن في وسعه سماع أحدهم يقول للآخرين وكانوا بغالبيتهم من النواطير: " أصيب بكتفه وجرحه بسيط. لقد ظننتُ أنه لصٌ، ولم يتوقف عندما أمرته بذلك ". بعدئذٍ تحلق الجميعُ حول زميلهم المروَّع، يهدئونه ويطمئنونه على حالة أخيه. ثم تعاون بعضهم على حمل الفتى الجريح، بعدما أوثقوا مكان الإصابة بعصبة قماش للحيلولة دونَ المزيد من النزف. لسوء الحظ، أنّ المخدومين كانوا قد رحلوا عن بيتهم الصيفيّ في المزرعة وذلك في نهاية الصيف؛ وإلا لأمكن استعمال سيارتهم في نقل الجريح. فاتجهوا بالفتى إلى منزله، بناءً على طلب شقيقه، وكان هذا قد وجّه أيضاً مَن يأتي بصالح مع عربته.

5
بمجرد وصول الجريح إلى المنزل، عم الهرج وارتفعت صيحات النساء، وكان صوت والدته هوَ الأعلى. بغيَة طمأنتها، أطلق حسينو ضحكة مغتصبة، قائلاً: " جرحه بسيط، ولعله لا يحتاج حتى للضماد. لكنني أرسلتُ خبراً لصالح كي يحضر مع سيارته "
" قميصه يرشحُ بالدم، وتقول أن جرحه بسيط؟ "، هتفت سارة بجَزَع. كان مستو قد استعاد وعيه، فراحَ يرمق والدته وعلى شفتيه ابتسامة حزينة. حاول النهوضَ، لكن تخاذلت ركبتاه وسقط ثانيةً بين أيدي من يحيطون به في حجرة الإيوان. في الأثناء، قدمَ المزيدُ من الأقارب ومنهم ديبو. لاحت على سحنته أمارات سكرة المساء، التي شاركه فيها مستو نفسه. مجاهداً في التغلب على تأثره، أخذ ديبو يطرح نصائحه على الحضور. فلما قال أن من الأفضل جلب الحلاق ليفصد المصاب، فإن عمه سلو خرجَ عن طوره صائحاً به: " أيها السكّير، الأحمق! كيفَ سيفصد إذا كان جرحه ينزف؟ ". برغم الظرف العصيب، تعالت ضحكات البعض. ثم سُمع هدير محرك سيارة، وما هيَ إلا هنيهة وظهرَ صالح ليطلب من فوره حمل المصاب لأخذه معه. تساءل سلو: " أليسَ من الأفضل استدعاء الطبيب، لئلا تتسبب الحركة بالمزيد من نزف الدماء؟ "
" أيّ طبيب يقبل الحضور في ساعة متأخرة إلى حارة الكرد، بالأخص لو علم بأنّ الأمرَ يتعلق بإصابة نتيجة إطلاق نار؟ "، رد صالح. هنا، أعربَ ديبو عن تأييد هذا الرأي الأخير وهوَ يفتل شاربيه مستعيداً ثقته بنفسه وأنفته. بادرَ على الأثر لحمل صديقه المصاب، ومن ثم التوجه به إلى السيارة المتوقفة قدّام باب الدار.

***
كانت ساعة الفجر الأولى قد حلّت، حينَ عادوا بالجريح إلى الدار. بقيَ الجميعُ يقظين في انتظاره، فيما أغفى طفليّ رابعة على ركبتيها بحجرة الإيوان. نظراً لبرودة الجو في هذه الساعة المبكرة، أخذوا الجريحَ مباشرةً إلى حجرة والدته. أبلغها صالح عما جرى لدى الطبيب وكيفَ استخرج الرصاصة من كتفه، ثم اختتمَ قوله بنبرة مطمئنة: " قال أنه يحتاج للراحة عدة أيام، ثم نرجع به إليه ليرى حال الجرح ويغيّر الضماد. أوصى أيضاً أن يُسقى المشروبات الساخنة، وألا يتعرض للبرد "
" جازاك الله خيراً، يا بني "، شكرته سارة ثم أسرعت بالذهاب إلى حجرة نومها. كذلك تفرقَ الأخوةُ والأقارب، تاركين رابعة في الإيوان لوحدها مع طفليها. ثلاثتهم كانوا ينامون عادةً في حجرة سارة، حينما يحلّون في الدار. أما مسكنهم، فلم يكن سوى الحجرة نفسها في منزل زَري، التي أقاموا فيها قبل السفر إلى عمّان. هكذا استسلمت رابعة بدَورها للنوم، وكان الوسن والإرهاق قد منعاها من الإطلالة على شقيقها المصاب، مكتفيةً بكلمات الاطمئنان تلك. لكنها بعيد وصوله للدار، حضّرت له شاياً مع العسل بحَسَب توصية الطبيب. ربما لم يمضِ على غفوتها ساعتان، عندما تداخل صراخٌ من الخارج برؤيا الحلم.

***
لم يغمض للمصاب جفن، وكان مستلق على سرير الأم في جهة كتفه السليم. فيما كانت هيَ متكئة على فراش في أرضية الحجرة، ولا تني كل هنيهة عن تفقد حرارته. مرّ الوقتُ بطيئاً وثقيلاً، لم يُخرق في خلاله السكون سوى بأنين الابن الخافت. حتى طيور الحديقة، المعتادة على ملء ساعات الفجر بزقزقتها، حلّ عليها صمتٌ غريب وكأنما تحترم حال أهل الدار. لكن الصمتَ لم يصمد طويلاً، وذلك مع تصاعد صوت المصاب منادياً والدته. بحران الحمّى، مثلما ظنّنت سارة لأول وهلة، جعلت الابنَ يعتقد أنها في مكان بعيد عنه. بيد أن مستو، في حقيقة الحال، كان يحتضر: الطبيب، نجح في إخراج الرصاصة من كتفه، لكنه فشل في تشخيص احتمال النزيف الداخليّ، المعقّب العملية.
" أنا هنا، يا ولدي "، قالت له سارة فيما تبلل القماش بالماء البارد لتعيد وضعه على جبينه. بحركة عنيفة نوعاً، استلقى على ظهره وكان يلهث متنفساً في صعوبة مع نوبة سعال. هدأ سعاله قليلاً، وكانت عيناه مثبتتان بسقف الحجرة: " أماه، أنا أموت "، قالها بصوت واهن. ارتاعت الأم وامتقع وجهها بشدة: " لا قدّرَ الله، يا ولدي، لماذا تؤلمني بهذا القول؟ "
" لقد متُّ منذ أن تحطمت آمالي "، نطقها لاهثاً دونَ أن يتمكن من مواصلة الكلام مع تجدد سعاله واشتداده. تمعّنت سارة ملياً في ملامحه، هيَ القابلة الخبيرة التي رأت مراراً نساء يحتضرن بعيد الولادة، ثم لم يكن منها سوى إطلاق صرخة رعب.
لما هُرعت رابعة على صوت الأم، فاقتحمت الحجرة ركضاً، لم يكن شقيقها حياً بعدُ. لقد أسلمَ الروحَ بين يدي والدته، التي كانت الآنَ تصرخُ بجنون وكما لو انتقل إليها بحران الحمّى.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حديث عن عائشة: الفصل السابع عشر/ 1
- حديث عن عائشة: بقية الفصل السادس عشر
- حديث عن عائشة: الفصل السادس عشر/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل السادس عشر/ 1
- حديث عن عائشة: الفصل الخامس عشر/ 5
- حديث عن عائشة: الفصل الخامس عشر/ 4
- حديث عن عائشة: الفصل الخامس عشر/ 3
- حديث عن عائشة: الفصل الخامس عشر/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل الخامس عشر/ 1
- حديث عن عائشة: بقية الفصل الرابع عشر
- حديث عن عائشة: الفصل الرابع عشر/ 3
- حديث عن عائشة: الفصل الرابع عشر/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل الرابع عشر/ 1
- حديث عن عائشة: بقية الفصل الثالث عشر
- حديث عن عائشة: الفصل الثالث عشر/ 2
- حديث عن عائشة: الفصل الثالث عشر/ 1
- مدام بوفاري، في فيلم لكمال الشيخ
- حديث عن عائشة: بقية الفصل الثاني عشر
- حديث عن عائشة: الفصل الثاني عشر/ 2
- حديث عن عائشة: مستهل الفصل الثاني عشر


المزيد.....




- افتتاح مهرجان -أوراسيا- السينمائي الدولي في كازاخستان
- “مالهون تنقذ بالا ونهاية كونجا“.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة ...
- دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا ...
- الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلم ...
- “عيش الاثارة والرعب في بيتك” نزل تردد قناة mbc 2 علي القمر ا ...
- وفاة الفنان المصري خالد جمال الدين بشكل مفاجئ
- ميليسا باريرا: عروض التمثيل توقفت 10 أشهر بعد دعمي لغزة
- -بانيبال- الإسبانية تسلط الضوء على الأدب الفلسطيني وكوارث غز ...
- كي لا يكون مصيرها سلة المهملات.. فنان يحوّل حبال الصيد إلى ل ...
- هل يكتب الذكاء الاصطناعي نهاية صناعة النشر؟


المزيد.....

- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - حديث عن عائشة: بقية الفصل السابع عشر