منار القيسي
الحوار المتمدن-العدد: 6526 - 2020 / 3 / 31 - 23:15
المحور:
الادب والفن
المقدمة (اطار تاريخي عام): لاشك ان لنشأة الشعر الحديث صلة بالقضايا الكبرى التي كانت تملأ السياق التاريخي الذي ظهرت فيه بداياته الحاسمة.فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت تتشكل في العالم والوطن العربي على الخصوص خارطة جديدة للقضايا التي كان على الانسان ان يواجهها, حتى يجنب نفسهُ الويلات..فظهرت كل أصناف الخطابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية,(وطبعاً الشعر والادب باعتبارهما منخرطين في هذا السياق), وغني عن القول ان الشعر الحديث الذي نشأ قبيل النصف الثاني او نهاية النصف الأول من القرن الماضي , له من الأسباب الفكرية وله من ظروفه السياسية واوضاعه الاجتماعية, ولما تعقدت ظروف العالم العربي وتشابكت وتدهورت أحوال بعض المجتمعات العربية, ضاعت ارض وظهرت مواطن استبداد فعلت في العالم العربي مافعلت, وكانت جميعها موضوعات للشعر.. وفي اعتقادي يبقى الشعر شعراً ليس بموضوعه بل بالصياغة التي ترتقي الى الأفق الذي ترتضيه حقيقة ذاته.ولابد لان نشير لحالة الخروج عن نظام البحر والخروج عن سمعية القصيدة اوشفاهيتها وبكل مايشير الى المفهوم الايقاعي الخارجي ..وربما يتردد هنا او هناك مبررات لربط النتائج غير المقنعة بالاسباب, كما في العلاقة بين تعقد الحياة الحديثة وتسارع النسق فيها , بل هناك من الأدلة التي تجعل من قصائد النثر وقصائد الكلمة احياناً نموذجاً يردد " اتشظي"الموجود في الضمير الحديث ..ولقد تعرضت نصوص قصيدة النثر لتبدلات هامة ,متأثرة بشعراء مجلة شعر بتياريها: الماغوطي المتمثل بالشعر ( الحر) كما يحدده جبرا إبراهيم جبرا. وقصيدة النثر الفرنسية المرجع كما في أشعار أنسي الحاج وأدونيس , وبقليل من المؤثر الإنجلوسكسوني ممثلا بتجارب يوسف الخال الذي ذهب سريعا إلى المؤثر الديني وما في الكتاب المقدس من أسلوب وأفكار في المقام الأول.. وقد استجاب في العراق لذلك المؤثرشعراء جماعة كركوك ( سركون بولص وفاضل العزاوي وصلاح فائق وجان دمو ومؤيد الراوي ويوسف سعيد ) إضافة لشعراء بغداد (عبدالرحمن طهمازي وعمران القيسي وحسين عجة وسواهم..) , ولقد اخترت هنا ديوان الشاعرة اللبنانية سناء البنا " رسائل الى مولانا" نموذجاً (قضية الحب والغزل وصورة المرأة ) .. لطرح قضية في الحقيقية هي قضية تحرر الانسان وهي امتداد لتجربة (قصيدة النثر).
الفهم: يمكننا تلخيص مضامين الديوان بهذا المقطع - "كتبتُ لآدم مراراً/أنْ يحبني على هامش المرايا/وجهاً يتبدل بين النور والاثر/كان كمن رأى في سرّهِ غبشاً/ يكتبني ليلاً/ ويمحوني نهاراً"-(ص35)...فبهذا الأفق من الجمال الحسي الذي يصدر من أعماق النفس , تأطر القلق فانحازالملموس الى الحس الداخلي فجاءت الغاية المنشودة وضمن المدارالكبير للشاعرة , حيث تقف في المركز وحولها الدلالة المكافئة اقتراباً ونفوراً, قبولاً ورفضاً, وحتى ترتفع وتيرة التضاد في العلاقة المشوبة بالتوتر وتنضج فتتجلى النزعة العاطفية الى صياغة تنسجم مع الانفعالات, فلذا اختارت عدداً كبيراًمن الصور الجمالية المتأنى في اختيارها من دون اغراق وغموض, وهو مايطابق أسلوب شعراء العصر العباسي وشعراء الاندلس ,الذين اعتنوا بصورهم تركيباً ووضوحاً..ومن خلال مجال التعبير عن الذات, استطاعت ان تقول الكثير المميز, واستطاعت ان تتفرد بخلق وتشكيل معالم مهمة وباسلوب معتنى به في كل اللقطات فكانت سمة جميلة في الشعر العربي العاطفي, واضافة الى انها قدمت تجربتها بلغة قريبة سهلة ومعاصرة, وبذلك جددت تعبيرات الماضي بحلل حديثة, ويمكن ان يتمحور تكثيف المعاني بتقرّب الشاعرة من الوهج المقدس وتصويرها نشوة التماهي بين الحسي والعقلي,وسكرة التجلي التي احست بها في لحظة ما."امرأة فوق منسوب الحبِّ/كيف لاتليقُ بالتجلي.."(ص31)...وايضاً وصفها الحلم على صور متعددة (حب,غياب ,حضور ,توتر , مكاشفة, تجليات الروح,التصوف,والــ"هو" بصيغة الــ"انت ".. أو بحالة " ك" المخاطب), "صراعٌ لامنظورٌ بين الأنت والأنا,"(ص_30), كل ذلك بحثاً عن الوصول.
التحليل: من خلال اللغة شعرية يمكننا تحديد الحقول الدلاليةالمهيمنة والمعجم المرتبط بها و ابراز العلاقة القائمة بينهما.
- حقل الانا( أنا, كلماتي,جسدي,امرأة, اسراري,عزلتي,أكتظاظي بأناي, ..).
- حقل الــ"أنت بصيغة "ك" المخاطب ( موسيقاكَ, تأتيني,نفسكَ, أنكَ, عقلك,قلبك, آهاتك,أنت,... ).
-حقل الأفعال المضارعة(أدور,أبتهل,أتوقف,أرقص, أحيا,أموت,امتلكُ,اكترثُ,يزور, يرحل,نطير,أستبيحُ, أُغير,أرقد,أسافر..)
- حقل افعال الامر(خذْ,كحّلْ,ارسمني,البسني, .. ).
وبالعودة لتحليل للصور الشعرية التي وردت في الديوان فانها مستحدثة (الانزياح ,الرمز, فيما لم يكن للاسطورة الحضور القوي ) ,و توازت مع حالة الصور الشعرية الموروثة في بعض الأحيان المتمثلة بـالاستعارة (المرشحة والمطلقة والمجردة) والتشبيه باقسامه (المؤكد ,المفصّل ,المرسل, , البليغ والمجمل) ,والصور الشعرية وبمكوناتها الأساسية (اللغة ,الخيال, العاطفة, التشبيه , والاستعارة) سواء الصورة المفردة(حسية أوتجريدية ذهنية)او الصورة المركبة(والتي منحت النصوص طاقة خلاقة شاعرية) عبرت جميعها عن الوجدانية وعن الحالة التوليدية التي اثارت خيال المتلقي وما كان يعتمل في نفس الشاعرة من احاسيس ومشاعر وصدق فني , وتجلت بلاغة التشبية بالايجاز والايضاح لغرض تحسين الكلام والخيال بفضائيه (الاسترجاعي والتوليدي) الذي كان يشخّص المعنى ومما اكسب الاستعارة ابعاداً ايحائية وتخيلية جديدة, والكناية أدت وظيفتها بامتياز"كأنّكَ لم تكن زائري في الظل والعتمة/كأنك مازرتني عابرَ حلمٍ " (ص-34) , وترافق التوازي التركيبي مع توازٍ دلالي قائم على التضاد احياناً "النور والظلماء"(ص126) وعلى الترادف والتناسب احياناً أخرى " في طوافٍ/في هتافٍ" (ص127),
وضمن البنية الايقاعية , لمسنا أنّ الشاعرة لم تعتمد النظام الكلاسيكي للقصيدة التقليدية العربية (نظام الشطرين) ولم تعتمد نظام الاسطر الشعرية المتفاوتة من حيث الطول والقصر (التفعيلة) ولا اتخذت قافية موحدة وحرف روي موّحد , ولكن ومما تجدر الإشارة اليه ان بعض مقاطعها الشعرية اتخذت ايقاعاً خارجياً خاصاً بتجربتها (حيث أدخلت ضمن المقطع الواحد تفعيلات متعددة لبحور شتى مثلاً متفاعلن ,فاعلن ,فَعِلُنْ, فعْلنْ, فاعلُ,مستفعلن, فعولن.,فاعلاتن.. ) , رافق الإيقاع الداخلي المتمثل بــ(تكرار الالفاظ, تكرار الأصوات ,وتكرار الجمل ) و التوازي التركيبي(بجميع اشكاله), فمنح البنية الايقاعية وظيفة تاثيرية ووظيفة نفسية وجدانية مضاعفة لتنعكس ايجابياً على المتلقي.. ومن خلال الحقول الدلالية المهيمنة والمعجم اللغوي المرتبط بها, و خصائص النصوص من (الإيقاع والصور والأساليب ) و عوامل أخرى ولّدتْ لدينا الاقتناع بأن نصوص الديوان تنتمي إلى ( تجربة تكسير البنية وتجديد الرؤيا), النصوص لم تقع خارج اطار التجريبية او الغنائية او الخطابية احياناً وهذا ضمن الطابع التداولي, ولذلك تتخذ النصوص الطابع الحسي فتنهمر بلاغة العبارات الشعرية عن طريق التداعي الحر على ان لاتنفرط من الخيط السردي الذي شكّل قوام النصوص ..وبالعودة الى الأساليب فتجلى النمط الوصفي لكثرة المجاز والتشبيهات والاستعارة وتوظيف نعوت وصفات , والجمل الاسمية,مترادفاً مع النمط الايعازي (الامري)لطغيان حقلي الدلالة الرابع والثاني (استخدام الضمائر وخاصة المخاطب) وربما قد تنحاز عدد من المقاطع الى النمط الحواري بالنظر لبعض المؤشرات بسبب الخطاب المباشر(الامر والنداء ). واما أساليب الجمل فغلبت الجمل الخبرية على الجمل الانشائية بصورة واضحة..والتي افصحت عن الحالة النفسية ومكنونات داخلية كانت تجسده الشاعرة كاحاسيس ومشاعر وبالتالي منحتنا حالة الجمالية والايحائية.
العلاقة :علاقة توترانتجت حالة القلق ,الحزن ,الحيرة ,الفرح, النشوة ,الحلم و,الغياب ,الضياع,اللذة ,الألم, والتي انتابت الذات الشاعرة وربما النكوص والعزلة وبالتالي حالة من الاغتراب الداخلي والخارجي. وأماالمقطوعة الشعرية عندها فكانت واضحة المعالم تعكس بوضوح العاطفة,
لذا يمكننا صياغة تصور يتبين من خلاله بيان مدى تمثل النص لتجربة تكسير البنية وتجديد الرؤيا (وظيفة الصورة الشعرية هنا ايحائية تعبيرية وتخضع للتأويل ولا ننفي عنها الجمالية ),وان جنحت في مواطن كثيرة الى تجربة سؤال الذات(والتي وظيفة الصورة الشعرية فيها جمالية تعبيرية) لكن هذا لايلغي هيمنة( تجربة تكسير البنية) ..حيث امكننا من المترشح من ديوانها والذي البسته شكلاً يقارب الحوار المسترسل ان نمسك بمسار تلك التجربة ,والتي كانت كمن قصيدة طويلة ..
الايقاع كان هو صورة الأسلوب الصوتية, وبتفاعل المقاطع مع بعضها كانت التشكيلات الجمالية تأتي طيعة,مما يجعلها تتمتع بقوة جذب واصغاء , ويمكن ان نقول انّها سهل ممتنع. هذه العبارات المتدفقة والنفس الخاص المتمكن يؤكد الصلة الوثيقة بينها وبين الثقافة التراثية وتشير على ارتكاز مكين على ثقافة تراثية وليست ثقافة اكاديمية جامدة , وبنفس الوقت تمنحنا الاستمتاع والتذوق,فكان شعرها نموذجاً للمعاصرة المرتكزة على المخزون التراثي ويمتاز عنهُ بالمقاربةِ الى السهولة والوضوح والحدة.
الجمل تأتي كاملة قائمة بذاتها من جهة, ومتصلة بما يجاورها من جهة أخرى,مع خط الايقاعات الداخلية للشطر الشعري,اخذت من الرومانسيين مفرداتهم التي تصور عواطفهم الخالصة بصورة متانقة وتثبت اللحظة العاطفية وتجسمها, ولقد اخذت من الكلاسيكي مابدا منظماً ومهندساً من الطبيعية ومن الرومانسي استشرفت الخلايا الداخلية فاكسبتها وتعمقت فيها , وبالتالي لتستمد مايساعدها على التعبير..لذلك كانت الصور مشبعة برؤيتها وكما تصور انفعالاتها لا كما هي في حقيقتها الواقعية والسبب هو (الثقافة والتكوين والعاطفة) لذلك نجد عندها كثير من مفردات (القلب,الشوق,الخوف,الحلم,الاتجاه,الارتجاف, الظمأ... وغيرها).والنزعة العاطفية ترسم لنا العبارة الشعرية وهي خالية من أي زخرفة ومكتفية بقدرتها على تسجيل المستوى المتسامي للعاطفة.
لقد أدركت شاعرتنا أنّ اللغة ليست دائماً مسعفة في الشعر الحر, وربما تكاد تكون فاترةً وواهيةً عند المقلدين الذين أساؤوا لهذه الحركة إساءات بالغة , وظنوا أن الشعر الحر شعر يتحلل من كل قيدٍ عروضي أو فني أو لغوي , ولكنها ليست كذلك فهي قادرة في يد الشاعر الموهوب على بث الحرارة والحياة والإثارة في المالوف في كلمات الحياة التي تعيش في نفوسنا ."هو الغامضُ بيت القصيد/آتيكَ من فلسفتي/أبعثرُ أحرفكَ لأجدَ ضلعاً غائراً في الشتاتِ/كلُّ هذا الركامُ هالكٌ في لغتي" (ص39) ..
ان عمل المخيلة الشعرية لدى الشعراء يتشكل في أنساق تكشف عن المفاهيم الخاصة للذات, ويعتمد تشكل النسق التكويني لدى كل شاعر على جدل الداخل, بما يشتمل عليه من مكونات خاصة وطاقات إبداعية تتفاعل مع فكرة التكوين الداخلي او التصور الذهني للتكوين من ناحية , والخارج متمثلاً لمفاهيم الوجود لدى الشاعر ذاته وللثقافة والتي ينتمي اليها,"بيتي ليس بيتي,/ولا انايَ مقصدَ التهلكةِ,/لكنَّ أسئلَةَ الغيبِ/لاليتَ فيها ولا لعلَّ."(ص38).
انطلقت الشاعرة احياناً مغامراتها الحلمية لتكتشف "عوالم الجنون"يحدوها طموح نبية لكنها نبية تنكسر كالضوء وتنسحق امام نبوتها فلايبقى منها سوى هشيم. لانها تحلم دائماً بالدخول "في غير الممكن"..
ويبدو الإغراق في الحلم الهذياني, والابتعاد عن الواقع المحسوس خروجاً مؤقتاً للشاعرة على مشروعها الفكري في اطاره الاشمل, "حاولتُ اصطياد الشمس/لكنّ المطرَ غزيرٌ/وأسلحتي لاتجتازُ الاثيرَ" (ص137).
*"في اكتشاف عوالم الجنون كل عوالم الجنون, عوالم التغيروالوحدة,عوالم الانشطار, قبل ان تلوح نافذة الخلاص عبر جدار الصمت", ذلك الجدار الذي قد لايعبره قاريء ,"حيّرتني أبواب ُ المدن المشرعةِ/ وأنا سجينةُ الإستئناس بثقوبِ ضوءٍ باهتٍ/تأتيني من اللامكان الساكتِ في دواخلي..." (ص90).
فكلمة "حلم" في قاموس سناء البنا مقترنة دائماً بكلمة "رؤيا", انها تختطف من الحلم رؤاها الباهرة, وتغرسها في قلب الحاضر شعراً وتوهجاً,وكلما شعرت بمأساة الانفصال بين عوالم الرؤى والواقع الراكد المبعثر يؤوب الى رحيل جديد لعل اللغة تثمر فعلاً.لعل الحرف يلين , يضيء طريقاً او يزيح حجراً ولعل الكلمات تصنع عالماً اكثر بهاء"حلمتُ أنّي/أُذَوِّبُ الشمس في بحيرةٍ/أُمرغُ وجهها بالهوى.." (ص104). والحلم او الرؤيا نوع من الشطح, إذا استخدمنا المصطلح الصوفي ,يتجاوز العقل والمنطق والواقع ويقترن بالغرابة والتخيل واللامعقولية, ويتيح, في مجال الابداع الشعري, نوعاً من الحضور في بدئية اللغة,يطابق الحضورفي بدئية العالم بلغة الصوفية.انه صفة البكارة اللغوية يلبسها النطق, او هو اللغة فيما وراء اللغة(الانزياح).واذا كان الشطح في الشعر يقتضي غيبوبة عن اللغة بالمعنى الاصطلاحي,شأن التصوف الذي هو غيبوبة عن العالم بالمعنى الاصطلاحي كذلك,فان الشاعرة او المتصوفة (سناءالبنا) لابد ان تعود الى عالم المحسوسات بعد سياحتها في اللامرئي مزودةً بكشوف الرؤيا.
ولقد أدركت الشاعرة أن أزمنتناأصبحت مغلوبة مشتتة انتهى أمرها الى الخراب ومن ثم الزوال,وبين تلك النذر التاريخية نجد بشارة "البهلول"ذلك المجنون الذي لايقف على ظاهر الأحوال فحسب, وانما يغوص كذلك الى باطنها فيطلع على المعنى الخفي المستور,وبرغم ان كلامه قد يبدو مجازاً للمنطق واحكامه فانه ينطق بالحكمة, لانه يصدر في قوله عن علم لدني مكين, "موتٌ /أم حياةٌ/أم عدم/أسفارٌ وأقدارٌ تتمرغُ على باطن النفسِ/رحلةُ لهاثٍ/على عتباتِ سؤالٍ/ضياعٌ يتمددُ/صفرٌ من ابجديةِ العدمِ." (ص114وص115). للشاعرة رؤيا مكبلة تمظهرت على نسق تركيبي واحد فيها بعض الجمل الفعلية و فهي جمل غير مستقلة لانها جمل تابعة (وصفية) خبر لمبتدأ..., نستطيع ان نعد الديوان بلا مبالغة جسد واحد متصرف الى الابداع حد الانهاك في ترجمة حالة توتر المعنى لبلوغ ضيق العبارة لنصوص مفعمة بالحياة, تسترسل فيه السليقة المدربة مع المقدرة الموجهة ووضوح ساطع ينأى عن البدع اللغوية وعمق ينأى عن الغموض المفتعل وعقلانية متواشجة تنأى عن البرودة والتخشب الذهني مع الحفاظ على الرفعة الاسلوبية من غير تعثر بالتواءات متعرجة,ولو جزمنا واعتبرنا ان نصوص الديوان وحدة كلية متماسكة ,تقتضي قراءتها اكتشاف بناء مركزي أو وسيلة توليدية تتحكم في مستويات النصوص (كما يقول تودورف), فمن العسير -في هذا المجال المحدود – أن أقدم قراءة تفصيلية لدلالاتها, وأفضل مايوصف بها ببناء النص أنه قصيدة رؤيا أو نبوءة, بمعنى أن البناء المركزي الذي يربط بين مستويات النص بناء تدرجي,يستمر التداخل والتوازي والتقاطع الداخلي بين المحاور الرئيسية للقصيدة ذاتها, يتجاوب في ذلك مع تقاطع عناصر أخرى خارجية,تفجرها هذه المحاور لتتناثر, ولكنها تعود فتلتحم مكونة شبكة علاقات يتدرج اتساعها وتشابكها.وتضطرم الحركة العنيفة داخل القصيدة الى تنفرج بتكشف الرؤيا وتحقق النبوءة في ختامها..
فينفرد صوت الشخصية الشعرية ليمهد في تقديم محور اللغة او الوسيط الكيميائي الذي يحدث تفاعلاً حيوياً بين المحوريين الاخرين(محورالمضمون الشعري ومحور الايقاع) من خلال المعاناة والخلق, وتشكل القصيدة, هذه القصيدة التي تشبه المجاهدة الصوفية,فتتجاوب العناصر الكونية والبشرية في لحظة تحقق الرؤيا واكتمال القصيدة.ولايفوتنا ان انذكر ان( سناء البنا )وظفت لغة شعرية مميزة بالايحاء فكان المضمون الشعري مضمون جديد يلتصق بدواخل الانسان واعماقه (العزلة والتصوف والاغتراب الداخلي والخارجي) وبالتالي الانفتاح على التجربة الإنسانية بشكل عام.
*وخلاصة الفهم يمكننا ان نقول :تتحدد علاقة الشاعرة بالاخر"مولانا" عبر مستويين متمايزين ,يتمثل المستوى الأول في اربع حركات متواترة متداخلة,تتكون من أفعال الامر(الحقل الرابع من الحقول الدلالية المهيمنة)ويتغير المستوى الثاني مسار العلاقة لتصبح الشاعرة فاعلاً(اغير-ارقد-اسافر- أرى-أبتهل ) – الحقل الدلالي الرابع- ويصبح (الحلم ) مجال الفعل الذي يتكشف عن جنس سري وعن لغة سرية تترجم الحالة,اما مركز تلك العلاقة فيتحول الى بؤرة لقاء تجمع محاور_الشخصية الشعرية_اللغة.ويؤدي هذا المركز وظيفة حيوية في بنية القصيدة بشكل عام, ويدفع بها نحو غايتها النهائية ممثلة في تحقيق (الرؤيا).0 لا اراك ولاتراني"(ص-30), "أعتنيتُ بعزلتي /جعلتها مرقصَ الاشباحِ واللغاتِ والشهواتِ,أدركتُ معنى اكتظاظي بأناي,/حتى سحقتها...(ص-30), العتبة الغلافية للديوان حملت لنا شفرة مهمة للدخول في المتن ولتفرعاته المتبرعمة" رسائل على مولانا" ,ولأن العنوان في الأعمال الشعرية كافة يعتبر نصاً محيطاً بالنص الكلي ..فيمكننا القول أنّها أدى وظيفته فكان مؤشراً على الرؤيا الخاصة بالكينونة المرتبطة بجوهر النفس البشرية.
الشعر بناء لغوي يستمد ركائزهُ من ابنية الثقافة التي ينتمي اليها الشاعر, لكنه لايخضع لها بل يشكل بناء موازياً ومعادلاً لهذه الأبنية , ويعكس اليات انتاج المعرفة لا لتثبيتها وانما لكشف تناقضاتها, وسناء البنا في ديوانها "رسائل الى مولانا" كون شعري له مداراته وقوانين حركته الخاصة..انها ماتزال تحلم, ماتزال تكتب, تتخلق بين أصابعها اكوان شعرية باهرة, ولايسمح لمملكة الحلم عندها ان تشيخ.فكانت تشد رقعة نسيجها الى اقصى اتساع تحمله,وعلى المزج بين الغياب المطلق عن الواقع والحضور الغامر فيه, أي انها تطلق حساسيتها الشعرية من عقال الوعي لتحوم في عوالم الحلم الغريبة الشاسعة, ثم تعود فتقيم وحدة بين عالمي الواقع ومافوق الواقع, وذلك عن طريق تحويل الأفكار الى أشياء مادية والاشياء المادية الى أفكار قد "يذهب السورياليون الى ان البدائي والصوفي والشاعر هم الثلاثة الذين يبنون تلك الوحدةبين عالمي الواقع وما فوق الواقع" / (والاس فاولي, عصر السريالية ..), ولكن سناء البنا تجمع بين الصفات الثلاثة كما يظهر في لغتها الصوفية , وأما عن ارتباطها بالاسطورة (العنصر الثالث لتجربة تكسير البنية وتجديد الرؤيا) فأنها فضلت استخدام المصطلح الصوفي لوصف تجربة استشفاف المجهول او الباطن, الكامن وراء ستار الواقع الكثيف, او الظاهر وتجعل من هذه التجربة مرادفاً اصيلاً في تراثنا العربي لما يعرف في الغرب بالحركة السريالية...(إنتهى)
#منار_القيسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟