|
لونا والملائكة
هبة فارس
الحوار المتمدن-العدد: 6526 - 2020 / 3 / 31 - 23:14
المحور:
الادب والفن
عندما كنت طفلة في التاسعة من عمري، أجرى لي جدي لأمي اختباراً في القراءة. وعندما تخطيته أصبحت قارئته المفضلة. فقد كان شيخاً مسناً ضعيف البصر لا يمكنه القراءة ولا يمكنا أجراء جراحة لعينيه بسبب كبره وضعف حالته الصحية العامة. كان شيخاً أزهرياً معمماً يحمل شهادة العالمية الأزهرية. ولديه من أمهات الكتب ما تنوء بحمله العصبة أولي القوة. يوم الجمعة كان يوماً مقدساً يقضيه جدي بالبيت بعد أن أقعدته السنون وحل والدي محله في خطبة الجمعة بالإنابة. ورغم كونه (والدي)غير أزهري إلا أنه قد أجيز لذلك من الأزهر. بعد اختبار قد أجري له. كنت دائمة الرغبة في اللهو مع أقراني في حديقة المنزل يوم الجمعة والذي كنا نقضيه اسبوعياً ببيت جدي. إلا أنه لم يكن يُسمح لي بذلك قبل عودة والدي من صلاة الجمعة. فكان يُقبض عليّ حرفياً وأجلس مع جدي في غرفة مكتبته الكبيرة ويطلب مني احضار الكاتب الفلاني من الرف الثالث سابع كتاب على اليمين. تعالِي ، اجلسي، اقرأي. بداية كنت اتذمر، طفلة تريد اللعب. وسرعان ما اعتدت ذلك بعدها عقدت اتفاقاً معه أن أُعَلِّمَ الصفحات التي أريد السؤال عنها بوريقاتٍ صغيرة أضعها داخلها وبعد انتهاء القراءة أعود إليها لأسأل ما أريد سؤاله. كان جدي لطيفاً جداً. ويرد على تساؤلاتي الكثيرة بكل رحابة صدر وصبر شديدين. ولا اخفيكم سراً فقد كنت فتاة مزعجة لأقصى درجة يمكن تصورها. لا أكف عن الأسئلة قبل انقطاع نفس جدي ومعه والدي بعد عودته ليستلم هو نوبة القراءة بدلاً عني. بعدها أخرج مع أقربائي في الحديقة ونبدأ لعبنا الغير محتمل. مع كلب الحراسة الموجود بالحديقة وكذلك دجاجات جدتي وأوزها وبطاتها وكذلك عصافير وببغاوات وسلحفات خالي وأسماكه وتمساحه حين قرر أن يقتني تمساحاً وليداً ببيته إلى أن كبر وتلقائياً تذمر الجميع من وجوده بالمنزل. وكنت أمارس على أصدقائي الصغار دور القائد المفدّى العالم بكل بواطن الأمور. قطعاً كنت أعلم كل شيء - ألم أكن أقرأ مع جدي كتباً كثيرة وبها كل شيء؟ - إذنّ فأنا اعلم كل شيء. أفضل أوقاتي كنت أقضيها مع صديقي الكلب والذي غالباً كان كبيراً وقوياً ومخيفاً. ومر بحياتي أكثر من عشرة كلاب كلهم ربطتني بهم صدقة قوية حتى رحلوا. ثم رحل بعدهم الأعزاء ومن ثم البيت والحديقة. كان جدي ينعتني (باللمضة) لا بأس فقد أحببت هذا اللقب كثيراً، فقد كان مميزاً حقاً. ولكني الآن بصدد لماذا لمضة؟ لأني كنت كثيرة النقاش والجدل والحجج أيضاً. لم أكن أحب الهزائم في النقاش. رغم حداثة عمري وقلة علمي، ولكني كنت في الغالب أركن لمنطق طفولي بسيط جداً ينهي موضوعات عديدة لصالحي. كأن أجادل مثلاً في لماذا يتم التفريق بين الرجال والنساء في الأحكام والمحرمات والمحللات. لماذا يضع الرجل العطور ويتبختر بها في كل المسكونة بينما لابد لي أن أضعها أنا داخل المنزل فقط؟ لماذا أستطيع انا لبس الذهب والحرير ويحرم عليه هو؟ أليس لنا نفس الأجساد وبالتالي ما كان مضراً لي سيكون مضراً له؟ لماذا يُحرم على النساء السير وراء الجنازات؟ أليست أنسان ولها مشاعر وتريد توديع أحبابها الذين رحلوا؟ ما الضرر من ذلك؟ لماذا يجب عليّ الوضوء في كل مرة قبل الصلاة ما دمت نظيفة؟ أوليس الهدف من الوضوء النظافة؟ فلأستحم إذن وأصلي دون وضوء فأنا أثناء استحمامي قد غسلت كافة جسدي وليس الأعضاء التي يجب غسلها في الوضوء فقط. أحب طلاء الأظافر لماذا لا اغسل يدي جيداً وأتوضأ وأضعه ثم أتوضأ بعد ذلك من فوقه؟ لماذا يجب عليّ اذالته قبل كل وضوء؟ وطبعاً النقاش المعتاد حول لماذا يصوم الفقراء؟ إذا كانت حكمة الصوم هو الاحساس بهم. نقاشات كثيرة جداً لا أتذكرها الآن وقد كنت أتمنى لو كان لديّ آلية للتدوين وقتها فأحتفظ بها. لكني مع الأسف لم أفعل ذلك. فنسيت أغلبها. لكني أذكر نقاشاً حاداً بيني وبين جدي تركته بعدها دون أن أكمل القراءة له. لأني قد غضبت جداً من مضمون ما كنت أقرأ. فيومها كنت أقرأ. أن الوحي قد تأخر عن النبي وبسؤال جبريل عند عودته بالوحي أكد أنه لم يكن يأتي بالوحي لوجود جروٍ صغير بحجرة النبي. هنا لم أستطع الوفاء بوعدي وترك النقاش لما بعد القراءة. فتساءلت لماذا؟ فأجاب جدي أن هذا يحدث مع الملائكة دائماً و جبريل (عليه السلام) ينتمي إليهم. فهم لا يحبون الكلاب. أخرجتني تلك العبارة عن وعيي. فكيف لا تحب الملائكة؟ حاول جدي ان يهدأ من روعي بطريقته الطيبة المعتادة قائلا: حبيبتي، هذا ليس عيباً في الملائكة ولا في الكلاب. أنه مجرد مكون للشخصية. فهكذا هي الملائكة ترفض التواجد في مكان واحد مع الكلاب. فثرت ثورة عارمة. ملعنة غضبي من الملائكة. لأنهم ليسوا بعادلين. فالكلب كائن في منتهى اللطف والحنان، فلماذا يكرهونه؟ وكيف يرتقون إلى مرتبة الملائكة وهم يكرهون؟ ومال الفرق بينهم وبين الشياطين إذنّ؟ ألم يخطأ الشيطان بفعل الكراهية؟ غضب عارم جعلني أعزف عن قراءة تلك الأشياء. وخرجت يومها للحديقة لأربت على رأس وظهر لونا (الكلبة) وكأني أعتذر لها عن سوء فهم الملائكة لطبيعتها الطيبة الودودة الجميلة. وظل هذا الموضوع مسيطراً على تفكيري كلما رأيت لونا ولعبت معها فجعلني أكثر لطفاً وطيبة معها بعد أن كنت ألعب معها بتهور وعنف في أحياناً كثيرة. وبعد فترة عادت الأمور لمظهرها الطبيعي وأعتقد جدي أني قد نسيت الموضوع. لكني كنت حقاً حانقة جداً على كل الملائكة من أجل كراهيتهم لونا. وذات جمعة كنت ألعب وأقراني بالحديقة حين صاح ديك دجاجات جدتي والذي لم يكن يكف عن الصياح طوال النهار أبداً. وقتها مارست عليهم دور القائد العليم الذي يعرف كل شيء كعادتي معهم. فقد كنت قد قرأت في صباح ذاك اليوم مع جدي حديثاً يحث المؤمنين على الدعاء والتضرع لله عند سماع صياح الديكة. فوقت صياحها تكون قد رأت مَلَكاً أو أكثر. وهنا سيكون توصيل الدعاء لله أسرع. وبعد حديث ومناقشة قوية في كيفية الركون لملائكة قادرة على الكراهية في أمانة توصيل الدعاء لله؟ وأوليس من الجائز أن تزور الملائكة دعائي إذا كرهتني؟ أو تدس عليا مالم أقترف؟ مادامت تكره فهي غير مؤتمنة. تعجب جدي من منطقي الغريب في التفكير. أعلن أن ما أقوله مستحيلاً فعلم الله المحيط بكل شيء يمنع حدوث ذلك. فأبداً لا يستطيع أحد خداعه أو الكذب عليه. وهو يعلم ما نُسر وما نُعلن وأن الملائكة تمارس دورها فقط ليس أكثر. عندها فجرت القنبلة بقولي إذنّ فوجودها كعدمه مادام الله يعلم كل شيء دون خدماتها. صمت جدي لحظات تنهد فيها بقوة ثم أردف قائلاً: الملائكة كائنات نورانية ولا تكره أبداً. لكن طبيعتها فقط تتعارض مع التواجد في مكان به كلب. ولا يعني هذا البتة أنها تكره الكلاب. هو فقط اختلاف طبائع ليس أكثر. ولابد من إدراكك لمفهوم الإيمان يا صغيرتي الجامحة فلا يمكن للمؤمن ان يكون مؤمناً إلا إذا آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فلو أنكرنا الملائكة فقد أنكرنا شرط من شروط الإيمان. هنا تم حصاري في منطقة غير محببة بالنسبة لأمثالي. فأنا لديَّ مفتاحان فقط ليس لهما ثالث. الأول الحب والثاني الاقتناع. ولا يصل إليَّ أي شخص مهما كان حجمه ومكانته وقيمته بالضغط أبداً. وبدأ الصراع الداخلي لطفلة لم تتعدَ الثانية عشر من الأعوام وقتها. أنتِ الآن محاصرة. لو استمر موقفك من الملائكة فإيمانك على المحك. أعتقد أنها كانت أول موائمة أجريها مع نفسي لقبول مالا يُقبل حتى حين. وبالتأكيد سيوافيني الله بالجواب مكافأة على حسن السمع والطاعة. كما علمت من جدي مسبقاً. فأحد نقاشاتنا كان عن قبول العبد لأوامر ونواهي ربه دون مناقشة، فقط لأنها محرمات أو محللات وبعد القبول والرضا قد تأتي الإجابة كتفضل من الرب لجبر خاطر العبد. وتهدئة باله. وقررت فعل ذلك. وبمجرد القرار جاءت الإجابة. ففي ذات اليوم أثناء لعبنا في الحديقة. حدثت واقعة سماع صياح الديك. فقررت أن أنصح أقراني بما لي من علم يفوق علمهم جميعاً. فأعلمتهم بكل فخر أن الديك يصيح لأنه قد رأى مَلَكاً. وعليه فيجب علينا أن ندعو االله بما نريد. وأن ذلك ليس من عندي وإنما هذا ما قال رسول الله (صل الله عليه وآله وسلم) وأنه قد وجب عليهم من الآن وإلى الأبد أن يكثروا الدعاء عند سماع صياح الديكة. وعندها كنت القدوة طبعاً. فقمت برفع يديَّ ووجهي نحو السماء لدعاء الله بما أرغب. وبعد انتهائي من الدعاء وفور إنزال يديَّ ووجهي نحو الأرض إذا بعيني تقع على لونا كلبتي الجميلة. وهنا لاحت الفكرة الرهيبة لي فهرولت مسرعة عبر الحديقة ثم الفرندة فحجرة المكتبة الخاصة بجدي والتي كان لها باب على الفرندة مباشرة. ضاربة الباب بقدمي مقتحمة الغرفة على جدي ووالدي أثناء جلسة القراءة الخاصة بهما. وأنا أصيح: جدووو جدوووو يا جدووو !!!! الديك بيأذن ولونا في الجنينة !!!! شوفت بقى !!!! أنا قولتلك !!!! مفيش ملايكة بتكره الكلاب. صدقني يا جدوا .. والله تعالى أوريك !!! لونا موجودة والملايكة نزلو. تعالى شوف ... تعالى يا بابا !!!! تعالوا أنتو والأتنين. شوفوا الديك ولونا في نفس المكان واللهِ ... واللهِ يا بابا صدقني. ضحك والدي واضعاً يده على فيه كما كان يفعل كما فاجأته بأمر جلل وقد فهم ما أعنيه تماماً. أما جدي فقد بدأ يهدأ من ثورتي الغير مفهومة ويطالبني بالجلوس والتروي ثم قول المزيد لأنه لا يفهمني بسبب تسارع أنفاسي وحديثي السريع جدا. جلست ويمنى والدي تربت بحنو على ظهري وكتفي وأعدت سرد الأحداث من أجل جدي الذي كان ينظر للأرض تارة ولوجه أبي تارة أخرى. في تبادل لنظرات ذات مغزى بينهما. وبعد أن انتهيت ساد الصمت للحظات فيقطعه أبي قائلا: البنت معاها حق يا مولانا. أهيه بتثبت لنا كذب أحد الحديثين أو كلاهما بتجربة حقيقية حدثت بالفعل. الآن وهنا. ابتسمت من الفرحة بعبارة أبي ونظرت لجدي في انتظار الرد لكنه استمر في صمته ثم قال: لازم ندرس الموضوع ده بدقة أكتر روحي حبيبتي كملي لعبك. وقفت وأنا سعيدة ووجهت حديثي لجدي قائلة: عارف يا جدو أنا كنت بدعي ربنا بقوله أيه؟ أيه يا لمضة؟ كنت بقوله يا رب تطلع الملايكة بتحب الكلاب. وغادرت غرفة جدي إلى الحديقة حيث لونا الحبيبة وأصحابي الصغار.
#هبة_فارس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سلة القمامة العضوية
-
سحر الشرق
-
الأشباح المقدسة
-
والعمر يسافر أيضا
-
مرفأ الجحيم
-
حينما نقرر اقتحام الطريق
-
الحضارة المصرية والعربية
-
ملائكة اللعن
-
الملابس المبعثرة
-
افروديت حياة
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|