أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد فؤاد العبودي - ضرسٌ تالف في فم العفن .














المزيد.....

ضرسٌ تالف في فم العفن .


رائد فؤاد العبودي

الحوار المتمدن-العدد: 6526 - 2020 / 3 / 30 - 06:39
المحور: الادب والفن
    


توقفَ الباص على حدود العراق مع الأردن. كان الوطن كله في ظهري والمجهول كله امامي، وليس معي غير مئة دولار أخفيها بعناية فائقة في جيبٍ سري اخترعته في بنطلوني الجينز الذي أعدّتُ صبغهِ في أحد الدكاكين المتخصصة بإعادة صبغ الملابس التي فرّخها الحصار خلف سينما علاء الدين.
خطوة فقط وانفَصِل عن الوطن، وسنة واحدة وينفصل عقد التسعينيات وتبدأ الألفية.
كان الوطن يحتضر عندما قررت الرحيل، أما المواطنون فكانوا قد ماتوا جميعًا منذُ زمن بعيد، منذُ ان عَبَرتْ سِرفت اول دبابة عراقية الحدود الإيرانية معلنة حرب الخليج بنسخها الثلاث.
كان المواطنون في الوطن الذي قررت تركه قد تحولوا إلى اشباح رمادية معتمه، لا روح فيها ولا نور، اشباح مذهولة بلحىً كثة لم تُحلق من فترة طويلة. أجساد شبحية قهرها ذُل الرئيس فاستسلمت له وصارت تفوح منها رائحة ثقيلة هي نفسها الرائحة التي تفوح في اجواء الوطن: رائحة قميئة كأنها ضرس تالف في فم العفن.
كانت اشباح المواطنين العراقيين الهائمة في الشوارع تصطدم بي مع كل خطوة تمضي بها قدماي في رحلة تيهي المحببة من ساحة الميدان إلى ساحة التحرير.
كنت بالكاد أتحاشى الاصطدام بها بان أُديرُ كتفي بسرعة يمينًا ويسارًا، لكنهم يصطدمون بي رغم حذري ويمضون دون اعتذار أو حتى التفاته..

لا ألوان في شوارع الوطن الذي قررت تركه معتمدا على مئة دولار في جيب سري في بنطلون جينز شبه مهترئ ومعادٌ صبغه. فقط اللون الأسود والرمادي هما اللذان يتسيّدان لوحة الوطن الذي طاح صبغه هو الآخر.

كنتُ أتنفسُ من ثقب صندوق البريد الذي استأجره لي والدي في مكتب بريد الميدان. كان هذا الصندوق رئتي وعيني: الرئة التي أتنفس منها هواء الدنمارك أو السويد او فلندا فلم أكن اعلم بعد أي بلد ستوصلني اليها تلك المئة دولار، والعين التي ارى بها ألوان حدائق وشوارع وبنايات كندا أو امريكا أو استراليا فانا لم أكن متيقنا تماما ان بنطلون جينز شبه ممزق ومصبوع سيوصلني لأي بلد ملون وهواءه نقي.
كنت اراسل كل شي وأي شي. ابعث رسالة لأي عنوان أجنبي اعثر عليه في أي مكان وانتظر الجواب لكي أبقي على قيد الحياة وحتى استنشق ما علق بجواب الرسالة الأجنبية من هواء صحي وبقايا حرية من البلد الذي جاءت منه. مره أمسكت بورقة مجلة اجنبية ممزقة ومتسخة يدحرجها الهواء في شارع الجمهورية قرب المدخل المؤدي إلى الفضل، بعثت برسالة للعنوان المكتوب فيها وجاءني الرد بعد شهر: ناسف على إعادة رسالتك اليك فالعنوان لم يعد موجوداً.

حين وصلت إلى مونتريال، وفي عيادة طبيب الأسنان اللبناني صرخت مساعدة الطبيب عندما فتحت فمي لتقييم حالة أسناني: هذا مرعب قالتها بالفرنسي حتى لا افهم لأنها لم تتوقع إني جئت من بغداد أتكلم الفرنسية والإنكليزية.
اكتشفتتُ في تلك اللحظة، في عيادة الدكتور دبار، وبعد صرخة مساعدته، إني كنت أنا أيضا شبحًا، شبحاً من اشباح الوطن الرمادية القاتمة التي بلا روح وبلا نور.
لم أك قد رأيت نفسي بعد. كنت مشغولًا طوال الوقت، من قادسية صدام إلى ما بعد أم المعارك، مشغولًا بمراوغة صدام والحصار والحدود والقفز عكس المنطق والمعقول والإمكانات المتاحة والوصول إلى بلد ملون بهواء نقي وبلا اشباح هائمة.

مونتريال



#رائد_فؤاد_العبودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضرسٌ تالف في فم العفن .


المزيد.....




- مشاهدة مسلسل تل الرياح الحلقة 127 مترجمة فيديو لاروزا بجودة ...
- بتقنية الخداع البصري.. مصورة كينية تحتفي بالجمال والثقافة في ...
- ضحك من القلب على مغامرات الفأر والقط..تردد قناة توم وجيري ال ...
- حكاية الشتاء.. خريف عمر الروائي بول أوستر
- فنان عراقي هاجر وطنه المسرح وجد وطنه في مسرح ستوكهولم
- بالسينمات.. فيلم ولاد رزق 3 القاضية بطولة أحمد رزق وآسر ياسي ...
- فعالية أيام الثقافة الإماراتية تقام في العاصمة الروسية موسكو
- الدورة الـ19 من مهرجان موازين.. نجوم الغناء يتألقون بالمغرب ...
- ألف مبروك: خطوات الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2024 في ...
- توقيع ديوان - رفيق الروح - للشاعرة أفنان جولاني في القدس


المزيد.....

- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد فؤاد العبودي - ضرسٌ تالف في فم العفن .