بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 6526 - 2020 / 3 / 29 - 13:02
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات (217)
الاستخبارات والتعصب
بشير الوندي
-----------
مدخل
-----------
رجل الاستخبارات هو قبل كل شيء مواطن يعيش في مجتمع , والمجتمع يفرض عليه تربية يتلقاها في البيت والشارع والمدرسة والعشيرة , ومن ثم هو ابن بيئته وغير منفصل عن مجتمعه وبيئته وامراض ذلك المجتمع الكبير , وتلك البيئة التي يعيش في وسطها , وينشأ محملاً بصفاتها الحسنة والسيئة , كما ان رجل الاستخبارات هو موظف في مؤسسة , وتلك المؤسسة جزء من منظومة حكومية , فان كان الفساد مستشرٍ في البلاد , فان مؤسسته لن تكون بمعزل عن الفساد , وهو ايضاً لن يكون بمعزل عنه.
--------------------------
الصلاحية مسؤولية
--------------------------
ان رجل الاستخبارات – الانسان , معرض لحمل فيروسات المجتمع والبيئة والنظام السياسي , وهو امر خطير جداً , ومكمن الخطر هو في حساسية الموقع الوظيفي وفي الصلاحيات , فكلما كان الانسان في موقع الصلاحية كلما ازدادت الحاجة الى التحلي بالاخلاق المثالية , فالنزاهة مطلوبة لموظف الاستعلامات , لكن قمة النزاهة هي الصفة الضرورية لمسؤول المشتريات , والنزاهة مطلوبة لكاتب العرائض , لكن قمة النزاهة هي الصفة الضرورية للقاضي, وصفة الخلق مطلوبة لبائع الزهور في المستشفى , لكن قمة الخلق هي الصفة الضرورية لمهنة الطبيب المعالج ,وهكذا .
فالمهنة الحساسة والتي تحمل في طياتها صلاحيات واسعة تتعلق بحياة الناس , وممتلكاتهم , ومستقبلهم , تتطلب مواصفات ومحددات ضامنة لخدمة المواطن بمنتهى الاخلاص , وهو امر ينطبق بشكل كبير على عمل رجل الاستخبارات .
فرجل الاستخبارات يمتلك بحكم طبيعة مهنته وسريّته , صلاحيات واسعة نسبياً , ومن ثم فهو يمتلك سطوة نسبية لاتقارن بالموظف في دائرة خدمية , وهويستطيع وفق الادوات التي توفرها له وظيفته ان يكون مضراً للغاية اذاما انحرف او اذا كان مصاباً بأمراض مجتمعية وبيئية ضارة , واذا ما تغلبت تلك الصفات والموروثات على عمله فسيتحول الى مجرمٍ مؤذٍ .
---------------------------------
امراض مجتمعية خطيرة
---------------------------------
ان الصفات العشائرية فيها النخوة الشجاعة والمروءة , ولكن فيها امراض تصيب البعض من افرادها كالعنصرية للعشيرة والتعصب لها , كما ان دين اي انسان او مذهبه او قوميته , هي عبارة عن هوية تعكس التنوع الاجتماعي الجميل الذي يثري المجتمع , ولكن الامراض التي ترافقها كالعنصرية والمذهبية هي صفات وامراض خطيرة تفكك المجتمع وتصيب الافراد بالتعصب الاعمى , وكذا فإن المناطقية تعكس اخلاق وطيبة القرية والمحلة , لكن لها تطبيقات سيئة حين تتحول الى حمية مناطقية متعصبة , ولنا ان نضيف الكثير من الامراض المجتمعية الخطيرة التي يجب ان يبتعد عنها اي موظف , وبالأخص رجل الاستخبارات والامن من قبيل العقلية الجامدة والتحزب ولغة التعميم , فكل تلك الامراض تنتج خصلة مؤثرة وخطيرة لكونها تتخطى فكرة المساواة امام الحق , وتقفز فوق القانون والعدالة , وتصبح معرقلة لها , وتجعل رجل الاستخبارات لايرى الحقائق بتجرد ويبني استنتاجاته وفق تعميمات وقناعات مسبقة تؤثر على تفكيره العملياتي الميداني وعلى فكره التحليلي وقناعاته الادارية والعملية , ولنا ان نقول ان الامر لايقتصر على رجل الاستخبارات وانما على كامل المؤسسة الامنية والشرطوية .
--------------------------------
انعكاسات تُغيّب الحقائق
--------------------------------
تخيل لو ان ضابط مرور يتغاضى عن تغريم او محاسبة ابن منطقته , او ان ضابط كردي يتعامل مع عربي بعنصرية او العكس , او ان ضابط شرطة شيعي يغض النظر عن مجرم شيعي ويشدد على مجرم او بريء سني او العكس , , او ان يعمم رجل امن شيعي ضمن عقليته ان كل سني هو حامل لجينات الارهاب او ان كل كردي خائن وكل شيعي عميل للفرس المجوس , او ان ضابط من الغربية يحن لمتهم من الغربية ويسعى لتبرئته ومحو سجل جريمته , وآخر من عشيرة جنوبية يتغاضى عن ادلة تدين شخص من عشيرته , او ان ضابط استخبارات عقليته مركبة على فكرة صمّاء مفادها ان كل امريكي هو عدو امبريالي جاسوس , او ان الشر من ايران , ولعل الجميع يتذكر كيف كان كل مسلم او حتى عربي هو بمثابة متهم ارهابي في امريكا اثر احداث تفجير برجي التجارة في 11 سبتمبر 2001 , والامثلة في هذا الاطار كثيرة .
فكل تلك الامثلة تشير الى رجل الامن , او رجل الاستخبارات , الذي هو عين البلاد , وعين الدولة , فمن الخطر ان تصاب تلك العين بالرمد او بالعمى او بالعوار , فهذا التعميم والغلو والتمييز على اسس طائفية وعرقية ومذهبية , كلها تحدث فجوة بين الحقيقة والخيال وتفتح الباب على مصراعيه للتجني والظلم , وتجعل العين لاترى العدو الحقيقي وانما ترى ماتشتهيه فقط وفق احكام مسبقة , وهنا مكمن الخطر .
-------------------
الشرق الشرير
-------------------
من الامثلة الصارخة على تفشي التعصب , ان اجهزتنا الاستخبارية التي كانت اثر سقوط نظام صدام تعمل برعاية امريكية والذين ابقوا على كوادر مخابرات النظام السابق , كانت تصر ان المفخخات وارهاب القاعدة يأتي من الشرق , وبعد سنتين اخذ الزرقاوي يصرخ وينشر بيانات ويقتل الناس , وتبين ان الزرقاوي اردني ومشبع بالسلفية الجهادية , واجهزتنا تصر ان المتفجرات والمفخخات من ايران , ثم كان ان تم اعتقال ضباط استخبارات سوريون متورطين بدعم القاعدة في العراق واعترفوا بتدريب عراقيين على التفخيخ والاغتيال والذبح , واجهزتنا المخابراتية تقول ان المفخخات تهيأ وتصنع في الاهواز .
وفي لقاء استخباري مهم حاورني قائد احدى اهم اجهزتنا الاستخبارية عام ٢٠٠٥ , وقال ان لدية معلومات موكدة تقول انه تم تفخيخ سيارة في الاهواز , وستنقل عبر الاهوار وتسلم في العمارة الى جماعة القاعدة !!!!!, فسألته : لماذا في الاهواز , ولِمَ لا يتم تفخيخها في مدينة بستان او الحميدية او الحويزة او الخفاجية وهذه مدن حدودية وعمليا اسهل لهم ؟, ثم كيف ينقلون العجلة من الاهوار ؟ فهل يمكن ذلك لاسيما وان الطرق البرية مفتوحة من الشلامجة الى اقصى الشمال مع ايران , لكن كان هو مصرا على معلوماته , والواقع انه كان مصراً على ماتعود عليه لاعلى مايعرفه من حقائق , وهذا ليس دفاعاً عن جهة ضد جهة , فلو كان هنالك متعصب ضد امريكا في الجهاز , وامامه ملف لجريمة ولديه اسماء من كانوا في مكان الجريمة من جنسيات متنوعة ومنها امريكي , لتعامى ايضاً , واصر على ان الامريكي هو CIA وهو من فعلها , بشكل يؤثر على اتزان تحقيقاته او تحليلاته , فالمرض الاجتماعي لادين له.
---------------------------------------
حين تصاب المؤسسة بالمرض
---------------------------------------
الواقع ان الامراض لاتصيب افراد المؤسسة من مجتمعهم فقط , وانما قد تصاب المؤسسة كذلك بأمراض ضمن النظام السياسي , فقد تصبح المؤسسة الاستخبارية مثلاً فاسدة ادارياً او مالياً حال باقي مؤسسات الدولة , ان كان الفساد مستشر في مؤسسات الدولة , او قد تخترق المؤسسة من قبل الاحزاب فتصبح المؤسسة عوراء لاترى الا ماتراه الاحزاب المهيمنة عليها , وقد تنتشر في المؤسسة ظاهرة التملق لرؤسائها ( فمثلاً , في احد اجهزتنا الامنية لا يتم محاسبة , او اعتقال , او اعتراص اي شخص , من عشيرة رئيس الجهاز ).
----------------------------------
العلاج الفردي والمؤسسي
----------------------------------
مما لاشك فيه ان الفساد المؤسسي هو الاخطر من الفساد الفردي , فبالنسبة للافراد فان الجهاز الاستخباري المحترف يعمل دوماً على مكافحة كافة اشكال التمييز الايجابي (لصالح عشيرة او قومية او مذهب ) او التمييز السلبي (معاداة مذهب او قومية ما مثلاً ) , وتتم المكافحة من اول يوم لإنخراط المنتسب وتستمر معه الرقابة المستمرة ومراجعة الملفات التي يديرها والتأكد من موضوعية قراراته , وعدم السماح لأية نزعة اجتماعية ضارة داخل المؤسسة , والانصات بعمق لأية شكوى من اية جهة او من المواطنين بشأن تعرضهم للظلم او التمييز , بالاضافة الى الدورات المكثفة والمستمرة الخاصة بحقوق الانسان والمساواة , واشراك العناصر من كل المذاهب والقوميات في العمل الجماعي لضمان نبذ التفرقة .
اما الفساد المؤسسي , فالحلول معه صعبة ومعقدة وتحتاج الى ارادات عليا حقيقية من سلطات تدرك ان عمى الجهاز الاستخباري يعني سهولة تهديم الدولة والمجتمع وسهولة نفاذ العدو وماينتج عنه من خطر يهدد كيان الدولة , وعدم التهاون في تلك السلبيات حتى لو تطلب الامر اعادة هيكلة كامل تلك المؤسسة الاستخبارية .
-------------
خلاصة
-------------
بحكم خطورة مهام الجهاز الاستخباري , وصلاحيات افراده الواسعة من جهة , وخطورة انعكاس تلك الامراض الاجتماعية التي تحيط ببيئة افراد المؤسسة الاستخبارية على عمل رجل الاستخبارات , لابد ان يبنى رجل المؤسسة على مباديء عامة خالية من كافة اشكال التعصب , وقبل ذلك لابد ان تبنى المؤسسة ذاتها على معايير لاتلقِ بالاً , في التبرئة وفي الاتهام والتجريم , للعرق والقومية والدين والمذهب , وان تكون المؤسسة الامنية والاستخبارية بعيدة عن اية مناورات سياسية او حزبية ولاتخضع للعائلة والعشيرة والمنطقة , والله الموفق.
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟