|
مدفعية الدوري تقصف ميسان، آذار 1991، الحلقات 1،2،3
مديح الصادق
الحوار المتمدن-العدد: 6524 - 2020 / 3 / 27 - 11:46
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
الحلقة الأولى... انتفاضة شعبية عفوية كانت، فجَّرها غضب جماهيري عارم، سببته عوامل شتى، ما تمخض عنه دخول الجيش العراقي الكويت وما تبعه من دمار ونهب وترويع للسكان؛ تدمير قوات التحالف الدولي على رأسهم أمريكا لماكنة الجيش العراقي، وقتل الجنود بالآلاف، وما سبق ذلك من حرب السنوات الثماني مع إيران، ناهيك عن سياسة نظام الحزب الواحد الدكتاتورية تجاه قوى المعارضة، وجرائم التصفيات الجسدية بحق المعارضين. بدأتْ بإطلاق جندي من الجبهة عائد مكسورا؛ قذيفة مدفع على صورة (للرئيس المهزوم) في ساحة سعد، مدخل البصرة، في الثاني من آذار 1991، فعمَّ الغضب محافظات العراق من جنوبه حتى شماله، وهتفت الحناجر بسقوط النظام البعثي الصدامي، وسيطر الغاضبون على المعسكرات، ومقرات الحزب الحاكم، ودوائر الدولة، لكن افتقار الانتفاضة للقيادة الموحدة، والتنظيم القتالي للدفاع عما حققته، وانشغال كثير ممن أنهكهم الوضع الاقتصادي بعمليات أساءت للانتفاضة وحرفتها عما يجب أن تتجه إليه، أضف لذلك بعض الشعارات الطائفية التي أطلقها بعض المنتفضين فصارت شعارا لها؛ ما جعل بعض المحافظات تنسحب من هذا الدور، ليتم توظيفها باتجاه معاكس من قبل النظام، أضف لذلك استخدام طائرات الهيلوكوبتر، بتغاضٍ من أمريكا، بضرب الانتفاضة في المدن والأهوار. ميسان عروس غافية على نهر دجلة، تمدّ ذراعيها على فرعي المشرح والكحلاء النابعَين من قلبها، أهلها الكادحون الطيبون باتوا ليلتهم بغد أفضل حالمين، وقد انسلخوا عن سطوة طاغوت لأكثر من عشرين عاما على صدورهم أطبق جاثماً، منهم من أزاح بعض الهمَّ عن صدره بأداء طقوس دينية كان محروماً منها، كما هُم غيره، طوال عقدين من الزمان، والآخر قد حظي بكيس دقيق أو رز أو علبة حليب كانت مخزونة بعيداً عن تداول آلاف المحتاجين، وهنا وهناك انتشر مقاتلون بأيديهم بنادق كلاشنكوف حازوا عليها من مشاجب الجيش ودوائر الشرطة والأمن، توزعوا على سيطرات عند مداخل المدينة، ووسطها في بعض المقرات. طائرت حربية رسمت سحباً من دخان أبيض في السماء، تساقطت منها منشورات تحثّ السكان على المغادرة، فالمدينة ستُقصف بالكيمياوي عند الصباح، حزمتُ ما بحوزتنا من أوراق ووثائق رسمية مهمة، صرةً من النقود إذ بعتُ قبل فترة بعضاً من الذهب الخالص من معمل تصفية الذهب العائد لي على شارع التربية وسط المحافظة، وكرات الفضة الخالصة التي نسبكها مع الذهب لتنقيته، قلمي وبعض وريقات، ورواية (زوربا اليوناني) مترجمة، هذا (ما خفَّ حمله، وغلا ثمنه)، وما يجب أن يُحمل في مثل ذا الحال، والأهم ما تحتاجه ابنتنا ماري حديثة الولادة من حليب ودواء ورضاعات وماء، متاعنا أرغفة خبز الحصة الأسمر المخلوط بالنخالة ونوى التمر، علف الحيوانات، تحزَّمتُ على (دشداشتي) لسهولة التنقل عبر مسافات نجهلها لحد الآن، لففتُ على رأسي (يشماغي) الأحمر، وعلى كتفي علّقتُ صرّة (الصاية والصرماية) وعلى الآخر حملتُ ابنتي (ماري) وخلفنا (سولاف وسمر) تجريان مرتجفتين ودوي براميل الدخان تنفجر في السماء لإيهام السكان بأنها قنابل (كيمياوي)، بغية حثهم للإسراع بإفراغ البيوت، (سولاف) ذات العَشرة؛ فقدت واحداً من نعليها إذ غاص في الوحل؛ فرمت خلفه الثاني، الرضاعة من فم (ماري) سقطت في البركة التي اضطررنا لخوضها، خلفنا (سمر) مرعوبة تجري ذات العام الواحد، الأخبار قد وصلت بأن قوات المدفعية والدبابات يقودها المجرم (عزت الدوري)؛ قد اجتازت (الكوت) باتجاه (ميسان)، بل قد وصلت ناحية (كميت) على بعد أقل من ثلاثين كيلومترا. وجهتنا مجهولة، أمامنا بساتين النخيل تحاذي الضفة اليمنى لنهر الكحلاء، خلفنا مدفعية الدبابات تقصف بيوت (حي المعلمين الجديد)، مدخل العمارة في (امغربة)، حيث نقيم، طائرت تقصف العوائل الهاربة سيراً على الأقدام في البساتين وعلى الطرقات المؤدية للنواحي الأخرى، زرافات زرافات، بعضهم توجَّه نحو معبد الصابئة المندائيين (المندي)، تبرّكاً، وطلباً لدعم روحي، أو توقعوا أن الطائرات قد تستثنيه من القصف عندما يلمح الطيار عن بعد؛ الدرفش (راية النبي يحيى بن زكريا) منصوبة عليه، لكن المؤسف أن هناك من قطَّعته القنابل وهو في طريقه إليه. البساتين مُستهدَفة، والطريق إلى (المندي) بات ملغوماً، غيَّرنا اتجاهنا نحو دور الأساتذة في (كلية المعلمين في ميسان) التابعة لجامعة البصرة آنذاك، حيث يقيم أخي الأستاذ فرحان الصادق، وصديقنا الطيب الأستاذ (أبو نور) مع عائلتيهما، على الطريق كانت هناك أسرَّة مُحطَّمة تتبع مستشفى عسكري أقيم في القسم الداخلي للبنات، بعض المعدات والأجهزة الطبية ملقاة في السواقي على طول الطريق، الجماعة للمغادرة وجدناهم مُستعدّين، سيارة أبي نور البرازيلي الحمراء اتَّسعتْ لكومة من النساء والأطفال تجاوز عددهم العشرة، أما نحن الرجال، أنا وأخواي فرحان وبشير؛ فعلينا السير على الأقدام باتجاه ناحية الكحلاء ثلاثين كيلومتراً حيث لنا أعمام هناك، قد نجد في بيوتهم الأمان. إلى اللقاء الحلقة الثانية. الأحد 22 - 3 - 2020 مدفعية الدوري تقصف ميسان آذار 1991، الحلقة الثانية. بقلم مديح الصادق بصعوبة بالغة شقَّت طريقها سيارة (أبو نور) البرازيلي المُحمَّلة بعشرة أنفار مُكدَّسين فوق بعض؛ بين أفواج الجموع النافذة بجلودها باتجاه المجهول، طلباً للنجاة من موت مُحقَّق خلف ظهورهم إن عادوا خطوة للوراء، أطلقتُ للريح ساقيّ يسبقني أخواي، فرحان وبشير، أمامنا ثلاثون كيلومتراً إلى مدينة (الكحلاء) حيث عائلة (العم أبو جاسب، ثامر موزان، والعم أبو لفتة، عامر موزان)، جهد الطريق لم يكن مشكلة، المهم أن تصل عوائلنا قبلنا بسلام، وفي تلك الحال، كما قرأنا في روايات الحروب؛ يحدث أن العائلة تنشطر شطرَين، ويذهب كل شطر في اتجاه، وقد يلتقيان، أو لا يُقدَّر للشطرَين اللقاء. عند منتصف الطريق تقريباً أخذ مني الإرهاق مأخذاً، وطول الطريق هناك من هم كبار السن أو مرضى، منهم مَن على الوحل تمدَّد طالباً إسعافاً وهو معدوم، ومنهم من ارتاح قليلا ليلتقط الأنفاس، أطفال، شيوخ، نساء، بعضهم حفاة، وآخرون عراة إلا من أسمال تستر العورات، محظوظ من حظي بكسرة خبز يابس، أو قطعة بسكوت انتهت صلاحيته، بارقة للأمل لاحت من بعيد، هناك صبِيّ يمتطي (حماراً)، لِأعرضَنَّ عليه سعراً وأشتريه كي يُسعفني لما تبقى من الطريق، لحقتُ به، أتبيع ما عندك، أيها الصبي، على الفور أجاب: بألف دينار، تشتريه؟. بلا تردّد أجبتُ نعم، هيّا، تعال خذْ. تحسستُ جيبي، النقود وزَّعتُها في طيات ملابسي تحسباً لطارئ ما، ألف من الدنانير السويسرية في ذلك الزمان تعني شيئاً باهض الثمن، لكني لدفعها اليوم مضطر، الجواب جاءني فوراً: هل صدَّقتَ؟ لو دفعتَ عشرة آلاف لما بعتُ، إذاً لأكمل ما تبقى كما بدأتُ، بين استراحة هنا، وأخبار المدينة خلفنا يلقي بها إلينا من كانت بحوزتهم سيارات عسكرية غنموها من المعسكرات، فالسيارات الخاصة توقف أغلبها بسبب نقص البانزين، خلال الأيام الماضية جراء قصف الأمريكان للمحطات والمخازن والجسور ووسائل التواصل، بعضهم قام بفتح قناني الغاز لاستخراج ما بداخلها، فانفجرتْ عليه فمات أو تشوَّه له وجه، وإن أفلح ونجا يضيف له النفط الأبيض، العراقيون يصنعون المعجزات، هكذا يرددون. مع آخر خيط للشمس وصلنا (الكحلاء) مُتعبين مُنهكين، زال الهمّ والإجهاد حين طالعنا أطفالنا سالمين، ما أن استقر بنا المقام حتى دوَّت وسط المدينة قذائف مدفعية ودبابات جاءت من جهة القرنة، واجتازت قلعة صالح، وهي الآن على مشارف الكحلاء، إنه الموت الذي هربنا منه ناجين من الشمال، قد حاصرَنا من الجنوب، امتزجت صرخات الأطفال بعويل النساء، مقرونة بالتسابيح والدعوات، سقوف البيوت القديمة تهتزّ آيلة للسقوط فتنثر علينا الغبار، سيارات في الشارع احترقت هنا وهناك، بالتفاتة من العم أبو جاسب التجأنا جميعا لبيت الجيران المبني حديثا، وسقفه من الكونكريت؛ فاحتمينا فيه حتى انجلى الموقف، توقف الرمي بعد أن أسكتت قذيفة مدفع مُكبِّر الصوت على منارة الجامع المجاور لبيت العم، كانت منها تصدر التعليمات والبيانات من المقاتلين للسكان. الوضع لا يُطمئِن، الجيش طوّق المدينة من جهة الطريق الرابط بين العمارة والبصرة، وعند الصباح الباكر سيدخلون البيوت بيتاً بيتاً للتفتيش عن السلاح، وقد يُعتقل الرجال؛ حزَمنا الأمتعة وأغطية وحصيرة (نايلون) كبيرة، ونفذنا من الجهة الأخرى محاذاة لمجرى نهر الكحلاء باتجاه مزرعة أصدقاء بيت عمنا، بحفاوة استقبلونا، وجدناهم قد حزموا متاعهم مُستعدين لترك الدار إنقاذا لأولادهم الهاربين من الخدمة العسكرية باتجاه الهور، أقفلوا الغرف، وأفرغوا لنا مكانا لنسكن فيه، حظيرة الأغنام، أخرجنا ما فيها من فضلات بالجرافات، فرشناها بالرمل، مددنا الحصير، تخالفت الأرجل، النساء بجانب، وفي الجانب الآخر الرجال، لم ينم أحد قط، قتلنا الخوف بالضحك والنكات. مع خيوط الفجر الأولى حلَّقت في السماء طائرات الهليكوبتر تُمشِّط القرى والهور، القذائف تجد طريقها نحو أي تجمع بشري، مزَّقنا شرشفاً أبيض وعملنا منه رايات تؤشر للسلام، لكنها لم تحمنا، راية السلام، كوفئنا بقذيفة على مقربة منا، أهي أخطأتنا، أم أن الطيار قد قصد التخويف فأعفانا من حكم الإعدام؟، الناس الذين استضافونا نالهم ما هربوا منه، سُدِّدت لهم قذيفة وسط الهور، وقُتل ابنهم الكبير الذي لأجله طلبوا النجاة... يتبع في الحلقة الثالثة... الثلاثاء 24 - 3 - 2020
مدفعية الدوري تقصف ميسان آذار 1991، الحلقة الثالثة. بقلم مديح الصادق... عندما تنفذ مؤونتك الضرورية وأنت في مثل هذا الموقف؛ فما أمامك من مُنقذ سوى الطبيعة، وهي الأم الرؤوم، وهاهو نهر الكحلاء أمامنا من مائه العذب ارتوينا عندما جفَّت منا الأرياق، وعلى ضفافه نبت (الخبّاز والحندقوق)، تناولناه بعد الغسل فأقنعنا البطون؛ لكن كيف لنا أن نتصرف إزاء أطفال صغار، نفذ الخزين من الحليب، وإن توفر فأين نسخِّن الماء، ولا أواني أو موقداً نشعل به النار، ومدفعية الملعون (عزت الدوري) تطوق المكان من كل الجهات، والهلكوبتر في الجو، وفي الأزقة أفواج المشاة. لابد أن نعود لمركز (الكحلاء) كان القرار، مهما كانت النتائج، إنقاذ الأطفال من موت محقق أهم من مصيرنا نحن الرجال، قد يكون إعداماً ميدانياً عاجلاً، كما تناهى لأسماعنا من قادمين من مركز المحافظة، أو أننا في الأسر قد نقع فيكون نصيبنا الجلد والتعذيب حتى الموت، والتهمة جاهزة لا تحتاج إلى محقق أو قاضٍ يصدر الأحكام، خصوصاً في مثل هذه الأحداث، وقد ننفذ بمعجزة سنذكرها فيما لو كتبت لنا النجاة، بعد عقود من الزمان، أما البقاء فيعني التصديق على أننا من المقاومين. المعجزة التي انتظرنا جاءت فوراً، سيارة (زيل) عسكرية يقودها جندي بجانبه عريف، خرجنا جميعاً نلوح لهم بالأطفال، توقفا، سأل العريف: من أنتم؟ وماذا تفعلون في (حضيرة الحيوانات) تلك؟ شرحنا له الموقف من بداية انطلاقنا، بدا عليه التعاطف عندما شاهد الأطفال جوعاً يتضورون، وأمهاتهم تستعطفهم منهنَّ ملامح الوجوه، اركبوا، قال، لكن أمر أعفائكم ليس من صلاحيتي، فأنا عبد مأمور، أمامنا سيطرة في مدخل المدينة، وهم أصحاب القرار، هيا انطلق، جزيتَ خيراً، فإنقاذ الأطفال عندنا أهم من كل شيء، المهم أن نوصلهم إلى بر الأمان. الزيل العسكري يخضُّنا خضّاً كلما تجاوز حفرة في طريق زراعي رملي، يقلب التراب على رؤوسنا، فننفضه عن الوجوه بالأكمام، لا ضير من ذلك، وما هو هام، الأهم ما ينتظرنا من مصير مجهول، فكرتُ في آخر الحلول، المال في ذا الحال قد يفيد؛ وبه تُشترى الأرواح، إذا يئسنا أعرض عليه المال، أيّاً كان قدره، المال يمكن تعويضه، وهل يحالفنا الحظ فنعود بصحبة الأطفال والزوجات، أو يعودنَّ بالسواد موشَّحات؟ وهل يحدث في عرف الحياة أن تتكرر المعجزات، نعم قد تتكرر، وهاهي السيارة العسكرية قد غاصت في الرمل، ولا من مُخلِّص لها سوى سيارة إنقاذ أخرى، وذاك يطول؛ صاح العريف: هيّا انزلوا، لقد كُتبت لكم النجاة، المدينة على بعد أمتار، وهناك طريق آخر لها غير السيطرة، من ذلك الزقاق الفرعي، لم نلتفت له عندما صاح خلفنا العريف: (من منكم سيِّد، أويحمل خرزة النجاة؟). لا توجد سيارة أجرة في الكراج، فهل نقطع الثلاثين الكيلومترات، كما جئنا؛ سيراً على الأقدام، مع النساء والأطفال؟ ذاك مستحيل، بالمال الذي كنا سندفعه رشوة للعريف نختصر الوقت والمسافات، وننقذ الأرواح، تذكرتُ قصة تُدرَّس في الثانوية لكاتب إنجليزي، (أربعون يوماً حول العالم)، كان البطل يقهرالعراقيل المقصودة لتأخيره بدفعه المال، حتى فاز بالرهان، جرّار زراعي وقناني غاز فارغة، أوقفتُه، هيّا انطلق ولك ما طلبتَ، ارصف قنانيك ولدينا بساط فرشناه. العمارة مدينتي، بالأمس غادرتُها، من الإنس تخلو كانت، إلا مسلحين يعتلون السطوح، ومنهم من نصب المتاريس عند مدخل المدينة، عند (مغربة) و (الدبيسات)، سلاحهم بنادق كلاشنكوف، وبعض القاذفات، وتناثرت مقاومات الطائرات هنا وهناك، ليس لهم أثر، واجهَنا وجها لوجه أحمر اللون، وجهه مثل شعره، بزيه العسكري، يقود بنفسه السيارة على جسر المشرح، فتح النافذة من جانبه، أطل يُمعن فينا النظر مستغرباً، ملابسنا موحلة، ونال منا الجوع والإجهاد، أظنُّه قد تساءل في نفسه، كيف نجا من الموت أو الاعتقال هؤلاء الشباب، وقد تكون معجزة ثالثة حرفت عنا اهتمام المجرم (عزت الدوري) بنا، وما كان يُبيّت لنا هذا اللعين. الجثث تناثرت على طول الشارع، على الجانبين، وقد مضى على وضعها هذا يومان، لا أحد يجرؤ على أن يرفعها، أو عن هوية واحد منهم يبحث، من يطيل الوقوف عنده يتلفت حوله، لعل مُخبراً يرصده، وما أكثرهم في زمن الطاغية، وإلاّ من زوَّد الأمن والمخابرات بقوائم أسماء ومعلومات اعتمدوها في الاعتقال، وأحيانا بتنفيذ حكم الإعدام الفوري، وإلقاء الجثث في النهر، بل تم تزويدهم بفديوهات مصورة لا مجال حيالها للإنكار، ألا تبّاً لمن باع ضميره للجلاد مقابل حفنة مال، فتلك لعمري لحظة الانسلاخ عن هوية الإنسان، تدخَّلَ مدير صحة المحافظة تحت ذريعة حماية البيئة، فنقلت البلدية الجثث من الشوارع، وانتهى هذا المشهد المروع الذي يواجه الناس جيئة وذهابا، من وإلى السوق. الخطوة الأولى الاطمئنان على البيت في (حي المعلمين الجديد)، الناس منشغلون بما هو أهم، حتى السرّاق كانوا منشغلين، لا خوف عليه، والثانية (معمل تصفية الذهب) في محلة الجديدة قرب سوق الصاغة، وهو بيت شرقي قديم يمكن النفاذ إليه من كل السطوح، فيه عدة الشغل، الأثاث، قناني الغاز أجهزة السباكة، و(قاصة) حفظتُ فيها وثائق، وبعض الفضة، كانت على وضعها مقفلة، لكن باب المعمل مكسور قفله وهو مفتوح، أجهزة طبية، ملاقط، مقاص، شاش التضميد، وسوائل التعقيم، لقد حوّل المُسلَّحون معملي إلى مستوصف ميدان، جمعناها وسلَّمها شريكي طيب الذكر، (الخال عبد الواحد مطشر الهلالي)، أبو رعد، إلى مذخر صحة ميسان. المأساة لم تنته، طالما مازال سالماً رأس النظام، وأعضاء الحزب الحاكم الذي هربوا متسترين بشتى الأزياء؛ قد تجمعوا في مقر الفيلق الرابع على طريق الميمونة، قد تسللوا من جديد وهم حذرون غير مصدقين أنهم أحياء، فقد نال بعضهم ما كان رد فعل من بعض المسلحين، قتل، أو إهانة، أو بتر يد، ومنهم من احتمى ببعض شيوخ العشائر، أما الأقليات الدينية، فعلى الرغم من تصرفات بعض الانفعاليين تجاههم؛ لكن كان لرجال الدين المعتدلين، وشيوخ العشائر دور كبير في منع أي تصرف غير محمود بحقهم. شيوخ (التسعينيات)، لقد شاع هذا المصطلح بعد تلك الأحداث، وإحكام قبضة النظام البعثي على الحكم من جديد، فقد اتبع صدام سياسة أسياده الإنجليز بأن خطَّط لتوظيف شيوخ العشائر لخدمة سياسته في بسط النظام بعد أن تثبت لديه أن أعضاء الحزب قد فقدوا ما تبقى من ثقة للجماهير، ولما كان لا يستجيب له بعض الشيوخ الأصلاء؛ كان يجد البدائل من نفس القبيلة أو العشيرة لقاء مبلغ من المال يجود عليهم به، إضافة لاتباع سياسة جديدة في الحزب وأجهزة الأمن والمخابرات؛ بأن سلَّط على كل قيادة منها أتباعه من الأصل (التكريتي)، حتى وإن كانوا رعاعاً أميين، وعاد بأسلوب أقسى في قمع الحريات، والانتقام من معارضيه، دينيين كانوا، أم علمانيين، في ظل حصار جائر مقيت، باع العراقيون لسد جوعهم ما ادخروا، المال والذهب والأملاك، إلا الكرامة فهي لا تباع؛ حتى شاءت الأقدار أن يتسلط عليه أسياده الأمريكان الذين جاؤوا به؛ والباقي نعيشه اليوم، بمرارته، وما هو بخافٍ على حليم، لا تكفي لشرحه مجلدات. الجمعة 27 - 3 - 2020
#مديح_الصادق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشيخ (شلندخ)... قصة قصيرة
-
حديثُ الصباح... القدَر...
-
انتحار... قصَّة قصيرة
-
ميشانُ... نصٌ شعري
-
إيَّاكِ أعني... نصٌّ شعري.
-
لي في العراقِ حبيبة... نصٌّ شعري
-
وتلك ثمار نظام المحاصصة القومية الطائفية البغيض...
-
تقريرمُفصَّل عن مهرجان شقائق النُعمان الشعري في تورونتو بكند
...
-
قراءة للنصّ الشعري ( إش زهرون ) للزميل الشاعر، الدكتور وليد
...
-
السُلطان... قصَّة قصيرة
-
إنَّ غدَ الثوَّارِ لآتٍ، آت
-
ادعموا المُعتصمين، نداء إلى الناشطين في الجالية العراقية في
...
-
اضطهاد المرأة جزء من اضطهاد أكبر، ملف المراة والتطرف الديني
...
-
خواطرُ ليلةٍ شتويِّة
-
صلاةٌ في حضرةِ الحبيبةِ... نص شعري
-
في ذكرى انتفاضة معسكر الرشيد ( حركة الشهيد حسن سريع ) 3 - 7
...
-
( تالي الليل تسمع حِسّ العِياط )...
-
حبيبتي ووجهُ الوطن... نص شعري
-
تراتيلُ الدماء.... نص شعري
-
سلاماً، سلاماً، سلاما، للذكرى الحادية والثمانين لميلاد الحزب
...
المزيد.....
-
النهج الديمقراطي العمالي يدين الهجوم على النضالات العمالية و
...
-
الشبكة الديمقراطية المغربية للتضامن مع الشعوب تدين التصعيد ا
...
-
-الحلم الجورجي-: حوالي 30% من المتظاهرين جنسياتهم أجنبية
-
تايمز: رقم قياسي للمهاجرين إلى بريطانيا منذ تولي حزب العمال
...
-
المغرب يحذر من تكرار حوادث التسمم والوفاة من تعاطي -كحول الف
...
-
أردوغان: سنتخذ خطوات لمنع حزب العمال من استغلال تطورات سوريا
...
-
لم تستثن -سمك الفقراء-.. موجة غلاء غير مسبوقة لأسعار الأسماك
...
-
بيرني ساندرز: إسرائيل -ترتكب جرائم حرب وتطهير عرقي في غزة-
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال ... دفاعا عن الجدل --(ملحق) دف
...
-
اليمين المتطرف يثبت وجوده في الانتخابات الرومانية
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|