عزيز باكوش
إعلامي من المغرب
(Bakouch Azziz)
الحوار المتمدن-العدد: 1576 - 2006 / 6 / 9 - 10:44
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
تستدعي قراءة فيلم "نجدة جيسيكا ماك فلور" جملة من الأسئلة والمطارحات التأملية الهادئة, التي تكتسي أهميتها من طبيعة الوضع السياسي العالمي الراهن والوضع المتفجر في العراق في ظل النظام العالمي الجديد. تحت قيادة تحالف الولايات المتحدة الأمريكية. ومن بين ما يمكن أن يثيره هذا الأخير من أسئلة ,طبيعية الأسباب والخلفيات السياسية التي تقف وراء ما أصبح يعرف في التداول السياسي ب((ازدواجية المعايير)) أو سياسة الكيل بمكيالين، إزاء القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان من قبل القوة الرئيسية في العالم.
حكاية الفيلم،"نجدة جيسيكا ماك فلور" تبدأ من الأزمة، وتنتهي إلى السعادة, من حديقة منزل صباحا، حيث تسقط طفلة تبلغ من العمر ثمانية عشر شهرا، في نفق عمودي الارتفاع، عمقه22 مترا. إلى نفس الحديقة ليلا، حيث يتم إنقاذ ((جيسيكا)) حية. ومع ما يتخلل عملية الإنقاذ من مواقف إنسانية مؤثرة، تؤجج الشعور بالتضامن و المساواة, كما تعمل على توليد الإحساس بقيمة الإنسان ، وجدوى حياته بالنسبة للمجتمع و الحضارة برمتها.
الفيلم،إذن، قصة رعب حقيقية ، في قالب إنساني حزين، استطاع المخرج من خلال مشاهد معينة، وعلى قدر كبير من الدهاء، إيقاف الأنفاس والتحكم في دفقانها، أنين الطفلة الذي كان ينبعث من النفق بين الفينة و الأخرى، ولم لا؟ فالأمر يتعلق بحق إنسان"من فصيلة معينة" في الحياة , و تعبئة الرأي العام الأمريكي وغيره, من أجل حشد أكبر قدر من التعاطف الداخلي و الخارجي مع الأسرة المفجوعة، واجب حضاري قومي، ولذلك ,حظيت الحادثة بتغطية إعلامية غير مسبوقة، كما استنفرت التكنولوجيا إمكاناتها الخارقة، وعبأت في زمن قياسي طاقات بشرية هائلة، جيدة الأداء، كما نشطت المختبرات، وكان من اللازم أن يتحمل كل مسؤوليته كاملة، أنها مواقف تفرضها طبيعة شعب متحضر ونبيل, يدرك القيمة الجوهرية لحق الإنسان في الحياة.
ها "جيسيكا" حية إذن, وسط تصفيقات وهتافات تمجد العقل الأمريكي على هذا الانجاز الحضاري الرائع، فمن غير التكنولوجيا، يستطيع أن يرسم البسمة إلى شفاه الأمريكيين, ويعيد الدفء و السعادة إلى والدي "جيسيكا"؟ اللذين لم يخفيا سعادتهما و إعجابهما بقدرة أمريكا , و نجاعة "الأميريكان" في اخطر عملية انتشال فلذة كبدها "جيسيكا" بعد عملية حفر شاقة و متعبة، في نفق حديدي، عمودي الارتفاع، يتجاوز عمقه 22مترا،في سباق ضد الساعة ، وفي زمن قياسي لم يتجاوز 55ساعة. لم يتوقف العقل عن التفكير فيها لحظة واحدة.
ففيما يتعلق بالمجال الفكري و المفاهيمي، و بما أنه ليست هناك تكنولوجيا غربية ، وتكنولوجيا غير غربية، ليس هناك أيضا حق مشروع يستفرد به إنسان دون آخر، لذلك فان ما يسترعي الانتباه في الفيلم,هو أن الوعي بحقوق الإنسان في الفكر الغربي، و الأمر يتعلق بطائفة من الحقوق الأساسية التي لا تقبل التجزئة ،أو المساومة، باتجاه الإنسان العربي يختلف تماما عن الوعي بها تجاه الإنسان الغربي. رغم أن الديانات السماوية، ومن بعدها القوانين و المواثيق الدولية أقرت بمنح كل هذه الحقوق دون تمييز في الجنس أو العرق، أو الدين أو اللغة. من هنا، فان المرء لايستطيع أن يخفي إعجابه بالشكل الذي تم به رسم حق الإنسان في الحياة و ذلك من خلال التعبئة القيامية التي واكبت نجدة "جيسيكا".
و اللافت للانتباه ,أن سخاء هذه النظرة الأمريكية لحق الإنسان في الحياة، ذاتية و ليست كونية ,بمعنى أنها تنطبق على واقع معين في زمن معين.
وبتعبير أدق، لا وجود لها خارج الإطار الجغرافي الذي ترسمه الولايات المتحدة الأمريكية.خدمة لمصالحها وأهدافها.
من واجبنا أن نتساءل ما الذي يفسر التضارب الحاصل في مجال تطبيق حق الإنسان في الحياة لدى كل من "جيسيكا" الأمريكية و" فاطمة الحيدري" "العراقية " التي تحولت إلى هيكل آدمي ، نتيجة نقص قصف همجي بربري استهدف قريتهم ليلا وجيسيكا نائمة.
و حسب رأيي, ففي الدولة الديمقراطية ,لا تمنح الحقوق بناء على اعتبار تمييزي، فالإنسان سواء كان صوماليا، وأمريكيا، أو عراقيا.فلماذا تحظى جيسيكا بهذا القدر من الاهتمام بحقها في الحياة لدرجة التقديس، في حين تنتهك حقوق "5 ملايين " من أل((الجيسيكات)) في العراق .من هذه الزاوية وحدها يمكن مشاهدة الفيلم و التصدي لمثل هذه المغالطات و تفنيدها بكل قوة و حزم .ومن هنا أيضا حقوق الإنسان من زعيمة النظام العالمي الجديد.
و إذا كان الكثير من الناس من"أهل الجنوب" ينظرون إلى الولايات المتحدة باعتبارها الجهة العليا التي تبدو أكثر من غيرها مصداقية في معالجة قضايا حقوق الإنسان،في إطارها الشمولي و الكوني، وفي تجرد تام من أي تمييز غير شخصي مثل اللون أو العنصر، أو الجهة الجغرافية أو الوضع الاجتماعي ، لهؤلاء نقول أنكم مخطئون و أكثر من ذلك أنتم على درجة كبيرة من الوهم.
وفي آخر محطة لاجترار الهم نضيف أن النفق (الحصار) الذي يخنق أرواح 18 مليون عراقي، ويمنع الغداء والدواء عن ملايين من ((الجيسيكات)) و الذي يعتبر أهم تجليات الغطرسة الأمريكية ، صممه العقل الأمريكي ونفخ في أرجائه ملايين الجراثيم و الأجسام السامة، وظل حريصا وسط تواطؤ عربي مخز على ردم كل سنتمتر في العمق حفرته السواعد العراقية, وأنضجته جهود القوى المحبة للحق والعدل من اجل إخراج شعب بأكمله من النفق وبالتالي رفع الحصار الظالم, والاحتلال الغاشم عن بلد عريق ,ما فتئت شوارعه تشهد كل يوم تشييع جنائز المئات من الضحايا الأطفال النساء الشيوخ من العراقيين ضحايا امتدادات النقص الحاد في الغداء وفي الدواء , جراء حصاء دام سنوات , لسبب بسيط هو إن هذا البلد, قد تجاوز الخط الأحمر,واستطاع برؤية وإستراتيجية , إن يشيد لنفسه بنية تحتية نوعية على أسس علمية وتكنولوجية , تمكنت من تحقيق الحد الأدنى من ميزان القوى في المنطقة العربية الأمر الذي أدهش أمريكا ,وأسال لعاب إسرائيل,فكان من الواجب تحطيم هذه البنية, والعودة بهذا البلد سنوات إلى الوراء ,حتى يتسنى تغييب ثقله البشري والتاريخي عربيا وإقليميا في القرار السياسي الدولي .
وتلك أهداف لاتخرج على كل حال ,عن الإستراتيجية الأمريكية الصهيونية العاملة في الوطن العربي عامة,والخليج العربي على نحو خاص ,لذلك فان الخلاصة التي يجب أن نضعها نصب أعيننا,ونكف عن الجدل حول التطرف,ووجع الدماغ ,هي ماذا يمكن أن يفعله لإنسان العربي المغلوب على أمره ,عندما تكون الجهة التي ينتظر منها الوفاء بحقوقه , هي التي تسلبه وتحرمه من هذه الحقوق ...وتنتهكها بشكل سافر, لأسباب إذ لم تكن تتعلق بدينه أو لغته ,ومركزه الحضاري,فبقاعدته الإقليمية الجغرافية التي يعيش ضمنها.
ولعل المفارقة تتوضح من خلال التساؤل المشروع التالي, كيف استطاع حدث سقوط طفلة أمريكية في النفق, أن يهز ضمير الشعب الأمريكي , ومن خلاله ترسانته الإعلامية الضخمة , من أذنيه, فيما لم ولم يستطيع سقوط 18 مليونا من العراقيين في النفق, أن يوقظ شعرة واحدة من رأي هذا الضمير؟؟؟
تبقى كرامة لو تأمل العرب لحظة واحدة هذه المفارقة.
#عزيز_باكوش (هاشتاغ)
Bakouch__Azziz#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟