الدكتور علوش
تحية طيبة واحتراماً
نعم.. كان قلبي يرقص فرحاً لسقوط الطاغية
وها هو الآن.. ينزف ألماً وقلقاً لما يحدث من فوضى وتدمير
لكنني متأكد أن فجر العراق الجديد سيكون أكثر لمعاناً بعد انزياح ظلام الطغاة والغزاة معاً إذا ما تضافرت جهود الخيرين من مثقفين وسياسيين لبناء هذا الوطن المنهوب والمنكوب بدلاً من السجالات والشعارات العقيمة..
أتمنى أن تتملى هذه السطور التي كتبتها في اليوم السابع من الحرب
لتدرك مقدار محنتنا التي غابت للأسف عن الكثيرين من حملة الشعارات البراقة
مع خالص التقدير
آهٍ.. على العراق
آهٍ عليكَ من الهوى
آهٍ عليكَ من النوى
آه عليكَ من اللظى
آه عليكَ من الحنينْ
آهٍ عليكَ من الأنينْ
آه عليكَ من البوارج والقنابلْ
آهٍ عليكَ من الحكومات المهازلْ
آه عليكَ من "المعارض" والموالي والمجامل
آهٍ عليك من التحزّب والتمذهب والتعصّب والغياب
آهٍ عليك بلا صناديق انتخاب
آه عليكَ من الغزاة
آه عليكَ من الطغاة
آه عليكَ من الصيارفة السماسرة الجناة
آهٍ عليكَ من الذي نامَ الزمان وما صحا
آهٍ عليكَ من المسابح واللحى
آهٍ عليكَ من الرصاص، وما محا
آهٍ عليك من التصهين والتأمرك والتلندن والرحا
آهٍ عليكَ من الحداثة والعروض
آهٍ عليكَ من الرئيس الأوحدِ
ومن البيان الـ"الواحدِ"
ومن الشهيد، من النشيد الخالدِ
أهٍ عليكَ من الهتافات التي غطت على أنّاتنا
آهٍ عليكَ من الشعارات التي ضلّتْ طريقَ خلاصنا
آهٍ عليك
آهٍ عليك
آهٍ..
يا دكتور علوش..
في فيلم " تايتانيك" الذي شاهدته قبل سنوات في منفاي كنت أرى – خلل دموعي – مشهد بلدي العراق وهو يغرق في لجة الكارثة الهوجاء.
لكن الفرق المثير والغريب والمؤلم بين المشهدين أن قبطان التايتانيك كان يتراكض كالمجنون لإنقاذ سفينته.. بينما سفينتنا المثقوبة يزيدها القبطان ا لأهوج وحاشيته غرقاً.
أما عن أسباب الكارثة فهي متعددة لكن أخطرها وأشدها كابوسية هي تسلط تلك السلطة - العصابة التي ظلت تحكمه أكثر من ثلاثة عقود والتي ليست هي خارجة عن منطق السياسة والديمقراطية فحسب، بل وخارجة عن منطق التأريخ والانسانية والعقل والضمير. وإلا كيف يمكننا أن نفهم أن واحداً من أغنى بلدان العالم، يعيش – اليوم - سدس أبنائه في المنافي، ولا يجد الباقون ما يسدون به رمقهم وكرامتهم.
وكيف نصدق أن بلداً أوجد أول قانون في العالم واكتشف الأبجدية وصناعة الورق والموسيقى والعجلة، لا يملك ا ليوم قانوناً. وعجلة مسيرته معطلة، وموسيقاه تصدح باللحن الجنائزي وأناشيد "القائد"، ولا يجد مبدعوه ورقاً للكتابة ناهيك عن الكومبيوتر والانترنيت. ولا.. ولا..
إن الخسارات تلو الخسارات التي عشناها في الأدب والحياة ألقت بظلالها الرمادية على واقعنا الذي كنا نحاول على الدوام أن ندفع به إلى مشاتل الأمل.. وما الإبداع إلا محاولة حلمية لتفسير فوضى الوجود، وتأسيس ممالك أكثر رحابة لاستيعاب القهر البشري..
غير أن بلدنا المحاصرة بالدكتاتورية والقمع والحروب والفقر مدفوعاً أيضاً من قوى التجهيل وسلطاتها المتعددة، راح يضيق يوماً بعد يوم بهذه المساحة الحلمية، وأخذ يضيّق الخناق على مساحة الفكر والحلم حتى لم يعد الشاعر أو المثقف المختلف يجد مجالاً أو فسحة لكلمة حرة أو رأي مختلف.
لكن وهج الإبداع لن يطفئه الطغاة
ولا الغزاة..
هكذا علمنا تاريخ الشعوب الحية.
وهكذا ترى بأم عينيك فورة الأبداع في شرايين الأجيال الجديدة في العراق رغم كابوس الطغيان والحصار والحروب.. وكثيرأ ما تصلنا منهم نصوص ملفتة
والفت الانتباه هنا ان ثلاثة من عمالقة الفكر العربي ولدوا في زمن الانحطاط والعصور المظلمة بعد سقوط بغداد على يد المغول، وهم:
ابن خلدون، وابن منظور وابن بطوطة..
وسأكون ممتناً يا دكتور علوش لو تأملت معي هذا المواجع التي أطلقتها أمام اسئلة بعثها لي إلى منفاي البعيد الصديق الشاعر موسى حوامده وأجبته بما يلي:
الحيرة شاملة وشرسة، في وجدان كل عربي وعراقي حر ومستقل.. ليس بسبب اختلاط الوقائع والخنادق فحسب بل ولاختلاط التأويلات والتفسيرات التي لا ترحم هي الأخرى، لتنضاف إلى محنتنا محنة جديدة حين لا تجد من يفهم مأساتك رغم مرور كل الكوارث.
إنها الازدواجية المريرة التي أوقعتنا فيها سياسات حكامنا ومنظري ثقافاتنا.
فهل أنت مع الحرب أو ضد الحرب؟
سيواجهك المطبان القاتلان إذن:
* إذا كنت ضد الحرب والخراب
فأنت مع الدكتاتورية وصدام حسين!!.
* وإذا كنت مع الحرب باعتبارها الفرصة النادرة والوحيدة للتخلص من الدكتاتورية فأنت إذاً مع طائرات ب 52 وجورج بوش وبلير!!.
* إذا كنت مع الدفاعات العراقية والمقاومة فأنت مع آلة النظام العسكرية..
* وإذا كنت مع تقدم قوات التحالف لتخليص شعبك من سلطة الدم فأنت معارض وخائن.
فهل أنت ضد أو مع؟
أم أنت ضد ومع في آن واحد؟
أم أنت لا ضد ولا مع؟ وكيف تستطيع ذلك؟
لقد أربكتني عيون الأسئلة المفتوحة أمام ضميري كحال الملايين من العراقيين المتناثرين في أصقاع المنافي وداخل أسوار الوطن المنهوك.
كم من صاروخ يسقط لنصل إلى رأس الدكتاتور..
وكم من نفي وسجن وقمع ومشنقة نتحمل ليتأكد العالم من معاناتنا وقهرنا.
في البدء أقول:
الذي يحب الحرب إنسانٌ غير سوي أو تاجر حروب أو سمسار.
وفي الوقت نفسه أقول:
والذي يساند النظام إنسانٌ بلا ضمير ولا رحمة أو تاجر أو سمسار.
وبين هذين الأمرين المريرين
بين كرهي للنظام الدموي وبين مشاهد القصف الامريكي البريطاني يظل قلبي يعتصر ألماً وحزناً على وطني وأهلي.
لقد عشت الحرب جندياً أكثر من 13 عاماً حين زجنا بها نظام لا يعرف الرحمة، نظام أهوج جر البلد إلى سلسة من الكوارث وسرق من شبابنا أجمل السنوات ومن وطننا أعظم الخيرات وبدد الكثير من الموارد طيشاً وغباءً.
لقد خبرتُ الحرب منذ نعومة أحلامي وعرفتُ أهوالها في حربين شرستين، وها هي الثالثة أتابعها منفياً بعيداً عن وطني في أصقاع السويد، وروحي تعتصر ورأسي يكاد ينفجر.
لماذا هذه الحروب المتواترة
لماذا يا ربي. ألا يكفي ما مر بنا من حروب وقمع وحصارات وسجون ودكتاتوريات مريعة..
وما الذي يفعل عراقنا الأعزل ازاء كل هذا؟
كيف يقاوم جيوش العالم "المتحضر" بطائراته وبوارجه ودباباته وكتائبه الزاحفة، لكن بدونها سيستمر كابوس النظام مخيماً على صدورنا. وهنا كيف يمكن لنا أن نقاوم سلطته الدموية التي بنت عرشها طيلة أكثر من 30 عاماً على الجثث والقنابل ورسخت نظامها بأجهزة الأمن والأمن الخاص والمخابرات والاستخبارات ولجان الإعدام ورجال الحزب والجيش الشعبي ومليشات فدائي صدام والخ والخ.. ومن سيناصرنا؟
نعم.. أريد حرية وديمقراطية، ولكن ليس عن طريق دبابة أو فوق جثث شعبنا.
نعم.. أريد وقف الحرب، ولكن ليس ببقاء الدكتاتور الذي لا يقل ضرراً على شعبي من الحرب. أن لم يكن أكثر سوءاً.
آهٍ.. يا عراقي الجميل والنبيل، يا بلد النهرين والشعر والشمس والزقورات والفراهيدي وجابر بن حيان وابراهيم النظّام وأبو حنيفة النعمان والحسين الشهيد وبشار بن برد وأبو العلاء المعري والمتنبي والرصافي والجواهري ونازك والسياب والبياتي والتكرلي وناظم الغزالي ويوسف عمر وصديقة الملاية وجواد سليم وضياء العزاوي وشاكر حسن آل سعيد وعلي الوردي وطه باقر و.. و.. وقائمة المبدعين تطول وتطول..
واسأل ضمير العالم أليس هنالك من حل
ألا يستطيع العراق أن يعيش بلا حروب ولا طغاة.
أن ينمو ويتطور وينتج ويبدع وهو قادر وخلاق وولود.
ألا يستطيع شعبي أن يكون ضد سياسة القمع
وضد سياسة الحروب
الحرب دمار
والدكتاتورية دمار
لا حل سوى كنس مخلفات الدكتاتورية إلى الأبد: فكراً ونظاماً وشعارات
لا حل سوى الاستقلال من كل سيطرة خارجية.
لا حل سوى الوعي
لا حل سوى الحرية
نعم.. تلك هي وحدها الحلول الناجعة القادرة على خلاصنا
*
E-Mail: [email protected]
www.adnan.just.nu