ياسر اسكيف
الحوار المتمدن-العدد: 1575 - 2006 / 6 / 8 - 11:25
المحور:
الادب والفن
شيء ما يأخذ نصوص ( أبشرك بي ) , الكتاب الشعري الرابع للكاتبة انتصار سليمان , بعيدا ً عن نصوص مشاركيها في الكتابة الشعرية , وفي الهم الذي يخلقه البحث عن أشكال جديدة للتعبير عما يفترض بأنه تجربة جديدة في التعاطي مع الكون وموجوداته . والغريب أن هذه النصوص قد أخذتني , كقاريء , إلى استحضار تجارب أجيال سابقة , فنيا ً وشعوريا ً . مع أن بعض النصوص , وخصوصا ً في القسم الأول من الكتاب , تقترب من إنجاز انتمائها إلى الذات النصيّة , وبالتالي إلى جنسها الأدبي :
( باغتك بحضوري كاملا ً / فرحت تقسّمني / كالأرض المشاع / كان يكفي اختصاري / بقولك : / أنت ِ ظلّي / حتى ألملم ما تبقى مني / وأرحل’ / بوجع يشبه وجعي الآن . ص 9 )
غير أن هذه النصوص سرعان ما تأخذ مقعدها الخلفي في صالة المنجز الشعري الجديد , دون إضافة تذكر , بل كزيادة كمية في مساحة التشابه :
( تتألم النظرة مني / حينما / لا تلقى ابتسامة تتلقفها . ص 17 ) أو ( خمس سنين / قنديل قلبي / يفتش عن كف رحمة / تمسح جبيني المتصدّع . ص 21 )
وفي بعض الأحيان تلجأ الكاتبة إلى تدوين ما يمكن تسميته أقوال مأثورة على أنّه نص شعري : ( كلهم يلعن الظلمة / لكنّهم دائما ً / يقولون : / الليل أستر للويل / كلهم يلعن الظلمة / لكنهم جميعا ً / يلبسون أجنحة الخفافيش . ص 41 ) .
وهنا لابد من الإشارة إلى اللبس الحاصل من استناد البعض إلى ما تم رصده وتوصيفه كملامح أو سمات للكتابة الشعرية الجديدة التي اصطلح على تسميتها ( قصيدة النثر ) وتحديدا ً ( الومضة الشعرية ) فقد ظن الكثيرون بأنها تعني المقطع القصير فحسب . جاهلين بأن تلك الومضة تحدث في ذات المتلقي ولا تقيم في المقطع .
في القسم الثاني من الكتاب , والذي جاء تحت عنوان ( لتكن مشيئتي ) ومن خلال القراءات المتتالية للنصوص , بدأ الجواب على تساؤلاتي المطروحة , في بداية هذا المقال , يتشكل بعسر . قد يكون الجواب الخطأ . لكنه جواب أخرجني من حيرتي .
النصوص لا تستند أو تقوم على الأوزان الكلاسيكية ( عمود – تفعيلة ) ولا تلتزم قافية . المفترض بها إذا ً أن تأخذني إلى حقل الإدهاش الذي أخذني إليه الكثير من الشعر المكتوب بشروطها ذاتها . لكن ذلك الأخذ لم يحدث رغم محاولاتي المتعدّدة .
وفي قراءتي , كما في قراءة الجميع على ما أظن , أي في إعادة إنتاج النصوص , على أنها رسائل شخصية موجهة إلي , كما تذهب الناقدة الأمريكية ( هيلين فندلر ) , ربما تبيّنت الأسباب .
( خروج من أقمطة الليل )
نصّ يقدم درسا ً في عدم فك الارتباط بين نثرين , أحدهما شعري إذ استطاع بما امتلك من خصائص تكوينية أن يغادر جنسه والآخر سردي بقي مصرا ً على الاحتفاظ بعناصر الحكاية , ولو أخذنا المقطع الثالث , على سبيل المثال , لوجدناه ممتلكا ً لخصائص الحكاية بكل عناصرها ( الحدث أو الأحداث – الشخصية أو الشخصيات – المكان – الزمان ) .
ومن جهة أخرى , يقدّم هذا النص , عبر استخدام سين المستقبل الدالة على فعل قادم,
افتراضا ً شعوريا ً غريبا ً على المناخ الشعري , ذلك أن المشاعر لا تؤلف إنما القصص والروايات والحكايات .
وأمام هذا النص أجدني منحازا ً لذات لديها الكثير مما تريد قوله وليس إلى قول قصّر عن ذلك .
( هاوية البياض )
يستمرّ إصرار الكاتبة في هذا النص على إفساد شعريته بالافتراض السردي , وبهذا تقتل , على سبيل المثال , شعرية المقطع الأول , التي لا يسعني تحسّسها وتمثلها إلا في الأشطر الثلاثة الأخيرة ( ورقة / يفيض جسدها / برائحة احتراق الكلام ) .
والنص مزدحم بروح الإرادة وتعبيراتها , كما في السعي إلى تحققها . والسعي إلى تحقق الإرادة كهم ّ أوحد ومسيطر , هو في الوقت ذاته إعلان عن غير المتحقق , أي تحول الإرادة إلى رغبة . وهنا يبدو بأنه ما من إحساس مختبر بعد , وبأن مساحة الادعاء هي المساحة الوحيدة المشغولة .
وكي لا نبقى في دائرة التعميم والإنشاء المبتذل الذي اعتاد عليه المتملقون , والذي أنقذهم على الدوام من تبعات التحديد والتشخيص , دون أن يقدّم أية فائدة لما يتصدون له , مقارنة بالإساءة التي لا بدّ أنها واقعة , سآخذ ما رأيته أكثر المقاطع قربا ً إلى الشعر , من حيث اللغة والمناخ , وأسائله , بإعادة الإنتاج , حول حق التجربة في إعطاء الجنسية :
( أريد أن أوقد شمعتي السوداء / وأجلس قربها بهدوء / أراقبها / وأسكب عليها رغائبي الوثنية / حتى أدرك / كم سوادها / يعلمني دهشة الضياء . )
كما يظهر المقطع . التجربة محض افتراض , والنتائج ممكنة دون اختبار .
هل الفعل المضارع ( أريد’ ) هو السبب في حجب المتعة عنا ؟ أي هل للخبرة دور في هذا الحجب ؟ أم هي الرغبة في الكتابة . وفقط الكتابة ؟
يدفعني المقطع السابق أيضا ً إلى أسئلة مهنية : هل تختلف الإضاءة باختلاف ألوان الشموع ؟ والدهشة موضوع العلم تخص الشاعرة أم الضوء . ؟
( امرأة تدّعي السعادة )
مع أنه النص الأكثر وفاء ً لجنسه ِ , غير أن الشاعرة قد أبت إلا أن تترك بعضا ً من حبل سرّته متطاولا ً كنتوء زائد ومشوّه ٍ .
( كامرأة تدّعي السعادة ) . جملة تتبوأ النص كشرطي يشيرالى اتجاه واحد بقصد الوقوع في الفخ . هذه الآلية التي باتت مكشوفة ومستهلكة في هذا النمط من الكتابة .
مع هذا , ورغم ذلك النتوء الذي تتقدمه ( ك ) التشبيه , يأخذنا النص إلى جوّه , باقتصاد لغوي مؤثر , ليعرض أفعالا ً مفعمة بالتلقائية والحميمية , رغم ما تنطوي عليه من إرغام وجبرية . غير أن النص الذي لم يتخلى عن الحبكة السردية , يوقعنا , في مرحلة تمثله , بورطة فك الحبكة , وهذا إغراء لا يمكن للقاريء مقاومته ,ويدفع قارئا ً مثلي للوقوع في براثن سؤال من نوع : هل امتلاك السعادة غير ادعاءها ؟
( أجلجل بضحكتي ) أشعر بأن خطأ ما يكتنف هذا التعبير . غير مهم .
( أحب اسمي )
نصان أرهقا , بطولِهما , مقدرتي على التواصل , كما أتعبا توهج التجربة في انحيازهما إلى سردية لا يحتملها التوتر المفترض بين حالات شعورية وليس دوائر سردية . وفي النص الثاني , أكثر من الأول , تتأكد هذه الدوائر السردية , بمعزل عن حكم القيمة على فنية اللغة , عبر تكرار اللازمة : لم أدرك حاجة ... أو لم أدرك أو يدرك أحد .. الخ دون أن تقدم هذه الدوائر تنوعاً يسم عمق الحاجة أو الرغبة . وهنا أجد أن الرغبة في الرغبة ِ هو من يدفع إلى مثل هذه المطوّلات . وهو الذي يصنع حاجزا ً بيننا وبينها قد لا نتبينه ولكننا نشعر به ونحسّه .
( شمس تغار من نفسها )
أمتعني هذا النص عند الاحتكاك الأول . أي على المستوى الانطباعي . وليتني توقفت عند هذا الحد . أي عند درجة الإغواء . ذلك أنني في القراءات التالية , ومع فقداني المتدرج للمتعة , فكرت في بلواي التي تتلخص بأن القراءة النقدية هي أقل قراءات الشعر إمتاعا ً .
ومرّة أخرى سأبتعد عن التهويم وحذلقة ( يبدو أن .. ) مظهرا ً ما رأيته نقاط ضعف في هذا النص , على أن لا يعني ذلك بأن ما لن أتطرق إليه هو نقاط قوّة .
1- نوعية المشتريات الواردة في النص لا تشترى بالقروش , حتى ولو تدخلت كل أنواع البلاغة . وتحديدا ً في المقطع الأول .
2- اعتقد , ولست جازما ً , بأن فعل ( قدّ ) من مرادفات ( قطع , اجتزأ , فصل ) أو شيء من هذا القبيل . فكيف يكون والحال هذه شأن الصورة التالية :
( وقميصين , واحد فيه / رائحة السماق من كفي حبيبي / والآخر قدّ من صدره / لمن أراد خنق هذا الخافق المسكون بالحيرة . )
3 – في المقطع الثاني . هل كان التمهيد الركيك ( وقد عددت ثمنها / ولكن سأعدد: .. ) ضروريا ً ؟ وهل مازال للفرسان والسيوف والرماح حضور في حياتنا وتجاربنا الحياتية ليكون لها الحضور في تجاربنا التي نفترض بأنها شعرية ؟ !
4 – هل خطاب الحماية والاتكاء الموجه للأب يتساوق مع نزعة خلاصية وتوق إلى عالم جديد ؟ وهل يستوي الرفض الذي نقرأه في المقطع التالي : خجولة أناي من ملابسي / حقيقتي عارية تماما ً / كالماء قبل تشكله . مع استجداء مرجعيّة ذكورية تتمثل بالأب حينا ً والحبيب أحيانا ً .
وما دمنا في حضرة الشعر , في لجّة ِ الالتباس وتشابك الحدود , سأورد المقطع التالي :
( منذ عراء تأوي الصحراء إلى صدري مساء ً / تغلق كثبانها / وتسري قوافل ريح / وأنا أتأمل وجهها / يعبر نهر القلب بشراع من غمام / فأرتب الخطوات / وأوجز كلّ مداخل الوجد اليها . / .... / نجمة تلمع على وشاح الشرق الأسود / هاجعة بهدوء طفل / بخشوع ناسك / وبتفرّد اله ... )
وأقصد بفعلي هذا أن أقول : ليست المفردات الخارجة عن مألوفها , أو الجمل التي تنوّع في القول , دون قول جديد , هي من يصنع الشعر , إنما الكثير من العوامل والأسباب التي نحن بحاجة إلى استقرائها وتحديدها , ليس كنواظم أو محدّدات , بل كعناصر خفية في نصّ ما , يفعل بنا ما لا يفعله غيره , ويدفعنا إلى الهمس أو الصراخ : إنه الشعر . ذلك أن المقطع السابق ليس مقطعا ً من نصّ شعري , بل من قصّة قصيرة للقاصة ( سوزان إبراهيم ) أوردته على سبيل المثال ليس إلا .
( نعم هناك المزيد ) مما يمكن قوله بخصوص النصوص التي بين أيدينا , ولكن من خارجها , أي من محرّضاتها الاجتماعية والثقافية . وهذه نقطة ليست لصالح الشعر بأي حال .
الكتاب : أبشّرك بي
المؤلف : انتصار سليمان
دار الينابيع 2004
#ياسر_اسكيف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟