إدريس لكريني
كاتب وباحث جامعي
(Driss Lagrini)
الحوار المتمدن-العدد: 1574 - 2006 / 6 / 7 - 10:57
المحور:
القضية الفلسطينية
كان من المنطقي والطبيعي أن تتفاعل معظم الأزمات والقضايا الدولية وتتأثر بمحيطها والظرفية التي تمر بها، والقضية الفلسطينية التي تشكل مركز الصراع العربي - الإسرائيلي تدخل ضمن هذا السياق، ذلك أن تعامل القوى الدولية مع هذه القضية التي تطرح بحدة مع اندلاع بعض الأزمات الدولية الكبرى, سواء المنظمة الأممية أو الأقطاب الدولية الرئيسية أو حتى الدول العربية والإسلامية وإسرائيل أيضا, تغير وتباين بحسب الأجواء والظروف الدولية السائدة، سواء تعلق الأمر بظروف الحرب الباردة أو تلك التي نجمت عن انهيار الاتحاد السوفيتي واندلاع أزمة الخليج الثانية أو بما أفرزته أحداث الحادي عشر من شهر شتنبر 2001 من أوضاع وترتيبات وظروف جديدة.
أولا: من ظروف الحرب الباردة إلى أزمة الخليج الثانية
إن الفترة التاريخية المبكرة التي طرحت فيها القضية الفلسطينية, مكنها من معايشة العديد من القضايا والأحداث الدولية الكبرى التي أثرت وإن بنسب متفاوتة في مسارها, بدءا بالثورة البلشفية واندلاع الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة ...وانهيار الاتحاد السوفييتي وبروز حرب الخليج الثانية.
1- القضية الفلسطينية في ظل الحرب الباردة
كانت القضية الفلسطينية من ضمن أولى القضايا الدولية الساخنة التي طرحت داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة منذ تأسيسها سنة 1945 باعتبارها تحديا واختبارا كبيرين لمصداقية هذه المنظمة ومبادئها وأهدافها، حيث أصدرت هذه الأخيرة في حقها العديد من القرارات والتوصيات, سواء من قبل مجلس الأمن أو الجمعية العامة والتي يضيق المجال هنا لاستحضارها (قرارات مجلس الأمن 242 و 338 ... وقرارات الجمعية العامة 3089 و 3236 و 2646 و 2672 ...) وكلها تشكل سندا ومرتكزا لتأكيد الحقوق الفلسطينية المشروعة في ظل اشتداد الصراع بين الشرق والغرب, غير أن هذه القرارات وغيرها أضحت بلا فعالية لكونها لم تكن في أغلب الأحوال مصاحبة بإجراءات ميدانية لتنفيذها, هذا زيادة على تداعيات استعمال حق الاعتراض (الفيتو) الأمريكي (بسوء نية) داخل مجلس الأمن على مجمل القضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين جراء اشتداد الحرب الباردة التي انتقلت مظاهرها إلى داخل هذا الجهاز المسؤول عن حفظ السلم والأمن الدوليين, بالشكل الذي شل حركته زهاء نصف قرن من الزمن, فما بين سنة 1948 و سنة 1989 أصدرت الجمعية العامة ومجلس الأمن 300 قرار إدانة للكيان الصهيوني إلا أن هذا الأخير لم يبال بذلك نظرا للحماية التي كان يوفرها له حق النقض الأمريكي داخل المجلس، وفي المدة نفسها أدان هذا الأخير الكيان الصهيوني 46 مرة كان بالإمكان أن ترتفع إلى 68 قرارا لو لم تستعمل الولايات المتحدة حق الاعتراض لمصلحته.
إن موقف الاتحاد السوفيتي- الذي جعل من مساندة حركات التحرر العالمي شعارا ومطلبا أساسيا في خطابه - من القضية الفلسطينية، تحكمت فيه مجموعة من الاعتبارات, فهو ساند هذه القضية بشكل كبير في العديد من المناسبات, كما أنه اعترف بدولة إسرائيل, ولعل موقفه هذا ينسجم مع متطلبات المرحلة التي حتمت عليه الموازنة بين علاقاته بأصدقائه العرب (سوريا، العراق، الجزائر, مصر،...) من ناحية وعلاقاته مع الولايات المتحدة الحليف الرئيسي لإسرائيل في إطار مصالحه المرحلية وخاصة سياسة الوفاق بينه وبين الولايات المتحدة التي سادت في مرحلة من مراحل تطور الحرب الباردة.
ولذلك فقد اتسمت السياسة السوفييتية في المنطقة العربية التي تحظى بأهمية خاصة في استراتيجية الدفاع السوفييتي في مواجهة الولايات المتحدة باعتبارها تتموقع ضمن "حزامه الجنوبي" عموما بمواجهة التوغل الأمريكي في المنطقة وتقديم الدعم العسكري والديبلوماسي والاقتصادي للأطراف العربية المعنية بالصراع العربي – الإسرائيلي, وحث الأطراف العربية الحليفة على اتباع سياسة ضبط النفس بخصوص الصراع العربي- الإسرائيلي, مخافة توريطه في نزاعات إقليمية أو عربية قد تودي إلى انعكاسات سلبية على هيبته أو مصداقيته في المنطقة (1), والاتحاد السوفييتي كان يستبعد أيضا إمكانية التوصل إلى حل شامل ونهائي للنزاع العربي- الإسرائيلي, كما أنه كان يرفض التجاوب مع المطالب العربية وذلك لغياب قوة عربية رادعة ذات مصداقية, ولعل هذا ما جعل النزاع محكوما بعلاقات اللاسلم واللاحرب, مع محاولاته المستمرة لعرقلة فرض أية تسوية أمريكية – إسرائيلية يبقى هو خارجها (2).
ففي حرب 1967 مثلا, أدرك العرب فجأة أنهم لا يستطيعون الاعتماد على السوفييت لكي يقدموا على نجدتهم عسكريا, فقد كان هؤلاء – السوفييت - على علم بالانقسامات العميقة في الوطن العربي وبالتفوق الإسرائيلي على الجيوش العربية مجتمعة, ومن جهة أخرى كانوا ضد قيام حرب أو المشاركة فيها لأن من شأن ذلك توريطهم في مواجهة مباشرة وخيمة العواقب مع الولايات المتحدة, ولذلك فقد قاموا مع وسائل إعلامهم بالنصح والاعتدال للعرب (3)
2- القضية الفلسطينية في أجواء انهيار الاتحاد السوفيتي و حرب الخليج الثانية
شكل سقوط الاتحاد السوفيتي قطيعة بين وضعين دوليين متباينين, فبعد سيادة حرب باردة بين القطب الأمريكي ونظيره السوفيتي بصراعها وتوازنها ورعبها زهاء نصف قرن، رحل الاتحاد السوفيتي وجاءت التداعيات مهمة, تجاوزت حدود هذه الدولة ومحيطها في أوربا الشرقية لتجتاح كل بقاع العالم.
فقبيل هذا الانهيار النهائي، ستحدث مجموعة من التغيرات الدولية وستؤثر بشكل كبير على مسار القضية الفلسطينية، فعندما كان "غورباتشوف" في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي منشغلا بتطبيق سياسة "البيريسترويكا" التي ابتدعها لإنقاذ الاتحاد السوفيتي, والانتفاضة الفلسطينية الأولى تستقطب الإعلام الدولي بشتى وسائله وتحصد المزيد من التأييد الدولي, كانت جحافل اليهود السوفييت تتوافد على الأراضي الفلسطينية المحتلة لتستوطن هناك في أكبر موجات للهجرة التي عرفها التاريخ الإنساني المعاصر، فخلال الأربعة أشهر الأولى فقط من سنة 1991 بلغ عدد هؤلاء 54 ألف مهاجر, وفي هذه الأثناء وبينما كان الاتحاد السوفيتي منشغلا بمشاكله وبترميم بيته المتداعي, قام العراق بغزو الكويت مما ترتبت عنه أزمة الخليج الثانية التي انعكست على القضية الفلسطينية وهو ما سنتطرق إليه في حينه.
كما أن وصفة البريسترويكا التي كان ينوي غورباتشوف من خلال تطبيقها تأجيل وفاة الاتحاد السوفيتي, جاءت نتائجها عكسية تماما وعجلت بسقوط "العملاق الورقي" بهدوء تام, هذا الإنهيار سيجعل الولايات المتحدة الحليف الرسمي لإسرائيل تحتل مكانة القطب الوحيد والجديد المحتكر لدواليب الشأن الدولي والأممي(4) .
لقد جاءت أزمة الخليج في جو دولي مشحون ومكهرب, وزادت وأسهمت بدورها في اضطرابه وغليانه، ففي الوقت الذي كانت الانتفاضة الفلسطينية في عز ريعانها وأوج نضالها وغضبها, تحولت الأنظار الدولية وحتى العربية أفرادا وأحزابا ومنظمات ووسائل إعلام وسياسيين نحو أزمة الخليج هاته، وهو ما سينعكس سلبا على هذه الانتفاضة التي جاءت ثمراتها الميدانية اللاحقة غير متناسبة وحجم الجهود والتضحيات.
ففي خضم تطورات أزمة الخليج وكمحاولة منه لكسر التحالف الأمريكي الغربي والعربي لمواجهة العراق ربط النظام العراقي ورهن خروجه من التراب الكويتي بخروج القوات الإسرائيلية من الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما دفع بمنظمة التحرير الفلسطينية إلى تبني موقف مؤيد للعراق، وهو ما ترتب عنه اضطراب في مواقف دول عربية إزاء أكبر وأهم وأقدم قضية عربية – القضية الفلسطينية - وبخاصة تلك الدول التي كانت معنية بالغزو العراقي: السعودية والكويت، والغريب في الأمر هو أن المواقف العربية والإسلامية – كالعادة عند حدوث أية أزمة عربية وإسلامية بينية, إقليمية أو دولية - جاءت متباينة وتراوحت بين التأييد للعراق (الأردن، الجزائر، السودان، اليمن...) أو التأييد للكويت (سوريا، مصر، السعودية...) أو الحياد (المغرب، إيران، تونس...).
إن تظافر هذه العوامل المجسدة للتفرقة العربية مع النتائج المدمرة لحرب الخليج الثانية, أثرت على الأمن القومي العربي بكل مكوناته وأبعاده الإستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية, مما كان له الأثر الواضح في تراجع التضامن والمصالحة العربية التي بدأت تترمم بعد عودة مصر إلى حظيرة الدول العربية بعد غياب دام زهاء عقد من الزمن جراء عقد السادات لاتفاقية "كامب دايفيد" مع إسرائيل بشكل انفرادي.
طبعا كل هذا سيكون له تأثير كبير على القضية الفلسطينية, حيث أن الميزان التفاوضي سيتميز بتدني قدرة العرب في هذا الشأن لصالح إسرائيل, خاصة بعد انطلاق مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط الذي رعته الولايات المتحدة وروسيا وأضحت فيه الأمم المتحدة مراقبة "لا تملك أية سلطة"(5) بعد أن كانت طرفا رئيسيا في القضية زهاء نصف قرن.
فإذا كان العرب قد طالبوا بإجراء مفاوضات شاملة وجماعية فإن الإسرائيليين أصروا على المفاوضات الثنائية فقبل العرب بذلك, كما طالب العرب أن تتم المفاوضات بناء على قرارات مجلس الأمن الحاسمة 242 و 338 و 181 إلا أن "إسرائيل" رفضت ذلك وقبل العرب بالمفاوضات المفتوحة (6), علاوة على استمرار إسرائيل في بناء المستوطنات وتقتيل الشعب الفلسطيني وسجن أفراده موازاة مع هذه المفاوضات، في ظل هذه الظروف العربية والدولية الصعبة تبادل الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني (منظمة التحرير الفلسطينية) رسائل الاعتراف، قبل أن يتم إعلان المبادئ بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت، وجاءت الخطوة المهمة في سنة 1994 عندما أبرم الطرفان اتفاقا بشأن الحكم الذاتي لأول مرة، غير أن هذه الخطوات ستتعثر بفعل تخلف الطرف الإسرائيلي عن تنفيذ التزاماته، حيث استمر في وضع العقبات الكأداء أمام المفاوضات في جو من الصمت المطبق والمريب لراعية السلام "الإسرائيلي") أمريكا (.
و يبدو أن للسلام الإسرائيلي " مضامين بعيدة المدى" - كما يعتقد أحد الباحثين- تحددها الاستراتيجية السياسية الصهيونية ومفهوم "الأمن القومي المطلق " للدولة الصهيونية, الذي تطور " من حدود يمكن الدفاع عنها ... والاستيلاء على الأراضي العربية, إلى مفهوم السيطرة الكيفية والاستراتيجية من خلال اتفاقيات سلام سياسية مع الدول العربية وتجريدها من سلاحها الاستراتيجي وضمان التفوق الإسرائيلي", فالمطالب الإقليمية الصهيونية هي مزيج من مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية ودينية تستهدف إحداث تغيير استراتيجي شامل في المنطقة, وإلا فإن معاهدات "السلام" مع العرب لا قيمة لها وغير ذات جدوى (7).
وهكذا وصلت المفاوضات إلى الباب المسدود، وكرد فعل على ذلك, انطلقت إنتفاضة الأقصى التي شارك فيها الشعب الفلسطيني بكل فئاته وفصائله لتعري وتكشف للعالم الوجه الحقيقي المتوحش والقبيح لإسرائيل.
إن الحصيلة المتواضعة للقضية الفلسطينية في غمرة هذه المفاوضات, جاءت في مستوى التخاذل العربي الذي تحدثنا عنه سابقا، والدولي أيضا الناتج عن احتكار الولايات المتحدة لوسائل النهي والأمر في المجتمع الدولي وكذا قوة وغطرسة الخصم الإسرائيلي.
كما أن معظم المنظمات والأجهزة الدولية التي شكلت ولفترة طويلة منبرا رئيسيا ومهما للترويج عالميا للحق الفلسطيني المشروع, أصابها ما يشبه العجز والتهميش والاضطراب بعد نهاية فترة الحرب الباردة، فالجمعية العامة للأمم المتحدة التي أثرت وأغنت القضية بترسانة هامة من القرارات والتوصيات المؤكدة للحق الفلسطيني، أضحت شبه عاجزة بعدما تم تقويضها لصالح مجلس الأمن الذي نفض عنه غبار العجز والشلل وراح يتحرك بإرادة أمريكية.
وقد وصل الأمر بتراجع الجمعية العامة إلى الحد الذي وقفت فيه عاجزة عن استعمال مقتضيات قرار الاتحاد من أجل السلم الذي اتخذته هذه الجمعية بمقتضى قرارها رقم 377/5 بتاريخ 4 نونبر 1950 بأغلبية أعضائها والذي يتيح لها إمكانية تحمل الالتزامات والمسؤوليات المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين في حالة عجز المجلس عن أداء وظائفه الرئيسية المرتبطة بهذا الخصوص جراء استخدام حق الاعتراض (الفيتو), وذلك خلال مناسبات عديدة استعملت فيها الولايات المتحدة هذا الحق لمنع إرسال قوات أممية لحماية الفلسطينيين أو لجان دولية لتقصي الحقائق حول الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في حقهم...
وقد بلغ عجز الجمعية العامة ذروته عندما أضحت هذه الأخيرة تتبرأ من قراراتها الشرعية السابقة في هذا الشأن، ففي سنة 1991 تمكنت الولايات المتحدة من قيادة حملة ناجحة لإلغاء قرار هذه الجمعية و الخاص باعتبار الصهيونية شكلا من أشكال التمييز العنصري، بل إن العديد من الدول العربية صوتت لصالح هذا الإلغاء.
إن احتكار مجلس الأمن لإدارة أزمات ومنازعات دولية وإهمال أخرى مماثلة وأكثر خطورة أحيانا، لم يقف عند حد تهميش دور الجمعية في هذا الصدد وإنما تعداه إلى مجمل المنظمات الإقليمية التي طالما نادت وطالبت بضرورة إنصاف الفلسطينيين وضمان حقوقهم, كما أن حركة عدم الانحياز التي نشأت في ظل الحرب الباردة وكرد فعل على تداعياتها على شعوب العالم, والتي ما فتئت أن احتضنت هذه القضية وساندتها باعتبارها حركة من حركات التحرر الوطني في العديد من قراراتها ولقاءاتها, أصيبت بدورها بما يشبه الاضطراب والحيرة والبحث عن مبرر للبقاء بعد زوال أهم مرتكز لنشأتها وهو ظروف الحرب الباردة التي زالت بزوال الاتحاد السوفيتي.
ثانيا: القضية الفلسطينية في أعقاب أحداث 11 شتنبر 2001
شكلت أحداث الحادي عشر من شهر شتنبر 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية محطة هامة, أسهمت في التأثير على مسار العديد من القضايا الدولية بشتى أنواعها وتجلياتها، ولا شك في أن القضية الفلسطينية ضمن قضايا عربية عديدة أخرى، كان لها نصيبها من التأثر بهذه الأحداث المهولة، فهذه الأخيرة جاءت في وقت شهدت فيه الانتفاضة الفلسطينية نجاحا كبيرا، وحققت إشعاعا دوليا مهما، وأضحى فيها قيام الدولة الفلسطينية مطلبا عربيا وإسلاميا ودوليا ملحا...
وأمام جسامة هذه الأحداث وتأثيرها القوي في مسار هذه القضية المحورية في الصراع العربي- الإسرائيلي، طرحت العديد من التحديات الكبرى أمام هذه القضية, وأصبح بذلك استثمار الفرص والإمكانيات الفلسطينية والعربية والإسلامية المتاحة ضرورة حيوية ملحة.
1- المخاطر والتحديات المطروحة بعد الأحداث
في الوقت الذي ضعفت فيه المكانة الاستراتيجية لإسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة, بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ودخول روسيا في علاقات جيدة معها- الولايات المتحدة- وتأكد هذه الأخيرة من أن إسرائيل أصبحت تشكل عبئا على السياسة الخارجية الأمريكية وبخاصة بعد حرب الخليج الثانية ووجود دول عربية حليفة لها في المنطقة كالسعودية ومصر, جاءت أحداث 11 شتنبر لتقوي من جديد العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية على حساب العلاقات الأمريكية- العربية تبعا للموقف الإسرائيلي الواضح والنهائي من الإرهاب (8) الذي وضع إسرائيل في خندق واحد مع الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب.
ولقد تعددت وتباينت التحديات التي أثارتها أحداث 11 شتنبر 2001 أمام القضية الفلسطينية, فهذه الأحداث جاءت في وقت تصاعدت فيه وثيرة المقاومة والنضال الفلسطينيين ضد المحتل الإسرائيلي، وتعددت وسائل وآليات الانتفاضة التي حققت إشعاعا دوليا وإجماعا وطنيا، وهو ما أسهم إلى حد كبير في نزع البريق الإعلامي الدولي عنها ولو لبعض الوقت.
من ناحية أخرى وفي أعقاب الحملة الأمريكية لمواجهة "الإرهاب"، تحققت أمنية إسرائيل- التي فشل زعيمها "شارون" في تحقيق السلام المنشود- والقاضية بالخلط بين الإرهاب والنضال ضد المحتل والتركيز على الإرهاب الفردي دون إرهاب الدولة الأكثر خطورة، وهو ما سمح لها كما للولايات المتحدة الأمريكية بالعمل على تمييع نشاط حركات المقاومة وخاصة الفلسطينية منها وذلك باعتبار ما تقوم به هذه الأخيرة من عمليات في مواجهة المعتدي والمحتل الإسرائيلي الذي اعتبر نفسه ضحية للإرهاب, عملا "إرهابيا"، وهو التمييع الذي أسهمت في تكريسه العديد من الأنظمة العربية والإسلامية من خلال استصدار فتاوي فقهية - تحت الطلب - تجرم العمليات الاستشهادية أو قرارات مشبوهة تزكي هذه الطروحات الإسرائيلية والأمريكية, وهو ما حملته مقررات القمة الثلاثية المصرية, السورية, والسعودية - وهي دول لها وزنها وثقلها ضمن المجموعة العربية - المنعقدة بشرم الشيخ المصرية بتاريخ 11-05-2002 حيث تمت إدانة العنف بكل أشكاله دون استثناء المقاومة من ذلك .
في ظل هذه الأجواء وأمام تراجع تيار دعاة السلام- الحمائم- لصالح دعاة الحرب – الصقور- داخل الكيان الصهيوني, تنامت وحشية إسرائيل التي عادة ما تصنف نفسها ضمن قائمة الحضارة الغربية الديموقراطية, في مواجهة الفلسطينيين المنتفضين من أطفال ونساء وشباب وشيوخ عزل, عبر مختلف الوسائل الزجرية، إلى حد الإبادة وتدمير مؤسسات السلطة الفلسطينية ومحاصرة رئيسها بشكل مذل ومهين، واعتقال واغتيال رموز المقاومة الفلسطينية, فطبقا لإحصائيات مؤسسة التضامن الدولي لحقوق الإنسان, اغتالت السلطات الإسرائيلية خلال عامين من انتفاضة الأقصى 146 شخصا من القيادات والكوادر الفلسطينية السياسيين, مستغلة بذلك صمت الأنظمة العربية والدولية الذي أضحت تتحفظ حتى عن إبداء النقد والتنديد بهذه الأعمال الوحشية في ظل ظرفية دولية استثنائية ومشبوهة.
كما تدهورت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين, فحسب تقرير للمنسق الخاص الأممي المعلن في 29-08-2002 فقد بلغت نسبة البطالة في الضفة الغربية 63.3 بالمائة, وتعيش 55 بالمائة من الأسر الفلسطينية تحت عتبة الفقر, فيما فقد حوالي 77 ألف عامل فلسطيني عملهم. ومن ناحية أخرى استهدفت القوات الإسرائيلية حوالي 2465 من المنازل والمنشآت المدنية الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية منها 1500 منزل دمر بشكل تام.
كما أن "شارون" الذي يعد رجل حرب بامتياز, جيء به إلى الحكم من قبل الإسرائيليين كبديل عن "باراك" الذي فشلت مساعيه وتنازلاته السلمية-كما يعتقد الإسرائيليون- أمام الفلسطينيين، ولذلك نرى أن رجل الحرب هذا كسابقيه يناور ويراهن على عنصر الوقت، فكلما تحقق للفلسطينيين مكسب ولو ضئيل أو تقدمت المفاوضات قليلا أو تعززت الضغوط الدولية على إسرائيل، إلا وعمل على افتعال أزمة يرد بها الأمور من جديد نحو مرحلة الصفر.
وفي غمرة هذه الأحداث وحتى لا يتكرر سيناريو أزمة الخليج الثانية بالنسبة للفلسطينيين, حاول الرئيس الفلسطيني أن يكون حذرا ويتجنب الانزلاق والانسياق المنفعل مع العواطف لإظهار تأييده لهذه العمليات أو التعاطف مع "بن لادن" الذي اعتبر أن الولايات المتحدة لن يهدأ لها جفن طالما استمر الاحتلال الإسرائيلي المدعوم منها للأراضي الفلسطينية, وهكذا أدان عرفات هذه العمليات وندد بها, وفي خطوة تضامنية رمزية معبرة منه, تبرع هذا المناضل المسن بدمه لصالح ضحايا الكارثة.
وفي الوقت الذي كان فيه معظم الفلسطينيين والعرب والمسلمين (مراقبين، ساسة، أكاديميين وأفراد المجتمع...) يعتقدون أن الولايات المتحدة ستراجع سياستها الخارجية عقب هذه الأحداث وخاصة في ارتباطها بالقضية الفلسطينية والمبالغة في التأييد والدعم الأمريكيين لإسرائيل، فإن التطورات الميدانية جاءت مخيبة لهذه الآمال، فالولايات المتحدة استمرت في تأييدها اللامشروط لإسرائيل بل وعملت لأول مرة على ضم فصائل تحررية فلسطينية إلى قائمة المنظمات والقوى التي تتهمها بالإرهاب والتشكيك أيضا في مصداقية الرئيس الفلسطيني كشريك مناسب لعقد لسلام المنشود.
ومن جهة أخرى فالولايات المتحدة الأمريكية "راعية السلام" المفترضة، تزكي وتشجع السلوكات الإسرائيلية الوحشية والإجرامية المرتكبة في حق الفلسطينيين من خلال غض الطرف عنها أو الحؤول دون صدور قرار أممي يدينها، وذلك بجعل حقها في الاعتراض داخل مجلس الأمن الدولي رهن إشارتها, فالرئيس الأمريكي تبنى موقف شارون القاضي بالإطاحة بياسر عرفات من السلطة, في حين وصف شارون بأنه "رجل سلام", وعمد أيضا إلى قلب المعضلة بالقول إن "الإرهاب" هو الذي يجبر إسرائيل على الإبقاء على الاحتلال وليس الاحتلال هو الذي يولد المقاومة والإرهاب (9), ومن جانب آخر وقع أيضا على قرار الكونغريس القاضي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل ليصبح قانونا ساري المفعول, وذلك في انحراف صارخ بدور الولايات المتحدة كراعية للسلام في المنطقة من جهة وخرق لمبادئ القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة من جهة أخرى.
وأمام التناغم القائم بين مكونات الإدارتين الجمهورية في الولايات المتحدة و"الليكودية" في إسرائيل وكذا بالنسبة للقوى الاجتماعية والاقتصادية والبنى الفكرية التي تمثلثلها الإدارتان, فالخطاب الأمريكي بشأن القضية يتماهي مع خطاب شارون بالكامل, فهو يركز على التقيد بالأمن الإسرائيلي مائة بالمائة وضبط التنظيمات المعارضة لأوسلو والقبض على مرتكبي ومخططي العمليات المسلحة ضد إسرائيل, وصولا إلى تفكيك بعض التنظيمات وبخاصة حماس والجهاد التي وضعتها واشنطن على قوائم الحركات الإرهابية(10).
ونعتقد أن عدم مراجعة الولايات المتحدة لهذه السياسة يعود بالأساس إلى حرصها الشديد على عدم تمكين الضالعين في العمليات من أوراق رابحة يبررون بها أعمالهم أو تمنحهم تعاطفا دوليا, ومنع تكريس وسيلة مشينة ولاشرعية لتحقيق المطالب, والتأكيد على أنها قوة عظمى كفيلة بزعامة العالم, وليست هينة إلى الحد الذي يمكن إحراجها أو الضغط عليها بهذا الشكل لتعديل سياساتها تجاه قضايا حيوية, وكذا متانة وقوة العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية, وعدم استغلال الدول العربية والإسلامية- التي دخل معظمها في التحالف الأمريكي لمكافحة "الإرهاب" دون مناقشة - لهذه الأحداث بشكل جيد خدمة لمصالحها.
وفي جانب آخر هناك تحدي آخر يطرح بحدة, وهو ذلك المرتبط بصمت الأمم المتحدة أمام هذه السلوكات العدوانية، مقارنة مع تحركها السريع والجماعي في منازعات أخرى لا ترقى إلى خطورة الوضعية الفلسطينية، لها أهميتها من منظور الإستراتيجية الأمريكية.
واستمرار إسرائيل في إصرارها على منع العرب بشتى السبل والوسائل من حيازة الخيار النووي العسكري بالشكل الذي يشكل خطرا كبيرا ضد الأمة العربية وبقائها (11 ).
خطورة هذه التحديات ازدادت بشكل كبير، بعد أن جاء رد حكومة "شارون" على مبادرة السلام السعودية القاضية بربط علاقات عربية عادية مع إسرائيل مقابل الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة سنة 1967- والتي لقيت إجماعا عربيا خلال القمة العربية ببيروت (مارس 2002)- واضحا ومنتظرا تمثل في غزو المدن الفلسطينية وتقتيل أبنائها وتهديم بيوتهم ومحاصرة عرفات وتدمير مؤسسات سلطته وكل معالم الحياة بفلسطين, في تنكر جلي للاتفاقيات المبرمة ولقرارات الشرعية الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة في هذا الصدد.
ويكبر حجم هذه التحديات في ظل سلام تفاوضي منتظر غير متكافئ، طرفه الأول إسرائيل معززة بتواطؤ أمريكي وإمكانيات اقتصادية وعسكرية هامة، وسلطة فلسطينية وحيدة- في ظل خذلان عربي وإسلامي رسميين- ما فتئت إسرائيل تقوضها وتضعفها.
ومن بين الأوراق الرابحة التي تراهن عليها إسرائيل في تضييق الخناق على الفلسطينيين هو استثمار تباين المواقف العربية والإسلامية الرسمية ذاتها من القضية لصالحها، فهناك غياب مشروع عربي- إسلامي موحد للسلام، "فبقدر ما يعاني السلام الإسرائيلي من مرض جنون العظمة الذي لن يقود إلا إلى المزيد من الدمار في المنطقة, يعاني مفهوم السلام العربي من التجوف وانعدام الهدف وغياب المشروع الواضح والناجح لتنظيم المنطقة الإقليمي" (12), كما أن دولا عربية وإسلامية تربطها علاقات رسمية مع هذا الكيان، وهناك دول تتحين الفرص باستمرار للتطبيع معه في حين هناك أنظمة ترفض الحوار معه.
2- الفرص والرهانات المتاحة
رغم جسامة وخطورة هذه التحديات المطروحة أمام القضية الفلسطينية، فإن هناك فرصا متاحة أمام الفلسطينيين أولا, والعرب والمسلمين ثانيا، إذا أمكن استغلالها واستثمارها بعقلانية، من شأنها أن تعزز موقع الفلسطينيين نحو تسوية فاعلة وعادلة لقضيتهم التاريخية، ولعل أهم هذه الفرص يمكن إجمالها فيما يلي:
فهناك ضرورة المراهنة على الانتفاضة التي يقودها الفلسطينيون بكل فئاتهم والتي أعادت القضية الفلسطينية إلى عمق المجتمعين: العربي والإسلامي من جديد بعد اقتناع الجيل الفلسطيني الجديد بضرورة المراهنة على نضاله وعزائمه و قدراته وانتفاضته, بدل انتظار حل قد يأتي أو لا يأتي من الخارج ( ولنا في النموذج الناجح للمقاومة اللبنانية التي كسرت مقولة الجيش الإسرائيلي القوي الذي لا يهزم خير مثال)، وهي الشكل النضالي الذي تنوعت وسائله وتطورت من الرمي بالحجارة إلى العمليات الإستشهادية التي اقتحمتها النساء الفلسطينيات بنجاح داخل العمق الإسرائيلي (13), والذي لم تتمكن الآلة الحربية والتكنولوجية الإسرائيلية من إيجاد مضادات فعالة وحيوية لمواجهته وإيقافه، الشيء الذي كان له الأثر الكبير في عودة البريق للقضية الفلسطينية رغم هول أحداث 11 شتنبر 2001، وإحداث حالة من الهلع والرعب في أوساط الصهاينة, بعد أن أصبح لأول مرة في تاريخ النضال الفلسطيني عدد القتلى الإسرائيليين والشهداء الفلسطينيين متقاربا, ولقد أثبت الفلسطينيون بانتفاضتهم هاته أن النضال بسلاح العزيمة طلبا للحقوق المشروعة يمكن أن يربك ويهزم أسطورة القوة الإسرائيلية التي "لا تقهر" بقواتها العسكرية المتطورة وإجراءاتها الأمنية المشددة.
وفي هذا الصدد ذكرت جريدة "لومند ديبلوماتيك" الفرنسية لشهر أبريل 2002, أن استطلاعات للرأي أجريت داخل إسرائيل أفادت بأن 60 بالمائة من الإسرائيليين يوافقون على إخلاء عدد من المستوطنات و 63 بالمائة يؤيدون قيام دولة فلسطينية و 67 بالمائة منهم غير راضين عن "شارون", كما أن الوضع الأمني المتردي بإسرائيل والأزمة الاقتصادية اللتين أفرزتهما الانتفاضة, أسهما بشكل ملحوظ في ارتفاع عدد المهاجرين منها وانخفاض عدد القادمين منهم إليها, وفي نفس السياق أظهر بحث إسرائيلي هو الأول من نوعه أن الانتفاضة تسببت في أضرار نفسية فادحة للإسرائيليين, إذ أن نصف مليون إسرائيلي يعانون من ظاهرة الاكتئاب النفسي بسبب الأوضاع الأمنية المتردية ... وأن 68 بالمائة منهم لا يشعرون بالأمان في البلاد (14).
ومن نتائج الانتفاضة أيضا, أعلنت جريدة "هآريس" الإسرائيلية ليوم 18 نونبر 2002 أن الجيش الإسرائيلي يشهد أزمة تهرب خطيرة من الخدمة العسكرية بسبب تدهور أوضاع أفراده الاقتصادية, وأضافت أن عدد الفارين ازداد بنسبة 67.2 بالمائة مقارنة مع سنة 2001 .
وإذا كان نموذج الانتفاضة الفلسطينية يعد أرقى ما توصل إليه كفاح الشعوب من أجل تقرير المصير والتحرر من الاحتلال باعتبارها تعبر عن تكامل بين مختلف أنواع المقاومة واشتراك واضح لكل شرائح المقاومة واستخدام متعدد للأساليب النضالية (15), فإن هذه الانتفاضة بعملياتها الاستشهادية ووسائلها النضالية الأخرى ينبغي أن تتم بشكل معقلن وفعال من حيث الفترة الزمنية و الفئات والفضاءات المستهدفة بالشكل الذي سيكسبها مصداقية وتعاطفا شعبيا ورسميا على الصعيد الدولي ويخدمها في المنابر الدولية الكبرى, وحتى لا تستغلها إسرائيل إعلاميا مما قد ينعكس سلبا على القضية, ونرى في هذا الشأن أن تقتصر العمليات على داخل المستوطنات ومناطق 1967 واستهداف العسكريين دون غيرهم.
إن ضمان استمرار هذه الإنتفاضة التي أثبتت فعاليتها ونجاعتها في مواجهة العدو، يتطلب دعما ماديا-عربيا وإسلاميا- أو معنويا على الأقل وذلك بعدم وصم العمليات الفدائية الاستشهادية الفلسطينية بالإرهاب وتجريمها.
ونعتقد أن خيار الحل التفاوضي يجب أن لا يلغي استراتيجية هذه الانتفاضة بل ينبغي أن يتقوى ويحتمي بها ويتكامل معها, ونفس الشيء بالنسبة للانتفاضة التي يجب أن تصب باتجاه تعزيز وتقوية الكفة الفلسطينية نحو مفاوضات متكافئة, ذلك أن إسرائيل دأبت على إجراء المفاوضات من ناحية وممارسة المجازر في حق الفلسطينيين بالموازاة مع ذلك من جهة أخرى, وفي هذا الإطار يرى أحد الباحثين أنه من غير الحكمة الجلوس إلى مائدة المفاوضات مع رفع شعار قوامه لا بديل غير هذا الطريق, لأن الحكمة تقتضي الإيحاء للطرف المقابل أن ثمة طريقا بديلا أو طرقا بديلة, حتى لا يمسك بكل أوراق اللعبة فيزداد غطرسة وغرورا (16).
كما يجب أيضا المراهنة على الوحدة الفلسطينية التي زادت من صمودها ومتانتها الانتفاضة والمصير الواحد والمشترك, ونعتقد أن المحافظة على هذه الوحدة في هذه الظروف العصيبة والحالكة بالذات، يعد مكسبا مهما على طريق تحقيق النصر، وتحديا كبيرا للصهاينة الذين طالما سعوا إلى خلخلتها بكل الوسائل والإمكانيات والضغوطات.
أما بخصوص الإصلاحات السياسية والاقتصادية والقانونية المزمع إجراؤها داخل السلطة الفلسطينية, فيجب أن تتم بإرادة شعبية داخلية وبمنطق المصلحة الوطنية وليس تبعا للضغوطات الإسرائيلية والأمريكية, هذه الأخيرة التي أضحت لا تتورع في الإعلان صراحة عن ضرورة تخلي عرفات عن السلطة لعدم قدرته على منع "العنف الفلسطيني المتزايد" ضد إسرائيل .
ومن ناحية أخرى على العرب والمسلمين – وأعني الأنظمة هنا - أن يستثمروا كل ما تسمح به الإمكانيات الاقتصادية والسياسية والبشرية والإعلامية للضغط على إسرائيل وحليفتها التاريخية الولايات المتحدة الأمريكية نحو بلورة تسوية عادلة لهذه القضية تستجيب للحقوق الفلسطينية المشروعة, فالشعارات الجوفاء والمراهنة على أوراق مفلسة والمناورات الخاسرة لن تجدي نفعا مع عدو محصن وصلب يضبط حساباته ويعي تماما الواقع المزري للأمتين العربية والإسلامية.
ومن تم فالتحلي بالواقعية واستثمار الإمكانيات المتاحة رغم قلتها، قد يكون له الأثر الإيجابي على القضية، خاصة وأن المراهنة على المواجهة العسكرية النظامية أضحت حلا تقليديا قليل الأهمية بالنسبة للطرفين المتصارعين معا.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية التي تتحمل القسط الأوفر فيما آلت إليه الأمور الآن, يعيش أكثر من سبعة ملايين عربي ومسلم، بإمكانهم- من خلال تشكيل لوبيات فاعلة داخل هذا البلد اقتداء بالنموذج الإسرائيلي في هذا الشأن- أن يجعلوا القضايا العربية والإسلامية, وفي مقدمتها تسوية المشكلة الفلسطينية ضمن أهم الأولويات الإستراتيجية الأمريكية، طبعا هذا يتطلب فهما حقيقيا لأمريكا واستيعابا جديا لكيفية بلورة قراراتها الخارجية الإستراتيجية وسبل التأثير في مسارها, مع إقناع الأمريكيين بأن مصالحهم الاستراتيجية هي في ربط علاقات ودية مع العرب والمسلمين وليس في معاداتهم, وإقناعهم أيضا بأن إسرائيل هي عبء عليهم وأن تأييدها ومجاراتها في سياساتها العدوانية يمكن أن يجلب لهم المآسي والويلات.
فرصة أخرى لا تخلو من أهمية تفرض نفسها بإلحاح في أعقاب أحداث الحادي عشر من شهر شتنبر على العرب والمسلمين أكثر من أي وقت مضى، وهي تصحيح صورتهم وإبراز ثقافتهم التي شوهتها الدعاية الصهيونية السوداء في أوساط المجتمعات الغربية بشكل خاص والدولية بشكل عام، إلى الحد الذي أصبح فيه اسم العرب والمسلمين مقرونا بالعنف والإرهاب، والتعتيم على المجازر الإسرائيلية المرتكبة في حق الفلسطينيين, وتبدو ملحاحية هذا الرهان قائمة في ظل تنامي دور الرأي العام الدولي كقوة فاعلة للتأثير في بلورة القرار السياسي الدولي باتجاه الضغط على إسرائيل المعتدية.
على العرب والمسلمين الاقتناع بأن معركة الفلسطينيين هي معركتهم أيضا, والعمل على استغلال المكتسبات التي أفرزتها الانتفاضة الفلسطينية بفطنة وذكاء، واللعب خاصة على الموقف الأوربي المتميز عن نظيره الأمريكي من القضية، واستغلال تعاطف وتضامن الأحرار والشرفاء من شعوب العالم، واستثمار القرارات الأممية التي أضحت تقر بالحقوق الفلسطينية أمام تنامي الوحشية الإسرائيلية، فقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1397 الذي صدر في أوج اشتداد الانتفاضة، أقر بحتمية التسوية السلمية للقضية على أساس قيام دولتين، نفس الشيء عبرت عنه أمريكا والاتحاد الأوربي ومعظم دول العالم.
إن بلورة تصور عربي- إسلامي موحد لمواجهة العدو الصهيوني، قد يدفع بهذا الأخير إلى الإقرار بحقوق الشعب الفلسطيني، تتطلب بداية التحدث مع الدول الكبرى بلغة المصالح بدل المراهنة على الخطابات المثالية والأخلاقية التي لا قيمة لها في السياسات الدولية الراهنة, ونبذ الخلافات العربية والإسلامية البينية وتفعيل التكتلات العربية والإسلامية، خاصة وأن الظرفية الدولية الحالية لم تعد تسمح بالتحرك القطري المنفرد.
ونعتقد أخيرا أن بلورة موقف رسمي عربي وإسلامي قوي في هذا الشأن، يتوقف على توسيع هامش المشاركة الشعبية بهذه الأقطار في مجال صناعة القرار السياسي، واتباع إصلاحات سياسية تعزز حقوق المواطنين وحرياتهم وتنهي تباين المواقف الرسمية والشعبية من الأزمات العربية والإسلامية( أزمة الخليج الثانية, القضية الأفغانية, القضية الفلسطينية...)، فكما أن الأنظمة السياسية بإسرائيل والولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية قوية بشعوبها، فإن مثيلاتها العربية والإسلامية يجب أن تراهن على شعوبها- وهي مراهنة رابحة - عوض التزلف والمراهنة الخاسرة على الولايات المتحدة التي أثبتت الممارسة الدولية تاريخيا أن تقلب مصالحها يجعلها تتنكر لأصدقائها وتصدق أعداءها بكل بساطة وبرودة.
الهوامش:
1- د. ناصيف يوسف حتي: القوى الخمس الكبرى والوطن العربي, دراسة مستقبلية - مركز دراسات الوحدة العربية, الطبعة الأولى, بيروت 1987 , ص 67 و68
2- د. ناصيف يوسف حتي, مرجع سابق, ص86
3- د. فواز جرجس: النظام الإقليمي العربي والقوى الكبرى- مركز دراسات الوحدة العربية, الطبعة الأولى 1997 , ص 287
4- لمزيد من التفصيل في هذا الشأن: يراجع, إدريس لكريني: البريسترويكا وآثارها على العالم الثالث, العالم العربي نموذجا, بحث لنيل الإجازة في الحقوق, كلية الحقوق - جامعة محمد بن عبد الله , فاس 1995 – غير منشورة-
5- عبد العزيز محمد سرحان: مصير الأمم المتحدة بعد أزمة الخليج, دار النهضة العربية , القاهرة 1992, ص 327
6- أسامة خالد: المستقبل العربي في العصر الأمريكي – مركز القارة للكتاب والنشر – الطبعة الأولى 1992 ، ص : 184 وما بعدها.
7- أبو خالد العملة : أوسلو محطة لتهويد فلسطين... خطوة للسيطرة على المنطقة, دار الكنوز الأدبية, بيروت لبنان, الطبعة الأولى سبتمبر 1997 ص 244 .
8- عبد المنعم سعيد, مجلة الوفاق العربي – لندن- السنة الرابعة ع 39, شتنبر 2002, ص18
9- سميح فرسون: جذور الحملة الأمريكية لمناهضة الإرهاب ضمن كتاب: العرب و العالم بعد 11 أيلول/ سبتمبر- أحمد بيضون وآخرون , مركز دراسات الوحدة العربية , الطبعة الأولى, نونبر2002 ص 223
10- د. محمد خالد الأزعر: السياسة الأمريكية الفلسطينية بعد 11 سبتمبر, محددات الاستمرارية والتغيير/ مجلة شؤون عربية ع 109 ربيع 2002 الأمانة العامة لجامعة الدول العربية, ص 45 وما بعدها
11- د. ممدوح حامد عطية وآخرون : تحديات العالم العربي في ظل النظام العالمي الجديد, مركز الدراسات العربي – الأوربي, الطبعة الثانية, بيروت 1997 ص 520
12- برهان غليون: العرب ومعركة السلام, الطبعة الأولى 1999, المركز الثقافي العربي – لبنان والمغرب- ص 171
13- للإشارة فقد استشهدت 142 امرأة بواقع 7 بالمائة من مجموع الشهداء وجرحت ما نسبته 9.2 بالمائة من عدد الجرحى البالغ عددهم 40 ألفا, قبل متم سنة 2002
14- القدس العربي, بتاريخ 20-12-2002 ع 4213 ص6
15- عبد الغني عماد: "المقاومة" و"الإرهاب" في الإطار الدولي لحق تقرير المصير , مجلة المستقبل العربي , ع 275 بتاريخ 1/2002 مركز دراسات الوحدة العربية, ص 40
16- منير شفيق : المشروع الصهيوني في فلسطين : التسويات والحلول , المقاومة والانتفاضة - نادي الفكر الإسلامي – الرباط, المغرب – الطبعة الأولى, ماي 2002 ص41
#إدريس_لكريني (هاشتاغ)
Driss_Lagrini#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟