|
هل كان آينشتاين ملحداً؟
عادل عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 6508 - 2020 / 3 / 8 - 19:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
هل كان آينشتاين ملحداُ؟
" أنّ داوكنز لا يأتي على ذكر القضية الأكثر أهمية عن آينشتاين، أعني قوله "إنّ التعقيد الكامل الخاص بعالم الفيزياء قد قادهُ الى الاعتقاد بأنه يجب أنْ يكون هناك ذكاءٌ إلهي يكمنُ خلفه" شخصيا أعتقد أنه من الواضح، إنّ هذه الحجة إذا كانت تنطبقُ على عالم الفيزياء، يجب أنْ تكون أكثر قوّة و وضوحاً إذا ما جرى تطبيقها على عالم البيولوجيا ) - Professor Antony Flew ــ
في الفصل الأول من كتابه " وهم الإله " يضعُ عالِم البيولوجيا التطورية " ريتشارد داوكنز " معيارأ خاصاً لتصنيف إيمان الناس – العظماء بينهم – وعلى النحو التالي: " غيرُ متديّن بعمق " هذه هي العبارة التي اختارها داوكنز عنواناً للفصل الأول من كتابه وهم الإله، وهي كما يبدو لي، إجابة عن سؤال يفترضه داوكنز مفاده: هل كان آينشتاين مؤمناً أم ملحداً؟ وهكذا ستكون إجابة داوكنز، كان آينشتاين "غير مؤمن بعمق" ولأنّ إجابةَ داوكنز عن السؤال المفترض، كانت" غير صحيحة بعمقٍ " هي الأخرى، دعونا نعرض لمضامين فصل كتابه هذا بالتفصيل لنتعرف من خلالها على المسوّغات التي سمحتْ لداوكنز بتحرير نوع إجابته غير المنصفة تلك. عنوانُ الفصل هذا كما أشرنا هو" غير متدين بعمق" وهو فصلٌ يتضمّن عنوانَين فرعييَن هما "احترام مُستحّقٌ" و" احترام غير مُستحّقٌ" في إشارةٍ من داوكنز الى نوع تديّن العلماء بالعنوان الأول، التديّن الذي لا صلة له أبداً بنوع تديّن المؤمنين التقليدي، أيْ نوعَ تديّنٍ لا يستحّق الاحترام، و هذا هو المعنى العام للعنوانين، من وجهة نظر داوكنز. و من هنا يتّضحُ لنا أنّ تديّن العلماء "الخاص" يستحّق الاحترام، أمّا التديّن التقليدي فلا يستحّق الاحترام. أو بحسب عبارة للبرفسور Rich Deem "إنّ الهدف الرئيس من الفصل هو، أنّ العِلم يستحق الاحترام ( مع أنّ أصحابه لم يحصلوا عليه ) في حين أنّ الدين لا يستحق الاحترام ( مع إنّ أصحابه قد حظوا به ) 1 لكن، كيف توصّل داوكنز الى أحكامه النقدية تلك؟ هذا ما سأشرع في سرده عليكم بالتفصيل و على النحو التالي: احترام مُستَحق
بعد أنْ وضع داوكنز لهذا العنوان الفرعي إحدى عبارات آينشتاين مقدّمة له وهي "لا أحاول تخيّل إلهاً شخصياً، تكفيني هذهِ النشوةُ التي تنتابني أمام هذا الكون المحكم، على قدر ما تسمح به حواسنا البسيطة لتقدير عظمته" مستدلاً من خلال مضمونها على فهمه الخاص لنوع تديّن العلماء. يبدأ داوكنز فصله بفقرة أدبيةٍ يرويها عن طفلٍ لا يرغبُ بأنْ يكون قسيساً. ثم يتحدث في مقطعٍ ثانٍ، عن بضعة سطورٍ شاعريةٍ اختارها من كتاب "أصل الأنواع" لداروين. ليتحدث بعدها في مقطع لاحق، عن ظهور الحيوانات الراقية، ثم ينتقل على نحو لا رابط له بما تقدّم لينقل لنا عبارة يصفها بأنها "رائعة" و هذه العبارة مقتبسة عن "كارل ساغان" من كتابه "النقطة الزرقاء الفاتحه" هي : "أعجبُ أنّه لم يحصل قطّ أنْ نظرَ دينٌ ما الى العِلم وأستنتج ذلك أفضل مما ظنّنا: الكونُ أكبر وأعظم بكثير، بل أدهى وأشدّ أناقةً بكثير مما أخبرنا عنه الأنبياء؟ بدلاً من ذلك يقولون: لا، لا، لا، إلهي هو ذلك الإله الصغير، وأريدُ له أنْ يبقى كذلك. لو أنّ ديناً ما قديماً أو حديثاً قد أصرّ بشدةٍ على الدهشة بعظمةِ الكون كما كشفهُ العلمُ الحديث لحصلَ ربّما على قدرٍ كبير من التقديس بدون أية ضرورة لوجود أيّ نوعٍ من الإيمان التقليدي المتعارف عليه" 2 بعد هذهِ العبارات التي حظيت باعجابٍ كبير من قِبل داوكنز، بحيث أنّ نفسهُ تتوق لقول عباراتٍ مثلها، ينقل لنا رأي إحدى الطالبات الأميركيات عن أستاذ لها عندما سألته عني ــ أيْ داوكنز ــ فأجاب "من المؤكّد أنّ علمه لا يتطابق مع الدين، لكنه مشبعٌ بنشوة عارمة عن الطبيعة والكون، وهذا تديّن بالنسبة لي" ولأنّ الدين كلمةٌ غير مناسبة لثقافة داوكنز ينقل عبارة ثالثة لحامل جائزة نوبل للفيزياء الملحد ــ حسب تعبير داوكنز ــ ستيفن واينبرغ . وحين نتساءل عن سبب استحضار داوكنز لهذهِ النصوص الثلاثة نجد أنها كانت مقصودة من أجل غرضين، الأول هو من أجل أنْ "لا تكون الكلمة ــ الله ــ عديمة المعنى وبدون فائدة، علينا أن نضع لها تعريفاً عاماً يفهمه الجميع: كلمة تدل على خالقٍ من عالمٍ ما وراء الطبيعة، وشيء جدير بأن نتوجّه له بالعبادة" 3 أمّا الغرضُ الثاني فهو: رغبةُ داوكنز في تحديد المعنى المقصود من استخدامه لكلمة "إله" من خلال مفهوم خاص بالطبيعة توضّحه لنا عبارة "جوليان باغيتي" في كتابٍ له عنوانه "الإلحاد" نصه :"ما يؤمن به غالبيةُ الملحدين هو أنّه على الرغم من أنّ الكون ماديٌ بحت، فإنّ العقلَ والجمال والعواطف والقيم الأخلاقية، وباختصار كلّ ما في سلسلة الظواهر التي تعطي الحياة الانسانية قيمتها، قد انبثقت منه" 4 الدين الغيبي و ديانة آينشتاين
في محاولةٍ من داوكنز للعثور على سلفٍ عظيم له، يجمع الصفتين معاً، أعني الإلحاد والعبقرية العلمية، يحاول داوكنز ــ متوهما ــ أنْ يعثر على هذا الجدّ الأعلى في شخصية العالم الأشهر آينشتاين، وربما كانت المحاولة ذاتها تتوجّه الى عالمٍ آخر، بدرجة أقلّ حدّة، أعني الى مواطنه ستيفن هاوكنغ. ومن الطريف أنْ يضع داوكنز هنا تعريفاً للملحد من وجهة نظر "الفيلسوف الطبيعي" وهذا التعريف هو ( شخص لا يؤمن بأنّ هناك شيء ما وراء العالم الطبيعي الفيزيائي وليس هناك من خالقٍ متفكر ما وراء الطبيعة يتسنط من وراء الكون، ليس هناك روحٌ تبقى بعد بلاء الجسد ولا معجزات، لكن هناك الآن بعض الظواهر الطبيعية التي لم نفهمها بعد، وسنتمكن في المستقبل من تقديم تفسيرات لهذهِ الظواهر غير المفهومة بشكل كامل باستخدام قوانين الطبيعة )5 عملاً بهذا التعريف الذي يثبّته داوكنز "للعالِم الملحد" دعونا نتساءل الآن هل كان آينشتاين عالماً ملحداً يحمل المواصفات هذهِ في اعتقاده أم لا؟ هنا يتراجع داوكنز خطوةً الى الوراء عن تعريفه ليقول ( عندما نفحص بعمقٍ إيمان العلماء الكبار في أيامنا والذين ينبذون المتدينين في بعض الأحيان، نرى بأنهم ليسوا كذلك، وهذا بالتأكيد صحيح في حالة آينشتاين وهوكينغ ) 6 من الواضح القول إنّ داوكنز يعني بقوله "بأنهما ليسا كذلك" أنّ آينشتاين وهاوكينغ ليسا متدينين، فهل يعني هذا أنهما "عالمان ملحدان" منتميان الى التعريف الذي وضعه داوكنز للعالم الملحد؟ يجيب داوكنز على سؤالي المفترض ( ربّما أنهم لا يؤمنون بالإله، ولكن، يؤمنون بالإيمان ) 7. هكذا يتراجع داوكنز خطوة أخرى عن تعريفه، ليضع لنا عبارتين لآينشتاين إذْ نفهم من الأولى تديّنه الواضح، نفهم من الأخرى إلحاده الواضح أيضاً، يقول داوكنز ( إحدى أشهر العبارات التي نقلت عن آينشتاين قوله: "علمٌ بدون دينٍ هو علمٌ أعرج ودينٌ بدون علمٍ هو دينٌ أعمى" يضيف داوكنز: "لكنه قال أيضاً عباراتٍ أخرى نصّها "ما قرأتموه عن موضوع تديّني هو كذبٌ بالطبع، كذبةٌ تكررت بشكلٍ مدروس، أنا لا أومن بالإله الشخصي ولم أنكر ذلك أبداً، بل على العكس، فقد عبّرتُ عن الموضوع بشكلٍ واضح. لو كان في داخلي شيء من الممكن دعوته بالدين فهو، الإعجاب غير المحدود بهذا الكون المحكم بقدر ما قدَرنا الكشف عنه بواسطة العلم حتى الآن ) 8 الآن، دعوني أسال داوكنز عن هذا النص الأخير لآينشتاين أولاً، إن كان فيه ما يمكن أنْ نتلمّس منه أيّ نوع من الانتماء لتعريف العالِم الملحد الذي مرّ بنا، وأحسب أنّ الإجابة المنصفة هي، أنْ لا صلة معرفية له بالتعريف أبداً. ثم أسأل من بعد: ألا تكشف العبارةُ الأخيرة في النص المتمثلة بالقول "لو كان في داخلي شيء من الممكن دعوته بالدين فهو الإعجاب غير المحدود بهذا الكون المحكم بقدر ما قدرنا الكشف عنه بواسطة العلم حتى الآن" أقول ألا تكشف العبارة هذه عن نوعٍ من التديّن استناداً الى اختيار آينشتاين لكلمة "دين" تعبيراً عن الإعجاب بالكون المحكم أولاً، واعترافه من بعد، أنّ العلِم لم يستطع الى الآن أنْ يكتشف إلّا قدراً منه فحسب؟ المهم، انا لا أفهم من نصّي آينشتاين ما يجعلهما في موضع التناقض بحيث يلغي أحدهما الآخر، غير أنّ لداوكنز وجهة نظر أخرى إذْ يقول مسلّما بوضعهما المتناقض: "هل يناقض آينشتاين نفسه؟ بأن يعطينا كلماتٍ نستطيع بها دعم الطرفين المتناقضين؟ بالطبع لا، آينشتاين يعني بكلمة الدين شيئاً مختلفاً تماماً عن المعنى المتعارف عليه" 9 السؤال الذي أتوجه به الى داوكنز الآن، هو: لماذا سلّم بأن العبارتين متناقضتان أصلاً، بحيث بنى على تسليمه هذا نتيجة أخرى هي قوله "كلمات نستطيع بها دعم الطرفين النقيضين"؟ أين تتناقض العبارتان بالتحديد بحيث يسمح لنا فهمهما أنْ نقيم علاقة التناقض بينهما؟ لمْ يُجب داوكنز عن هذا السؤال، بل أنتقل على نحو مباشر لفقرة أخرى يريد من خلالها التوضيح بأن "الدين الغيبي والدين الآينشتايني" متناقضان، لكنْ من خلال عبارات جديدة "منسوبة" لآينشتاين، نصّها: " أنا متدين عميق بعدم الإيمان، وهذا بشكل ما نوعٌ جديدٌ من التديّن. لم أنسب مطلقاً للطبيعة هدفاً أو أدواراً أو أيّ شيء ممكن، يمكن أنْ نفهمه بشكل سرمدي، ما أراه في الطبيعة هو بناءٌ مدهش ونحن نفهمه بشكل ناقص على أحسن الأحوال. هذا ما يملأ المفكر المتواضع بالنشوة. هذا بشكل عام شعورُ تدينٍ بدون أنْ يكون له علاقة بالروحانيات.. فكرة الإله الشخصي فكرة غريبة تماماً عنّي، بل اعتبرها فكرةً ساذجة أيضاً" 10 مثل هذا النص الغامض ــ قليلاً ــ و قد وضعتُ كلمةَ "منسوباً" الى آينشتاين قبل درجهِ، لأسباب كثيرة منها: عدم وضوحه بالقياس الى الكثير من عبارات آينشتاين بالغة الوضوح والذكاء والدهشة. ومنها أنّ آينشتاين قد سبق له أن قال عباراتٍ مدهشةً يمكنُ اعتبارها مناقضة لمضمون هذا النص، فضلاً عن أنّ فكرة إيمان آينشتاين بإله غير شخصي لا يمكن اعتبارها مطلقاً فكرة تمثّل أو تشير الى عقلٍ ملحد، بسبب من أنّ إله "هيجل" المتمثل بمقولة المطلق، لم يكن إلها شخصياً أبداً، بل أنّ هيجل أراد بإلهه المطلق أنْ يحرر مفهوم الإله من التصور الشخصي الذي كانت اليهودية والمسيحية تتبناه له. أقول مثل هذا النص يحملني على أنْ أسأل داوكنز، إنْ كان قد أطلع على الفرق بين مفهومي الإله: الشخصي والمطلق؟ أو هل فكّر على الأقل في بيان الفرق لقارئه بين المفهومين؟ ثم أخيراً، لماذا لم يخطر في بال داوكنز، أنّ الإله غير الشخصي لآينشتاين، هو إله قريب جداً في مفهومه من إله سبينوزا، الإله "الطبيعي"؟ على الأخص أنّ الرجلين معاً ــ سبينوزا وآينشتاين ــ ينتميان الى العقيدة اليهودية نفسها وأنّ الأول منهما قد تم طرده من اليهودية بقرار من الكنيست اليهودي بسبب آرائه عن الإله الشخصي المختلف عن إله اليهودية؟ هكذا يدع داوكنز أمرَ التفريق هذا مهملاً معطّلاً ــ مع أنّه يحمل السرّ كلّه ــ لينتقل الى فقرة أخرى يشير من خلالها الى المصدر الذي نقل منه عبارات آينشتاين تلك، وإنها لمفارقة كبيرة لا يُقدم على ارتكابها إلّا مؤلفٌ هاوٍ غير محترف، لا أمانةَ علمية له في نقل معلوماته التي وردتْ في هذه الفقرة، يقول داوكنز: "في عام 1940 كتب آينشتاين مقالاً يبرر فيه مقولته "لا أؤمن بالإله الشخصي" و تلك المقالة وغيرها أثارت سيلاً عاصفاً من ردود الفعل بين المتدينين، والكثير لمّح لأصله اليهودي. والمقاطع التالية مأخوذة من كتاب، آينشتاين والدين، والذي هو مرجعي الأساسي عن المقولات المنقولة عن آينشتاين في موضوع الدين" 11 شكراً لك داوكنز على اعترافك الصادق الجميل هذا. وهو اعتراف سيدخلك دونما شكّ بورطة كبيرة لا مهربَ لك منها سوى الإجابة عن هذهِ الاسئلة بطريقة صحيحة: 1- هل أنّ العبارات التي نسبتها لآينشتاين كانت مأخوذةً من مقالِ آينشتاين الذي يبرّر فيه عدم إيمانه بالإله الشخصي، أم انّها مأخوذة من الكتاب الذي لم تذكر اسم مؤلفه، أيْ كتاب "آينشتاين والدين"؟ 2- كيف يمكن لنا أنْ نعرف بأنّ تلك العبارات كانت لآينشتاين نفسه ــ كما وضعها في مقاله ــ و ليست لمؤلف الكتاب المجهول الذي تكتفي بذكر عنوانه فقط ؟. 3- لماذا يدافع داوكنز عن نوع إلحاد آينشتاين؟ وهل يعتقد أنّ هذا النوع من الإيمان بإله غير شخصي، يمكن حمله على معنى الإلحاد الصريح؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تبنّى داوكنز نوع الالحاد هذا لسيده العالم العظيم؟ ولماذا يصرّ في فقرة أخرى على انتسابه لنوع إيمان مختلف؟ يبدو لي أنْ الفرضية الثانية هي الأرجح، أعني أنّ مقالة آينشتاين عن "الإله غير الشخصي" وهي مقالةٌ لا أستبعد أبداً تأثرها بقراءته كلاّ من "إله سبينوزا المتّحد مع الطبيعة" و"إله هيجل المطلق" قد تم فهمها على نحو واضح من قبل أولئك الذين هاجموها، لأنهم علموا انها تقفُ ضداً على نوع إلاههم الشخصي، أمّا الدليل الذي يمكن لي أن اقدمه على صحة هذهِ الفرضية، فهو الردود الكثيرة المناهضة لمضمون مقالة آينشتاين والتي صدرت أغلبها من رجال دين مسيحيين ويهود، ولذا فلا أستبعد أنْ يكون ما نسبه داوكنز لآينشتاين من عبارات، إنّما كانت صادرة من جهة فهم المعترضين عليه من رجال الديانتين . يقول داوكنز مستحضراً عدداً من النصوص المهاجمة لمقالة آينشتاين مفترضاً بردّةِ الفعل هذهِ فهمه لمعارضة آينشتاين للدين التقليدي: قال أسقف الكاثوليك في مدينة كنساس: "من المحزن أنْ نرى رجلاً يعود أصله لقوم العهد القديم وتعاليمه ينفي التعليمات العظيمة لذويه" 12 ويقول "قسيس آخر أستغل الموقف، ليس هناك من إله شخصي! آينشتاين لا يدرك ما يقول .... الخ" 13 في نص آخر "أحدُ المحامين الكاثوليك الأميركان كان يكتب لآينشتاين: نأسف جداً لتصريحك". حاخام نيويورك صرّح في نص آخر يقول: "آينشتاين بلا شك عالم حاذق ولكن وجهة نظره الدينية تناقض تماماً الدين اليهودي" 14 وهكذا كانت ردود فعلِ كلٍّ من "عميد جمعية التاريخيين في نيوجرسي" و"مؤسس جمعية معبد الجمجمة في اوكلاهوما إذ يقول : لقد باركتُ اسرائيل بكل ما في طاقتي، والآن تأتي أنتَ و بجملةٍ واحدة من لسانك الكافر لتسبب اذىً كبيراً لشعبك وأكبر من أنْ يستطيع المحبون لإسرائيل والساعين لإخماد المعاداة السامية تحمّله في أرضنا" 15 في سياق الرغبة المحمومة ذاتها لإثبات إلحاد آينشتاين، يقول داوكنز: إنّ آينشتاين "كان ساخطاً دائماً على الأقاويل التي تحاول وصمه بالإيمان، فهل كان إلوهيا كما كان فولتير و ديدرو ؟ أم خلْقيا ــ يقصد من المؤمنين بمذهب الخلق ــ كما كان سبينوزا، و الذي كان معجباً بفلسفته أشدّ الإعجاب من خلال قوله: أنا أؤمن بإله سبينوزا و الذي يكشف عن نفسه بالتآلف المرتّب لكل الموجودات و ليس بالإله الذي يشغل نفسه بمصير البشر و تصرفاتهم" 16 يبدو لي أن غرض داوكنز من ذكره هذه الفقرة المثيرة، هو التهيئة و الإعداد لـ "فصل المقال" في أنواع الإيمان التي يمكن للإنسان أن يعتقد بأحدها في ذاته، أعني الإيمان التقليدي بالله و الإيمان الربوبي و "إيمان" الملحد أو نوع معتقداته السلبية بإزاء الخالق، وهذا ما فعله بالضبط خلال الفقرة اللاحقة . غير أنّ المثير للعجب و الحيرة هو : أن هذه الفقرة التي ورد فيها ذكر كل من فولتير و سبينوزا و آينشتاين، و التي أراد داوكنز من خلالها التفريق بين أنواع الإيمان لهؤلاء المشاهير في الفقرة اللاحقة لها، قد ادّتْ بالفعل الى حديث داوكنز عن نوع الايمان التقليدي و نوعه الربوبي، غير أنّها أغفلتْ و تجاهلت عن عمدٍ الحديث عن نوع إيمان سبينوزا على الرغم من عبارة آينشتاين التي تقول: "انا أؤمن بإله سبينوزا"؟ لماذا سكتَ داوكنز عن تعريفنا بنوع الإيمان هذا؟ ولماذا لم يكلّف نفسه بعض العناء للذهاب الى أقرب مؤلفٍ يتناول حياة و فلسفة سبينوزا ليشرح له ذلك و لينقله لنا من بعد بوصفه أحد أنواع الإيمان التي يحاول الفصل بينها، مع علمي الأكيد أن هذا النوع من الإيمان ــ إيمان سبينوزا ــ هو النوع الإيماني الذي كان يعتنقه آينشتاين بالضبط، لا من خلال اعترافه بذلك حسب، بل من خلال اتساقه مع الكثير من آرائه العلمية و الفلسفية عن الكون و الطبيعة، تلك التي أعتقد أنّ من أهمها عبارته الشهيرة "إن الله لا يلعب النرد". نعم كان ينبغي على داوكنز أنْ يفصّل لنا بعقلية الفيلسوف المحترف الذي يخوض في موضوع فلسفي ــ ديني بالغ الخطورة، ما يمكن أنْ يعنيه على وجه التحديد كلّ من مذهبي سبينوزا و فولتير باعتبار أنّ نوع إيمانهما مختلف عن نوع "إيمانه" من جهة و عن نوع إيمان المتدينين التقليدي، من جهة أخرى . و لأنه سكتَ عن كل هذه المسألة المهمة سأتولى ــ نيابة عنه ــ بيانها، لكن لا لأثبت إلحاد أيّ منهما أعني سبينوزا و فولتير، بل لأثبت إيمانهما العميق بالله، و إن المحاولتين العميقتين اللتين قدّماهما في فلسفتيهما، إنّما كانتا لمهاجمة الآراء التقليدية المتشددة التي يحملها العوام عن مفهوم الله في كل من الكنيس اليهودي و الكنيسة المسيحية.
داوكنز يفشل في التعرّف على إله آينشتاين
على الرغم من إشارة آينشتاين الى إله سبينوزا و إبداء إعجابه الكبير به ــ كما مرّ بنا ــ فإن داوكنز يفشل في نسبة إله آينشتاين الى ذلك النوع الخاص الذي قال به سبينوزا. و هذه هي المسألة التي سأبينها لكم بإيجاز من خلال هذه الفقرة التي تضيء لنا الموضوع قيدَ البحث على نحوٍ بالغ الوضوح، أعني أنّ إيمان كلّ من سبينوزا و آينشتاين بالإله، كان من النوع نفسه، تقول "كارين أرمسترونك" في كتابها ــ الله و الإنسان في 4000 عام ــ إنّ باروخ سبينوزا 1632 ــ 1677 يهودي هولندي من أصل إسباني، أصبح غير مقتنع بدراسة التوراة فانضم الى حلقة مفكرين أحرار من غير اليهود و قد طوّر أفكاراً كانت مختلفة اختلافا عميقا عن اليهودية التقليدية ... و في العام 1656 عندما كان عمره 21 عاما تخلّى رسميا عن الكنيس في امستردام ... لقد اُعتبر سبينوزا مشركاً لكنه لم يكن لديه إيمان بإله و لا حتى بإله التوراة فقد رأى ما رآه الفلاسفة، و أنّ الدين الموحى أدنى من المعرفة العلمية لله التي يبلغها الفيلسوف" 17 في فقرة أخرى من كتاب ارمسترونغ تبيّن لنا نوع إيمان سبينوزا و آينشتاين أيضا تقول "عاد سبينوزا ــ مثلما عاد ديكارت ــ الى البرهان الأنطولوجي لوجود الله، ففكرة الله بحدّ ذاتها تتضمن إعلانَ شرعية وجود الله ... كان وجود الله أمراً ضروريا لأنّه وحده الذي كان يقدم اليقينية و الثقة الضروريين للقيام باستنتاجات أخرى حول الحقيقة الواقعية، ففهمنا العلمي للعالم يبين لنا أنّ العالم محكومٌ بقوانين ثابتة . الله بالنسبة لسبينوزا هو ببساطة مبدأ جميع القوانين الأبدية في الوجود . .. عاد سبينوزا ــ مثلما فعل نيوتن ــ الى فكرة الفيض الفلسفية لأن الله موجود و ملازم في جميع الأشياء سواء المادية منها و الروحية" 18 . في فقرة مهمة ثالثة، تنقل ارمسترونغ المزيد من التحديد لنوع إيمان سبينوزا إذ تقول "إن سعادتنا و بهجتنا في المعرفة مساوية لحبّ الله، انه ليس موضوعا فكريا أبديا لكنه علّة و مبدأ ذلك الفكر و هو واحدٌ في أعماق كل كائن بشري .... لقد أحضر سبينوزا الميتافيزيقا القديمة الى جانب العلم الحديث، إلههُ لم يكن إله الافلاطونيين المحدثين الواحد ... كان اليهود و المسيحيون ميّالين الى اعتبار سبينوزا ملحداً، لم يكن هناك شيء شخصي حول هذا الإله الذي كان غير منفصلٍ عن بقية الوجود... ما كان يقوله سبينوزا : لا وجود لإله مطابق بالمعنى الذي نلصقه عادة بتلك الكلمة" . 19و هكذا نرى التطابق الكبير بين فهمي كل من سبينوزا و آينشتاين للإله. في السياق نفسه و من خلال واحدٍ من أهم المصادر الفلسفية الرصينة: يقول "كولينز" في "كتابه الله في الفلسفة الحديثة" مبيّنا حقيقة إيمان سبينوزا من خلال نصوصه الفلسفية التي قصدتُ اختيارها لتوضيح مفهوم الإله الشخصي : كان سبينوزا "يرى أنّ الكتب المقدسة ليستْ مصادر للحقيقة النظرية، و ما الأديان الكبرى إلاّ أدوات للتنظيم الاجتماعي و للأخلاقية العملية أولاً و قبل كلّ شيئ" 20 و هذا معناه و على نحو بالغ الوضوح أنّ سبينوزا لم يكن مُنكرا لوجود الأنبياء و لا الرسالات الدينية التي جاءوا بها أبداً، إنّما هو مُنكرٌ فقط لإمكانية أن تكون هذه المضامين الدينية مصدراً "للحقيقة النظرية" الفلسفية، ذلك لأنّ تلك الأديان التي تخاطب الناس جميعا، إنما ينبغي لها أن تخاطبهم على قدر عقولهم و بما هو مشترك بينهم، أعني التنظيم الاجتماعي و الأخلاقية، و لذا ينبغي أن لا تكون صيغة المخاطبة نظريةً فلسفية، إنما يجب ان تكون أخلاقية خاصة بتنظيم مجتمعاتهم حسب . في رسالة لسبينوزا كتبها لصديقه "هنري اولدنبرغ" السكرتير الأول للجمعية الملكية في لندن يقول سبينوزا: "أنا أعتقد أنّ الإله هو ــ كما يقولون ــ العلة الباطنة للأشياء جميعا، و لكني لا أعتقد أنه العلة المتعدية .. و كذلك لا استطيع أن أفصل الإله عن الطبيعة على الإطلاق" 21 . وهذا النص معناه ــ بحسب كولينز –"إنه يقرر فكرته التي تقول بهوية واحدة للإله و مجموع الطبيعة" 22 لكن هل كان سبينوزا ملحداً ؟ و هذا السؤال الأكثر خصوصية بالنسبة لطبيعة بحثنا الحالي، يجيب كولنز "الواقع أنّ سبينوزا نفسه لا يندرج تحت أيّ من الصورتين، فقد كان مقتنعاً اقتناعا راسخا بوجود الإله، و لكنه كان يريد إلها يستطيع الإنسان أن يضمن له ــ على نحو منهجي ــ نصيبا من غبطته، و لم يكن يتصور الإله أو الطبيعة على نحو عاطفي غامض، بل عن طريق رؤية منهجية تريد أن تصل الى النتائج النهائية لفكرة معينة عن وحدة الحكمة"23 . و أحسبُ أنّ هذا النوع من الإله هو الذي كان يبحث عنه آينشتاين، بل إنه المقصود بعبارته التي يعلن فيها إيمانه بإله سبينوزا . أما دليل سبينوزا على وجود الله فقد كان يحمل الكثير من العبقرية و الفرادة يقول كولينز "في تعريفه للإله ــ أي سبينوزا ــ بأنّه الوجود اللامتناهي بصورة مطلقة، و الكامل كمالاً تاما .. أعني أنّه الجوهر الذي يتألف من صفات لا متناهية تعبّر كل صفة منها عن الماهية الأبدية اللامتناهية" يضيف كولينز موضحا نوع إثبات سبينوزا للإله ــ و كأنه يخاطب داوكنز بهذه العبارات ــ "و ليس البرهان على وجود الإله أكثر من الإدراك الصريح لكون الوجود يلزم بالضرورة عن هذا التعريف الحقيقي للإله "حيث أن سبينوزا "لا يثبت وجود الإله بقدر ما يثبت ما في إنكار تعريف ماهيته من بطلان، لأنّ الإله وفقاً لهذا التعريف، جوهرٌ أبدي و ماهيته لا متناهية و قدرته معلولة لذاتها، و كل هذا معناه وجوب الوجود" 24 . أما قدر تعلق الأمر بكون إله سبينوزا إلهاً "لا شخصيا" كما كان يريد آينشتاين للإله الذي يؤمن به أن يكون هكذا، فلا بأس أن نستحضر هذه النصوص لإقامة الدليل على هذا المطلب، يقول كولنز نقلا عن تصور سبينوزا للإله "و الفكر حاضر في هذا الإله اللا شخصي، و لكن على طريقة تنظيم جهاز الخدمة الذاتية لعملياته الضرورية" 25. ثمة نقطة أخرى يمكن فهمها على أنّها مخاطبة لدواكنز أيضاً، يقول كولينز "و بينما عوّدنا الطبيعيون المحدثون من أمثال ديوي و نيجل أن نفكر في النزعة الطبيعية Naturalism بوصفها فلسفة تستغني عن الإله، تعتمدُ نزعة سبينوزا الطبيعية على نظريةً عن الإله كمبدأ يشيع فيها الحياة" 26. مضيفا "و سيعمل هيجل و المثاليون المتأخرون على الملاءمة بين هذه الفكرة عن الأساس اللا شخصي الإلهي الموجود و بين جدلهم الخاص بالروح المطلقة و لحظات تطورها النسبية .. و الإله السبينوزي قريب من الإنسان، و لكن على نحو ما تكون صيغة لا شخصية كونية موجودة في الأحداث الطبيعية التي تحكمها تلك الطبيعة" .27 أحسب أنّ في ما مضى من إيضاح لنوع الإله اللا شخصي لسبينوزا ما يكفي لتفسير نوع إيمان آينشتاين بلإله الذي حاول التعبير عن طبيعته و هو فهم لا يمكن لأحد أبدا تأويله لصالح الإلحاد أبدا كما يحاول داوكنز أنْ يفسر ذلك . أو بعبارة أخرى، لمّا كان آينشتاين يعتقد بحقيقة الإله وفقاً لتصوّر سبينوزا، و كان سبينوزا فيلسوفاً مؤمناً، فهذا يعني وفقاً لمبدأ الاستعاضة الرياضي أن آينشتاين كان هو الآخر مؤمناً، استنادا لاعتقاده بنوع مفهوم سبينوزا للإله. لكن، و بعد هذا كلّه دعونا نسأل هل كان داوكنز أمينا في نقل الحقائق المتعلقة بنوع إيمان آينشتاين؟ أعني هل تجاوز داوكنز أو أغفل عن عمد بعضَ عبارات آينشتاين التي تشير الى إيمانه بإله خالق على نحوٍ بالغ الوضوح؟ يبدو لي من خلال هذا النص الذي أنقله عن البرفسور، فيلسوف الإلحاد الأول "أنطوني فلو" 28 أنّ داوكنز قد تعمّد التدليس في المسألة، يقول فلو في مقالٍ له في نقد كتاب داوكنز وهم الإله : كتاب وهم الإله للكاتب الملحد ريتشارد داوكنز يُلفت النظر في المقام الأول، لكونه حقق أكثر من مليون نسخة من المبيعات، غير أنّ ما تجدر الإشارة اليه على نحو أكثر من الإنجاز الاقتصادي هو محتوى الكتاب أو بالأحرى فقر الكتاب للمحتوى، حيث يبين داوكنز في كتابه هذا، أنه قد أصبح و زملاؤه العلمانيون نموذجاً لما كان يعتقدونه أنه مستحيل، أعني التعصّب العلماني .29 يضيف البرفسور (فلو) : بمساعدة من نسختي من قاموس أكسفورد، يُعرف مفردة "تعصّب" بأنها : تمسّك حرون، لا تسامحَ فيه، متأصلٌ لوجهة نظرٍ ما .30 نجدُ في فهرست كتابه خمسة مصادر لآينشتاين، هنّ : قناع آينشتاين، و أخلاقية آينشتاين، و في الإله الشخصي لآينشتاين، و غاية الحياة، و أخيراً، في وجهة النظر المتدينة لآينشتاين . غير أنّ داوكنز لا يأتي على ذكر القضية الأكثر أهمية عن آينشتاين، أعني قوله: "إنّ االتعقيد الكامل الخاص بعالم الفيزياء قد قادهُ الى الاعتقاد بأنه يجب أنْ يكون هناك ذكاءٌ إلهي يكمنُ خلفه" شخصيا أعتقد أنه من الواضح، إنّ هذه الحجة إذا كانت تنطبقُ على عالم الفيزياء، يجب أنْ تكون أكثر قوّة و وضوحاً إذا ما جرى تطبيقها على عالم البيولوجيا .) 31 في السياق نفسه ينقل لنا البرفسور جون لينوكس عبارة أخرى لآينشتاين إذْ نستشفّ منها معنى الإيمان على نحو واضح، نفهم من خلالها تفضيلَ آينشتاين تصوّر المؤمنين لعظمة الكون على رؤية النزعة المادية له، يقول آينشتاين: إنّ أكثر شيئ غير مفهوم في الكون هو أنّه قابل للفهم . إنّ عقلانيته تفترض مسبقاً وجود عقولٍ لها القدرة على التعرّف على تلك العقلانية المسبقة، و ليس بوسع النزعة الطبيعية تفسير ذلك، في حين أنّ المؤمنين قادرين على هذا التفسير.
هل كان فولتير ملحداً؟
قدر تعلّق الأمر بفولتير، رائد حركة التنوير، الذي كان يعتقد داوكنز أنه كان ملحداً أيضاً، دعونا نوضّح حقيقة إيمانه من خلال النصوص التالية: تقول كارين أرمسترونغ : "كان مذهب الألوهية لديه طريقة لمهاجمة إله الكنيسة، الإله الذي أرهبَ رجالُ الدين بمفهومه الناسَ، يقول فولتير في قاموسه الفلسفي، ذلك الذي لن يأمر المرء أنْ يؤمن بأشياء مستحيلة، متناقضة و ضارة للألوهة، و مهلكا للبشر و الذي لا يتجرّأ على التهديد بعقاب أبدي لأي أمرئ يمتلك ادراكا سليما "تضيف ارمسترونك معلقة على نص فولتير :"كان على الكنائس أن تلوم نفسها فقط على هذا التحدي لأنها منذ قرون قد أثقلتْ كاهل المؤمن بعدد من معتقدات مشلولة" 33. أما إذا كان داوكنز يعتقد أنّ فولتير كان ملحداً بربوبيته، فسأدعوه الى قراءة هذا النص الذي يثبت له إيمان فولتير ــ رائد مذهب الألوهية و مبتدع أفكاره ــ تقول ارمسترونغ "فلاسفة التنوير لم ينكروا فكرة الله على الإطلاق، لقد أنكروا إله العقيدة القاسي الذي كان يهدد الجنس البشري بنار أبدية، لقد رفضوا معتقدات غامضة .. لكن ايمانهم في وجود إله متعالٍ بقي سارياً" .34 ثم في محاولة أخرى من المؤلفة تثبت فيها إيمان فولتير على نحو مؤكد لمن يعتقد خلاف ذلك، تقول ارمسترونغ :"لقد بنى فولتير كنيسة صغيرة في فيرني Ferny و عليها نقشٌ Deo Erexit Voltaire على عتبة الباب كي توحي بأنه لو لم يوجد الله لكان من الضروري أن نخترعه ... و في القاموس الفلسفي قال: إنّ الإيمان بإلهٍ واحدٍ كان أكثر عقلانية و طبيعة للبشرية من الإيمان بآلهة متعددة ... الشرك شرٌ كبير في أولئك الذين يحكمون و أيضا في الناس العارفين حتى و إن تكن حياتهم بريئة ... قبل كل شيء دعني أضف انّ هناك مشركين أقلّ اليوم أكثر مما كانوا في الماضي، لأنّ الفلاسفة قد فهموا أنْ ما من كائن نامٍ دون بذرة، و ما من بذرة دون هدف" .35 في السياق نفسه، يقول كولينز في مجموعة من النصوص ننقلها تباعا "يبدو لنا فولتير معتنقاً للألوهية و معاديا للوحي الخارق للطبيعة و معارضا في الوقت نفسه لأية محاولة تردّ معتقداته الى نزعة ملحدة" 36 و مهما يكن من أمر "فإن فولتير يضع حدّا فاصلا بين وجود الله و بين المسائل المتعلقة بطبيعته و نشاطه السببي، و كان يريد أنْ يبدّد الغموض و الشكّ اللذين يحوطان المسائل الأخيرة فيحولان دون وصولها الى حقيقة وجود الله ... و أين يوجد الله ؟ و لماذا يسمح بالشرّ ؟ ينبغي الاّ يسمح لها بإضعاف تصديق الإنسان بوجود علة أولى عاقلة و خيّرة الى غير حدّ" .37 و كان فولتير "يعني دائما بكلمة الله كائناً أبديّا واجب الوجود، هو في الوقت نفسه، العلة الأولى العاقلة الخيّرة لهذا الكون" 38. كان فولتير : يعود من حين لآخر الى الافتراض الذي يرى الله روحا تبث الحياة في آلة الكون .. إن الله هو وحده الذي يمكن أن يكون كاملاً أو بتعبير أفضل، الإنسان محدود، أما الله فغير محدود" . و هذه النصوص جميعا منقولة عن القاموس الفلسفي لفولتير كما يشير كولينز. أما الفرق في مذهب الألوهية لدى فولتير، عن مفهومه لدى أولئك المتأخرين أي الذين فهم داوكنز هذا المذهب من خلالهم لا من خلال فولتير كما يقتضي الحال، فهو كالتالي :"لقد افترق عن اولئك المؤلّهة القلائل الذين كانوا ينظرون الى الله بوصفه مجرد علة أولى متباعدة، لا تعطي الإنسان أيّ قانون أخلاقي و تبقى غير عابئة بسلوك الانسان الراهن، و في مقابل هذا النمط من المؤلّهة، أدرجَ فولتير نفسه إلوهيا أو انسانا يؤمن إيمانا راسخا بوجود كائن أسمى و هو خيّر كما هو قادر، و هو الذي صوّر الكائنات الممتدة و النباتية و الشاعرة و المفكرة جميعا، وهو الذي يعمل على استمرار انواعها و هو الذي يعاقب على الجرائم دون قسوة و يثيب الأعمال الصالحة بفضله" .40 هل تبقّى لنا من شيء يمكن ذكره في سياق نقدنا لهذا الفصل من كتاب داوكنز بعد أن أثبتنا فشل فرضيتيه في إلحاد كلّ من آينشتاين و فولتير ؟ نعم، كما أعتقد، فقد بقيتْ أربع مسائل مهمة جدا، هي : أولاً : كيف سمح داوكنز لنفسه بتفسير عبارة آينشتاين الشهيرة "إن الله لا يلعب النرد" بطريقة يُمكن أنْ يُفهم معنى الإلحاد من خلال مضمونها؟ ثانياً : ما الذي أراده داوكنز من وضع هذا العنوان "غير مؤمن بعمق" لفصله . ثالثاً : هل كان داوكنز أميناً و منصفاً خلال استحضاره لمجموعة من الوقائع الحياتية التي توخّى باستحضارها إدانة الأديان السماوية الثلاث؟ رابعا : ثمة نقطة تتضمن مفارقة مدهشة، يمكن أن أسميها "غفلة داوكنز" أو فضيحته، و هي ما سأبحثها في نهاية نقد الفصل على سبيل التشويق لبلوغها . المسألة الأولى : إن الله لا يلعبُ النرد
يقول داوكنز ( لدينا الكثير من العبارات المشهورة لآينشتاين و التي تدلّ على أنّ آينشتاين كان طبيعيا Naturalists و ليس ربوبيا، مثل :"الإله خفي و لكنه ليس خبيثا". أو ،"إن الله لا يلعب النرد"، و"هل كان لله خيار في خلق الكون )42 هذه هي العبارات الثلاث التي اختارها داوكنز ليدعم فرضيته الخاصة بإلحاد آينشتاين بعد أنْ وصفهن جميعا بالعبارات المشهورة . و في الحقيقة إنّ عبارة "إنّ الله لا يلعب النرد" هي العبارة الوحيدة التي تحظى بالشهرة، و ليس هذا الأمر ذا أهمية كبيرة لأن الأكثر أهمية منه، هو: كيف يمكن لأحدٍ أن يفهم ــ داوكنز مثلا ــ من خلال هذه العبارات الثلاث و حدها، أنّ آينشتاين كان "طبيعياً" و ليس ربوبيا ؟ مع التأكيد أن ما يقصده داوكنز بمصطلح "الطبيعي" هو النوع الإلحادي الخاص به، أيْ ذلك الذي يعلن أنّ الطبيعة وحدها هي الموجودة و هي المسؤولة المباشرة عن خلق الكائنات الحيّة فيها جميعا، و أن ليس هناك أيُ كائن ما ورائي ــ الله ــ خلفها، و ليس هناك بعث و لا خلود و لا حرية إرادة، كما تتفق جميع المصادر الفلسفية الحديثة على تعريف مصطلح "الطبيعي" بهذه الكيفية ؟ أقول إذا كان هذا هو المعنى الشائع لكلمة "طبيعي" في الثقافة الغربية، فكيف يمكن لنا أنْ نفهم هذا المعنى ذاته من خلال تطبيقه على عبارات آينشتاين الثلاث ؟ من جانب آخر، لمّا كانت عبارة آينشتاين "إنّ الله لا يلعب النرد" يمكن تفسيرها كما هو معروف جداً، على نحو إيماني مفاده: أنّ الله يحكم الطبيعة وفق قوانين جبرية لا تخضع للاحتمال و الصدفة و" أن العشوائية ليست من صميم الأشياء" كما يقول داوكنز في النص نفسه، إذن يحقّ لنا أن نتساءل: أولاً: إذا كانت مثل هذه العبارة قابلة لأكثر من تفسيرٍ واحد، الى حدّ التناقض بين التفسيرين، فلماذا لم يقل لنا داوكنز كيف يمكن له أنْ يحملها على معنى واحد فقط دون أنْ يفكّر أو يعمل و لو للحظة واحدة على إثبات خطأ الاعتقاد بالمعنى الآخر لها كما تقتضي حكمةُ الفصل بين المفاهيم المتعارضة مثلَ هذا الإجراء؟ أخيراً، ما الذي يسوّغ له توظيفها لصالح فرضية اثبات الحاد آينشتاين بحسب فهمه لها ؟ ثانيا: إنّ العبارة بحسب الفهم الأكثر شيوعا لها، أي الفهم المستمد من سبب إطلاق آينشتاين لها، يشير الى فرضيةِ وجود خالقٍ للكون يمسك قوانينه بحزم جبري بحيث لا يدعُ أيّ مجالٍ لعمل الاحتمال و الصدفة فيه، الأمر الذي يعني ضرورة أنْ يشير داوكنز الى هذا المعنى بطريقة ما، ثم يحاول بعد ذلك دحض هذا الفهم من أجل اثبات وجهة نظره المغايرة. أمّا اذا كان هناك من يتبنى وجهة نظر داوكنز نفسها حول معنى العبارة فليسمح لي إذن أنْ أنقل له هذا التصور المخالف لقناعته، عن البرفسور باسل الطائي، أحد كبار المتخصصين بالفيزياء الذرية، يقول البرفسور الطائي: إثر (الخلاف بينه و بين الفيزيائي الدنماركي "نيلز بور"، وجد آينشتاين أنّ الله لا يلعب بالنرد، أي أنه لم يوجد شيء في الدنيا كلها وليداً للصدفة، و لا يوجد مجال للعشوائية و الفوضى، كل شيء له سببٌ و مسبب و هدفٌ من وجوده، إذن الأمور لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة، ذلك أنّ نتائج حسابات الميكانيك الكمي و تطور نظرية الكم لماكس بلانك قد بيّنت أنّ الأمور متناقضة لحدٍ عجيب ما بين النتائج الرياضية و الواقع العملي" 42 فضلا عن ما تقدم كلّه، يمكن القول بثقة كبيرة، إنّ العبارة بأسلوبَي فهمها المتناقضين معا، تفترض وجود الله و لا تلغيه، أعني أنّ كلا الفهمين ينسبان دوراً لله الموجود سواء أكان يلعبُ النرد في تعامله مع قوانين الطبيعة أم لا، فكيف سمح داوكنز لنفسه أنْ يفسر العبارة ــ موضع الحوار ــ وفق فهم "المذهب الطبيعي" الذي يستبعد وجود كائن مفارق للطبيعة ؟
المسألة الثانية : الغاية من كتابة الفصل الأول
كان الفصل الأول من كتاب داوكنز يحتوي عنوانين فرعيين هما، "إحترام مستحق" و "احترام غير مستحق" و يمكن القول إنّ جميع ما تمّت لنا مناقشته مع داوكنز كان حواراً مع المعلومات التي تضمّنها العنوانُ الفرعي الأول، و ربما يكون "نقد الغاية" هو الحوار الأخير معه عن مضمون الفقرة نفسها . بعبارة صريحة، إنّ "الاحترام المستحق" يعني أنّ ثمة أنواعاً من الإيمان أو من العلاقة بالله، منها ما يستحق الاحترام، و هي تلك الأنواع التي تمّت لنا مناقشتها، أيْ الربوبية و اللا أدرية و الالحاد، أمّا الاحترام "غير المستحق" فهو ذلك النقد القاسي الذي سيخصّ به داوكنز النوع الآخر من العلاقة بالله، أعني الإيمان بإله الأديان السماوية الثلاثة، يقول داوكنز "لنتذكر التعريفات مجدداً، المؤمن هو الذي يفكّر أنّ هناك خالقاً ذكيّا، الذي بالإضافة لخلقهِ الكون و ما فيه يشرفً على كلَ ما يحصل و يتدخل في أحداث ما خلقه هو بالأساس في العديد من الأنظمة الألوهية، فالإله يتدخل بشكلٍ حميم في أمور البشر، يستجيب للصلوات و يغفر و يعاقب الأخطاء" 43 هذا هو نوع الإله الذي سيتوجّه اليه داوكنز بالنقد عبر فصول كتابه كلّها، لذا فانه يذكر أنّ الاحترام غير المستحق لا يشمل و لا يخص "إيمان الربوبي" أي بحسب داوكنز ــ من "يؤمن أيضا بالخالق الذكي و لكنّ نشاطاته كانت محدودة بصناعة و ضبط قوانين الكون و صياغتها، إلاهُهُ لا يتدخل بعد ذلك بشئ وبالتأكيد ليس لديه أي اهتمام بأمور الإنسان"و قد رأينا قبل قليل ــ كما بيّنت ذلك ــ أنّ الربوبية ممثلة بمنشئ مذهبها فولتير لا تتسم بمثل هذا الفهم الذي ينسبه داوكنز لها و لا لإلهها أبداً . يضيف داوكنز مفرّقا بين الربوبي و الطبيعي: الربوبي يختلف عن الطبيعي بأن إله الربوبي هو نوعٌ من الوجود الكوني الذكي و قد قصد ما فعل، بعكس الطبيعي الذي يطلق التسمية كبديل لقوانين الكون، الطبيعي من مشتقات الملحدين و الربوبي نوع مخفّض من التدين"44 المهم أنّ الغاية من فصل داوكنز هذا هي، تحديد نوع الدين الذي سيتوجّه اليه بالنقد، وهو بصورة مباشرة، الدين المنزّل عبر الوحي الإلهي، الدين الذي تتبناه الأديانُ السماوية الثلاث، يقول داوكنز "لن أكلّف نفسي من أجل جرح أو إهانة ما، و لكن في نفس الوقت لن أعطي اعتباراتٍ للدين ، لا أعطيها لأيّ موضوع آخر، لن أعامل الدين بطريقة مختلفة عن معاملتي لأي شيء آخر" 45
المسألة الثالثة : من لا يستحقون احترام داوكنز
تحت عنوانٍ فرعي من الفصل ذاته، هو" احترام غير مستحق" يقول داوكنز بأنّ عنوان كتابه "وهم الإله" لا يرمز "لإله آينشتاين أو أيٍّ من الآلهة التي نوّه اليها العلماء في الفصل السابق .. في باقي الكتاب، سأتكلم فقط عن الآلهة الغيبية الماورائية و أشهرها "يهوا" إله التوراة .. لكن قبل أنْ أترك الفصل التمهيدي ارغب بأن أناقش نقطة لئلا تكون سببا لأرباك القارئ لاحقا، هذه النقطة هي السلوك" 46 يقول داوكنز موضّحا جملته الأخيرة" من الوارد أنْ يشعر القرّاء المتدينون بالإهانة لما سوف أقول لاحقا و سيجدون ربّما بأنّه ليس هناك القدر الكافي من الاحترام لمعتقداتهم أو معتقدات من يحترمونهم، سيكون مخجلا لو ان ذلك سيسبب منعهم من الاستمرار بالقراءة، لذلك أريد ان أوضح المسالة منذ البداية" 47 ابتداء من هنا سأوجز للقارئ الكريم ما سيقوله داوكنز لاحقا في هذه الفقرة، ثم أدع الحكم له في تقييم تلك النصوص التي سيقولها داوكنز بوصفها أسبابا لعدم احترامه المتدينين . يقول داوكنز "الإيمان الديني فكرةٌ هشّة و ضعيفة أمام النقد و يجب إحاطتها بجدارٍ سميك من الاحترام ــ لا مبرر له، حيث من وجهة نظرهم ــ أنّ بعض الأفكار التي نسميها مقدّسة لا يحقّ لأحد ان ينتقدها" 48 بعد هذا النص يعرض داوكنز مجموعةً من الأمثلة الواقعية التي يعتقد أنّها جديرةٌ بالمناقشة و النقد، مشيراً الى أنّ المجتمع الانكليزي يحترم الدين و لذا لا بدّ له من نقد هذا المجتمع لاحترامه الدين، ثم يسرد بتفصيلٍ مملٍ جداّ مجموعة من الأحداث و الوقائع التي حصلتْ في إنكلترا من أجل إثبات أنّ الدين و المتدينين غير جديرين بالاحترام، يقول داوكنز مستحضرا فضائح الدين " التدين هو الطريق السهل للحصول على الإعفاء من الخدمة العسكرية ... المجموعات المتقاتلة في ايرلندا سببها الدين، العراق و كنتيجة للغزو الاميركي البريطاني في عام 2003 تفسّخ الى مجموعات طائفية في حرب مذهبية بين السنة و الشيعة .. مشاكل أخلاقيات الجنس و الإنجاب...الامتيازات التي تتمتع بها الأديان في أميركا ... الدين صاحب ورقة اليانصيب الرابحة ... حادثة سلمان رشدي ... حادثة الصبي الذي أصر على ارتداء تي شيرت مكتوب عليه: المثلية خطيئة، الاسلام كذبة، الاجهاض جريمة، وكيف تعامل القضاء معه... الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للصحيفة الدنماركية ..و هكذا" 39 يقول البروفسور"Rich Deem" معلّقأ على هذه الفقرة "في المقطع هذا ــ احترام غير مستحق ــ يزعم داوكنز، أنّ الافكار الدينية تتلقى الكثير من الاحترام، و تميل تلك الأفكار لإتّباع شعار: ارفع يدك، قدر تعلّق الأمر بنقدها أو مناقشتها حتى. و أنا اتفق مع داوكنز على وضع كهذا، أعني: أنّ الافكار الدينية ينبغي أنْ تكون عرضة للنقاش و التمحيص. و هذا هو الذي يفسّر: لماذا أناقش في هذا الموقع الالكتروني، و من ثم أدحض جميع سبل المزاعم الدينية التي لا تتفق مع الحقائق. 50 أمّا قدر تعلّق الأمر بمسرد الصراعات و الوقائع التي أحصاها داوكنز ليشير بها الى عنف الدين و صراعاته بين طوائفه، أو بين الأديان الاخرى، فيقول البروفسور"Deem "لقد فشل داوكنز في الإشارة الى: أيّ قسمٍ من تلك النزاعات كان دينياً على وجه الحقيقة؟ و هل كانت الخلافات تلك كلّها حول التعاليم الدينية أو حول مبادئ متعلقة بطبيعة الله؟ إنْ كان الأمر كذلك، كان يتعيّن عليه أنْ يحدد بالضبط أيّ أطراف النزاع كان دينيا في طبيعته؟" و لأنّ الأمر لم يكن كذلك في حقيقته، أيْ لأنّ الصراعات التي أحصاها داوكنز في كتابه لم تكن دينية أبداً، يقول البروفسور Rich Deem: من الطبيعي انْ نقول بأن تلك النزاعات لم تكن حول الدين، إنما هي نزاعات انخرطتْ فيها جماعات دينية مختلفة، و لكن كما هو الحال مع كل النزاعات، أقول: إنّ تلك النزاعات كانت من أجل السلطة .
هذا هو بالتفصيل مضمون فقرة "احترام غير مستحق" متضمنا الاسباب التي يعتقد داوكنز أنّ الدين و المتدينين لا يستحقون الإحترام من أجلها. أحسب أن السؤال الذي ينبغي علينا طرحه على داوكنز هنا هو: ما علاقة كل هذه التفاصيل الدقيقة المتعلقة بأحداث واقعية سياسية و اجتماعية، بعالم بيولوجيا تطورية متفلسف يضع كتابا اسمه "وهم الإله" موضّحا في مقدمته ما يعنيه باستخدامه لكلمتي "وهم"و"إله" ثم يختتم فصله بذكر هذه الوقائع التي لا صلة لها، لا بالعلم و لا بالفلسفة و لا بحقيقة الدين بوصفها مبحثاً تمّ تناوله و يتمُّ من خلال العلم و الدين و الفلسفة ؟
المسألة الرابعة : غفلة داوكنز
في سياق محاولته إثبات إلحاد آينشتاين، كان داوكنز قد استخدم حجّتين بائستين ليستا بطبيعة الحال فلسفيتين أو علميتين مقامتين كنتيجة لأحدى البحوث العلمية أو التأملات الفلسفية، إذ لا تعدو أولاهما أنْ تكون عباراتٍ ثلاث أثبتنا استحالة دلالة الأولى منهن على أي معنى يمكن أن يُفهم الالحاد منه، بل على العكس من ذلك، إنّ عبارة "إن الله لا يلعب النرد" كانت مساقةً بحسب فهم الكثير العلماء و الفلاسفة، من أجل إثبات إيمان آينشتاين كما مرّ بنا، أمّا العبارتان الأخريان فلا يمكن حملهما على معنى الالحاد أبدا، على الأخص إنْ كان المعنى المقصود بالإلحاد هو إلحاد المذهب الطبيعي المتشدد الذي يؤمن به داوكنز. إذ ما الذي يمكن أن تعنيه من معنى الالحاد الجذري جملة نصّها "الإله خفي و لكنه ليس خبيثاً"؟ أو تعنيه العبارة الاخرى من معنى الالحاد الطبيعي في نصها "هل كان لله خيارٌ في خلق الكون ؟ "حتّى و إنْ كان هذا المعنى مفسّراً من قبل داوكنز نفسه حين يقول "هل هناك امكانية لتكون بداية الكون مختلفة عن التي كانت عليه ؟" أما الحجة الثانية التي استخدمها داوكنز لإثبات إلحاد آينشتاين و التي انسب ارتكابه المفارقة خلال إيراده لها، فهي كالتالي : أولاً: كان داوكنز قد اعتمد في إيراد حجّته هذه على مقالةٍ لآينشتاين عنوانها "لا أؤمن بالإله الشخصي" ثم يشير داوكنز الى أنّ عبارات آينشتاين و"الردود العاصفة التي أثيرت بشأنها" كانت "مأخوذةً عن كتاب: آينشتاين و الدين"الذي هو مرجعه الأساس للعبارات المنقولة عن آينشتاين في موضوع الدين . 53 و هذا يعني أنّنا لا نعرف على وجه التحديد، إنْ كانت مقالةُ آينشتاين هي مصدرُه للعبارات أمْ أنّ الكتاب المُشار اليه هو مصدرها . ثانيا: من المؤكّد و المشروع أيضا، أنْ نعتقد بأن كتاب "آينشتاين و الدين" الذي لم يذكر داوكنز إسم مؤلفهِ، هو كتابٌ جامعٌ لعلاقة آينشتاين بالدين، أعني أنّ من المشروع لنا أنْ نفترض بأنّ هذا الكتاب نفسه يتضمّن نوعَ علاقةٍ أخرى ــ إيمانية مثلا ــ لآينشتاين مع الدين، لأنه من غير المعقول أنْ تكون تلك العبارات الثلاث فقط، هي المحتوى الكامل لمضمون الكتاب، فضلا عن إمكانية الافتراض المشروع بأن هذا الكتاب لا يضمّ من العبارات التي يمكن تأويلها لصالح إلحاد آينشتاين سوى تلك العبارات الثلاث، و إلاّ لو كانت هناك عبارات أُخَر أكثرَ وضوحاً في تعبيرها عن الحاد آينشتاين لمّا تورّع أو أحجم داوكنز عن استحضارها كأدلةٍ مضافة تدعم رأيه . أما وجه المفارقة الصارخة فهو : إنّ الردود العاصفة التي استحضرها داوكنز بشأن مقالة آينشتاين، أعني تلك التي وردت في كتاب "آينشتاين و الدين" لشجب إلحاده، إنّما كانت صادرةً من قِبل اناسٍ متدينين متشددين هم بحسب داوكنز، و هم "أسقف الكاثوليك في مدينة كنساس، و أحد المحامين الكاثوليك الأميركان، و حاخام نيويورك، و عميد جمعية التاريخيين في نيوجرسي، و مؤسسة جمعية معبد الجمجمة في اوكلاهوما" 54 غير أنّ هؤلاء المتدينين المتشددين أنفسهم كانوا قد تلقّوا من داوكنز أقسى عبارات الشتيمة و الإدانة بسبب تهجّمهم على آينشتاين، يقول داوكنز عن احدهم "قسيس استغل الموقف" و يقول عن آخر "كتب رسالةَ إدانةٍ فيها أكثر مما يمكن من أنْ يكون فضيحة عن نقاط الضعف العقلي الديني"و يقول عن ثالث "كلّ جملةٍ فيها تقطر بالجبن الفكري و الأخلاقي و الخباثة" السؤال هنا هو: كيف سوّغ داوكنز لنفسه أنْ يتخذ من هؤلاء المتشددين ــ الذين أشبعهم شتائما قبل حين ــ شهوداً عدولاً وحيدين على إثبات إلحاد آينشتاين ؟ بعبارة أخرى، إنّ الردود البذيئة لهؤلاء المتشددين ــ الذين أشبعهم داوكنز شتما ــ على مقالة آينشتاين، و التي أُثيرت بسبب اعتقاده بإله غير شخصي، هي المادة التي بنى عليها داوكنز حجته في إثبات الحاد آينشتاين بسبب من كون تلك الردود كانت متِّهمةً له بالإلحاد . نعم إنها لمفارقة مخجلة أنْ يضطر عالم بيولوجيا معاصر متفلسف ملحد، الى الاستعانة بجمع من المؤمنين المتشددين الذين يناصبهم العداء، لإثبات فرضية وهمية هي إلحاد آينشتاين .
الهوامش : Debunking Dawkins - The God Delusion, Rich Deem, http://svetlost.org/podaci/the_dawkins_delusion.pdf
ــ ريتشارد داوكنز: وهم الإله، ترجمة بسّام البغدادي، الطبعة العربية الثانية، ص 13 ــ 14 . ــ المصدر نفسه، ص 15 . ــ المصدر نفسه، ص 16 . ــ داوكنز : وهم الإله،، ص 16 . ــ المصدر نفسه، ص 16 . ــ المصدر نفسه، ض 17 . ــ المصدر نفسه، ص 17 . ــ المصدر نفسه، ص 17 . ــ المصدر نفسه، ص 17 . ــ المصدر نفسه، ص 18 . ــ المصدر نفسه، ص 18. ــ ــ المصدر نفسه، ص 18. ــ ــ المصدر نفسه، ص 18. ــ المصدر نفسه ، ص 19. ــ المصدر نفسه ، ص 20 . ــ كارين آرمسترونغ : الله و الانسان في 4000 عام، ترجمة محمد الجوا، ص 314 و ما بعدها ــ المصدر نفسه، ص 315. ــ المصدر نفسه ص 316. ــ جيمس كولينز: الله في الفلسفة الحديثة، ترجمة كامل، ص 102 ــ 103. 1 ــ المصدر نفسه، ص 103 2 ــ المصدر نفسه، ص 103 ــ المصدر نفسه، ص 104 ــ المصدر نفسه، ص 105 ــ المصدر نفسه، ص 110 . ــ المصدر نفسه، ص 111 . ــ المصدر نفسه، ص ــ ص 113 ــ 115 ــ البرفسور انتوني فلو، كان محاضرا في جامعتي أكسفورد و أبردين . أكثر الكتّاب تأثيرا في نشر الإلحاد الفلسفي في العالم، و من أكثرهم إسهاما في نشر الفكر الإلحادي في القرن العشرين، أعلن إيمانه بالله الخالق في عام 2004 عبر كتابه الشهير ( ثمة إله ) توفي في العام 2010 . ــ http://www.bethinking.org/atheism/professor ــ antony ــ flew ــ reviews ــ the ــ god ــ delusion. Professor Antony Flew, Reviews The God Delusion. ــ Ibid. ــ Ibid. ــ ينظر: John Lennox"God Undertaker"Alison Margan . Feb . 09 http://www.alisonmorgan.co.uk/Lennox%2007.pdf ــ و جون لينوكس هو استاذ الرياضيات و فلسفة العلم في جامعة اكسفورد، متخصص في المقابلة بين العلم و الفلسفة و اللاهوت. ــ ارمسترونغ : الله و الانسان في 4000 عام، ص 314. ــ المصدر نفسه، ص 324 . ــ المصدر نفسه، ص 314 ــ كولينز: الله في الفلسفة الحدسثة، ص 204 . ــ المصدر نفسه، ص 208 ــ المصدر نفسه، ص 208 ــ المصدر نفسه، ص 209 . ــ المصدر نفسه، ص 212 ــ داوكنز: وهم الإله، ص 20 ــ 21 . ــ http://vb.almahdyoon.org/showthread.php?t=24270 ــ ينظر: البرفسور باسل الطائي، ــ المصدر نفسه، ص 20 . ــ المصدر نفسه، ص 20 . ــ المصدر نفسه، ص 30 . ــ المصدر نفسه، ص 22. ــ المصدر نفسه، ص 22. ــ المصدر نفسه، ص 22. يُنظر المصدر نفسه، ص ص 22 ــ 30 . ــ يُنظر: Debunking Dawkins - The God Delusion, Rich Deem 1 ــ Ibid. ــ Ibid. ــ داوكنز، وهم الإله، ص 18 . ــ المصدر نفسه، ص 17 ــ 19 ,
#عادل_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدينُ و العِلم - الإيمانُ و الإيمانُ المقابل
-
لماذا لا تحدث المعجزات الآن؟ بحثٌ في عبارة لآينشتاين
-
أدونيس، معالجات الناقد الأدبي لموضوعات المفكّر - القسم الثان
...
-
أدونيس، معالجات الناقد الأدبي لموضوعات المفكّر
-
دولُ الورق، بين الفكر و السياسة
-
(العودُ الأبدي - إرادةُ القوّة ) قراءة في البُعد الأخلاقي لف
...
-
الجابري - طرابيشي بحثٌ في حوار المروّض و الأسد
-
فضائح العقل الملحد - خيمةُ الزواج و خيمة داوكنز
-
بائع الإلحاد المتجوّل - سبعة مداخل نقدية لكتاب - وهم الإله -
...
-
بائع الإلحاد المتجوّل - سبعة مداخل نقدية لكتاب - وهم الإله -
-
هل الإلحاد موقف معرفي أم أخلاقي ؟
-
فضائح العقل الملحد - دراسة في تهافت الحجج العلمية و الفلسسفي
...
-
مرثية الشعر لنفسه
-
أسوة بالرياضيين عندما تنضب مواهبهم، لماذا لا يعلن المبدعون ا
...
-
الشعر و التصوّف ، تكامل أم ممانعة ؟
-
الصوفية و السريالية، مساواة أدونيس الجائرة
-
إنتحار واقعي في عالمٍ افتراضي
-
صراخ على جبل ( إتنا)
-
في النصوص الميتا - شعرية، نهج البلاغة نموذجا
-
المثقفون و المجتمع في دكتاتوريات العالم الثالث
المزيد.....
-
-حلم بعد كابوس-.. أمريكية من أصل سوري تروي لـCNN شعور عودتها
...
-
بوتين يتوعد العدو بالندم والدمار!
-
لغز الفرعون: هل رمسيس الثاني هو فرعون موسى الذي تحدث عنه الك
...
-
كاتس من جنوب لبنان: باقون هنا للدفاع عن الجليل ولقد قلعنا أس
...
-
بين حماية الدروز وتطبيع العلاقات.. ماذا يخفي لقاء جنبلاط بال
...
-
الشرع يطمئن أقليات سوريا ويبحث مع جنبلاط تعزيز الحوار
-
الشرع: تركيا وقفت مع الشعب السوري وسنبني علاقات استراتيجية م
...
-
أمير الكويت ورئيس الوزراء الهندي يبحثان آخر المستجدات الإقلي
...
-
قديروف يتنشر لقطات لتدمير معدات الجيش الأوكراني في خاركوف
-
لوكاشينكو يدعو الشيخ محمد بن زايد لزيارة بيلاروس
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|