أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل عبدالله - الدينُ و العِلم - الإيمانُ و الإيمانُ المقابل















المزيد.....



الدينُ و العِلم - الإيمانُ و الإيمانُ المقابل


عادل عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 6507 - 2020 / 3 / 7 - 10:44
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الدينُ والعِلم
الإيمانُ والإيمانُ المقابل

( إنّ الوقائعَ لشائنة، فلا فائدةَ من الاحتجاج، لأنّها هي الأقوى، إنّها بالحريّ أقوى من الحقيقة ) - غوته -

عادل عبدالله

1-
في كتابه الشهير ( بحث في الفاهمة البشرية ) قدّم الفيلسوف الاسكتلندي ( ديفيد هيوم )
تعريفين للمعجزة، يَجْدر بنا التعرّف اليهما هنا، و هما :
أولاّ : (المعجزة، حدث ينتهك قوانين الطبيعة ).1
ثانيا : (ويمكن ان تُعرّف المعجزة بدقةٍ بوصفها خَرقاً لقانونٍ من قوانين الطبيعة بإرادة إلهية خاصة أو بتوسط فاعل غير مرئي) 2
على الرغم من أنّ كلا التعريفين اللذين وضعهما ديفيد هيوم – بعناية فائقةٍ – بُنيا بطريقة لغوية ظاهرة، ومنطقية – مُضمرة – ليضْمنا له استحالةَ حدوث المعجزات، فإنّ فرقاً بين التعريفين ينبغي أنْ يكون واضحاً لنا، بل أنّ من المهم جداً لنا معرفة الفرق هذا – مبكّرا – أيضاً، لأن موضوع البحث هذا هو حوارٌ مستعر فيهما و عنهما معاً .
فإذ يكتفي التعريف الأول بالتأكيد على امتناع حدوث المعجزة – لأنها تنتهك قوانين الطبيعة الثابتة – امتناعا على نحو عام، أي دون أن يحدّد لنا مَنْ هي الجهة التي تتولى مهمة انتهاك قوانين الطبيعة بإحداثها للمعجزة، يعيّن التعريف الثاني لنا على نحو واضح مباشر، أنّ الله او أية قوى أخرى – غير مرئية - مفارقة للطبيعة هي الجهة التي تتولّى مهمة انتهاك قوانين الطبيعة بإحداثها للمعجزات .
من وجهة نظر شخصية، أحسب ان التعريف الثاني للمعجزة، هو الأكثر أهمية بالنسبة لديفيد هيوم ولأتباعه ممن تبنّوا الرأي نفسه أيضاً، بل هو التعريف الصحيح للمعجزة من وجهة نظره، وهو التعريف المقصود لها من دون تعريفها الأول، فضلا عن كونه التعريف الأكثر أهمية بالنسبة للمدافعين عن المعجزات أيضا، لأنه يجعل من دفاعاتهم أكثر تماسكا و أبلغ حجة في النيل من خصومهم .
كيف، و السؤال يتعلّق هنا بأهمية التعريف الثاني ؟
لا تستمد أهمية التعريف الثاني قيمتها من خلال معرفتنا بتفاصيل الحياة الشخصية والثقافية - الفلسفية الخاصة بديفيد هيوم، من حيث كونه مفكراً تجريبياً ملحداً، شديد المقت للدين فحسب – وهو السبب الذي ألزمه ووجّه تعريفه الثاني لهذا المعنى –، بل لأن التعريف الثاني، هو المحور الحقيقي الفاعل لجميع الحوارات التي حصلت بشأن المعجزات، في العصور كلّها، ومن قِبل جميع أطرافها المشتركين فيها، سواء أكانوا لاهوتيين أم فلاسفة ام علماء – و سواء أ كان الحوار فيها، رفضاً لها أو قبولاً بها .
أقول ذلك لسبب غاية في الأهمية بل هو الأكثر ضرورة للتعرّف عليه من بين جميع القضايا المتعلقة ببحث المعجزات، و السبب هذا، هو:
لئن بدا لنا واضحاً، في جميع تلك الحوارات التي أُثيرتْ بشأن المعجزات - و التي سنتعرّف عليها ابتداء من ديفيد هيوم حتى يومنا هذا – أنّ السبب في رفض إمكان حدوثها هو إنها تنتهك قوانين الطبيعة، تلك التي لا ينبغي لها أن تنتهك – فإنّ مثل هذا السبب – الذريعة، لا يمكن الاحتكام اليه بوصفه مرجعاً أعلى لقبولها او رفضها، ذلك لأنّ السبب الحقيقي الذي يجري الاحتكام له في رفضها أو قبوله، هو الافتراض المسبق المتعلق بالإجابة عن السؤال هل الله موجود أم لا؟ و هكذا تؤسس و تشرِّع الإجابةُ عن السؤال الأخير هذا، القاعدة المنطقية لفهم قضية المعجزات كلّها .
وأحسب أن هذه المسألة كلّها معلولة لسببين، الأول منهما، هو:
إنّ العلمَ سيبقى متمسكاً بفرضية استحالة حدوث المعجزات، حتى وإن جرى إثبات أن حدوث معجزة ما، لا تفترض او تستلزم ابداً أي معنى لانتهاك قوانين الطبيعة، الأمر الذي يعني أن فلسفةَ أو فرضية عدم وجود الله، هي المبدأ الأعلى الذي يوجّه فرضية الرفض هذه ويجعلها عاملة على الدوام.
اما السبب الآخر، وهو سبب مفترض، فإن (إيمان) القائلين بوجود الله وفلسفتهم التي تؤكد وجوده، سيبقون مصرّين على إمكان حدوث المعجزات حتى وإن اثبت العلم بطرق تجريبية علمية قاطعة أن المعجزات تنتهك بحدوثها قوانين الطبيعة، ومن هنا أرى ان تعريف هيوم الثاني للمعجزات هو التعريف المقصود لها، كما سنرى تفصيل كل ذلك.
على الأخص أننا سنشهد في هذا البحث حججاً علمية بالغة الذكاء والعبقرية في انشائها، لا لدحض امكان المعجزات حسب، بل لاتخاذ المعجزات مدخلاً صريحاً، لافتراض ان الله لا يمكن ان يكون مسبباً لها بسبب من عدم وجوده أيضاً.
الأمر الذي يدعونا الى توجيه سؤالنا على نحو مباشر الى جميع أولئك العلماء- الفلاسفة الذي ينكرون إمكان حدوث المعجزات وإمكان وجود الله أيضاً، وهو:
لماذا تمّ إنكار المعجزات من قِبل أولئك الناس الأوائل الذي كانوا شهوداً عياناً على حضورها، وقتَ حدوثها و مكانه، على عهد الأنبياء الذين تذكرُ الأديان أنهم كانوا قد اجترحوها؟
أعني هل كان في ذهن أحدهم، أيّاً من هذه الحجج العلمية – الفلسفية العبقرية بوصفها سبباً لاستحالة حدوثها؟
أحسب أن الإجابة بالنفي هي الصحيحة، الأمر الذي يعني أن اعتراض أولئك الناس القدامى، على وجود الله هو الذي سبّب رفضهم لإمكان حدوث المعجزات، و أن هذا الرفض المسبق لوجود الله هو المبدأ الذي يتأسس عليه موقف الرفض – اللاحق - للمعجزة .
الآن، دعونا نعيد السؤال نفسه بطريقة أخرى، هي:
هل كان أيّ من العلماء و الفلاسفة - الذين تبنّوا مثل هذه الحجج العلمية الذكية لدحض مفهومي الله و المعجزات - في شكٍ من أمر وجود الله ام عدمه، و أن شكّهُ ذاك هو الذي قاده لتقديم هذه الحجج من أجل ن يقطع شكّه باليقين، من خلال بحثها لتثبتَ له في النهاية ان الله موجود أم لا، استناداً الى ما توصّل اليه؟
أم ان عكس الفرضية هذه هو الصحيح، أعني، أن افتراضه المسبق بعدم وجود الله هو الذي قاده لأن يقدّم هذه الحجج دليلاً على صحة افتراضه المسبق- بالنسبة لأصحاب تلك الحجج المنكِرة - وأن اعتقاد طائفة اخرى من العلماء- الفلاسفة بالافتراض المسبق لوجود الله هو الذي حملهم على ايجاد كل تلك الحجج العلمية - الفلسفية، لدحض حجج الطائفة الاولى المناهضة لإمكانها؟
احسب أن الإجابة الصريحة- الواضحة هي:
إنّ الافتراض المسبق- الفلسفي- الديني- العلمي- لوجود الله أم عدم وجوده، هو السبب والمقدمة والفلسفة، التي يجري العمل انطلاقاً منها للتوجه الى أثبات صحة أحدَ الإمكانين عملياً او نظريا أو كلاهما.
2-
يعتقد الكثيرُ من الناس، على الأقل في أيامنا هذه، أنّ المعجزات التي ورد ذكرُها في الكتب السماوية الثلاث، أحداث لا صحة ولا وجود لها.
ومثل هذا الاعتقاد، إذا يُعدّ حقاً مكفولاً لهم وشأناً من شؤونهم الثقافية، أو طريقة (فلسفية) يفضلّون أنْ يروا أحداث العالم و التاريخ والدين وفقاً لها، فإنّ الذي ليس من حقهم – سواء أتعلق الامر بهم أم بنا - على افتراض أننا لا نشاركهم معتقدهم هذا – أنْ يذهبوا الى اعتقادهم ذاك دونما بيّنة أو دليل او برهان مقنع على صحة الذهاب له، إذْ لابدّ من دليل لهم على ذلك وإلّا فإنّ اعتقادهم ذلك سيمنحنا العذر في نعت ما يعتقدونه بأنه مجرد وهم و عناد لا مبرر له .
ومن هنا يحق لنا أنْ نسأل أحدهم عن السبب في ذهابه الى مثل هذه الفرضية أو عن العلّة في اعتقاده بصحتها، أي بصحة اعتقاده: أنّ المعجزات أحداث خرافية لا وجود لها.
هنا لابدّ من أن تكون أجابته مستندة الى أحد هذه الأسباب الثلاث، التي يمكن تصنيفها الى ثلاثة فئات أو ميادين معرفية هي دينية أو فلسفية أو علمية، مع التذكير بأن هذه الميادين قد تتداخل بينها، وكالتالي:
أولاً: إن المعجزات أحداث خرافية لا يمكن للعقل تصديقها,
وهنا سيكون (المنكِر) مطالباً بتقديم دليل (عقلي) على سبب عدّها كذلك، او فلنقل مطالباً بعرض المعيار الذي يعتمده للتفريق بين الحدث المعقول الذي يمكنُ له أن يصدّق به، وبين الحدث الخرافي الذي لا يمكنُه تصديقه.
وأحسب أنه سيقول إجابة عن ذلك : بأن التجربة والخبرة اليومية المعتادة له، إن لم نقل معرفته بصحة القوانين العلمية – قد علّمته، بأن الأجسام الثقيلة تغرق في الماء وأن طبيعة النار هي الإحراق، وإن العصا لا يمكن أنْ تنقلب فجأة الى أفعى، وأن الماء لا يمكن أنْ يتحول بلمسة يدٍ الى خمرة ..... الخ، ولمّا كانت المعجزات تسمح بحدوث كل ذلك خلافاً لخبرتي المعتادة عن طريقة حدوث الأشياء، فلا بد لي من عدّ تلك الأحداث المعجزة خرافاتً وأكاذيب لا يُصدقها إلاّ السذّجُ من الناس فحسب.
هنا يحق لنا ان نعرضَ على (المنكِر لحدوث المعجزات) سؤالاً آخر، ربما يكون أكبر من الأول هذه المرة، وهو:
ألا تعتقد بأن (الله) الذي وردتْ هذا الأحداث العجيبة في نصوص (يزعم) المؤمنون ان رسلاً منه قد جاءوا بها، قادراً على ان يُنجز كلّ تلك الاحداث بطريقة تختلف عن طريقتك التي اعتدت على معرفة الاشياء من خلالها، استناداً الى الوصف الذي تنسبه تلك النصوص الدينية للّه، وهو: انه (على كل شيء قدير).
هنا لابدّ لمن نحاوره في إمكان حدوث المعجزات أن يلجأ الى أحدى الاجابتين : إما إن يقول انه مؤمن بوجود الله،
وهذا أمر يستوجب عقلياً – على نحو عام – أرساله للأنبياء والنصوص الدينية،
وأنه – أي محاورنا - مؤمن بقدرته على صنع أي شيء يختاره، لكنه مع ذلك يصر على استحالة حدوث المعجزات.
وهذه نوع إجابة غير موفقة، متناقضة ولا تدلّ على حصافة عقل أبداً، فضلاً عن كونها إجابة لا سابقة لها، أعني أننا لم نقرأ لأحد ان تقدّم بها، سوى طائفة من الفلاسفة تبنوا مذهباً اسمه (الايمانية) وهو اعتقادهم بوجود الله، لكن من دون أديان ولا رسل، وأحسب أن أجابته لا تندرج ضمن مذهبهم لأننا لا نسأله عن كلّ ذلك، إنّما نسأله حسب: إن كان الاعتقاد بأن الله (كلي القدرة) فهل هو قادر على فعل أي شيء – لغاية دينية – أم لا؟
ولذا أحسب أن اجابة (المنكر) إذا كانت : لا، فستكون إجابة متناقضة منطقياً، لأنها تنسب (العجزَ) عن فعل بعض الأشياء لله، الذي هو – كمفهوم فلسفي و ديني - على كل شيئ قدير .
أما خيار إجابته الآخر، فهو؛ أنه لا يعتقد بوجود الله أصلاً، ومن هنا، ونتيجة لهذه المقدمة، فإنه لا يعتقد، لا بوجود الاديان ولا الانبياء ولا المعجزات.
وهذه إجابة متّسقة منطقياً، ولا تسمح لنا بعرض سؤال جديد عليه، مفاده : لماذا لا تؤمن بوجود الله وما براهينك على ذلك، لأن حوارنا معه كان يتعلق بسؤاله عن سبب اعتقاده بعدم إمكان المعجزات، وليس بوجود الله.
المهم، أننا عرفنا الآن أحد أسباب عدم التصديق بالمعجزات، و هو الإيمان المسبق بعدم وجود الله.
ثانياً: أنْ يكون السبب في رفض المعجزات هو سبب (علمي) محض، مفاده أن المعجزات أحداث تخرق أو تنتهك (قوانين العلم) أو (قوانين الطبيعة) ولمّا كانت هذه القوانين قد جرى التأكد عن طريقة التجربة العلمية، انها نوع قوانين لا يمكن خرقها، فليس من المعقول والمقبول علمياً السماح بقبولها، لأنها تناقض القوانين العلمية التي تم التثبت من صحتها و استحالة وقوع حدثٍ ما مناقض لها.
وهنا يحق لنا السؤال عن السبب في اعتقاده باستحالة خرق القوانين الطبيعية، او لماذا لا يمكن لها أن تُخترق، وهو السؤال الذي يقودنا حتما الى سؤال آخر مفاده، ما علة وجود تلك القوانين الطبيعية في الطبيعة نفسها و ما مصدرها، أعني :
هل أن الطبيعة نفسها هي التي أوجدت هذه الأنظمة الصارمة لعملها، أم أن الله بوصفه خالقاً مفترضَاً للطبيعة، هو الذي أودع هذه القوانين في الطبيعة؟
فإن كان الله هو الذي خلق الطبيعة، وأودع فيها قوانينها الطبيعة، فأحسب ان الله قادر على خرقها متى يشاء، أما إذا كانت الطبيعة هي التي خلقت قوانينها بنفسها، فهذا معناه، ان ليس ثمة اي شيء آخر سواها موجود، او لا وجود لشيء ما في ما وراءها، سواء أ كان الله أم أية قوة أخرى.
وهذه الإجابة الثانية هي بالتحديد إجابة العلماء و الفلاسفة الماديين، عن سؤال المعجزات، ابتداء من ديفيد هيوم حتى يومنا هذا، مثلما هي إجابة الناس الذين لا يعتقدون بوجود الله جميعا، و ربما يكون محاورنا المفترض واحداً منهم .
وهنا نرى مرة أخرى، ان استبعاد مفهوم (الله) ووجوده الفعلي هو الذي يسوّغ للعلماء و للكثير من الناس الذهاب الى فهم كهذا.
ثالثاً : ثمة رأي ثالث (غريب الى حد ما) يذهب الى القول بوجود الله، لكنه يُنكر من جهة أخرى – إمكان عدّ احداث المعجزات معجزاتٍ، أي احداثاً خارقة لنظام الطبيعة، مفضلاً – بدلاً من ذلك – عدّها احداثاً طبيعية يمكن لقوانين الطبيعة الحاضرة المعروفة او التي ستجري معرفتها مستقبلاً، أن تفسّر تلك الأحداث ضمن سياقاتها.
وهكذا، عملاّ بهذه الفرضية، ذهب الفريق من الناس بالفعل – وكان أغلبهم من العلماء – الى بعض الأماكن الواقعية التي حدثت المعجزات فيها، كالبحر الأحمر، من أجل دراستها جغرافياً وطبيعياً لإقامة الدليل على انها لم تكن سوى أحداثٍ طبيعة يمكن تفسيرها في ضوء نظريات العلم وقوانينه وفرضياته الحديثة- المعاصرة، غير أن الغريب في الأمر هو، أن هذا الفريق أضطر الى عزل واقعة المعجزات عن سياقها الديني، وعن دور الله في انجازها، ليكتفي بدراستها بمعزل كامل عن تدخل الله في عملها، كما سيمر بنا تفصيل ذلك.
فإذا كان محاورنا واحدا منهم، أي ممن يعتقدون بهذه الفرضية الأخيرة، فإننا سنرى مرة أخرى، وبنوع من المكر الخفي والظاهر، أن مثل هذه المحاولة التي يتبنّاها تفسيرا للمعجزات، هي محاولة جديدة لتصفية قضية المعجزات على حساب الوجود والتدخل الفعلي لله في صنعها.
و من أجل درج الاحتمالات كلّها لمحاورنا و للقارئ الكريم، بقي أن أضيف، ان سبينوزا تفرّد في قضية انكار حدوث المعجزات، من وجهة نظر فلسفية-لاهوتية مفادها، ان الاعتراف بوجود المعجزات او حدوثها، يتضمن اساءة كبيرة الى مفهوم الله، لأسباب تقتضيها فلسفته في اللاهوت و السياسة، كما يرد في فصل المعجزات من كتابه رسالة في اللاهوت و السياسة.
ما أردت التوصل اليه، في هذه الحوارية المفترضة هو، أن إمكان حدوث المعجزات او استحالتها، لهو أمر يتوقف كلياً، على فرضية مسبقة، هي على نحو مباشر، ان كان الله موجوداً، فأن المعجزات موجودة، وإن لم يكن الله موجوداً، فلا وجود للمعجزات، سواءٌ أ كان من يتبنّى أحد الرأيين عالِما أم فيلسوفا أم رجلا بسيطا كمحاورنا المفترض، الذي أتوقّع بعد عرضي له كلّ التفصيل عن المسألة أن تكون إجابته – و ربما مصحوبة بشيء من الغضب – أ يمكن لأحد يعيش في القرن الحادي و العشرين أن يصدّق بالمعجزات ؟ أرجوك دعْ الموضوع الخرافي هذا .
و هذه هي الإجابة ذاتها التي تنتهي لها جميع الحوارات من النوع هذا سواء أ كانت واقعية أم مفترضة كحوارنا من جهة، و سواء أ كانت أطراف الحوار فيها علماء أم فلاسفة أم أناسا بسطاء، من جهة أخرى .
فإنْ كان الأمر كذلك، دعونا نبحث الموضوع من زاوية أكثر اتساعا و واقعية و على النحو الآتي :
كيف يمكن لعالِم في القرن الحادي والعشرين – أن يؤمن بإمكان حدوث المعجزات؟ حدوثها في الماضي على الاقل، كما هو حال الكثير من الناس الآن، و بينهم عددٌ من العلماء و الفلاسفة بطبيعة الحال ؟
أم، كيف يمكن لأحد ما – عالماً على الأخص – ان لا يؤمن بإمكان حدوث المعجزات؟ في الماضي على الأقل، كما هو حال الكثير من الناس الآن، و بينهم عددٌ من العلماء و الفلاسفة بطبيعة الحال أيضا؟
تُرى أيّ السؤالين أحرى بالإجابة، أم أيّهما أدْعى للتعجب؟
و هل للفترة الزمنية التي يتضمنها السؤالان، وهي القرن الحادي والعشرون، من علاقة ما توجّه إمكان الاجابة عن السؤال بهذه الطريقة او تلك؟
لئن كانت الفترة المشار لها في السؤال الأول – القرن الحادي والعشرين- تعني على نحو مباشر بلوغ العلم لأقصى مراحل تقدمه، الأمر الذي يوجب لسبب ما مجهول أو غير مبرر، أن يكون (العالِم) بوجه خاص، والناس المؤمنون بالعلم على نحو عام، عدّ المعجزاتِ احداثاً خرافية لا حقيقية لها، وكأن الطرفين (العلم والمعجزات) موضوعين في معادلة عكسية، مفادها : كلّما تقدّم العلم توجّب اختفاء المعجزة،
أقول، لئن كان الأمر كذلك، أي أن سبب تقدم العلم، يوجبُ انحسار المعجزة، فإن مثل هذا السبب لا حقيقة واقعية له البتة، لا لعدم وجود أية صلة سببية بين القضيتين، أعني : أنّ تقدم العلم يوجبُ انحسار المعجزة، فحسب،
بل لأنّ المنكرين لإمكان حدوث المعجزات قد أعلنوا عن أنفسهم وعن آرائهم بكل وضوح، منذ تاريخ حدوث المعجزات، حتّى ان الكثير منهم كانوا شهوداً عليها، كما تخبر النصوص الدينية بذلك، حيث لم يكن هناك يومها، لا علم و لا معرفة فلسفية متقدمة، ورغم ذلك كلّه، أي رغم شهودهم للمعجزة و هي تحدث أمام أعينهم فإنهم أنكروها و اتهموا من قام بها بالسحر و الكذب و الشعوذة .
أقول ذلك، مع التأكيد بكل حزم، أنه ما من وسيلة علمية محضة، تجربة او حدث مادي، أثبت على نحو قاطع استحالة حدوث المعجزات، الأمر الذي يسمح بقبول مثل هذه الفرضية، اي معادلة جمع العلم والمعجزة في معادلةٍ عكسيةَ العلاقة.
و من هنا فليس من الصحيح أبدا الذهاب الى اعتقاد كهذا، يفيد بأن تقدّم العلم يوجب اختفاء أو تسخيف أحداثٍ كالمعجزات .
أما قدر تعلق الأمر بالإجابة عن السؤال الثاني المتضمن فترة القرن العشرين نفسها، فمفادها : لئن كانت قوانين نيوتن في الحركة قد قدّمت لنا كوناً جبّرياً قابلاً للمعرفة والتفسير والتنبؤ بجميع حالاته القادمة، الأمر الذي سوّغ التفسير للكثير، أن الكون ليس سوى كتلة مادية جبارة لا حاجة بنا الى افتراض خالق لها، كما قال (لابلاس) لنابليون، أقول لئن كان الأمر كذلك فإن مثل تلك القوانين الجبرية النيوتنية، قد جرى إحالتها على التقاعد ابتداء من القرن العشرين، لعدم صلاحيتها للعمل في كونٍ جديد عملت النظرية النسبية وفيزياء الكم ومبدأ اللا- تحدد، على تقديمه لنا بوصفه الكون الوحيد الموجود بالفعل والذي تنسجم هذه الفرضيات العلمية الجديدة كلّها و العمل معه، و هو نوع كونٍ لا يسمح بالتنبؤ بإحداثه الذرية أبدا، فضلا عن كونه كوناً غير مادي و لا واقعية له أبدا عند حدود مكوناته التحتانية العميقة، أعني وجوده في المستوى تحت الذري، الوجود المشتبك مع العدم، خارج قيم المكان و الزمان، و المكوّن لجميع أشيائنا المادية الحاضرة - و نحن بضمنها - بلا استثناء .
أقول إذا كان الأمر كذلك، فإن الاحداث العلمية هذه، استوجبت بالضرورة إعادة النظر في أمر المعجزات من حيث كونها أحداثاً لا علاقة لها بخرق أي قوانينَ طبيعية، بل أن هذه القوانين الجديدة التي تعمل في الكون الجديد، ستسمح بهذه الطريقة او تلك، بإمكان حدوث المعجزات، دونما أي دليل علمي يمكنه أن يحوْل دون حدوثها، أو يُثبت استحالتها كما سأبين ذلك في حينه .
يبدو لي أن الفرق، بين السؤالين والاجابتين عنهما أيضاً، قدر تعلق الأمر بالعلم في القرن الحادي والعشرين، يمكن توضيحه كالتالي : لئن كان حضور العلم في هذا القرن، عاجزاً عن فعل اي شيئ أضافي لتاريخ انكار المعجزات بوصفه (عِلماً) فإن (العِلم) نفسه وفي الفترة عينها، يمكنه ان يفعل الكثير جداً على سبيل قبول المعجزات وإمكان حدوثها، وهذه هي طبيعة المفارقة التي تحمل الاجابة الكاملة عن السؤالين.
لكن دعونا نسأل الآن سؤالا آخرَ مختلفا قليلا عمّا سبق طرحه، هو :
لماذا يتعين على المعجزات وحدها، بمعزل كامل عن جميع مفاهيم السياق الديني المرافق لها، أنْ تبقى موضوعاً صالحاً للبحث والحوار في الوسط العلمي (حصراً) وفي غيره من ميادين الفلسفة في القرن الحادي والعشرين حتى وإن انصرفت أذهان العوام من الناس عنها؟
أ يكون مثل هذا الاجراء حاصلا على سبيل تصفية ما تبقّى من ذِكرها، أم يكون حاصلا، بالنظر الى جهود علمية و فلسفية دافعت عن إمكان حدوثها مؤخرا ببراعة كاملة، الأمر الذي حمل المنكرين لها على مراجعة مواقفهم منها ؟
أم لأنها آخر اسلحة الله وأمضاها أو أكثرها حسماً في امتحان العقل الانساني بين الاعتماد على قدراته الخاصة في معرفة حقيقة العالم و مصدر وجوده و شؤونه المتعالية– بما فيه الله – و بين التخلّي عن تلك القدرات كلها – قدر تعلق الامر بالمسألة نفسها – والاذعان الى طاقة الايمان التي يؤكد الدين انها مودعة في الإنسان ، بما هو انسان ، أي موزعة على البشر جميعا على حدّ سواء؟
إنّ أنتظام ظواهر الطبيعة، هو المبدأ الأعلى لتشكيل قوانين الطبيعة لدى العلماء، والانتظام يعني تكرار الظاهرة وثبات حدوثها بنفس الطريقة،
فإذا كان هذا هو المعنى الحقيقي للانتظام، ألا يبدو لنا الآن- بحسب هذا المعنى - أنّ الظاهرة الدينية من حيث انتظامها مع نفسها وثبات الاعتقاد بها من قبل المؤمنين، هي أعظم وأثبت ظاهرة نفسيه ومعرفية في تاريخ البشرية؟
ربما لأنها، إذ تتعلق بأصل نشأة الكون، فإنما تتعلّق بفرضيةِ نشأةٍ ثابتة منسوبة لله بكلّ تفاصيلها و بنفس التفاصيل أيضاً من وجهة نظر المؤمنين جميعا على اختلاف اديانهم، بالقياس الى معرفة العلم النسبية جداً بهذه النشأة ذاتها أولاً، النشأة التي تفترضها نظرية فيزيائية ليس بوسع العلم الدفاع عنها و لا تقديم حجج علمية قاطعة بشأنها، تحديداً عن كلّ ما كان يسبق تلك اللحظة، لحظة " الفرادة" التي لا زمان فيها و لا مكان، و التي انبثق الكون من خلالها.
أو ربما لأنّ ثبات النظرة الدينية من بعد، قدر تعلقها بنشأة الحياة على الأرض من جهة وتعلقها بمصير حياة البشر بعد الموت، من جهة أخرى، وهي نظرة معروف للجميع ثباتها و تفاصيلها أيضا، بأزاء المعرفة العلمية التي لا تعرف أي شيئ عن ذلك – سواء أ تعلّق الأمر بمصير البشر بعد الموت – أم كان تعلّقه بأصل نشأة الحياة فيها، سوى نظرية داروين التي تصف الحياة بعد ظهورها لا قبله .
غير أن العلم لا يُقيم قواعده ولا يغامر ابداً بوعي منه و تجربة، الّا في الأماكن المحددة التي تضمن له النجاح سلفا، بل أنه يخفي عن البشر جميع تلك التجارب التي فشل فيها في امتحان بعض حقائقه عن أصل الحياة و الكون ولا يظهر للناس إلّا ما يعلن انتصاره و تأكيد فرضياته حسب.
3-
ثمة مسألتان مهمتان ينبغي تعيينهما بكل دقة هنا، انطلاقاً من غفلة الكثير من الدارسين عنها، و هما :
أولاً : إن تاريخ الدفاع عن العقائد الدينية بوجه عام، والمعجزات على نحو خاص، لم يبدأ في أية مرحلة تاريخية لاحقة لتاريخ نزول الأديان أبداً، انما بدأ فعلاً مع زمن ظهور الدين نفسه، انطلاقاً من حقيقة مهمة، مفادها، ان الكثير جداً من آيات ونصوص الكتب المقدسة جميعاً تتضمن دفاعاً عن العقيدة الدينية وعن مفاهيما فضلاً عن دفاعها الخاص عن المعجزات، ولئن بدا مثل هذا الأمر غير واضح بالنسبة للكتاب المقدس، فإن وضوحه في القرآن لا يدع ايّ شك في صحة ما نذهب اليه، من حيث أن هناك عشرات الآيات تتضمن الدفاع عن المفاهيم الدينية بوجه عام، ومفهوم المعجزة على نحو خاص.
فضلاً عن القول بأن جميع أشكال الدفاع عن العقيدة تستمد – على نحو مباشر او غير مباشر – شرعيتها وأساسها النظري من تأويلها تلك النصوص أو تفسيرها على هذا النحو أو ذاك.
اما الحقيقة الثانية فهي، إن جميع أساليب الدفاع عن العقائد الدينية، ابتداء من تاريخ نزول الأديان حتى منتصف القرن الثامن العشر، كانت سُبلاً دينية أو فلسفية الطابع والمضمون، نظراً لأنّ خصوم اولئك المدافعين عن العقائد، أعني الملحدين او غير المؤمنين بالأديان على وجه عام، او حتى اصحاب الاديان الأخرى الطبيعية والسماوية، لم يكونوا في حقيقة امرهم (علماء) او مستخدمين وسائل العلم وكشوفاته – بالمعنى الذي يحضر اليوم بيننا- حججاً وأساليب ومصادر لإنكار ما ذهب الفريق الأخر له، سواء أتعلق الامر بالمفاهيم الدينية بوجه عام ام بالمعجزات على وجه الخصوص، وليس يخفى على أحد، أن السبب في ذلك، هو عدم تطور العقل العلمي بعد، بما يمكّنه من تفسير المفاهيم الدينية ومناهضتها، انطلاقاً من الحالة الحالية.
اما تحديدنا لمنتصف القرن الثامن عشر بوصفه بداية تفنيد المفاهيم الدينية، انطلاقاً من حقيقة تطور العلم، فإنما أريدُ بمثل هذا التحديد للتاريخ، الاشارةَ (حصراً) الى تعريف هيوم للمعجزات انطلاقا من مفهومه الفلسفي – العلمي للطبيعة وبناء عليه، وهو المفهوم الذي لم يزل الى يومنا هذا أوسع وأهم و أبقى تعريف نقدي للمعجزات.
لكن دعونا نسأل، لماذا كلّ ذلك، أعني لماذا يتمسّك العلمُ بتعريف المعجزة الهيومي بكل هذا الثبات و الأصالة مولياً إيّاها كلّ هذه الثقة التي لا يمكن أن تطالها ريبةٌ أو مراجعة ؟
على نحو بالغ الوضوح والدقة يحدثنا تاريخ نقد الدين والفلسفة والعلم على حد سواء، أنْ لا ثبات ابداً لأية نظرية نقدية تتعلق بهذه المفاهيم المعرفية الثلاث او تندرج تحتها، سواء أكان مضمون النقد يحاول اثبات شيء معرفي ما، او كان يسعى الى تفنيد او نقص شيئ معرفي أخر.
فقدر تعلق الأمر بالمعرفة الدينية، ما من فرضية او نظرية تتعلق بهذا المفهوم او ذاك من مفاهيمها، لم يكن عرضة للنقد والتفنيد أياًّ كان مضمونه، مثلما هو الحال نفسه قدر تعلق الامر بالفلسفة، أذ ما من نظرية او مبدأ فلسفي أو مذهب لم يكن عرضة للنقد والتغيير أياً كان مضمونه، وحسبنا أنّ (كانط) في كتابه - نقد العقل الخالص – تمكّن من أن ينفي ويثبت الفرضيتين معاً، فريضة اثبات الله، و فرضية إنكاره أيضاً في بضعة صفحات فقط من كتابه آنف الذِكر، انطلاقاً من حقيقة عمل على إثباتها و هي، ان العقل النظري، التجريبي، عقلنا، غير قادر على معرفة أيّ من قضايا الميتافيزيقا، الثلاث – وجود الله و خلود الروح و حريّة الارادة – معرفة قابلة للتحقق من صحتها تجريبياً أبدا، انطلاقا من حقيقة مفادها، أن المعرفة البشرية الممكنة مشروطة بضرورة وجود الشيئ المعروف في مبدئي أو مقولتي الزمان و المكان، و لمّا كانت تلك الموضوعات الكبرى للميتافيزيقا تقع خارج مقولتي الزمان و المكان، فليس من المرجّح أو من الممكن للعقل البشري معرفتها نظريا، أي معرفتها بنوعِ معرفيةٍ نظرية مستمدة من الحواس، بحسب الفهم الكانطي لهذه المسألة .
أما قدر تعلق الأمر بالعلم، فحسبنا أنّ مبدأ (كارل بوبر) أو نظريته في (التكذيب) التي مفادها، ان النظرية العلمية تبقى صحيحة حتى يتم تفنيدها، باستثناء ما تتبناه نظرية علمية جديدة و هو أيضا نوع من النقض و هكذا نرى أن جميع النظريات العلمية، مؤقتة لا ثابتَ و لا ديمومة لها .
وليس كل هذا الذي قدمناه مهماً بإزاء الفكرة التي نود تقديمها استناداً الى ما سبق من حقائق وهي :
اذا كانت تلك الحقائق تحدثنا عن عدم ثبات أية معرفة دينية او فلسفية او علمية، او على نحو أعم وأشمل، استحالة ثبات أية معرفة يكون مصدرها العقل – قدر تعلقه بفهم العالم الخارجي فقط، دون معنى تعلقه بحقائقه الضرورية القبْليّة – الفطرية، لماذا يصر العلم اذن، مع سبق الاصرار، على أن المعرفة التجريبية العلمية هي الثابتة الوحيدة، قدر تعلقها بنقد و تفنيد الفرضيات الدينية كلها حسب؟
لماذا يكون العلم مستعدا للتخلّي عن أية نظرية علمية متماسكة جداً، تصل الى حد اعتبارها قانوناً مفروغا من صحته، كقوانين نيوتن في الحركة مثلاً، حيث تمّ التخلّص منها واحالتها على التقاعد بعد نظريتي اللايقين لهيزينبيرغ والنسبية لآينشتاين لعدم صلاحيتها للعمل في العالم تحت الذري، لكن، ورغم ذلك فإنه غير مستعد أبداً للتنازل عن أية فرضية علمية، بغض النظر عن صحة اثباتها، عندما يتعلق الأمر بنقدها للدين أو بإحدى فرضياته التي تعارض الفهم العلمي لها؟
ليس هذا فحسب، بل يبدو لي وعلى نحو مؤكد ربّما، أنْ ليس هناك من أملٍ يلوح في أفق المستقبل بأن مثل هذه النظرة (العلمية) الإقصائية للدين قابلة لأن تتغير، بل يبدو لي أيضا، أن ثبات عداء العلم للدين يتأسس على قاعدة مفادها، بما أن للدين ثوابته الراسخة المتماسكة في اعتقاداته جميعا، لا بدّ للعلم أيضا من أن تكون له ثوابت راسخة – حتى و إن لم تكن علمية – من أجل مواجهة تلك الثوابت الدينية العريقة الراسخة .
فالمعجزات و هي إحدى ثوابت الدين، حدثتْ و تحدث، و المؤمنون بالله جميعا يصّدقون بها و يفهمون أسباب حدوثها و يفسّرونها و يقبلون حدوثها بهذه الطريقة العجية ذاتها التي تناقض وتنتهك على نحو بالغ الوضوح جميع طرائق العقل في الاعتماد على المعرفة الخاصة به لتفسيرها، المعرفة التي لا يستطيع العقل هذا ابداً تفسيرها لا علمياً ولا فلسفياً ولا دينياً حتى عن طريق الحجاج اللاهوتي، انما يمكن تفسيرها عن طريق (الايمان) فقط، وهذا هو جوهر وخلاصة النقد الكانطي في مؤلفات النقدية الثلاث، وهو ما رَغِب أن تحمله عنه عبارةٌ واحدة، هي (لذا كان علي أن أنسخ القلم كي أفسح مجالا للإيمان )
أخيراً الا يبدو لنا أن هذا التمسك بالمنهج العلمي الذي لا يمكّنه أبداً – مطلقا – من معرفة أيّة قضية من قضايا الدين الرئيسية (وجود الله، خلود الروح، حرية الارادة) على نحو علمي، أن العلم يورّط نفسه في فرضيات وقضايا لا علاقة له بها أبداً؟
أو فلنقل أن محاولات حلّه لها ليس شأناً من شؤونه، إنما هو شأن من شؤون الدين او الفلسفة فحسب؟
لكن، أحسب أنّ الأمر بحاجة الى توضيح كبير، لا من قبل العلِم ولا الدين ولا الفلسفة، انما هي قضية اخرى سأحدثكم عنها لاحقاً، وربما في بحث آخر، لكن حسبنا أن نقول هنا : إن ثبات الدين على اعتناق قضاياه، مسألة تتعلق على نحو كلّي بثبات (إيمانه)، فإذا كان الأمر كذلك، و هو كذلك حقا، فبماذا يتعلّق ثبات العلم في ذهابه الى مناهضة قضايا الدين ؟
أحسب أن الإجابة الصحيحة الوحيدة عن السؤال هذا هي : إن ثبات العلم يتعلّق هنا و على نحو مخالف لمنهجه كليا، بثبات (إيمانه) أيضا أو فلنقل ( بإيمانه المقابل) بخطأ قضايا الدين كلّها، حتى و إن كانت لفظة الإيمان لا علاقة لها بمفردات منهجه و قاموسه المعرفي أبدا .

الهوامش
- هيوم، ديفيد : بحث في الفاهمة البشرية، ترجمة د . موسى وهبة، دار الفارابي، ص 158 .
- المصدر نفسه : ص 159 الهامش .
- ينظر : كانط : نقد العقل المحض، ترجمة د . موسى وهبة، مركز الانماء القومي ، ص 39.



#عادل_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا لا تحدث المعجزات الآن؟ بحثٌ في عبارة لآينشتاين
- أدونيس، معالجات الناقد الأدبي لموضوعات المفكّر - القسم الثان ...
- أدونيس، معالجات الناقد الأدبي لموضوعات المفكّر
- دولُ الورق، بين الفكر و السياسة
- (العودُ الأبدي - إرادةُ القوّة ) قراءة في البُعد الأخلاقي لف ...
- الجابري - طرابيشي بحثٌ في حوار المروّض و الأسد
- فضائح العقل الملحد - خيمةُ الزواج و خيمة داوكنز
- بائع الإلحاد المتجوّل - سبعة مداخل نقدية لكتاب - وهم الإله - ...
- بائع الإلحاد المتجوّل - سبعة مداخل نقدية لكتاب - وهم الإله -
- هل الإلحاد موقف معرفي أم أخلاقي ؟
- فضائح العقل الملحد - دراسة في تهافت الحجج العلمية و الفلسسفي ...
- مرثية الشعر لنفسه
- أسوة بالرياضيين عندما تنضب مواهبهم، لماذا لا يعلن المبدعون ا ...
- الشعر و التصوّف ، تكامل أم ممانعة ؟
- الصوفية و السريالية، مساواة أدونيس الجائرة
- إنتحار واقعي في عالمٍ افتراضي
- صراخ على جبل ( إتنا)
- في النصوص الميتا - شعرية، نهج البلاغة نموذجا
- المثقفون و المجتمع في دكتاتوريات العالم الثالث
- الذين يقرأون و هم يركضون - بحث في تشويه الدرس العربي لشخصية ...


المزيد.....




- فيديو يُظهر اللحظات الأولى بعد اقتحام رجل بسيارته مركزا تجار ...
- دبي.. علاقة رومانسية لسائح مراهق مع فتاة قاصر تنتهي بحكم سجن ...
- لماذا فكرت بريطانيا في قطع النيل عن مصر؟
- لارا ترامب تسحب ترشحها لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا
- قضية الإغلاق الحكومي كشفت الانقسام الحاد بين الديمقراطيين وا ...
- التمويل الغربي لأوكرانيا بلغ 238.5 مليار دولار خلال ثلاث سنو ...
- Vivo تروّج لهاتف بأفضل الكاميرات والتقنيات
- اكتشاف كائنات حية -مجنونة- في أفواه وأمعاء البشر!
- طراد أمريكي يسقط مقاتلة أمريكية عن طريق الخطأ فوق البحر الأح ...
- إيلون ماسك بعد توزيره.. مهمة مستحيلة وشبهة -تضارب مصالح-


المزيد.....

- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل عبدالله - الدينُ و العِلم - الإيمانُ و الإيمانُ المقابل