|
الجلوس في مدينة الذكريات
رياض كاظم
الحوار المتمدن-العدد: 1581 - 2006 / 6 / 14 - 10:38
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة
الى وليد عبد الله
في الأعوام الماضية ، وفي فصل الشتاء بعد ان نزل المطر ، وصلت الى المدينة عربة قديمة تشبه تلك التي كان يقودها ( الملك غازي ) في جولاته الرياضية ، كانت رغم قدمها ، لامعة ونظيفة تجذب انظار المارة ، وفي المقعد الخلفي كانت تجلس عجوز طاعنة بالسن ، تبدو كساحرة خبيثة ، والى جانبها ( الست لنده ) وهي بكامل زينتها وهمومها ، ترنو بكسل الى المارة وكأنها تريد اختيار عشيق منهم ، ثم طلبت من السائق ان يدور في أزقة المدينة وشوارعها وحواريها ، بحثاً عن منزل واسع بخمس غرف وحديقة واسعة . مرت السيارة في ( عكد الهوى ) ، واتجهت حتى نهايته حيث ( فلكة سيد هادي ) ، ثم عادت ادراجها ، فضوضاء الشارع وزحمته وضيق بيوته ، لم تعجب السيدة ، فطلبت من السائق ان يعبر الجسر الى الضفة الأخرى الأكثر جمالا والأخف زحمة . كانت تشعر بثقل في صدرها منذ ان غادرت منزلها الكبير في بغداد ، هرباً من حب قديم أوجع قلبها ودمر حياتها ، فأرادت الهرب الى مكان قصي لا تلاحقها فيه تلك الذكريات المؤلمة والروائح التي تجلب لها طيف حبيبها الغادر ، فباعت كل ما تملك وهجرت المدينة التي ولدت ونشأت فيها الى مكان ما ، أي مدينة او قرية قادرة على معاونتها في النسيان . لم تكن هناك اية مدينة في ذهنها ترغب بالذهاب اليها ، فكل الأماكن عندها سواء ،أي شيء يبعدها عن تلك الذكرى ، عسى ان تنسى ، تنسى فقط ، ذلك مطلبها الوحيد في الحياة حتى هذه اللحظة المجنونة من حياتها ، فقررت الهرب ، كان قرارها سريعاً ومفاجئاً ، ولم تعط لنفسها اية فرصة للتفكير ، فآلام الحب المبرحة جعلت جسدها الفتي يذوي سريعاً وعيناها الجميلتان تذبلان ، فحزمت امتعتها منذ الصباح الباكر واحتضنت قطتها وصعدت في السيارة الضخمة واشارت الى السائق ان يقودها الى حيث تأمره ان يقف . مرت السيارة بمدن كبيرة وقرى جميلة ، لكن روحها المعذبة وقلبها الرقيق لم يهفو الى أي منها ، حتى وصلت الى ( الناصرية ) ، فتذكرت ( الست ) تلك الحكايات الجميلة التي كانت تسمعها عن الهور والقصب والأغاني الريفية والزهيريات التي تهتز لها طرباً ، فطلبت من السائق ان يجول في المدينة حتى تقرر . كان الجو ممطراً آنذاك ، وذلك برأيها دلالة خير استبشرت بها ، ففتحت نافذة السيارة واستنشقت عبق المطر الذي اعاد لروحها المرهفة بعض من حيويتها ، فاختلفت نظرتها للناس والشوارع والبيوت وقررت ان تقطن تلك المدينة الطيبة وتموت فيها . وبمجرد ان عبرت السيارة الجسر ، لفت نظرها منزل واسع وكبير بسياج عال واشجار معمرة تغطيه باكمله لتمنع الغرباء من التلصص على ساكنيه .... هفت نفسها لذلك البناء الرائع والجميل ، فطلبت من سائقها ان يدور حوله ، وحينما وصل الى بابه الرئيس ، نزلت من السيارة ودفعت الباب بثقة ودخلت وكأنه منزلها . اشترت( الست ) ذلك المنزل واقامت فيه مع مربيتها العجوز وقطتها وذكرياتها الحزينة ، تحاول ان تداوي ذاتها الجريحة بالعناية بقطتها وحديقتها ، وحينما يأخذها التعب تلجأ الى كتابة ( زهيريات ) ودارميات تفيض بالعتب على الله والخلق والكائنات ، قصائد لا تشبه ما تتغنى به النسوة الريفيات في الحقول ، ولا تشبه قصائدها التي كانت تكتبها لحبيبها الغادر ، حينما كانت تعيش في بغداد ، وكانت تعزو ذلك لكونها سيئة الحظ ، فرغم شبابها وثرائها لم تستطع ان تكبح جماح رجل لعوب ، مازالت رائحته المدوخة تلاحقها وهي في اقصى الجنوب ، ( تبغ وكحول وافاوية ) فتغرق بسورة من الكآبة لا تنفع معها ، جلسات دهن البنفسج ولا عطر العود ، الذي تضمخ جسدها به مربيتها العجوز وهي تغني لها او تقص عليها حكايتها الأثيرة ( ليت لي من العشب خوصة ) ، فرائحته الطاغية التصقت بكل مسام جسدها ، دخلت بين نهديها وتحت ابطيها وخلل شعرها ، فلم يأتها النوم او الراحة ، الى اليوم الذي رأت فيه ذلك الشاعر الأسطوري ( عبد الزهرة الزيرجاوي ) ، شاعر الأغنية الريفية ، ملك التنهدات وخزين القصص والحكايات التي لا تنضب ، رأته في ( علوة ) السمك ، يساوم بائعة السمك الجميلة على ( شبوط ذهبي ) ، فشعرت بقوة خفية تجذبها لذلك الكائن الجميل الذي يعتمر عقالأ ويشماغا احمر ، وتخرج الكلمات من بين اسنانه البيضاء كطيور مدجنة ، فأقتربت منه وكانها تنظر الى الشبوط ، ثم احتكت به لكنها ويا للغرابة لم تشمم رائحته ، لكنها شممت منه رائحة قصائد وزهيريات وذكريات مدينة وقبائل وخيام ، فأنجذبت له أكثر وارادت لفت نظره ، فتمثلت ببيت دارمي تبكي فيه الشبوط الذهبي . حينما سمع ( عبد الزهرة الزيرجاوي ) شدوها ، اخذته الدهشة ولم يجد ما يفعله سوى وضع عقاله في رقبته واعلن في السوق ( انها أشعر امرأة على وجه الأرض ) ، فهي برأيه اشعر من ( ابو معيشي ) شاعره الأريب ، واشعر من الحاج زاير وعبد القادر الناصري وحتى انها اشعر من قسام النجفي ، فطربت السيدة لأطرائه الحاذق وعرضت عليه دعوة على العشاء ليأكلا الشبوط سوية . في مساء ذلك اليوم السعيد جاء عبد الزهرة ، بقامته الفارعة وعقاله المائل ولفافة التبغ العالقة بشفتيه ، جاء يحمل بذراعه سلة فواكه وبطل ( عرق ) اخفاه بعناية تحت الثمار ، واصطحب معه رفيق عمره المصور الكهل ( ابو عوف ) ، طرق باب المنزل ، فاستقبلته العجوز الداهية وحدقت في عينيه طويلا ، دون ان تقول شيئاً ، حتى شعر بالأرض تميد من تحت قدميه ، فنظراتها الخارقة جعلته يظن بنفسه الظنون ، واراد ان يشرح لها انه لا يبغي شراً ب ( الست ) وانما هو شاعر ، بضاعته الكلمات ، وسعيدة الحظ من تلفت نظره ، وتحرك اوتار قلبه ، فيقول فيها ابياتا سرعان ما تنتشر كالنار في الهشيم بين الناس ،أو تصبح اغنية يغنيها ( سلمان المنكوب ) فيتكاثر عليها الخطاب الأثرياء ، اصحاب النصيب والحظوة في عالمنا هذا . قالت العجوز – من رفيقك يا عبد الزهرة ؟ تنحنح ابو عوف واراد ان يعرف نفسه ، لكن عبد الزهرة لكزه بخصره وقال . - ابو عوف ... رسام فطري . جاءت القطة تموء وقفزت بين ذراعي عبد الزهرة واخذت تلحس ذقنه ووجنتيه ، فتبسمت العجوز الداهية وسمحت لهما بالدخول . اجلستهما في الصالون الكبير وتركتهما ينتظران حتى حل وقت العشاء ، لكن الست لم تأت وترحب بهما ، او تحمل لهما العشاء ... طال انتظارهما جتى منتصف الليل ، حيث ظهرت العجوز ثانية واخبرتهما وهي تنظر في عيني عبد الزهرة مباشرة . ان الست اصابتها وعكة ولا تستطيع ان تطل عليهما . وفتحت لهما الباب علامة الأنصراف . في تلك الليلة لم يستطع الشاعر النوم ، كان يتميز من الغضب والعار الذي لحقه ، واخذ يكرع العرق وكأنه يشرب الماء ، حتى ظهر شيطان شعره ، فصاح في وسط المدينة ، يصف غدر الشاعرة الفاتنة الغريبة التي تريد ان تلعب بقلبه ، وتنكس عقاله .... اول من سمع قصيدته صديقه ابو عوف ،ثم بائعة القيمر ومؤذن الجامع والحارس وتجار السوق والزبائن والنسوة الثرثارات ، اللواتي اخذن في البحث والتنقيب عن صاحبة الحظ ، ذات اللواحظ التي تهشم الزجاج ، والشعر الحالك الذي يشبه سديم الليل ، المهرة واسعة الصدر ، التي ملكت قلب الشاعر الماجن وجعلته لا يجد للنوم طريقاً . صحت الناصرية على القصيدة ، فغناها في اليوم نفسه ( المنكوب ، ومحيبس ، وحمدة الكاولية ) ، ورسمها ابو عوف على شكل امرأة طويلة العنق ، عيونها واسعة كالساعة وحواجبها كالهلال ، بفم احمر وصدر كالمرمر ، والى جانبها عجوز ساحرة تهمس باذنها تعاويذ واوفاق تجعلها في منأى عن الشم واللمس . وفي اليوم نفسه ، تجمهر الخطاب على باب الست ... جاء السيد الشيخ ذو العمامة الذهبية التي تشبه قبة الجامع ، وعرض عليها خواتمة المباركة ومسبحاته التي جمعها من اصقاع الدنيا ، وجاء ( زهران ) الصابئي وعرض عليها علمه بالنجوم والكواكب والصياغة ، وجاء الشيوعي ( عباس بن مرداس ) باظافر مقلوعة وعيون مسمولة وعرض عليها شرحه لكتاب ( رأس المال ) ، ثم توافد على بابها القاضي والمفتي وابو الحلاوة ، ونام في حديقتها جمع غفير من الحجيج الذين اتوا من كل قرى الناصرية طالبين يد السيدة الجميلة . كانت السيدة في تلك اللحظة في اوج سعادتها وارتباكها ، ففتحت نافذتها وابتسمت للجمع الغفير من العشاق ، فتساقط ثلاثة مساكين من هول الصدمة ، وضمرت عمامة الشيخ الوقور مع اصفرار وجهه ورعشة يديه ، وأكل عباس بن مرداس شروحات كتابه الخطير وبلعه دون ماء ، ففقدت المدينة كنزاً ثميناً ..... وفي نوبة جنون امر القاضي باطلاق كل المحبوسين على ذمته ، ووافقه المفتي على ذلك ، فصرخ الجميع محيين عدالة القاضي وشهامته ، ونامت المدينة وهي سعيدة على الحلم الجميل الذي صنعته الست لنده .....
#رياض_كاظم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليلة غريبة قصة قصيرة
-
مرآة الغرفة والجليس الصامت
المزيد.....
-
إطلالة محمد رمضان في مهرجان -كوتشيلا- الموسيقي تلفت الأنظار
...
-
الفنانة البريطانية ستيفنسون: لن أتوقف عن التظاهر لأجل غزة
-
رحيل الكاتب البيروفي الشهير ماريو فارغاس يوسا
-
جورجينا صديقة رونالدو تستعرض مجوهراتها مع وشم دعاء باللغة ال
...
-
مأساة آثار السودان.. حين عجز الملك تهارقا عن حماية منزله بمل
...
-
بعد عبور خط كارمان.. كاتي بيري تصنع التاريخ بأول رحلة فضائية
...
-
-أناشيد النصر-.. قصائد غاضبة تستنسخ شخصية البطل في غزة
-
فنانون روس يتصدرون قائمة الأكثر رواجا في أوكرانيا (فيديو)
-
بلاغ ضد الفنان محمد رمضان بدعوى -الإساءة البالغة للدولة المص
...
-
ثقافة المقاومة في مواجهة ثقافة الاستسلام
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|