محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 6507 - 2020 / 3 / 6 - 00:47
المحور:
الادب والفن
"... وليس في الأرض أعجب من طَرَفَةَ بنِ العبد وعبد يغوث(1)؛ وذلك أنَّا إذا قِسنا جودةَ أشعارهما في وقت إحاطة الموت بهما لم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية" . الجاحظ - البيان و التبيين ج 2 , ص 268.
أَحَقًّا - عِبَـادَ اللهِ - أَنْ لَسْـتُ سامِعـاً ....... نَشِيدَ الرُّعَـاءِ المُعْزِبيـنَ المَتَاليَـا(2)
أي شكوى استنكارية هذه؟ أي بوحُ خوفٍ استفهاميّ هذا؟ حين يدرك عبد يغوث أنه لن يسمع بعد اليوم أناشيد الرعاة. وحينها يبدأ سيل الأسئلة ينهال عليه تباعاً, وحتى لو توقف للحظة و قال بشجاعة أنه الآن حياً فهو لاشك سوف يمضي نحو العالم الآخر بعد لحظات, إلى عالم لا يعرفه, و لا يعرفه أحد من الأحياء ولعل هذا مصدر قلقه و حزنه و خوفه, فهو في الحقيقة لا يعلم ما الذي ينتظره وراء الموت, ولعل وطأة الأسئلة هذه هي التي دفعته أن يقول لآسريه أن يعجّلوا بقتله(3) بدلاً من أن تتحول كل دقيقة إلى نبع آلام لا يستطيع أن يحصيها.
ثمة ذعر عديم المعنى من الموت هو ما يجعلنا نعتبر أن أي تأمل في الموت هو تأمل مرضي و سخيف فنحن- على حد قول سيغموند فرويد- حين " نبدأ في طرح أسئلة حول معنى الحياة والموت فإننا نكون مرضى، لأنه لا شيء يوجد من هذا بكيفية موضوعية".
غير أنه لا يمكن إنكار أن سؤال الموت هو سؤال ملح على الصعيد الشخصي و الإجابة عليه تمثل جزءً مركزياً من وعينا ضمن تصوراتنا الدينية و الاجتماعية و الثقافية التي نشأ في سياقها هذا الوعي دون إغفال الجانب النفسي, وسؤال الموت هذا ليس سؤالاً نخبوياً أو فلسفياً أو نزوعاً متشائماً طارئاً أو احتجاجاً بطريقة ما - ولو كان كذلك لوجب اعتباره إشكالية ومعضلة حقيقية- بل هو في الحقيقية - بالإضافة إلى كل ما سبق - هاجس شخصي يلقي بثقله منذ اللحظة الأولى التي طرح فيها الفرد هذا السؤال على نفسه, بصرف النظر عن موضعه ووعيه وموقعه, و قدرته على الإجابة وسوف يبقيه هذا السؤال متأرجحاً بين الحياة و الموت إلى أن ينتصر الأخير في نهاية المطاف. وهذا ما يعد بحق خيبة أمل كبرى لوجودنا و ثغرة من أكبر الثغرات في تجربتنا كأحياء, ثغرة غير قابلة للردم على الإطلاق ( إلا, ربما, بوضعها في سياق استهلال فلسفي أوسع يجعل من الموت فكرة مقبولة و " عقلانية" و ذات دلالة- كبعض تأويلات مقولة " القتل الرحيم" مثلاً-) .
ماذا يعني أن يرثي المرء نفسه؟
تقول الحكمة القديمة, ليس للمرء سوى نفسه في حضرة الموت. ويقول لنا من يهتمون بشأن السلوك البشري أننا نتصرف على العموم وفق ما تمليه علينا مصالحنا العليا, وأن ذهن الإنسان يكون في أقصى حالات حضوره و تفتحه عند اللحظات التي تسبق الكارثة المتوقعة حيث يكون مدركاً لتفاصيل ما يدور حوله, حتى أنه ينتبه لأدقها حتى لو بدت غريبة, مثلما استرعى انتباه عبد يغوث ضحك المرأة العجوز وإغواء النساء له بما هو مدعاة فخر ذكورية حتى في أشد اللحظات قتامةً
وتَضْحَكُ مِنِّـي شَيْخَـةٌ عبْشَمِيَّـةٌ....... كأَنْ لَمْ تَرَى قبْلِـي أَسِيـراً يمَانِيَـا
وظلَّ نساءُ الحيِّ حولي رُكّداً...... يراوِدْنَ منّي ما تُريدُ نِسائِيا
لست أدري في أي صفحة من رواية الأبلة لديستويفسكي يقول فيها أن الإنسان "حين يداهمه هلاكٌ لا سبيل إلى تحاشيه، كانهيار منزل فوقه مثلاً، إنما يشعر عندئذ برغبة لا تقاوم في أن يقعد مغمضاً عينيه وليحدث ما يحدث". و ها نحن هنا أمام تجربة إنسانية يقعد-أو سيّان يقف- فيها الفرد على حافة الوجود يستجدي فيها الحياة- ليس معنى الحياة, بل الحياة ذاتها- وقد أثمرت هذه الوقفة عن منجز أدبي عظيم مثلت خلاصة فلسفة الموت عند العربي القديم " قبل و بعد الإسلام" (4) . ولو قدر لعبد يغوث أن يعيش فلابد أنه سيبقى يذكر تلك التفاصيل وهو ينبهنا لقدره دون مقدمات, فلامتسع لديه من الوقت, ( تبدأ القصيدة بالتنبيه و عدم اللوم و تنتهي باستذكار الأيام السابقة الجميلة و الخمر و النساء و الندامى) و كأنه يطلب منا أن نساعده في تغيير مصيره, وهل استطاع أحد من قبله أو من بعده أن يغير مصيره؟
هذا البوح الممزوج بالاستعطاف يجسد معنى الخوف الحقيقي للأحياء من الموت, فحتى الفرسان لا يرغبون في الموت مهما كان هذا الموت " عظيما" ( وهل كان الموت في يوما ما عظيماً) ؟ غير أن حزن الشاعر وخوفه من الموت ليس بسبب الموت بحد ذاته, بل بسبب حزنه و ألمه أن قومه تركوه يواجه وحيداً مصيره, بينما أبت عليه نفسه و أخلاقه أن ينسحب من المعركة فبقي يقاتل رغم هروبهم من ساحة المعركة, وبالتالي هم من يستحقون اللوم لأنهم تركوه يقع أسيراً, و يؤكد أنه لو أراد الهرب لفعل ذلك, لكنه أبى فهو إنما دافع عن شرف قبيلته, ولذلك لايرى عبد غوث في نفسه " ضحية" , بل فارس " ضحّى" بحياته في سبيل قومه باعتبار أن التضحية كمضمر إنساني رفيع ومتعالي لاتعدّ ضرباً من الجنون و الهبل, بل مفخرة خالدة و قيمة ثابتة, و إذا كانت التضحية في سبيل " المقدس" تعد فضيلة عليا و قيمة إنسانية لا يرقى لها مثيل فإن مثل هذه التضحية سوف تكتسب زخماً و معناً مضافاً عندما يكون هذا المقدس هو الإنسان نفسه حين يضحي بنفسه في سبيل إنسان آخر و على هذا إذا كان الحب باعتباره " قيمة ميتافيزيقية" أحد جوانب التوازن النفسي - الاجتماعي التي تقوم عليها الحياة الإنسانية فالتضحية حين تبرز قيمة قدسية الإنسان من جهة و قيمة الحياة و معناها من جهة أخرى ستكون بلاشك على الكفة الأخرى من ميزان التوازن للتاريخ الشخصي للأفراد, فالإنسان, وليس شيء آخر, هو المقدس, وهذا ما يعوض خسارتنا للخلود و يثير فينا الحماس و الإبداع, فالإنسان هو " الثابت" الوحيد في جملة المتغيرات الكونية مما يؤكد رسوخه كقيمة مقدسة رغم تبدل المرجعيات و اختلال مصادر الأخلاق و تذبذبها.
أمام هذا التعقيد الذي تمثله النفس البشرية و تعييناتها الأنطولوجية سوف يتأسس الوجود الهش للإنسان في مواجهة مصيره, فها هنا نحن أمام فارس, شاعر - عاش قبل عصرنا بنحو ألفي سنة –يصف بصورة درامية مكثفة لحظات الرعب السابقة لموته و ما يرافقها من معاناة نفسية شديدة حيث تكون الحياة على المحك لعلمه أنه لم يعد يبقى له كثيراً مما يقوله, ورغم هذا الشعور فقد بدت له تلك اللحظات طويلة و ممطوطة و بلا نهاية و كأنه سيعيشها لأكثر من حياة أو يتمنى أن يعيد عيشها فيتذكر ما يعرفه عن لحظات مشابهة مرّ بها من قبله الشاعر أمرؤ القيس الذي كان يطلب الثأر لأبيه القتيل فذكره هذه اللحظات بقوله
كَأَنِّيَ لَم أَركَب جَوادًا لِلَذَّة...... وَلَم أَتَبَطَّن كاعِبًا ذاتَ خِلخال
وَلَم أَسبَأ الزقَّ الرَّويَّ وَلَم أَقُل.... لِخَيلِيَ كرِّي كَرَّةً بَعدَ إِجفالِ
وهذا الإحساس بتشابه الحالتين و النهايات المؤلمة هو ما خلق مثل هذا التناص بقول عبد يغوث
كأَنِّيَ لم أَرْكَبْ جَـوَاداً ولـم أَقُـلْ....... لِخَيْلِيَ كُرِّي نَفِّسِـي عـن رِجَالِيَـا
ولم أَسْبَاِء الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولـم أَقُـلْ....... لأِيْسَارِ صِدْقٍ: أَعْظِمُوا ضَوْءَ نَارِيَا .
وهكذا تمضي سردية القصيدة باتساق بين واقع الشاعر و ذكرياته السابقة و مصيره على نحو يجعلنا نسمع صوته يأتينا من أعماقه لتفسير حالته الإنسانية تلك بكل أبعادها الروحية و النفسية و الاجتماعية " الحالة المميزة و الاستثنائية بأن يشاهد موته لحظة بلحظة" وهذا بحد ذاته معضلة وجودية تعارض كل معاني الوجود, إذ ليس بمقدورنا بناء سردية فردية مبتورة تتجاوز عمرنا الأرضي دون أن نأخذ في اعتبارنا الأبعاد " الروحية" الخفية التي تتيح لنا تقبل الموت " المطلق" من غير رجعة, بطريقة تتجاهل توقنا العميق للحياة الخالدة. فللموت وجه قاسٍ حين يواجه الحياة بالفقد , إذ تهدم حتميته ما يمكن أن يتبقى من عقلانية نتمتع بها في مواجهته لأنه- أي الموت- ليس حالة مؤقتة بل هو فقد نهائي عبثي لا رجعة فيه, ولهذا يبقى الموت مجازفة غير مضمونة. ويقوم الشاعر- ويا لسخرية ما يقوم به- من خلال استعادة ذكرياته بمحاولة أخيرة يائسة لإقناعنا أنه ينتمي لنفسه و للحياة وأنه لا يخشَ الموت و أنه حزنه نسبي و ليس مطلق" بسبب خيانة قومه له ليس إلا" وهو مازال يحتفظ بذكرياته الجميلة مع حبيبته( نعرف أن اسمها مليكة) و رفاقه " الذين سيفتقدهم لاشك رغم أنهم سوف ينسوه بعد حين لانشغالهم بتفاصيل حياتهم". ولعله بسبب هذه المجازفة تتكاثر الإسقاطات العاطفية عنده وتتضخم مشاعره إزاء مصيره الذي يقف أمامه ضمن الحدود التي تفسرها التقاليد القبلية السائدة و النظرة الاجتماعية إلى الحياة الإنسانية فيأتي الموت ليعبر عن انعدام المعنى في سياق الحياة مما يجعل الفرد يفقد أمراً جوهرياً يتمثل في المعنى أو البعد البطولي للحياة فنحن بوصفنا أبناء الحياة نخاف الموت, لذلك " نعزله" أي نعزل من هو مشرف على الموت, نتركه يموت لوحده, نتعجل دفنه, ثم نتركه وحيدا بين القبور في مكان نفضل أن نبعده عن مجال رؤيتنا و نبعد كل ما يذكرنا به, ولذلك لا نطيق الحديث عنه أو عن مصادره و أسبابه وفي هذا المعنى و هذه الحالة نعيش ارتكاساً إنسانياً رهيباً- لكن غير مبالغ فيه- .
فثقافة الموت لدى البشر مشتركة و إن كانت ليست واحدة لدى شعوب الأرض, بل هي مرتبطة بتجربتهم الأنطولوجية وفقا لمعطيات البيئة المحيطة بهم, وحتى هذه التجربة تختلف بين الأفراد في المجتمع الواحد فنرى تبايناً واضحاً في استقبال الموت عند هؤلاء وفقاً لطبيعة كل واحد فالمحارب يتلقى الموت بطريقة تختلف عن الصعلوك أو رجل الدين أو العاشق أو اللص ... إلخ. فمثلما يتقن كل منا بطريقة أو بأخرى التعامل مع تفاصيل حياته اليومية, لابد أن يأتي عليه يوما ليقف أمام الموت, و هنا تختلف التجربة, فما كان سابقا على درجة من الأهمية " الموضوعية" يصبح بلا قيمة الآن, لينصب الاهتمام على ما هو ذاتي, و متى اجتزنا هذا الذاتي يصبح الموت سهلاً ويفقد رهبته و يتلاشى الخوف منه ويتبدد القلق الوجودي بشأنه, فتزول معاني التأمل الفكري في الموت ليحل محلها استذكار لما كان ..
فتطغى الذكرى على الطموح- الحلم الذي يصبح مجرد ذكرى عابرة في الحياة الأرضية تنتهي معه كل المعاناة, فالأموات لا ينظرون خلفهم, الأحياء هم من يفعلون, والأحياء هم من عليهم الاستمرار في المعاناة و التألم, سوف يستقر الأموات دون أن يزعجهم أحد أو شيء ولن يكون بمقدورهم " تصحيح" الأخطاء البشرية, فتلك لم تعد مهمتهم على كل حال, يعيش الموتى حالة من التكامل لا تتوفر لهم في الحياة, وما صرخة عبد يغوث سوى استنكار لهذا الموت, ولعله في صوته يحارب الموت في مسعاه للبحث عن الطمأنينة, وهذه الأخيرة لن تأت إلا إذا كان الموت ليس نهاية كل الأشياء, فخلوده يكن في استمرارية " هويته- قصيدته" وهو ما يأمل الشاعر أن تسير بها الركبان في صحارى العرب, فمعاني الحياة الأخرى مثل الفرح و السعادة و الجنس و الأمل و العمل هي مفردات تخص الأحياء و لا تخصه هو, فهو سوف ينتمي لعام آخر له مفرداته الخاصة به.
قد يقول قائل أن هذا ليس سوى وهم, ليس سوى دروع هشة يتلطى خلفها الإنسان أملاً في الخلود بطريقة ما تتجاهل مركزية الوجود الجوهرية, أي أصل الإنسان و أصل الكون, وبالتالي على الشاعر أن يجيب عن هذه السرديات الكبرى قبل البحث عن سبل تقبل الموت بتلك الطريقة الميتافيزيقية التي تتخطى الأسئلة الكلية بما يعطل آلية إنتاج سرديات الوجود الكبرى بسبب من عدم إشباع الحاجة الشعورية العقلية بطبيعة الموت أو مصدره( يقول الجاحظ في كتاب الحيوان ج 7 ص 157 " ما قرأت في الشعر كشعر عبد يغوث بن صلاءة الحارثي وطرفة بن العبد وهدبة (بن خشرم العذري)، فإن شعرهم في الخوف لا يقصّر عن شعرهم في الأمن، وهذا قليل جدا". )
قد تكون هذه الأقوال محقة لجهة صلتها الوثيقة بالوجود الإنساني عند المستوى النفسي العميق. وحين يفشل الإنسان في حلق المعنى فإن هذا يعود لإخفاقاته المتكررة في بناء سردية مكتملة و عقلانية عن علاقته بالموت وربما يعود هذا لأن التاريخ الشخصي لأي منا غير كافٍ كتجربة للتوصل لمعنى الموت بسبب المبالغة في التركيز على الذات و التمركز حولها وهذا ما يجعل تفكيرنا ينحصر في صيغ عمومية زمانية و مكانية, و لهذا لم يكن في بال عبد يغوث حين زفر من صدره تلك القصيدة أنها سوف تثير عجب كل من يسمعها أو يقرأها, وتجعله يقف أمامها مذهولاً من شدة ألمها و ذاتيتها ووجعها , ولعل هذا من بديهيات الفعل الإنساني, أي التضامن الوجداني العميق مع حالات الظلم ( الفردية و الجماعية) المختلطة بالإعجاب لشجاعة صاحبها و اصطباره على ألمها, فضلاً عن الأصالة التي نلمسها في كل كلمة و صدقها وهذا ما يجعلها عند مطارح معينة تتجاوز نطاق المعقولات لتسرح بنا بعيداً في هياكل أدبية متعددة الأغراض وهنا يستوقفنا ملمحين أساسين في القصيدة, الموت الوشيك الذي لا مفر منه, و رثاء الذات و تأمل النجاة و التعلق بحبائل الوهم أملاً في النجاة و يعبر عن هذين الغرضين بعاطفة صادقة شفافة, لكنها عاطفة سلبية لاشك حين لا تملك القدرة على التحول إلى أداة فاعلة تنقذ صاحبها مما ينتظره من مصير بائس, فالموت ليس خياراً في الحياة, و لا هو صفقة أو مساومة, بل مسار حتمي تنتهي به تجربة كل فرد منا في صيرورة لا فكاك منها تتغلغل في كل مظهر من مظاهر الحياة. وينصرف " تاريخ الموت " في الوقائع الإنسانية إلى تأكيد معناه من خلال حاجتنا إلى ملاذ يضخ فينا آمال جديدة أو قديمة أو حتى مستعادة، فالموت ليس إيمان بقدر ما هو مأوى، والتضامن الإنساني ضده ليس مزية بقدر ما هو واجب يمثل تدخلاً خارجياً مفيداً لتفكيك حيثيات أخلاقية معينة تحوم حول القيمة النفعية للمشاعر في ظل التأمل الذاتي لها.
وبمعزل عن معنى الموت و الحياة ينصرف تاريخ الوقائع الإنسانية إلى التأكيد أيضاً على أن الإنسان هو كائن " عادي" وليس استثناء فهو يشبه الجميع الآخر حين يمارس نداءات الطبيعة المتنوعة فهو يأكل و يشرب و ينام و يعمل ويشتم و يصلي ويمارس الجنس و يتآمر و يقتل و يكذب و يلعب يكتب و يمرض و يموت ...إلخ وهو لا يحتاج إلى إثبات ما سبق نظراً لأنها أفعال تبرهن على ذاتها بذاتها، غير أن الفرق يكمن في تأملنا للفائدة المتحصلة لدى كل واحد منا من أفعالنا مثلما توصل عبد يغوث إلى ذلك بسهولة بقوله: وأَنْحَرُ لِلشَّـرْبِ الكِـرَامِ مَطِيَّتِـي........ وأَصْـدَعُ بَيْـن القَيْنَتَيْـنِ رِدَائِيَـا
ولعل هذا ما تلخصه أيضاً عبارة رولان بارت الرائعة " إن أكثر ما أثار فتنتي طوال حياتي هو الطريقة التي يجعل بها البشر العالم معقولًا "
................
ملاحظات
1) تذكره كتب الأنساب و الإخباريين العرب باسم عبد يغوث بن صلاءة أو عبد يغوث بن الحارث بن وقاص بن صلاءة من بني الحارث بن كعب ويعود بنسبه إلى كهلان . وكان شاعراً من شعراء الجاهلية، ويوصف بأنه كان عظيم الجسم جميلاً وفارساً سيداً لقومه وقائدهم في يوم الكلاب الثاني على بني تميم وأحلافهم فقتل وأسر من قومه عدد كبير. ثم وقع هو في الأسر, أسره شخص من بني عمير بن عبد شمس و قُتل في الأسر كما هو في قصته المبثوثة في مؤلفات الإخباريين العرب. ويوم الكلاب الثاني, يصفه الأصفهاني في كتابه الأغاني بأنه أحد أعظم ثلاثة أيام من أيام العرب [ ويقصد باليومين الآخرين, يوم ذي قار و يوم جبلة بين بني تميم و بني عامر, واليوم هنا بمعنى المعركة], و الكُلاب حسب ياقوت الحموي: وادٍ يسلك بين ظهري ثهلان وهو جبل في ديار بني نمير لاسم موضعين أحدهما اسم ماء بين الكوفة والبصرة وقيل ماء بين جبلة وشمام على سبع ليال من اليمامة وفيه كان الكُلاب الأول والثاني وإنما سمّي الكّلاب لما لقوا فيه من الشر. و الكُلاب الثاني من أيام العرب التي وقعت بين القحطانية و العدنانية, و خلاصته أن بني تميم خافوا، بعد أن أوقع بهم الملك الفارسي، وضعفوا أن تطمع العرب بأموالهم، وتستغل ضعفهم فتفاجئهم بغزو، فاجتمع سبعة من ذوي الرأي فيهم، وأبرزهم وأسنهم: أكثم بن صيفي الأسدي الذي نيَّف على التسعين، وقيس بن عاصم المنقري، والزبرقان بن بدر السعدي، واتفقوا على خطة حكيمة، هي أن يجتمعوا على ماء، ولا يعلم الناس أين هم مجتمعون، حتى يقوى ظهرهم وتصلح أحوالهم، فارتحلوا ونزلوا على ماء بين الكوفة والبصرة يدعى "الكلاب" وتفرقت بطونهم: الرباب وسعد وحنظلة في مختلف أطراف الوادي. والواقع أن إحدى قبائل العرب الجنوبية من نجران "بنو الحارث بن كعب " قد بلغهم ما حل بتميم، فطمعوا بخيلهم وإبلهم ونسائهم، فأرادوا اغتنام الفرصة للسطو عليهم، فجمعوا جموعهم وساروا ومعهم مذحج وقضاعة، في عسكر عظيم إذ بلغوا ثمانية آلاف " لا يعلم في الجاهلية جيش أكثر منه، ومن جيش كسرى بذي قار، ومن يوم جبلة" - كما يقول ابن الأثير- يريدون بني تميم. ولما سمع بهم هؤلاء امتثلوا لمشورة أكثم بن صيفي،[ انظر, عمر فروخ: تأريخ الأدب العربي ج 1 ص 205-207].
2) وردت القصيدة في كتاب الأغاني ( طبعة دار الكتب ج 16 ص 328 ) وهي من البحر الطويل ورغم أن موضوعها الرئيسي الرثاء, غير أنه لا يشكل موضوعها الأوحد حيث ينتقل الشاعر إلى أغراض مختلفة حسب الحالة النفسية التي يعيشها و ضغط الوقت و الخوف من الموت... إلخ ولم يمكن الشاعر في موضوع يسمح له باختيار المفردات أو التقديم و التأخير و غيرها من ضروب البلاغة الشعرية. و تختلف عدد أبيات القصيدة من مصدر لآخر فهي عشرين بيتاً في المفضليات و في الخزانة للبغدادي, و ثمانية عشر بيتاً في الأغاني, وتسعة عشر في أمالي القالي و ذيل الأمالي, و يذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد ثمانية عشر بيتاً فقط و في الحماسة البصرية لا تتعدى أربعة عشر بيتاً :
أَلاَ لا تَلُومَانِي كَفى اللَّوْمَ مـا بِيَـا وما لَكُما في اللَّوْم خَيْـرٌ ولا لِيَـا
أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّ المَلاَمَةَ نَفْعُهـا قليـل ٌ , وما لَوْمِـي أَخِـي مِـن شِمَالِيَـا
فَيَا راكِباً إِمَّـا عَرَضْـتَ فَبَلِّغَـن ْ نَدامَايَ مِن نَجْـرَانَ أَنْ لا تَلاَقِيَـا
أَبَـا كَـرِبٍ والأْيْهَمَيْـنِ كِلَيْهِمَـا وقَيْساً بِأَعْلَي حَضْرَمَوْتَ اليمَانِيَـا
جَزَى اللهُ قَوْمِي بالكُـلاَبِ مَلاَمَـةً صَرِيحَهُـمُ والآخَرِيـنَ المَوَالـيَـا
ولو شِئْتُ نَجَّتْنِي مِن الْخَيْـلِ نَهْـدَةٌ تَرَى خَلْفَها الحُـوَّ الْجِيَـادَ تَوَالِيَـا
ولكِنَّنِـي أَحْمِـي ذِمـارَ أَبِيـكُـمُ وكانَ الرِّماحُ يَخْتَطِفْـنَ المُحَامِيَـا
أَقُولُ وقد شَـدُّوا لسانِـي بِنِسْعَـةٍ أَمَعْشَرَ تَيْمٍ أَطْلِقُـوا عـن لِسَانِيَـا
أَمَعْشَرَ تَيْمٍ قَـدْ مَلَكْتُهُـمْ فأَسْجِحُـوا فإِنَّ أَخاكمْ لـم يَكُـنْ مِـن بَوَائِيَـا
فإِنْ تَقْتُلُونِـي تَقْتُلُـوا بِـيَ سَيِّـداً وإِنْ تُطْلِقُونِـي تَحْرُبُونِـي بِمَالِيَـا
أَحَقًّا عِبَـادَ اللهِ أَنْ لَسْـتُ سامِعـاً نَشِيدَ الرُّعَـاءِ المُعْزِبيـنَ المَتَاليَـا
وتَضْحَكُ مِنِّـي شَيْخَـةٌ عبْشَمِيَّـةٌ كأَنْ لَمْ تَرَى قبْلِـي أَسِيـراً يمَانِيَـا
وظلَّ نساءُ الحيِّ حولي رُكّداً... يراوِدْنَ منّي ما تُريدُ نِسائِيا
وقد عَلِمَتْ عِرْسِـي مُلَيْكَـةُ أَنَّنِـي أَنَا اللَّيْـثُ مَعْـدُوًّا علـيَّ وعادِيـا
وقد كُنْتُ نَحَّارَ الجَـزُورِ ومُعْمِـلَ الـ.. ..ْمَطِيِّ وأَمْضِي حَيْثُ لا حَيَّ مَاضِيَا
وأَنْحَرُ لِلشَّـرْبِ الكِـرَامِ مَطِيَّتِـي وأَصْـدَعُ بَيْـن القَيْنَتَيْـنِ رِدَائِيَـا
وكنْتُ إِذا ما الْخَيْلُ شَمَّصَهَا القَنَـا لَبِيقـاً بتَصْرِيـفِ القَنَـاةِ بَنَانِيَـا
وعادِيَةٍ سَـوْمَ الجَـرَادِ وَزَعْتُهـا بِكَفِّي وقـد أَنْحَـوْا إِلـيَّ العَوَالِيَـا
كأَنِّيَ لم أَرْكَبْ جَـوَاداً ولـم أَقُـلْ لِخَيْلِيَ كُرِّي نَفِّسِـي عـن رِجَالِيَـا
ولم أَسْبَاِء الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولـم أَقُـلْ لأِيْسَارِ صِدْقٍ: أَعْظِمُوا ضَوْءَ نَارِيَا .
ــــــــــــــــــــ
المفردات
شمال: واحد الشَّمائل؛ وهي طِباع الإنسان وأخلاقه وعاداته.
راكباً: منادى نكرة منصوب غير مقصود (و العرب لا تطلق راكباً إلا على راكب البعير أو الناقة). عرضتَ: أتيت العَروض وهي مكة و المدينة و ما حولهما , وقيل هي العارض ( موضع باليمامة). وقيل المقصود بها اليمن
نَدامايَ: النديم هو المصحاب على الشراب المسامر , وقيل سموا ندامى لأنهم يجتمعون على ما يندمون عليه من إتلاف المال
الصريح: من نسبهم فيه خالص مثل بنو الحارث. والموالي هم موالي بني الحارث, أي حلفاؤهم
نهدة: المرتفعة الخلق و يقصد بها هنا الفرس مرتفعة الصدر (دلالة على الفتوة والنشاط). الحُوّ جمع أحوى و الحُوّ من الخيل الحمراء المائل لونها إلى السواد وقيل من ضرب لونها إلى الخضرة, وقال الأصمعي إنما خصَّ الحو لأنَّه يقال: إنَّها أصبر الخيل، وأخَفُّها عِظامًا إذا عرقت لكثرة الجري.
الذمار: الشرف، العرض، ما يجب على الانسان أن يدافع عنه.
فاسجحوا: تكرموا ومن أمثال العرب " إذا ملكت فاسجح ". فان أخاكم (يقصد النعمان بن جساس الذي قتل في المعركة) لم يكن من بوائي (لم أكن غريمه، لم أقتله أنا) وهي من قولهم باء فلان بفلان إذا قتل به وصار دمه بدمه , ومعنى السواء أنه لم يكن أخوكم ( النعمان بن جساس) نظيراً لي فأكون بواء له
تحربوني بماليا: تسلبوني ماليا و لا تدعوا لي منه شيئاً (كناية عن استعداده لافتداء نفسه بكل ما يملك).
المعزب: البعيد عن أماكن السكنى المتنحي بإبله
المتاليا: مفعول به من اسم الفاعل "المعزبين" بمعنى ما نتج بعضها و بقي بعض والمتالي جمع متلوة: الناقة يتلوها بمعنى يتبعها ولدها. و
شيخة: عجوز. عبشمية: من بني عبد شمس (من قيس، من عرب الشمال). تري مجزومة بحرف الجزم لم، وعلامة جزمها حذف النون. وفي البيت التفات من الغائب إلى المخاطب. وتقول الروايات المتعددة أن الذي أسر عبد يغوث فتى من بني عبد شمس أهوج فقالت أمه: من هذا وقد رأت منه فارساً عظيماً جميلاً فقال عبد يغوث: أنا سيد القوم فضحكت وقالت: قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج. وإلى هذا أشار بقوله: وتضحك مني شيخة عبشمية.. البيت فقال: أيتها الحرة هل لك إلى خير قالت: وما ذاك قال: أعطني ابنك مائة من الإبل وينطلق بي إلى الأهتم فإني أخاف أن تنتزعني سعد والرباب منه فضمن لها مائة من الإبل وأرسل إلى بني الحارث فوجهوا بها إليه فقبضها العبشمي وانطلق به إلى الأهتم فقال عبد يغوث:
أأهتم يا خير البرية والدا ورهطا إذا ما الناس عدوا المساعيا
تدارك أسيرا عانيا في حبالكم ولا تثقفني التيم ألق الدواهيا
ولكنهم خدعوه فأخذوا الإبل ولم يطلقوا سراحه
الشرب: الذين يشربون الخمر معا. «أصدع بين القينتين ردائيا»: أشق ثيابي من الطرب، و أعطي لكل قينة نصفه, والقينة الأَمَة مغنية كانت أو غير مغنية.
شمصها، نفرها: جعلها تجفل وتحرن. القنا: الرماح (في الحرب). لبيقا , من اللباقة: أحسن الطعن بالرماح.
عادية: خيل هاجمة. سوم الجراد: كثيرة كثرة الجراد وانتشاره و طلبه للمرعى ويشبه كثرة الخيل بالجراد. وزعتها: صددتها، رددتها، هزمتها. بكفي: بدفاعي وحدي. انحى اليه. وجه الرماح و أمالها عليه العوالي: الرماح.
أسبأ: اشترى الخمر للشرب. الزق الروي: وعاء من جلد يملأ بالماء أو اللبن أو الخمر ونحوها . الرَّوي: الممتلئ الذي يروي صاحبه, أيسار صدق: الرجال الذين ييسرون (يقترعون بالقداح) باسمي على الإبل ثم يفرقونها في الناس. أعظموا ضوء ناريا (حتى يأتي اليها ضيوف كثيرون).
3) لمّا عزموا على قتل عبد يغوث شدّوا لسانه بنسعة [ قطعة رفيعة من الجلد]، مخافة أن يهجوهم وكانوا سمعوه ينشد شعراً فقال" أطلقوا لي عن لساني, أذم اصحابي و أنوح على نفسي, فقالوا: إنك شاعر و نحذر أن تهجونا, فعاهدهم أن لا يهجوهم, فأطلقوا عن لسانه. فقال لهم اقتلوني قتلة كريمة. فقيل له : وما تلك القتلة؟ فقال: اسقوني الخمر، ودعوني أنح على نفسي، فاسقوه خمراً وقطعوا له عرقاً يقال له الأكحل، وتركوه ينزف يحرسه اثنان من الفتيان فقالا[ أي الشابان]: جمعت أهل اليمن وجئت لتصطلمنا، فكيف رأيت الله صنع بك؟ فقال في ذلك: أَلاَ لا تَلُومَانِي كَفى اللَّوْمَ مـا بِيَـا وما لَكُما في اللَّوْم خَيْـرٌ ولا لِيَـا. وهذا يخالف رواية العقد الفريد إنه قُدم وضربت عنقه. و يقول الجاحظ في البيان و التبيين ج 4 ص 45 أن العرب كانوا شديدي الخشية من الهجاء أن يبقى ذكره في الأعقاب و يسب به الأحياء و الأموات إلى حد بلغ بهم " أنهم إذا أُسر الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدوا لسانه بنسعة، كما صنعوا بعبد يغوث حينما أسرته بنو تيم يوم الكلاب"
4) تتكرر صورة رثاء النفس عند العرب وهناك الكثير من شعراء الجاهلية والإسلام ممن رثى نفسه مثل أمية بن أبي الصلت وطرفة العبد وخبيب بن عدي ومالك بن الريب وهدبة بن الخشرم وغيرهم, وثمة قصائد عديدة منسوجة على منوال قصيدة عبد يغوث نفسه, لعل أشهرها قصيدة مالك بن الريب المازني التي مطلعها : ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ........ بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا,
وثمة قصيدة للشاعر صريم بن معشر الملقب بأفنون التغلبي قصيدة من سبعة أبيات ذكرها ابن قتيبة في الشعر و الشعراء ج 1 ص 187 مطلعها :
لعمرك ما يدرك أمرؤ كيف يتقي..... إذا هو لم يجعل الله له واقيا.
وفي الأغاني ج 13 ص 45 ثمة قصيدة للشاعر الأموي جعفر بن علبة الحارثي , ومنها قوله: أحقاً- عباد الله- أن لست رائياً.... صحارى نجد و الرياح الذواريا.
ويذكر الجاحظ في الحيوان ج 1 ص 121 أبياتا للشاعر علقمة بن سهل يقول فيها: ودُلّيتُ في زوراء, ثمَّتَ أعنقوا...... لشأنهم, قد أفردوني لشانيا.
ومن معاصرينا يقول عبد المعين الملوحي بعد تجربة قاسية مع موت رفيقته و شريكة عمره
تمنيتَ يا ابن الريب لو بتَّ ليلةٍ ( بجنب الغضا تزجي القلوص النواجيا)
وأمنيتي لو بتُّ في حمصَ ليلةٍ فأسبحَ في العاصي و ألقي لداتيا
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟