|
نقد نظرية نمط الإنتاج الآسيوي
محمد عادل زكى
الحوار المتمدن-العدد: 6497 - 2020 / 2 / 23 - 09:34
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
بناءً على إشارات ماركس إلى أنماط الإنتاج في آسيا، لتأكيد أصالة الرأسمالية المعاصرة أوروبياً! ومع انتباه البعض إلى أن تقسيم (عبودي/ إقطاعي/ رأسمالي) هو تقسيم يتشبع بالأوروبية، وأن هناك أجزاء أخرى من العالم، ومنها حضارات الشرق القديم، وكذلك العالم الإسلامي، على الأقل في الفترة من القرن الثامن حتَّى القرن الثاني عشر الميلاديين، لم يشملها هذا التقسيم الأوروبي الَّذي تجاهل، بكل صلف وعنت، الخصوصية التاريخية والاجتماعية للمستعمرات! فقد تم ابتكار نظرية جديدة أضيفت إلى تراث ماركس! هذه النظرية هي نظرية نمط الإنتاج الآسيوي! والَّتي هي في جوهرها إعادة إنتاج للمركزية الأوروبية نفسها، إن لم تكن أحد أهم تطبيقاتها! وفقاً لهذه النظرية -- الَّتي تخلط كالعادة بين شكل التنظيم الاجتماعي/ السياسي وبين قوانين الحركة الحاكمة للنشاط الاقتصادي داخل هذا التنظيم -- يوجد نمط إنتاج في بعض المجتمعات، الشرقية بالتحديد، يختلف عن نمط الإنتاج العبودي وعن نمط الإنتاج الإقطاعي. وأهم ما يميز هذا النمط، الَّذي هو نمط الإنتاج الآسيوي، من وجهة نظر القائلين به، عن نمط الإنتاج العبودي، أنه يتركب من مجموعة قرى مكتفية ذاتياً، مع انعدام التبادل تقريباً فيما بينها. والدولة (المستبدة) هي الَّتي تملك الأرض من الناحية النظرية والمادية، ولموظفيها سلطة قهر فعلية. وتستولي أجهزة الدولة المركزية على الفائض في صورة الضريبة أو الجزية الجماعية، فتصبح الدولة بموظفيها هي الطبقة المستَغِلة. أما الفلاحون فهم ليسوا عبيداً لفرد ما، بل للدولة. وهكذا تكون الدولة هي المالكة للأرض؛ فهناك انعدام للملكية الفردية. وهي المالكة كذلك للعبيد بدلاً من أن يكون فرد من الأفراد مالكاً لعددٍ من العبيد كما في النظام العبودي النموذجي المعروف في آثينا أو روما! وعلى هذا النحو يختلف نمط الإنتاج الآسيوي، في تصور القائلين به، عن نمط الإنتاج العبودي! ومن جهة أخرى، يختلف نمط الإنتاج هذا، في رأي أصحابه، عن نمط الإنتاج الإقطاعي من ناحية أن صاحب الأرض، أي الإقطاعي، في النمط الأخير هو الَّذي يمارس سلطة القهر ويستولى على الفائض بدلاً من الدولة. أما في نمط الإنتاج الآسيوي فليس هناك سوى سلطان الدولة، المتجسدة في شخص الملك أو الفرعون أو الخليفة، الَّتي تبسط هيمنتها المطلقة. وحيث يسمح نمط الإنتاج الإقطاعي بالتوسع في الإنتاج يقف نمط الإنتاج الآسيوي في مواجهة هذا التوسع لانعدام التبادل تقريباً كما يقولون! الأمر الَّذي يعني أن مستوى تطور القوى الإنتاجية في الإقطاع أعلى منه في النمط الآسيوي! وأخيراً، يرى أصحاب هذه النظرية أن الفلاحين والحرفيين والبرجوازيين يبدون استعداداً للاتفاق معاً، والنضال المشترك للوقوف في وجه السيد الإقطاعي! أما نمط الإنتاج الآسيوي فيميل ناحية التدرج والثبات! والواقع أن القول بنمط الإنتاج الآسيوي، على هذا النحو، إنما يَصدر عن تصور أكثر ولاءً للمركزية الأوروبية؛ فأصحاب نظرية نمط الإنتاج الآسيوي لا يبتعدون قيد أنملة عن تلك المركزية الَّتي ترى أن الرأسمال لم يتبلور إلا في أوروبا، وأن الرأسمالية لم تظهر إلا في غرب أوروبا، وبالتالي انتقلت من غرب أوروبا إلى باقي أجزاء العالم، وليس العكس. ومن ثم يجب أن تظل الرأسمالية أوروبية النشأة والتكون والتطور؛ وهو ما استلزم ابتكار نمط إنتاج جديد (ينفي الرأسمالية عن باقي الأجزاء المكونة للعالم) كي ينسحب على المجتمعات الأخرى، وبصفة خاصة مجتمعات بلاد بين النهرين ومصر القديمة. وتتركز أوجه رفضنا لهذه النظرية ذات المركزية الأوروبية في الآتي: 1- دون خلط بين شكل التنظيم السياسي (الاستبدادي)، وبين قوانين الحركة الحاكمة للنشاط الاقتصادي في المجتمع الخاضع لهذا التنظيم السياسي، لم تكن المجتمعات الشرقية القديمة، بصفة خاصة في بابل وآشور ومصر وفارس، على مثل تلك الصورة البدائية الَّتي تقدَّم بها من قبل نظرية نمط الإنتاج الآسيوي، فهذه المجتمعات لم تكن بدائية، ولم تكن مُسخَّرة بأسرها لخدمة الحاكم المستبد وكهنة معبده، بل كانت على قدر أو آخر من النضج الحضاري، وخضع النشاط الاقتصادي داخلها لقوانين حركة الرأسمال الَّتي مثلت قاعدة التنظيم الاجتماعي/ السياسي السائد. 2- الاهتمام المركزي لنظرية نمط الإنتاج الآسيوي انصب، على هذا النحو، على وصف الخصائص الخارجية لمجتمعات الشرق القديم وشكل التنظيم السياسي، كالسلطة الاستبدادية والتدرج والثبات والخِراج الحكومي، وهي جميعها أمور لا تنتمي أبداً إلى العناصر الجوهرية لنمط الإنتاج. 3- بدراسة واقع النشاط الاقتصادي في البلدان الَّتي كانت تحت الحكم الإسلامي، على الأقل في الفترة من القرن الثامن حتى القرن الثاني عشر، سنجد أن هذه البلدان كانت خاضعة، مثل بلاد بابل وأشور ومصر، لقوانين حركة الرأسمال على الصعيد الاجتماعي، وشهدت نشاطاً اقتصادياً، مالياً ونقدياً وسلعياً، متطوراً. أما أن هذا النشاط كان يتم في مجتمع يحكمه خليفة رحيم يقيم العدل، أم وال مستبد ينهب البلاد والعباد، فهو أمر يتعلق بشكل النظام السياسي وخصائصه لا بنمط الإنتاج الخاضع لقوانين حركة الرأسمال على الصعيد الاجتماعي. 4- لا تفتقر نظرية نمط الإنتاج الآسيوي إلى القراءة الناقدة لتاريخ النشاط الاقتصادي فحسب، ولا تخلط فقط بين شكل التنظيم الاجتماعي/ السياسي وبين قوانين الحركة الحاكمة للنشاط الاقتصادي داخل هذا التنظيم الاجتماعي/ السياسي، إنما تتجاوز هذا وذاك إلى ارتباكها الداخلي أمام تصنيف نمط الإنتاج السائد في المجتمعات الشرقية في التاريخ القديم والتاريخ الوسيط. فهي لا ترى الرأسمالية إلا أوروبية الشكل والطابع، ولا تجرؤ أن تتصور وجود قوانين حركة الرأسمال في أي مكان في العالم قبل أوروبا! 5- وحينما تم رفض نمط الإنتاج الآسيوي، جاء الرفض منتصراً للمركزية الأوروبية ذاتها! فرفض نظرية نمط الإنتاج الآسيوي لدى التيارات الَّتي تحفظت عليه ورفضته صدر عن الاتخاذ من تاريخ التنظيم الاجتماعي في أوروبا مقياساً لأنماط الإنتاج في الأجزاء المختلفة من العالم. وبغض النظر عن الخلط الشائع والمزمن بين أشكال التنظيم الاجتماعي (عبودي/ إقطاعي/ برجوازي) وبين قوانين حركة الرأسمال الحاكمة للنشاط الاقتصادي في إطار هذه التنظيمات الاجتماعية/ السياسية، فقد اعتبر الاتجاه الرافض لنمط الإنتاج الآسيوي ظواهر هذا النمط محض أشكال نوعية متميزة داخل نفس الأنماط الثلاثة الَّتي عرفتها أوروبا بصفة خاصة نمط الإنتاج العبودي ونمط الإنتاج الإقطاعي. وبالتالي لا يصبح (نمط الإنتاج) السائد في مصر القديمة هو نمط الإنتاج الآسيوي إنما يصبح نمط الإنتاج العبودي! و(نمط الإنتاج) السائد في العالم الإسلامي في التاريخ الوسيط لا يصبح كذلك نمط الإنتاج الآسيوي إنما يصبح نمط الإنتاج الإقطاعي! هكذا صارت أوروبا وأشكال نظمها الاجتماعية والسياسية هي مقياس التعرف إلى نوع نمط الإنتاج (الَّذي هو نتيجة خلط بين شكل التنظيم الاجتماعي وبين قوانين حركة الرأسمال) السائد في الأجزاء الأخرى من العالم قديماً ووسيطاً وحديثاً! إن نظرية نمط الإنتاج الآسيوي على هذا النحو هي في جوهرها أحد تطبيقات المركزية الأوروبية، فهي تنطلق من مسلمات غير قابلة للمناقشة. ومن أهم هذه المسلمات أن الرأسمالية: - ترتكز على ظاهرتي بيع قوة العمل والإنتاج من أجل السوق؛ - أهم ما يميزها التطور غير المسبوق، في نظرهم، في قوى الإنتاج؛ - ظاهرة غير معروفة تاريخياً، ولم تنشأ إلا في غرب أوروبا؛ ومن غرب أوروبا انتقلت إلى باقي بلدان العالم الحديث. وبالتالي؛ وأمام هذه المسلمات القائمة مع الخلط بين شكل التنظيم وبين قوانين حركة الرأسمال، لا مفر من أحد أمرين: إما أن تُتخذ أوروبا مقياساً لتطور العالم بأسره، فتصبح النظم الاجتماعية الأوروبية أداة التعرف إلى نمط الإنتاج السائدة في باقي بلدان العالم القديم والوسيط والحديث والمعاصر! وإما البحث عن نظرية (تنفي الرأسمالية ذات المركزية الأوروبية عن العالم غير الأوروبي) تجعل النشاط الاقتصادي في العالم غير الأوروبي (غير المتحضر!) خاضعاً لنمط إنتاج آخر غير الأنماط ذات الخصوصية الأوروبية! والأمران، على نحو ما شرحنا أعلاه، ليسا من العلم في شيء! والأخطر هو أن نظرية نمط الإنتاج الآسيوي، وفي المقام الأول نظرية نمط الإنتاج بالشكل الَّذي قُدمت به، إنما تخفي الحقيقة التاريخية والعلمية الَّتي تؤكد خضوع جميع أشكال النظم الاجتماعية/ السياسية لقوانين حركة الرأسمال. --------------------------------------------- نقد الاقتصاد السياسي، الطبعة السادسة، الباب الثالث، الفصل السابع. http://arabprf.com/?p=1308&fbclid=IwAR0Klfkge7of_TbbrstKebjwW8A3gRLobxhEgpiWQKE23ZPKpfuxW4KNa9c
#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التاريخ العام للاقتصاد المصري
-
المركزية الأوروبية، ودورها في تشكيل الاقتصاد السياسي
-
تناقضات إنتاج أرباح الرأسمال
-
اقتصادات تنزف عرقاً
-
دور الزمن في تكوين القيمة
-
لقاء موقع حفريات
-
من علم الاقتصاد السياسي إلى فن التجريب الحدي
-
موجز في كتاب أحكام السوق للكناني الأندلسي
-
نقد الاقتصاد السياسي - الطبعة السادسة (المقدمة وروابط الكتاب
...
-
نقض مقياس القيمة
-
نقد الاقتصاد السياسي: مقدمة الطبعة السادسة
-
نقد نظرية ماركس في ثمن الإنتاج
-
مقال في القيمة النسبية
-
في الصراع الاجتماعي الراهن في السودان
-
في فكر آدم سميث
-
نقد الحضارة المنتجة للاقتصاد السياسي
-
ما الحياة؟ وما الهدف منها؟
-
لذلك تأخر ظهور العلم الاقتصادي
-
القيمة
-
الهيمنة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة للباحثة سحر مح
...
المزيد.....
-
في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً
...
-
مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن
...
-
مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة
...
-
ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا
...
-
كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة..
...
-
لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
-
صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا
...
-
العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط
...
-
الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|