|
الشَّمس
ضيا اسكندر
الحوار المتمدن-العدد: 6495 - 2020 / 2 / 20 - 13:30
المحور:
كتابات ساخرة
بعد مضيّ ما يقارب السنة على احتجازي لم أرَ الشمس خلالها أبداً، صار لديّ توقٌ شديدٌ لتلقّي أشعّتها والتنعّم بدفئها ولو لدقائق. قلتُ في سرّي سأُفضي بهذه الرغبة إلى السجّان، لربّما أتمكّن من مُرادي. وبدأتُ أستفتي ذاكرتي على من سيقع اختياري. قفز إلى ذهني مباشرةً السجّان أبو محمد؛ فهو أكثر السجّانين لطفاً بتعامله مع المعتقلين. ولمّا كان دور مناوبته (يوم دوام، يومان استراحة)، فقد قرّرتُ أن أغتنم مناوبته وأطلب منه أن يحقّق لي رغبتي، من خلال نقل أكياس الزّبالة الخاصة بالفرع وتفريغها بالحاوية في الخارج. والتي تبعد عنه حوالي ثلاثمائة متراً. كما علمتُ من رفاقي الذين يقومون بأعمال السخرة. وبالفعل، حين توزيع الطعام في ظهيرة يومٍ مشمسٍ، وأثناء مناوبة (أبو محمد)، قلت له بنبرةٍ تشبه الرجاء: - عمّ أبو محمد، سأطلب منك خدمة، وأملي وطيد ألاّ تردّني خائباً؛ لقد مضى على وجودي هنا أكثر من عام ولم ألمح الشمس. لقد باتت رؤيتها تمثّل بالنسبة لي أُمنية لا تُقاوم ولا تغيب. هلاّ ساعدتني في معانقة أشعّتها اليوم، بأن تختارني لنقل الزّبالة إلى الحاوية؟ التوى حاجبه الأيسر وظلَّ يفكّر لحظة، ثم فتح فجأةً عينيه الصغيرتين على سعتهما، وطفرت منهما نظرة حنان وقال: - تكرم عينك. حضّرْ حالك أنت وأحد رفاقك بعد الغداء. شكرته ممتنّاً على منحي هذا الامتياز النادر والذي لا يطاله إلاّ ذوي الحظوة. فتبسَّم وأغلق طاقة الزنزانة وانصرف. وافق على الفور أحد الرفاق بلهفة على اقتراحي بانضمامه إلى مشواري الترفيهي النوعي. وشرعْنا نعدُّ الثواني ونحن نتأهّب لملحمة اللقاء. إلى أن فتح السجّان باب الزنزانة وأشار بوجهه أن تعالا. بخفّة قطٍّ اندفعنا خارج الزنزانة وسبقنا السجّان إلى مستودع النفايات، حيث أكوام من الأكياس البلاستيكية السوداء المربوطة أفواهها بإحكام. حمل كلٌّ منّا عدّة أكياس ومشينا خلف السجّان إلى باب القبو الحديدي. وسرعان ما أدار المفتاح في القفل مرّتين، وسحب درفة الباب وطلب منّا الخروج ثم أعاد قفله. صعدنا الدرج ونحن بحالة من الاضطراب الممزوج بفرح مقابلة ضوء النهار. لدى بلوغنا الباب الرئيسي لفت انتباهي مجموعة من العناصر الأمنية بلباسهم المدني، وقد امتشق كل منهم بارودة روسيّة ينظرون إلينا بعبوس. بعد تجاوزنا باب الفرع بأمتارٍ قليلة سمعتُ صوت تلقيم سلاح. ارتعدتْ على إثرها فرائصي. وبنظرةٍ عَجْلى التفتُّ إلى الوراء، لأجِدَ أبا محمد وقد أشهر مسدّسه صوبنا. وكالمتهم البريء المحكوم عليه بالإعدام حملقتُ به متسائلاً بعَينين هلعتين عن الذنب الذي اقترفته!؟ فما كان منه إلاّ أن ابتسم قائلاً: «لا تقلق، إنه إجراءٌ احترازيٌّ إذا ما فكّرتما بالفِرار». ابتسمنا بدورنا وأفهمناه بأن هذا الموضوع لا يخطر على بالنا إطلاقاً. بعد أن هدأ وجيب قلبي، وهجعت المخاوف في داخلي، نظرتُ إلى السماء بمحبّة، وجاشت في صدري مشاعر الغبطة والحماس. «ياه، ما أجمل الدنيا!» قلت لرفيقي. ها هي الشمس ترسل أشعّتها بحنوّ إلى جسدي الهزيل. وتدغدغ عينيّ اللتين طفقتا تدمعان من الوهج الذي حُرِمْنا منه شهوراً طويلة. تولاّني سرورٌ وحشي وأنا أراقب الغيوم البيضاء المبعثرة وهي تمرح في الفضاء. وشعرتُ برغبة شديدة في البكاء. تساءلتُ بمرارة وأنا أغذّ السير باتجاه الحاوية التي غدت قريبة، والتي كنت أتمنى أن تكون بعيدة عنّي آلاف الأميال: «هل يُعقَل أن تُختزل أحلامنا إلى هذا الدرك؟!» على مقربة من الحاوية كان حمارٌ يحمل على ظهره خُرْجاً يقتات بقايا طعام. يهزّ ذيله بين الحين والآخر طارداً الذباب. يتدلّى من عنقه عدّة أجراس وبعض «الشراشيب» وخرزات الزّينة الملوّنة. وإلى جانبه رجلُ كهلٌ على زاوية فمه لفافة تبغٍ مطفأة، يرتدي ثياباً رثّة مُهَلْهَلة، ينبش بعصاه محتويات الحاوية. نهره السجّان بصوتٍ عالٍ أن يرحل حالاً. رمقه الرجل بنظرةٍ خاطفة. أشعل لفافته ببرود، وحمل كيس أشيائه، وتحدّث مع حماره بضع كلمات وغادرا بهدوء. قلتُ لرفيقي والأسى يلعثم لساني وأنا أتابع الرجل وحماره وهما يبتعدان بخطواتٍ وئيدة على وقع صوت الأجراس: «ليتني كنت ذاك الرجل البائس الحرّ، أو حتى ذلك الحمار المزيّن السعيد!».
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
«الكباش» الروسي التركي إلى أين؟
-
لكلّ حصان كبْوة!
-
براءَةُ الخصام
-
أُمْنِيّة استثنائيّة
-
«الأُمّ»
-
عزف منفرد
-
مَنْسَف لحم
-
في حَضْرَةِ الغياب
-
لماذا لم تُشكّل الحكومة الانتقالية في سورية؟
-
قَصْرُ المُحافِظ
-
من أين لك هذا؟!
-
البَدْلةُ الزرقاء
-
جُرْأة غير مسبوقة!
-
الصحفي والمسؤول
-
القلم
-
بين الفكر والسّلوك
-
الملعبُ البلديّ والسُّلُّمُ الخشبيّ
-
أوّلُ أجرٍ أتقاضاه
-
فأر الحقل
-
مع عدم الموافقة!
المزيد.....
-
رحيل عالمة روسية أمضت 30 عاما في دراسة المخطوطات العلمية الع
...
-
فيلم -الهواء- للمخرج أليكسي غيرمان يظفر بجائزة -النسر الذهبي
...
-
من المسرح للهجمات المسلحة ضد الإسرائيليين، من هو زكريا الزبي
...
-
اصدارات مركز مندلي لعام 2025م
-
مصر.. قرار عاجل من النيابة ضد نجل فنان شهير تسبب بمقتل شخص و
...
-
إنطلاق مهرجان فجر السينمائي بنسخته الـ43 + فيديو
-
مصر.. انتحار موظف في دار الأوبرا ورسالة غامضة عن -ظالمه- تثي
...
-
تمشريط تقليد معزز للتكافل يحافظ عليه الشباب في القرى الجزائر
...
-
تعقيدات الملكية الفكرية.. وريثا -تانتان- يحتجان على إتاحتها
...
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|