حينما كانت ادارة بوش تخطط لحربها على العراق كان المفتاح الرئيسي لتفكيرها هو ان الشعب العراقي سينتفض ضد صدام حسين و يرحب بالقوات الامريكية و البريطانية كمحررين. و هذا لم يحدث. احدى التفسيرات التي يقدمونها الان هو لان النظام شديد القمع و الوحشية لذا فان الشعب سيثور الا عندما يتاكد من نهاية النظام. هذا طبعا تفكير ملؤه الامل. الا ان الامور ابعد من ذلك.
ان الصمود الذي نراه هو ليس فقط عمل نظام يائس. فحقيقة ان النظام العراقي سائر الى هلاك و اضحة للجميع. و رغم ذلك فان الشعب العراقي لا يسعى الى الاطاحة به. اذ انه يرى ان العدو الرئيسي هو هذه الجيوش الامبريالية الغازية. و اخر شطحة على شاشات التلفزة هو انه لا توجد قوى مستعدة لمواجهة القوات الامريكية و البريطانية. و يبدو ان بغداد لا تملك اية خطوط دفاع. الا ان المراسلين الجديين على دراية بما تريده الحكومتان البريطانية و الامريكية اخفاؤه عنا.
وصف روبرت فيسك – الذي يكتب لجريدة الانديبندنت البريطانية – الوضع الحقيقي على الميدان في جنوب بغداد داعيا كل من لديه شك عن استعداد الجيش العراقي للدفاع عن المدينة ان يقطع الطريق الجنوبية الى خارج بغداد. ووصف فيسك الخنادق الممتدة اميالا و المسالك الدفاعية و المستودعات تحت الارض و المدفاعيات المخفية و فرق الجيش. و حسب رايه فانه لم يرى ابدا الجيش العراقي على مثل ذلك الاستعداد منذ الحرب العراقية-الايرانية 1980-1988. و يضيف ان الجيش العراقي اصبح بارعا في اساليب التخفي و لا يبدو عليه الوهن و الاستسلام. بل العكس. و يمضي قائلا ان الحرب تتجه نحو تحرر الوطني.
"قليل هم العراقيون – وحتى الوزراء في بغداد – الذين يشكون في قدرة الامريكان على احتلال العراق. اذ للامريكان القوة و العتاد لدحر اية مقاومة و حكم البلاد و فرض الاحكام العرفية. و لكن هل سيتمكنون من اخضاع العراقيين لحكمهم؟ ان لم تثر الجماهير كما يامل بوش و بلير فان هذه الحرب هي حرب تحرير وطني ضد تسلط امبريالي سافر." ( روبرت فيسك, الانديبندنت, 1 افريل 2003)
مهما تكن افكار الامريكان عن الشعب العراقي فاننا بامكاننا الاقرار بوضوح ان العراقيين على ادراك تام بطبيعة الامبريالية. كما ان لهم ذاكرة تاريخية طويلة. انهم واعين بان الامريكان و البريطانيين لم ياتوا لغزو ارضهم من اجل مبدا غامض يسمى الديمقراطية. بل قدموا لنهب موارد و ثروات العراق. و سيدفع الشعب العراقي ثمن ذلك. ان هذه المعارضة تعبر عن نفسها في شكل الاعتزاز و الشعور الوطني. كما انها تثير القومية العربية في كامل الشرق الاوسط و هذا منطقي جدا.
علينا ان نميز بين قومية الامم الامبريالية و قومية الامم الفقيرة المظهدة فقومية الاغنياء و الاقوياء هي تعبير عن المصالح الجشعة للطبقة الراسمالية التي تستغل شعوب العالم. اما قومية الشعوب الفقيرة و المستغلة هي تعبير عن معاداتهم للامبريالية و بالتالي تتضمن محتوى تقدميا.
ان للشعب العراقي ذاكرة طويلة
لقد استعمل صدام حسين الشعور القومي بشكل رجعي لاضطهاد الاقلية الكردية في الشمال و الشيعة في الجنوب الا ان الوضع اليوم يشهد تطورا مختلفا. ففي الحرب الحالية هناك اعتزاز قومي لدى الشعب العراقي و هو يرفض ان يكون ضحية ما يشبه الهيمنة الاستعمارية من قبل الولايات المتحدة الامريكية. و هذا يتاكد من خلال رد فعل الشيعة في هذه الحرب. اذ انهم لم يثوروا و لم يرحبوا بالغزاة و هو ما كان من المتوقع ان يحدث في البصرة اين يمثل الشيعة اغلبية السكان. في المقابل فان البصرة صامدة فالشيعة كذلك لا يريدون ان تهيمن عليهم قوة امبريالية.
لا تحتل امريكا و بريطانيا في الذاكرة التاريخية للشعب العراقي و الشعوب العربية عموما مكانة الاصدقاء و الديمقراطيين و انما كمضطهدين و مصاصي دماء. و هذا يعود الى زمن بعيد منذ ان تكون العراق.
لقد برز العراق كدولة اثر اعادة تقسيم العالم بعد الحرب العالمية الاولى. و قد تجاهلت حدود العراق الاقليات العرقية المتواجدة هناك مثلما وقع للعديد من الاقليات في المستعمرات السابقة. و هذا ما يفسر سبب ادماج جزء كبير من المنطقة الكردية ضمن حدود الدولة الجديدة. و بذلك قضى البريطانيون على اي امل في تكوين دولة مستقلة لهم. و لا يفوتنا الاشارة هنا ان الزعماء الاكراد اليوم من امثال الطالباني لديهم اوهام في الامبريالية. و كما حدث في الماضي فانه سيغدر بهم. فعندما بدا الاكراد في مقاومة مناورات الامبريالية البريطانية في ذلك الوقت ردت القوات البريطانية على كفاحهم مستعملة الغاز السام. و تم ادماج ثلاثة شعوب في شعب واحد باسم المصالح التجارية والاستراتيجية البريطانية. و هذه التكوينة ستكون مصدرا للنزاع في السنوات التالية.
انه من الغير الضروري العودة الى سنوات العشرينات من القرن العشرين لاستكشاف الاعيب الامبريالية الفضيعة ضد الشعوب المختلفة في العراق.
ففي الثمانينات قامت الامبريالية الغربية بدعم صدام حسين في حربه ضد ايران. و ذلك لان النظام الايراني كان يعتبر اكبر تهديد لمصالح الامبريالية في المنطقة. و خلال الحرب العراقية – الايرانية اقدم صدام حسين على استعمال الغاز ضد القوات الايرانية. و في اواخر تلك الحرب تم كذلك قتل خمسة الاف كرديا في حلبجة بنفس الطريقة. و كانت تعليقات رسمية صادرة عن الولايات المتحدة ترجح ان الايرانيين كانوا المسؤولون على ذلك! و نرى ان نفس الطريقة في انكار الحقيقة و المسؤولية عن الجرم تنتهج اليوم. فالصواريخ التي ضربت سوقا في بغداد "يمكن ان لا تكون صواريخا امريكية و انما صواريخ عراقية اخطات مرماها!" و اثر الهجوم على حلبجة باشهر قليلة تم استعمال الغاز مرة اخرى لقتل مائة الف كرديا في عملية اطلق عليها اسم عملية الانفال. و قد لعب دونالد رمسفيلد – وزير الدفاع الامريكي اليوم – و اعضاء اخرون في ادارة جورج بوش الحالية في ذلك الوقت دورا رئيسيا في التستر على تلك الجرائم بل و كذبوا عما كان يحدث. كذاك لم يكن لحكومة تاتشر اي حرج في منح صدام حسين بليون جنيها كدعم من بريطانيا.
ولم يتغير موقف الغرب من صدام حسين الا عندما قام بغزو الكويت سنة 1990. و ذلك لانه في الحاق الكويت بالعراق يكون صدام قد استحوذ على ما لا يقل عن 20 في المائة من مدخرات العالم من النفط. فلم تكن حرب الخليج للدفاع عن الكويت " الصغيرة المسكينة". وانما للدفاع عن المصالح الاقتصادية و الاستراتيجية للامبريالية في المنطقة.
خيانة سنة 1991
كل من لديه شك في ما سبق يكفي تذكر ما حدث الاكراد في الشمال و الشيعة في الجنوب. فلم تحرك القوات الامريكية على الحدود مع الكويت ساكنا عندما تحركت قوات الحرس الجمهوري لصدام حسين لسحق انتفاضة الجنوب. و لم ينس الشعب العراقي ذلك و سيلعب ما حدث وقتذاك دورا هاما في تشكيل موقفهم من الغزو الامريكي البريطاني اليوم. وهو ما يتجلى بوضوح في مدينة البصرة.
وكما اشار الجنرال عبد الامير عبيس مؤخرا: "لقد انتفضنا سنة 1991 لانه اعتقدنا ان نظنم صدام حسين قد انهار. و كان الامريكان قد وعدونا بالمساعدة و لكنهم لم يفعلوا. و عندما ارسل صدام حسين بسيارات مصفحة لسحق الشعب كانت الطائرات الامريكية تحلق من فوق. كانوا يشاهدون عمليات القتل تجري امامهم. ان الشعب العراقي لم يعد يثق في الامريكان". ( عمل الجنرال عبد الامير عبيس في الجيش العراقي وقاد الانتفاضة في الديوانية في جنوب العراق سنة 1991. و ما ذكر انفا ورد في مقال كتبه لمعهد الحرب و السلم –تقرير الازمة العراقية عدد 7 بتاريخ 27 مارس 2003 ).
ثم اتى الحصار المفروض العراق الذي امتد لاكثر من عقد. وهو حصارفرضته الضغوطات الامريكية و البريطانية داخل الامم المتحدة. و نتيجة لذلك تدنى مستوى الدخل في العراق الى عشر ما كان عليه خلال 1980 و يعيش ربع الاطفال العراقيين في جوع و مات اكثر من مليون شخص منذ بداية الحصار.
ان هذا التعامل مع الشعب العراقي يمثل اكثر من دليل على ان هذه الحرب لا علاقة لها بالارهاب او اسلحة الدمار الشامل. ان الشعب العراقي و مهمايكن موقفه من النظام يعلم ان النظام العراقي لا صلة له بشبكة القاعدة الارهابية. و من المعروف كذلك ان هذا النظام في نزاع مع الاصوليين. و من حقيقة الامور ان بن لادن نفسه يرغب في نهاية نظام صدام حسين.
ان قرار مهاجمة العراق لم يكن قد اتخذ بعد احداث 11 سبتمبر 2001. اذ انه من المتداول انه قرار كان قد طبخ في سنة 1997 عندما كان رمسفيلد و تشيني يعملان في ما يسمى ب"مشروع القرن الامريكي الجديد". و اولائك الذين وضعوا المشروع اغلبيتهم الان لعضاء في ادارة بوش. و الى جانب رمسفيلد و تشيني نجد بول وولفويتز و ريتشارد بيرل و ايليوت ابرامز و زلماي خليل زاد. و هذا الاخير كان المبعوث الخاص بالعراق و عمل ايضا في شركة يونيكال للنفط. و من اهم ركائز هذا المشروع هو السيطرة على مصادر النفط في الشرق الاوسط و يكون ذلك باحتلال العراق. و كان غزو الكويت من قبل العراق قد سمح لهم بتصوير نظام صدام حسين على انه "تهديد لامن المنطقة".
الا ان ضغوطهم على كلنتون لم تات بنتائج و بعد مضي بضعة اشهر على ادارة بوش شرعوا في اتخاذ خطوات من اخل تنفيذ مخططاتهم. و من خلال تجربة الاوبيك – منظمة الدول المصدرة للنفط – في السبعينات و صلوا الى خلاصة ان على الولايات المتحدة السيطرة على اكبر احتياط عالمي للنفط اي النفط الموجود في العربية السعودية و العراق و الامارات العربية المتحدة و الكويت. لذلك اعدوا حجة اسلحة الدمار الشامل و فجاة اصبح العراق تهديدا لامن الولايات المتحدة – وبريطانيا.
مستقبل العراق في ظل الهيمنة الامبريالية
وهكذا نرى ان سجل ماضي الامبريالية واضح جدا. كما ان مخططاتهم في رسم مستقبل العراق واضحة ايضا. وقد بينت ادارة بوش علنا ان ما سيلي الانتصار الامريكي-البريطاني في العراق لن يكون نظاما ديمقراطيا. و يسعى بلير من جهته الى طمانتنا ان العراق سيحكمه الشعب العراقي. الا ان بوش يخطط لفرض حاكم عسكري من المرجح ان يكون تومي فرانكس الذي يدير حاليا العمليات العسكرية في العراق.
نشرت جريدة الغارديان البريطانية بتاريخ 1 افريل 2003 مقالا جاء في مقدمته:" ان الولايات المتحدة بصدد وضع برنامج سري لفرض نظام في بغداد". و الحقيقة ان المخطط ليس سرا بما ان هذه المعلومة قد وقع تداولها منذ البداية الا انها تضيف جزئيات مهمة:" يتمثل المخطط في تشكيل حكومة من 23 وزارة يقود كل منها امريكيا. و سيكون لكل وزارة اربعة مستشارين يعينهم الامريكان. و ستبسط الحكومة سلطتها على مدن العراق الواحدة بعد الاخرى. و المناطق التي اعلنت "محررة " من طرف تومي فرانكس ستنتقل الى الحكومة الوقتية تحت السيطرة التامة لجاي غارنر الجنرال الامريكي الاسبق الذي سيقود الاحتلال العسكري للعراق." و يضيف التقرير انه " مع بداية انهيار النظام في بغداد فان اعضاء من هذه الحكومة الانتقالية سيكونوا قد وصلوا الى الكويت."
هذا يؤكد بدون ادنى شك انهم لن يسلموا حكم العراق للشعب العراقي. فعندما وصلت القوات الامريكية الى ام القصر رفعت العلم الامريكي على المستعمرين في القرنين الثامن و التاسع عشر. ان هذا ليبين النوايا الحقيقية للغزاة. و قد سحبوا رايتهم بسرعة عندما اشير لهم ان ذلك ليس ما يجب فعله. فذلك يعطي الشعب العراقي انطباعا ان الولايات المتحدة قدمت كمستعمر. بل و قد غيروا اسم مطار بغداد باسم امريكي! سيدرك العراقيون ما يحدث لبلدهم ما ان تتمكن الولايات المتحدة من السيطرة على البلاد.
ان الموقف الحقيقي جاء في تصريح احمد شلبي من ما يسمى بالمؤتمر الوطني العراقي. وهي منظمة لا تملك اي سند شعبي داخل العراق و تعتمد بالاساس على الدعم الغربي. و قد صرح شلبي هذا ان " الشركات الامريكية سيكون لها حصة كبرى من النفط العراقي..." اكانت مجرد صدفة اذا عندما اشار رمسفيلد ان شلبي هو الرجل الذي سيفرضونه على الشعب العراقي ما ان يقع الاطاحة بصدام حسين؟
ان المؤتمر الوطني العراقي سيكون المرشح المثالي للعب دور "الحكومة الديمقراطية" في العراق. و لكن على ما يبدو فان الولايات المتحدة لا تثق حتى في متزلفا مثل شلبي لذلك قررت فرض حكمها المباشر بواسطة امثال تومي فرانكس و صديقنا غارنر! و حتى المتملقون من المؤتمر الوطني العراقي الذين سيكونون على استعداد تام لخدمة مصالح الامبريالية – و بالطبع مقابل مكانة جيدة و اجرا سخيا – لا يرون اي حظ لهم في كسب مساندة الشعب العراقي لهم اذا ما اعتبروا انهم يدعمون الغزو الجاري للعراق و انما سينظر اليهم كمجرد متعاونين مع العدو الذي يدمر بلدهم.
و سيتطلب وقتا الى حد تمكن الامبرياليين من حكم العراق عن طريق عملاء ينوبونهم من امثال شلبي . و حتى و لو تم اقامة " حكومة الشعب العراقي" هذه فانها لن تعبر عن امال العراقيين و تطلعاتهم. ستكون نظاما يتحكم فيه الامبرياليين و سيعمل هؤلاء المتملقين في حدود المصالح الامبريالية و لن يكون باستطاعتهم تركيز دعم شعبي حقيقي.
حاكم عسكري
وهذا يفسر السبب في ان عراق ما بعد الحرب سيحكمه حاكم عسكري ممثلا في شخص الجنرال فرانكس. و الى جانبه سيكون ما يسمى ب " المنسق للادارة المدنية" و المرشح لهذا المنصب هم جاي غارنر – لواء امريكي متقاعد. وقد كان البنتاغون – وزارة الدفاع الامريكي – قد انشا مكتب اعادة البناء و المساعدة الانسانية الذي سيراسه غارنر بل و لقد انشا هذا المكتب قبل الشروع في تدمير العراق. و لغارنر هذا صلة وثيقة بدونالد رمسفيلد. فالاخير هو الذي منحه هذا المنصب!
ولبوش و زملاؤه رمسفيلد و تشيني و وولفويتز و اشباههم فلسفة واضحة جدا: نحن نقوم بتوفير القوات العسكرية و نصرف بلايين الدولارات لاحتلال العراق لهذا فان شركاتنا هي التي يجب ان تستفيد من هذه الحرب. و عندما نقول " شركاتنا " فانه في بعض الحالات نعني ذلك فعلا. فهاليبورتن مثلا هي مجمع امريكي ذو صلات قوية بالحزب الجمهوري و ديك تشيني نائب الرئيس الامريكي الحالي كان رئيسا سابقا لهذه الشركة.
ارباح ضخمة في الافق
بوسع هاليبورتن تحقيق امال كثيرة من الحرب. فبمقدورها بناء الطرقات و الجسور و حتى المعسكرات للجيش الامريكي. و حسب مايكل يوربن في البنك الالماني فان هاليبورتن و الشركات الاخرى التي ستدخل العراق ستححق ثلاثة بلايين من الدولارات ارباحا من خلال عملياتها هناك. وهو ما يفسر ايضا سبب ارتفاع اسهم هاليبورتن بعكس الوضعية العامة لسوق الاسهم. فمنذ بداية السنة ارتفعت قيمة اسهمها باكثر من 11 في المائة . و هنا يمكننا ان نتصور اليد القذرة الممسكة بمقص الرفعة في احدى المكاتب بالولايات المتحدة تجري ببرودة دم حسابات الارباح التي ستتحقق من الموت و الدمار اللاحق بالشعب العراقي.
وقد ضمنت شركة اخرى تابعة لهاليبورتن عقدا تتولى به اطفاء ابار النفط المشتعلة. و هاليبورتن - مع بتشتل التي لها ايضا صلات بالحزب الجمهوري – تم ادراجها ضمن قائمة الشركات الامريكية التي ستحضى بما يقدر ب 900 مليون دولارا من العقود لاعادة بناء العراق. من سيتولى تسليم هذه العقود؟ غارنر نفسه.
و من المفيد هنا ذكر نوع الشركات الامريكية التي تنفرد بهذه العقود. فقبل السيطرة التامة على ميناء ام القصر كان قد تم منح لستيفدورنغ سيرفيسيس اف امريكا Stevedoring Services of America - SSA- لادارة الميناء. وهذه هي نفس الشركة التي كانت في نزاع مرير السنة الفارطة مع الاتحاد العالمي للملاحة و الشحن-International Longshore and Warehouse Union- على السواحل الغربية للولايات المتحدة. و قد هرع جرج بوش لمساعدة SSA بفرضه لقرار تافت هاتلي Taft Hartley مجبرا عمال الرصيف على العودة الى العمل. والان يجد مساعدة اخرى بتمكنيه من عقود مربحة في العراق. و يظهر ان هذه الشركة لا تملك التجربة للعمل في مناطق تمزقها الحرب الا ان لديها تجربة في نوع اخر من الحرب: الحرب الطبقية. فبالنسبة اليهم الصراع ضد العمال في الولايات المتحدة او العمال في العراق ليس مختلفا اذ يرفضون الحقوق النقابية في كلا البلدين.
ويعني هذا وضع المجمع الصناعي الحربي الامريكي مسؤولا عن ادارة العراق. وهو ما يعني كذلك ان جميع العقود سيقع تسليمها الى شركات مقربة من بوش تقوم بمص عيش الشعب العراقي. و سيتم ذلك بشروعهم في خوصصة قطاع النفط لفائدة الشركات الامريكية بالاساس. وهذا ما يفسر حنق الفرنسيين و الروس بالخصوص. فهؤلاء هم الذين سيكونون اكثر الخاسرين. فالنزاع في الامم المتحدة لم يكن ابدا حول ما اذا كانت الحرب " عادلة " ام لا او ما شابه ذلك من المفاهيم.
لقد تمكن العراق في الماضي من بناء دولة لا يستهان بها " وفرت لشعبها خدمات كريمة ". هذا ما اقرته المجلة الرجعية الايكونوميست الصادرة في بريطانيا في عددها ل8 مارس 2003. و ما ان يضع الامبرياليون اياديهم القذرة على ثروات العراق لن يكون هناك مجال للحديث عن الخدمات الاجتماعية و مساعدات الدولة. فالمهمة الاولى ستكون زيادة ارباح البارونات الامريكيين. و بما ان العراق مفلس وعليه دين يتراوح بين 60 بليون و 140 بليون دولارا فانهم سيجعلون العراق يدفع بسخاء و ذلك عن طريق التصدير الهائل للراسمال الى خارج العراق.
وفي نفس السياق يوجد جانب مضحك للمسالة. فضراوة الامبرياليين الامريكيين تظهر جليا من خلال سلوكهم تجاه " حلفائهم " البريطانيين. ان تواصل سيكريتيرة التجارة البريطانية باتريسيا هويت الضغط على الحكومة الامريكية من اجل ان تسمح الاخيرة للشركات البريطانية المقيمة في بريطانيا من الحصول على حصة من الكعكة. و نتيجة لذلك تمكنوا من جعل بريطانيا يلعب مندوبا منسقا الى جانب غارنر. و بالرغم من ذلك يظهر ان الشركات البريطانية ستحصل الا على القليل من مجمل العملية. اذ تعتزم الاحتكارات الامريكية على الاستحواذ على اجمالي العقود. فهم اصحاب القرار و ما ينتظره البريطانيون هو الحصول على بعض الفتات. و سيحصل بلير على ما يستحقه الكلب المطيع مما يخلفه سيده من مائدة الطعام.
هذه الحقائق تبين ان هدفهم هو وضع نظام شبه مستعمر موال لهم في العراق و يكون قاعدة لهم يتسنى من خلالها السيطرة على كامل المنطقة. .. اذ لديهم مخططات لخوصصة قطاع النفط العراقي. و ما ان يتمكنوا من تغطية تكاليف الحرب و اعادة ضخ النفط العراقي بمستوياته الحقيقية سيكزن بمقدورهم تحديد مستويات الانتاج و الاسعار. و الهدف الرئيسي هو ان لا تكون هناك وضعية يوجد فيها الغرب تحت رحمة الدول المنتجة للنفط.
نهب امبريالي سافر
بعيدا ان تكون في صالح الشعب العراقي فان هذه العملية ستكون نهبا امبرياليا سافرا لثروات العراق النفطية. فكيف يمكن للعراقيين ان ياملوا تطورا حقيقيا لاقتصادهم؟ اهناكامل للشعب العراقي في ان توفر له ثروة البلاد نظاما تعليميا حديثا لابنائه و رعاية صحية جيدة و بصفة عامة كل ما يرتبط بالبنية التحتية الحديثة لمجتمع حضاري؟ لا نعتقد انه يوجد امل في ذلك. اذ سيتم القصف اولا فتدمر الطرق و المدارس و الصناعات ثم تاتي الاحتكارات الامريكية اتجني ارباحا هائلة من خلال " اعادة البناء " و ستدفع مصاريف ذلك عن طريق النفط العراقي.
لذلك نرى الشعب العراقي صامدا و يصارع الغزاة. فرمسفيلد يطالب باستسلام كامل الا ان الشعب العراقي لن يخضع بدون كفاح. انه واجب على كل اشتراكي حقيقي و على جميع العمال في العالم مساندة الشعب العراقي في كفاحه من اجل الاستقلال الوطني. و في الاخر من المرجح انتصار الالة الحربية الامريكية-البريطانية. و لكن سيكون ثمن ذلك باهضا و خاصة بالنسبة للشعب العراقي.
يقول الجنرال عبد الامير عبيس: " اعتقد ان الحلفاء سيتمكنون من التخلص من صدام حسين اذا كانت استراتيجيتهم القصف المتواصل لبغداد. و لكن ستكون كارثة اذا ما ارادوا دخول بغداد بالقوة. فانتفاضة 1991 دمرت ما يقارب 10 في المائة من البنية التحتية في الجنوب. و لنتخيل كيف سيكون الحال بتدمير بغداد سنة 2003.
الى حد الان قتل المئات من المدنيين العراقيين و الاف من الجنود. فالسيطرة على بغداد و البصرة و المدن الاخرى يتطلب الدخول في حرب الشوارع. و ستتكبد القوات الامريكية و البريطانية هي الاخرى خسائر كبيرة. هذه هي البربرية التي نبه لها كارل ماركس.
ثم ان المعاناة لن تنتهي بمجرد احتلال العراق. فالشعب العراقي سيواجه سنوات من المعاناة على يد الامبريالية الامريكية. و كجميع شعوب العالم فانه لن يقبل بالحكم الامبريالي و سيقاومه. و هذا ما يفسر امكانية بقاء مائة الف جندي على
الاقل – حسب خبراء البنتاغون- لمدة لا تقل عن سنتين.
تكاليف احتلال العراق
تقدر تكاليف تواجد 100 الف جندي في العراق ب25 بليون دولارا و هو ما يمثل الدخل السنوي العام للعراق. و تقدر التكاليف الجملية لاعادة البناء ب 100 بليون دولارا. فمن اين سيقع توفير هذه المبالغ؟ يجني العراق حاليا 15 بليون دولارا من صادراته النفطية و من اجل ان يبدا في تمويل برامجه التنموية سيحتاج العراق الى اكثر من ضعف مستوى صادراته الحالية من النفط. و لبلوغ ذلك فانه يحتاج الى استثمار 20 بليون دولارا اضافية و هو ما سيستغرق 10 سنوات. هذا بالطبع بدون اعتبار تكاليف خدمات الدين الذي عليه تسديدها و الذي سيستغرق عقودا في احسن الاحوال قبل ان يبدا العراقيون في رؤية تنمية و ازدهار اقتصادي حقيقي. بالاضافة الى ذلك فاذا ما وضعت الولايات المتحدة يدها على النفط العراقي فانها ستسعى الى زيادة الانتاج و خفض سعر النفط و هو ما يجعلنا نعيد الحسابات المذكورة اعلاه.
وهذا يعني ايضا انهم ينوون وضع الشعب العراقي في افس الوضعية التي يعيشها الفلسطينيون منذ 50 سنة. سيقع حرمانهم من حق تقرير المصير و سيحكمون من قبل جيش الاحتلال و يحكم عليهم بالعيش في الفقر و الحرمان لامد غير معروف.
وهكذا نرى استعدادا من الشعب العراقي للكفاح من اجل التحرر الوطني و سيستمر ذلك لسنوات. كما ان الامبريالية الامريكية هي بصدد نثر بذور نزاعات اوسع و هيمنتها على العراق ستخلق الظروف لترعرع الاصولية الاسلامية. و سيكون بامكان هؤلاء الاصوليين ان يستولوا على مشاعر الجماهير العراقية المعادية للامبريالية و تغيير وجهتها نحو مسار رجعي. ان " الحلفاء " يدعون ان هذه الحرب هي حرب على الارهاب و ما يفعلونه هو جعل الارض اكثر خصوبة لنمو الارهاب. لا بد ان يكون بن لادن الان سعيدا لذلك!
الماساة الان هو انه لا يوجد بديل عمالي حقيقي ليوجه هذه الحركة المعادية للامبريالية و يعطيها بعدا بروليتاريا. و يفسح هذا الفراغ المجال للاصولية الاسلامية لتنمو. و في الجانب الاخر في ايران يوجد شكل اخر من الاصولية الاسلامية منذ اكثر من عقدين. هناك لم يقع حل اية مشكلة من مشاكل الجماهير الايرانية. ففي الفترة الاخيرة شاهدنا حركة شبابية و طلابية بالخصوص معادية للملالي. ففي ايران يعاني العمال من حكم الملالي و بدؤوا في استخلاص العبر نما التاريخ.
و ما دام الشرق الاوسط خاضعا للهيمنة الراسمالية و الامبريالية فلن يكزن هناك حل للمشاكل التي تواجهها شعوب المنطقة. فالمنطقة غنية بثرواتها و لا يوجد اي داع يجعل هذه الشعوب تعيش الفقر و الخصاصة. ان المشكلة تكمن في ان الامبريالية و اعوانها الفاسدين في المنطقة يسيطرون على هذه الثروات. و لا يكون الخلاص الا بالاطاحة بهذه الانظمة الرجعية ووضع ثروات المنطقة تحت سيطرة و تصرف العمال في كامل الشرق الاوسط.
03 افريل 2003