|
الكتابة بصيغة المؤنث المشروخ قراءة في المجموعة القصصية أنين الماء للزهرة رميج للدكتور عبد النور ادريس
عبد النور إدريس
كاتب
(Abdennour Driss)
الحوار المتمدن-العدد: 6492 - 2020 / 2 / 14 - 19:28
المحور:
الادب والفن
1ـ تجاذب المرجعيات في السرد القصصي النسائي. إذا كان الإلتباس حاصلا في أن ما ينتجه القاص(ة) المغربي(ة) يمكث بعيدا عن الواقع والمجتمع، نجد أن القاصة المغربية تحاول في حكيها النظر إلى واقعها ومجتمعها انطلاقا من مرجعية عامة رهنت واقع النساء المغربيات، وما تزال تحدد تحركات القاصة، كما تحدد مفهوم التلقي للأدب النسائي، فالقاصة تُشْعِرُك بمعاناتها وهي تصف علاقتها الحميمية مع الأشياء:" فتشعر بلمسة المرأة الحنون من خلال الطريقة المميزة في الوصف، المملوءة بالسذاجة وعبق الجو العائلي أثناء الشرح، والقدرة الخاصة على المناورة، ربما يفسر لنا لغة الأحزان المستخدمة والقلق والبؤس ومعاناة النساء" (1) لقد حكت القاصة المغربية الزهرة رميج، فوظفت الصورة التي ينظر منها الرجل للمرأة واستدمجتها عبر التخييل القصصي، وهي نظرة ذاتية لهذا الواقع ولكنها تختزل الوعي النسائي العام اتجاه هذا الواقع الذكوري، فاستطاعت بذلك أن تبني بعدا تخييليا خاصا بها نجحت في أن تهز به ذاكرة المتلقي، وتخلخل اطمئنانه إلى القيم الذكورية الموروثة التي تشبَّع بها وتعصب لها دون وعي منه. ويكمن نجاح التخييل القصصي للزهرة رميج، في زعزعته قناعات المتلقي الذي لا يرى في المرأة سوى جسدا فاتنا يفيض إغراءا وشهوة، ففتحت المتخيل على عالم المرأة الداخلي من بيت ومطبخ وتجارب الحمل والوضع والرضاعة، وعلى علاقة الأم بأطفالها، فكان هاجس "أنين الماء" هو التوجه نحو الشأن العاطفي والداخلي للمرأة، وما اشتغالنا على مجموعة الزهرة رميج إلا مضاعفة الإهتمام النقدي الذي نتبناه والمشتغل على توظيف مقاربة النوع، على المستوى التطبيقي لاكتشاف البعد التخييلي واللاواعي في النص النسائي، من أجل الوصول إلى البؤرة التي تحدد هوية الأنثى داخل المنطق الذكوري العام، الذي يفرض عبر آليات رمزية ثبات هويته واستمرارية خطابه.
2ـ مرجعية الخطاب السردي عند الزهرة رميج إن التناول النقدي للكتابة القصصية يعد فعلا تأويليا محايثا للنص الأصلي، من حيث أن التعاطي مع الكتابة السردية بما هو فعل حكي، يفترض استحضار المنطلقات الفكرية والاجتماعية التي سبقت فعل الكتابة أو تزامنت معه، ولعل تناول المرجعية القصصية تناولا دلاليا يفترض منا الوقوف على مجمل النسق الفكري والأدبي واللغوي المحيط بالمبدع نظرا لما يشكله ذلك النسق من فضاءات للتدليل داخل النص، حيث يتم تدشين الخصوصية الدلالية والجمالية وتذويب تلك المسافة القائمة ما بين: أولا :المرجعية الاجتماعية للحكي . ثانيا: التقنيات التي تخطت فيها القصة القصيرة أطرها التقليدية وعملت على تقنية الاختزال، وانفتحت على تقنيات الحساسية الجديدة والمنولوج الداخلي، والحضور القوي للأحلام مع تداخل الأزمنة التي كسرت نمطية الحكي فتفتت معها الأحداث والشخصيات، وتجاوز اللغة المنتمية إلى ذاكرة التلقي التي تنتمي إلى آليات السرد الداخلي، والرؤية بعين الباطن والحدس، فحلت التفاصيل محل الشخصية واللغة الشعرية محل السرد المباشر، وتشظي المعاني محل وحدة الدلالة. ثالثا: فعل التخييل الذي يلقي بظلاله على مسافة النص التي نهلت من المرجعيات المجتمعية بكل ضروبها الاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والتي تؤثر بدورها على ما يمكن للذات أن تختزنه، وما يمكن أن تمنحه لمسافة المتخيل كمعطى قبل- نصي، عبر رؤية وتصور لا يمتلك فيهما الكاتب سوى الرؤية الخاصة التي يحققها النص، وتعتبر الذات الفاعلة من بين المعطيات الماقبل نصية التي يناط بها لوحدها تحديد فعل التخييل وتحقيق جدواه، وهي تنخرط في النص على المستوى الفني والأسلوبي، ويبقى أن الذات المبدعة تنتهج أسلوبها الخاص في التعامل مع اللغة عبر تفعيل نسق خاص من العلامات تمنحه الذات شرعيتها بحسب تجاوزها مركزية النسق اللغوي، لتأسيس الانسجام ما بين موضوع النص وما بين الأساليب الفنية المكونة لنسيج النص، ولو كان ذلك الانسجام بعيدا عن التحقق والحضور وقريبا من الانفلات المائز الذي تحققه اللغة الشعرية لتُبعد موضوع النص من مباشريته. ولئن شكلت العلاقة بين الذات والجنس الأدبي خصوصية ما يمكن أن يربط في علاقة وشيجة بين هذين المكونين، يبقى للبعد الاجتماعي للأنواع دورا منهجيا ومرجعيا يغطي على دور الذات المبدعة في تحقيق تلك الأنواع. ويعتبر الجنس الأدبي من بين المعطيات ما قبل نصية بالنسبة للمتلقي والناقد على حد سواء، وهو الأمر الثابت الحضور تقنيا وفنيا، لكن معطى الذات المبدعة لا يستسيغ السكون فهو يجدد إمكاناته التجريبية غير المحدودة باستمرار. والقاصة الزهرة رميج في مجموعتها " أنين الماء" استطاعت في عدة مرات أن ترسم لنا صورة عن المجتمع المغربي وفق هندسة سردية واضحة الخطوط والألوان، تتماشى مع الغاية من الحكي كحصول المتعة لدى المتلقي بالقصص التي تقدمها لنا الحياة بطرق عميقة في تباينها. كما نجد بين المجموعة مساحة شاسعة من الاشتغال على تقنية اٍلتقاط التفاصيل ومفارقات الحياة اليومية، ومحاولة تعرية غوامضها ليظهر أنه بالإمكان الإخلاص لقضية المرأة بين ثنايا عمل فني، سردي يرصد استلاب الأنثى ومصادرتها كهامش من طرف المركزية الذكورية، وبالتالي العمل على إخراجها من مُسْحَة الإغتراب ورومانسيته التي مست ذات الأنثى ومحيطها. ولقد صورت القاصة الزهرة رميج سيادة الفكرة في قصصها بشكل ملفت للنظر، في رؤية مجتمع النساء المغربيات، في صراعهن ضد الصور النمطية التي بناها المجتمع عن حيواتهن الإجتماعية، حيث كل شيء محفوظ في قارورة الذاكرة الإجتماعية العامة، وحيث تنعدم صفة أن تكون المرأة ذات خيال وقدرة على الابداع. لكن متعة التلقي التي تتركها قصص الزهرة رميج في نفسية المتلقي، هي الموقف الإنساني الذي تعبر عنه هذه المجموعة "أنين الماء" حيث ينخرط المتلقي في بنية الحكي ويستمتع بصورته الخاصة التي يكونها من خلال هذه القصص المتعددة السطوح، ومن الفرضية التي تتشكل بفعل القراءة، وخاصة بعد أن تنكشف خطة الحكي الأساسية التي تجمع بين الشخصيات والأحداث، هذه التقنية التي استطاعت القاصة أن تحدث بها علاقة وطيدة مابين التكثيف اللغوي وكثافة الأحداث والفكرة والموضوع حيث استطاعت أن تجعل من العالم المسرود وحدة كتابية قصيرة : unité d’écriture Petite . فإذا بحثنا عن مرجعية القصة القصيرة عند الزهرة رميج التي تستقي منها الكاتبة فرادة خطابها الذي يمنح المتلقي آليات فهمه، نجد أن علاقة القاصة بالمرجعية الإجتماعية تمنح المرجع النصي تشكله الشخصي كي يصبح مستقلا عن المرجعية ذاتها لكاتبه ولا يحيل في فهمه واستيعابه على ما يوجد خارجه. ولهذا نجد أن البناء السردي في قصص" أنين الماء" لا يدعو لتغيير المجتمع بالمفهوم الوعظي، بل ينسج ذاته انطلاقا من مرجعية ذاتية تحاول أن تجعل من تقنية السرد أفقا للمغايرة، والتي تجعل القصة مرجع ذاتها ولا تعكس إلا ذاتها. ففي قصص الزهرة رميج "أنين الماء"، نلمس ذلك الاهتمام بالحياة الإجتماعية وبأنماط سرد ينطلق من رؤية خاصة للقاصة تجعلها تتجه نحو الفرادة والتفرد، برصد علاقة السارد(ة) لديها، بحكي من وجهة نظر مؤنثة، تعتنق التفاصيل لتخيط منها عالما نسائيا يحتل فيه الجسد الأنثوي دليلا لتحرك الذات، بالرغم من أن جل قصص "أنين الماء" لا يمكن اختزالها في الإستيهامات الجسدية التي يتلقاها القارئ وترتسم في ذهنه. إن القصة سرد لأحداث منظمة في زمنها وزمن وقوعها كما يقول فورستر، وهي كذلك كذبة يتفق على صدقها القاص والمتلقي حسب تعبير أنطوان تشيكوف، هذه الكذبة السردية التي لا تخلو عند الزهرة رميج من نقل وقائع اجتماعية فيها الكثير من الحقيقة والنزوع المتنامي للمساءلة والبحث في الهوية والذات والمجتمع، وهي كلها أسئلة نستطيع الآن أن نقارب بها القصة النسائية المغربية القصيرة، وأن يكون النقد الجندري المعتمد على مقاربة النوع منتجا للدلالة العميقة التي يزخر بها الأدب القصصي النسائي، ويجعل الخلفية الإجتماعية ذات علاقة بمستويات النص القصصي فكريا وفنيا ووجدانيا. وبالتالي علاقة النص بالتحولات الممكنة في المرجعيات المتوقعة والمتخيلة للمتلقي وخاصة التطور اللغوي للمفاهيم والسياقات.
3- تأنيث النص في قصة "المرآة المشروخة". تحقق المجموعة القصصية "أنين الماء" وعيا عاما بالكتابة التي تتوج كل النصوص، وهو نفس الوعي الذي يتحقق مع الأنوثة في إطار وعيها بذاتها، ولم تكن اللغة في المجموعة إلا وسيلة أعلنت فيها الكاتبة الاختلاف بصيغة الأنوثة المفردة التي استعادت هويتها داخل النص، وأصبحت قادرة إثر ذلك على اقتحام الطابوهات، فشكل بذلك منطق الإختلاف جوهر قصة المرأة المشروخة تقول الساردة: "إن التناقض هو أساس توازن الكون والحياة"(أنين الماء، ص: 19). فبالرغم من أن الدكتور بطل القصة يعيش حالته الثقافية والاجتماعية المتميزة إلا أن تصوره للمرأة لا يبتعد كثيرا عن تصور أبيه، وهي صورة امرأة تقليدية منحوتة في لا وعيه، استنسخها من تمثلات أبيه وصبها في قالب حياته الزوجية التي تتسم ب "التوازن"، من حيث ارتباطه بزوجته المثقفة والمتعلمة. وتسكن الصورة الشبقية للأنثى المكتنزة عالم الدكتور لتحدد مفهوم الجمال عند الذكر المغربي، بما أن الجسد الأنثوي في مظهريته كما رسمه النسق هو المحدد الأساس المبلور الذي وعاه النسق العربي واستيقظ إثره الأدب العربي مادحا ومروجا، تقول الساردة على لسان الدكتور: "بل إنكِ الأجمل إذا كنت تلمحين إلى الكلف في وجهك فقد جئتك من باريس بأغلى الكريمات، كما اتفقت مع صديقي الدكتور على إزالة الوشم من ذقنك، أما الرشاقة فما هي إلا مظهر من مظاهر النهار الزائفة ! آه. ما أحلى السمنة في الليل !وهل يستوي النوم فوق الحرير والنوم فوق الحصير؟ ! "(أنين الماء، ص: 18). وتشع تلك العلاقة الحميمية بين بطل قصة " المرآة المشروخة" والصورة النمطية للمرأة التي ورثها عن أبيه، في صورة تختزل المرأة في آلة جنسية لإشباع رغبة الرجل، حيث ورث عقد نفسية عن أبيه وهي مشروطة بشرط ذكري ينتقل من الأب إلى الإبن عبر تربية مدعمة من طرف المجتمع الأبوي تقول القصة : "عندما بلغت العاشرة من عمري، أصبح والدي يأخذني معه إلى الأعراس والحفلات الخاصة.كان مولعا بالنساء وخاصة الشيخات، كنت ابهر به وهو يعلق الأوراق النقدية على الصدور وأحزمة الراقصات وهن يتهافتن عليه، وخاصة أصغرهن التي كانت كلما انتهت من الرقص جلست إلى جانبه تقارعه الخمر وتداعبه ويداعبها. كنت أتمنى آنذاك أن أكبر بسرعة حتى أكون مثل أبي محط إعجاب النساء ! عندما رأيتك ليلة زفافي انتابني نفس الاحساس ! خجلت من نفسي. أحسست بالذنب وأنا أجلس بجوار رفيقتي التي قضيت معها أكثر من أربع سنوات في الجامعة." (أنين الماء، ص: 17-18) ولقد تم تدعيم هذه العلاقة بكون المرأة التقليدية أصبحت من آليات تفكيك منظومة المساواة بين الرجل والمرأة ويتجلى ذلك في انتكاسة مفهوم المساواة الذي يقود إلى التفاضل بهذه القصة بين زوجة الدكتور المتعلمة وبين فطومة، ويتجلى ذلك في حرص الدكتور على أن تلبس فطومة القفطان والتكشيطة يقول : "هذه الثياب أريدك أن تخيطيها كلها قفاطين وتكاشيط.أريد أن أراك كل مرة في حلة جديدة " (أنين الماء،ص:17 )، وتسرد فطومة مدى تشبث الدكتور بهذا النمط من الملابس التقليدية وثورته على لباسها العصري حيث ثار الدكتور دفاعا عن ذوقه تقول الساردة : "تذكرت المرة الوحيدة التي حاولتْ فيها مفاجأته باستقباله في لباس عصري علها ترقى إلى مستوى زوجته، فثار في وجهها وأمرها بإزالته والعودة إلى لباسها التقليدي" (أنين الماء،ص:17 ).ويظهر هنا أن صورة المرأة المنحوتة في لا وعي الطفل-الدكتور لم يستطع لا العلم ولا الثقافة أن يغيرها، وحضرت بقوة في هذه القصة صورة المرأة الجارية التي تلازم مخدعها متحلية بأحلى الزينة متبرجة في سلوكياتها في انتظار عشيقها المُحمَّل بالهدايا الثمينة والجديدة :" كانت فطومة في كامل أناقتها، تلبس التكشيطة التي خاطتها لهذه المناسبة. تضع فوق وجهها ألوانا صارخة يتلألأ الذهب تحت الأضواء الساطعة من قمة رأسها إلى خصرها حتى بدت كشجرة الميلاد المزينة بهدايا بابا نويل، مع فارق بسيط هو أن تلك الهدايا قديمة وأن أغصانها ستزدان هذه الليلة بهدايا جديدة" (أنين الماء،ص:17 ) . إن المجتمع الحامل للموروث الثقافي الذكوري التي رمزت له قصة مرآة مشروخة بالأب، مايزال من بين الإطارات التي تحكم نظرة الرجل للمرأة ونظرته لجسدها، من حيث كون هذه النظرة تعتبر استمرارا لذاكرة جماعية، جعلت المرأة تمشي نحو عبوديتها واستلابها بالرغم من الحضور القوي لجسدها الذي لم يستطع أن يجعلها فاعلة، وتتمكن بواسطته من الانعتاق من قبضة هذا الموروث الثقافي والاجتماعي، فحيث أصبحت الصورة النمطية للمرأة التقليدية في هذه القصة هي البطل الحقيقي في النص نرى أن الذات الأنثوية أصبحت مجرد حِلية داخل النص تمنح الرجل فاعلية الحضور داخل النص وخارجه، وجعلت المرأة مجرد مادة من مواد هذا الحضور، إلا أن الأسئلة التي طرحتها فطومة على الدكتور تجعل من هذه الأسئلة بطلا حقيقيا يؤكد وعي المرأة لإستعادة أنوثتها الضائعة، حيث يتحول الخطاب إلى خطاب مواقع، يتحول فيه الرجل من موقع فاعلية السؤال إلى موقع مفعولية الإجابة، تقول فطومة :" – هناك أسئلة تحيرني ولا أجرؤ على طرحها عليك.. - اطرحي ما تشائين من الأسئلة. فأنت تعلمين أن صدري يتسع لكل ما يأتي منك. - لماذا تصر على أن لا ألبس إلا القفطان والتكشيطة؟ ولماذا تخون زوجتك وهي متعلمة مثلك؟"(أنين الماء،ص:17 ). لقد أطلقت فطومة عنان الأسئلة المتعددة، فامتلكت ناصية الخطاب ولم تأت أجوبة الدكتور على أسئلتها إلا متبرمة، متشبثة بالخطاب الذكوري الموروث وهيمنته، فبدا أن هذا الخطاب هو العقبة الأولى التي على المرأة أن تجتازها لتحقيق شرطها الوجودي العادل، فهي هنا عندما سألت فضحت وعرت المنطق الذكوري المنبني على الاستمتاع بجسد المرأة الذي تمت تعريته من امكانياته ونوازعه العاطفية، يقول الدكتور :" يجب على الرجال الأذكياء جدا أن لا يتزوجوا إلا النساء الغبيات البدائيات" (أنين الماء، ص: 19). لكن فطومة هنا ومع تكرار أسئلتها وتساؤلاتها مسحت غبار الغباء عن الجنس الأنثوي، فأبانت أنها تعمل على تسويق أنوثتها عن وعي انطلاقا من العامل الصناعي في تمثلاتها وحركاتها،"ظلت فطومة فاغرة فاها من الدهشة. حاولت عبثا مسايرته.تأكدت أن الخمرة أفقدته صوابه، فقالت في نفسها: " ها قد أصبحت الفرصة مواتية لأطلب ما أريد" !" (أنين الماء،ص:20 )، فإحساس المرأة بأنها مغرية وجذابة ليس محركا لتسليع المرأة لجسدها بقدر ما هو حقيقة أزلية وعتها المرأة منذ الأزل وتجلت واضحة في ملحمة كولكامش (2) حيث مارست المرأة الإغراء على " أنكيدو" فانتقل من الصفة الحيوانية إلى العمق الإنساني، فأصبح الجنس يقابله الفهم والفطنة والحضارة. إن السلطة التي يمنحها الجسد للمرأة "الإيروتيكلية" التي تُقايض جسدها، تمكنها من امتلاك القدرة على الإغراء الذي تقيس به وضعها الاجتماعي وهي غير مستعدة أن تترك هذا المكون جانبا في صراعها الثنائي مع الشريك الشيء الذي من دونه يفقدها قيمتها تقول جان نوفيل Jean nouvel: " فهي تستعمل هذه السلطة لفرض وجهة نظرها واختياراتها، فهي لا تتطرق بصراحة للمشاكل كما تفعل في نقاشاتها الحميمية الخاصة، لكنها تحاول أن تؤثر نفسيا في شريكها أو تفرض، عند حاجتها لذلك، علاقة قوة للوصول إلى رغباتها" (3)، إن هذا التسويق الخاص لجسد المرأة التقليدية والفقيرة، وفي علاقة ثنائية مع شريك واحد، أكان زوجا أوعشيقا، هو رأسمالها الوحيد للحصول على وسائل الانتاج وتأمين المستقبل، هو وضع تشترك فيه الزوجة والباغية. إن هذا الموقف الذي ينشأ عنه موقف الجارية عند المرأة، يدعى تحت مبدأ الاحتباس، بالظاهرة الإيروتيكلية le phénomène éroticien هو موقف تمارسه الزوجات والشريكات داخل بيوتهن، حيث تتمدد فيها نمطية الأنثى في وقت نعيش حضارة جديدة تقوم على تسليع الجنس، ضدا على التطور التاريخي لقضية المرأة حيث يتم عرض الجسد الأنثوي والإعجاب به والخوف منه والإساءة إليه والغيرة عليه وتقديسه، وكلها عوارض تطرأ على الجسد وتدخله في دائرة النجس، وفي نفس الآن يتمتع بأهمية بالغة التعقيد لما يحيط به من هالة وطقوس يرتبط المساس به بطابو الأسرة أو القبيلة، ويحاط بانتهاكه عدة محاذير من بينها عقوبة القتل غسلا للعار. استطاعت فطومة أن تبتدع لغة خاصة، جعلت الجسد الأنثوي من بين التقنيات التي تعبر بها عن نفسها، فبصمت بطريقتها على العلاقة التي تربطها بالدكتور، بعد أن تواجدت في السابق كجسد سالب تمارس الدعارة داخل الخطاب العام، تقول:" ...فأنت تعلم أني كنت أحصل على أضعاف هذا المبلغ في الليلة الواحدة لا في الشهر ! ازداد غضبه فقال بلهجته الحادة: - ألم أقل لك لا تذكريني بالماضي؟ كم تريدين؟ ألفين؟ ثلاثة آلاف؟ قالت وهي تخفي ابتسامة الرضى التي تكاد تظهر على وجهها: - ولو أن هذا المبلغ، يا حبيبي، لا يساوي شيئا أمام ثروتك..."(أنين الماء، ص: 21). فالقاصة هنا تقر بفعل التغيير الذي تمر منه فطومة، فحاولت أن تؤنث النص وتعمل على تصحيح الأوضاع الاجتماعية المختلة على مستوى التخييل، بالرغم من أن فطومة استنزفت على مستوى الواقع لعبة الأنثوي، خاصة عندما شعرت بأنها لا تملك سوى جسدها فعملت على توظيفه، واستعملت جسدها في العديد من المرات لتحريك غفوة المنطق الذكوري وزلزلت مسلماته، فهي ما إن تقول "لا" حتى تنخرط " نعم"، في الرقص، فهي تعلن مرارا رفضها لنمطيتها وتنميطها لكنها لا تستطيع أن تخترق شرط وجودها، فهي تقول "نعم" في الوقت الذي تعلن فيه "لا" وتقترب من الصورة المسكوكة التي بُنيت لها في الوقت الذي ترغب في الابتعاد عنها وخلق بديل لها، لكن سرعان ما يعيد الدكتور هذه الكتابة إلى نقطة التمركز الذكوري، حيث أصبح أسير ذاكرته وعبد عقده التي ورثها عن أبيه [المجتمع] يقول: " غيِّري هذا الموضوع أرجوك، ودعينا نستمتع بهذه اللحظة. قام يترنح ليضع شريطا غنائيا في الآلة المسجلة وطلب منها أن ترقص له. لفت مؤخرتها بمنديل حريري من المناديل التي أحضرها، وأزالت المشبك لينساب الشعر الكستنائي فوق ظهرها. بدأ الجسد المكتنز يتحرك بكل خفة والأرداف تهتز أمامه، والبطن يعلو وينخفض في حركات أثارت غريزته" (أنين الماء،ص:21 ). فالمرأة هنا في قصة "المرآة المشروخة" ما تزال ترتكن إلى اللغة كي تمارس فيها ثورتها وتعبر عن احتجاجها، ولا يسع فطومة إلا أن تتمنى أن تكون زوجة شرعية للدكتور لأنه نموذج للرجل الذي يفتتن بالجسد الأنثوي وينخرط في تقديسه، وهي قد أتقنت فن الاعتناء بهذه الصورة وتناقلتها عبر أجيال من النساء اللواتي استطعن أن يضعن الرجل تحت سيطرتهن، ففطومة في هذه القصة تهيمن على النص وتعمل على ترسيخ آليات كتابة جديدة تنخرط في تدعيم سلطة الجسد الأنثوي، فاتضح أن كتابتها عبر اللغة تجعلها نصا يقطن خارج الذات، أطلقت فيه سراح الذات من مملكة الفحولة التاريخية، وبذلك لمست بهذا الخطاب وعيا حقيقيا بخطاب الهيمنة الذكورية المنبني على المراوغة وتزييف الوعي . وقد اختارت القاصة اسم "فطومة" الذي تجلى في النص، كإسم تقليدي، باعتباره مفتاحا سحريا للعلاقة التي تربط الدكتور بالبطلة، فيما تنقلنا هذه العلاقة من أشكال الاعتراف بالأنثى التي تتقن فن الغواية، إلى أشكال الاحالة المعطاة التي تمنحنا إياها خلفية الاعتماد على نمطية الاسم التقليدي، وكأن خطاب الوعي حول المرأة داخل القصة يتم اختزاله في هذا الإسم، نظرا لدلالته القوية على واقعية كيان المرأة الاجتماعي، وقد لعبت تقنية التسمية وظيفة دلالية في النص تحيل على الوصف الخارجي للبطلة عوض التركيز على جمالية الوجه كمدخل رئيسي للعشق، ففطومة تغدو امرأة جميلة بامتياز، جسدا ملفوفا في التكشيطة والقفطان، وبذلك يحيلنا اسم"فطومة" إلى شفرة تضعنا في مواجهة البناء التقليدي للمجتمع، الشيء الذي يدل على أن الوضعية العشقية لبطلة القصة تكمن بالأساس في أن هذه التجربة تحوز على صفة الهامش في مؤسسة العشق، ولهذا نجد القاصة تعطي لمهمة المتخيل وظيفة أساسية تتجلى أولا في توظيفها من أجل إقناع الآخر كمتلقي، وفي تعرية الواقع رغبة في نفيه وإعادة تشكيله وفق مقتضيات جديدة ومغايرة، ويتبين أن الأثر المنتظر عند الزهرة رميج يكمن في تعميق الهوة بقضية المرأة بين الكتابة التقليدية للجسد الأنثوي والانفتاح على كتابة تخلو من يوتوبيا الجسد، لهذا يلجأ النص إلى الخرق الجزئي للطابو والموروث الثقافي، وتتبع الساردة بذلك استراتيجية سردية للحفر في الجذور المتخيلة في الذهنية العربية، ترتكز في ذلك على تقنية ما يُعرف بالسخرية المقامية التي يتم فيها الوصف بصورة حرفية لوضعية مرجعية يتم إدراكها كوضعية ساخرة نظرا لإحتوائها على التناقض الداخلي، إذ السخرية لا يمكن تعريفها دون حصول التناقض بين ما يقوله السرد وما يُبلِّغ به، وهو الشيء الذي أعطى للقب فطومة نشاطا تأويليا مزدوج الدلالة حيث تحول الاسم إلى رمز فحولت معه دلالة التسمية إلى فكرة ثم إلى صورة فجاء اسم (فطومة) للتدليل على تقليدية المرأة التي فرض عليها الدكتور " الاقامة الجبرية" باعتبارها "ربة الخدر"، ومع انخراطها عند نهاية القصة في الاستجابة لرغبة الدكتور في الرقص، تبين أن ما حاولت كاتبة النص أن تكشفه وتثيره تم إلغاؤه من طرف الذاكرة الموشومة، فثبت أن "الكتابة بالمؤنث" في هذا النص هي البطل الرئيسي، ففطومة هنا امتلكت الأسئلة وأصبحت ذاتا نصية تُبادل لغة الرجل بلغة مؤنثة ذهب بها الخط المنحني نحو مقايضة اللغة بالجسد ومقايضة الجسد بالمال، ففطومة هنا جسد فاتن بأسئلة كبيرة، أنثى تلبس قفطانا يلتصق بالجسد ونص يحتوي على أسئلة فائرة سرعان ما تذوب توحُّدا مع خطاب الرجل ونصه المضمر المخاتل. بينما طرحت هنا زوجة الدكتور كجسد عاقل بأسئلة فضفاضة على المستوى الاجتماعي. إن حضور القاصة في النص ووعيها بالكتابة جعلها تبني لاوعي النص على امكانية استعادة الأنثى أسس الخطاب من الرجل، وشكلت من هذا المبدأ تحولا جذريا في الخطاب بحيث غيرت تموقعات كل من المرأة والرجل، فاحتل الرجل موقع الجواب بدل السؤال. وبذلك ألحت القاصة على تغيير مشهدية العلاقة بين الرجل والمرأة انطلاقا من اعتبارات تخالف وتعاكس الصورة النمطية التي جعلت المرأة عبدة الرجل وأسيرة أهوائه، فهي لمّا تسترد محاسنها وتمتلك جسدها وأقاليمه، تنتفض ضد المحو وتبتعد أن تكون كتابة أنثوية دون نص تمتلك فيها الأنثى اللغة والخطاب، وبذلك تؤسس لإلغاء الثنائية الفكرية داخل الذات. إن العالم القصصي والفني لمجموعة "أنين الماء" في شكله وفي كتابته، يشيع في مفهوم جنس القصة، الإستغراق في التفاصيل التي لا تستطيع إلا القاصة زهرة رميج أن تلتقطها، وهي تعتبر من مجموع الآليات التي تساعد عالم النساء على التبلور. فبالرغم من خطية المكونات المرجعية التي تحيط بعملية الحكي والتفسير، تفتح نصوص مجموعة أنين الماء آفاقها لعملية التأويل والتفسير، دون استدعائها لقارئ نموذجي يستطيع وحده فك استراتيجية ولذة النص الأنثوي، فتصبح وظيفة اللغة مع الزهرة رميج وظيفة تواصلية يمكن معها تصور واستحضار الفعل السردي.
الهوامش والمراجع - بيجوم حسنة،" النساء في العالم النامي أفكار وأهداف" ترجمة منى قطان، المشروع القومي للترجمة 110، المجلس الأعلى للثقافة، سنة 1999، ص: 32. 2 - تقول الملحمة: "وأنبئ جلجامش عن بأس هذا الرجل وليعطيك بغيا تصحبها معك ودعها تغلبه وتروضه وحينما يأتي ليسقي الحيوان من مورد الماء دعها تخلع ثيابها وتكشف عن مفاتن جسمها فإذا رآها فانه سينجذب إليها وعندئذ ستنكره حيواناته التي شبت معه في البرية" (...) أضحى انكيدو خائر القوى لا يستطيع أن يعدو كما كان يفعل من قبل ولكنه صار فطنا واسع الحس والفهم". * باقر طه " ملحمة كلكامش" ص: 40 و 41 . 3 - Jean nouvel , « La commercialisation privée de la femme ou de l’artifice féminin » édition demain , 1987 , p : 16.
#عبد_النور_إدريس (هاشتاغ)
Abdennour_Driss#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التجسيد المثالي للمرأة في شعرية اللغة العربية للدكتور ادريس
...
-
صعقة الملائكة
-
نظرية الاستراتيجيات الفردية بين الميكانيزمات العامة والخاصة
-
غرفة فرويد
-
الإشهار وآليات اشتغاله: وما يزال الحصان يصهل النساء
-
جمجمة السيد إيغود
-
حرية قصة قصيرة جدا
-
حوار مع الدكتور نور الدين أمزيان المنسق الوطني للتنسيقية الو
...
-
أنخاب باخوص أو معلقة إفران
-
مهرجان بيت الأدب المغربي الثاني للأدب والثقافة بمدينة الدروة
...
-
جماعة الممارسات المهنية” المشور” بمكناس و بيت الأدب المغربي
...
-
أميرة البنفسج .. شعر ادريس عبد النور
-
القصة القصيرة المغربية من النشأة إلى التفرد
-
الباحث عبد النور ادريس يصدر كتابه الجديد في التكنولوجيا الإد
...
-
المهرجان الوطني الأول للثقافة والأدب بمدينة الدروة اقليم برش
...
-
القصة القصيرة المغربية من النشأة إلى التفرد حتى بصمة المؤنث
-
الوعي بالكتابة في الخطاب النسائي
-
الكتابة النسائية بين النسق الثقافي والجسد المؤنث
-
الخطاب القصصي عند الزهرة رميج
-
إفران وأنخاب باخوص ( تابع النخب الرابع)
المزيد.....
-
-بندقية أبي-.. نضال وهوية عبر أجيال
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|