ياسر اسكيف
الحوار المتمدن-العدد: 1571 - 2006 / 6 / 4 - 08:17
المحور:
الادب والفن
أي مطر ٍ ذاك الذي قد تتملكنا الرغبة في إذلاله ! ؟ وقد تآلفنا مع الحياة على أن المطر مصدر مسرّة ومتعة وخير ! ؟
من هذا المطر الشخصي الذي ( يطفيء النجوم بحذائه )سألج إلى نص ( كراكيب الكلام ) الذي هو في الحقيقة كلام الشاعرة ( سوزان عليوان ) بعد أن تخلص من كراكيبه , وبات واثق الخطوة في تعثره الذي يوقظ الاحتمالات بما يثيره من القلق في العودة إلى بدء يختلف باختلاف المركز الذي تحتله الذات مدفوعة برغبتها في التكيّف مع الموقع الأقل إيلاما , ً وينكأ الدلالات بحرارة البوح الذي ينتحل , دون قصد , مرارة ما يريد الصراخ إيصاله .
بلوحتها ( شارع المطر ) , التي توضعت في الصفحة الأولى للغلاف , تقود سوزان قارئها إلى مصيدة يتعرّف فيها على كائن يقود قطيع آلامه , التي أنبتها المطر , في برار ٍ لا تنتهي من الوحل . في الوقت الذي يخالج القاريء الظن بأنه على بوابة مدينة ألعاب ٍ , أو أنه على وعد بأن يكتشف بعضا ً من الكون بمنظار الطفولة , في مساحة شعرية تنتجها حساسية الطفولة بمجاراة غير متكافئة مع بلاغة الحياة ورطانتها .
ولن يسوء القاريء , كما أظن , مبدأ المصيدة , بقدر ما سيسوؤه الوحل والحشرجة .
ومن سيعود إلى الغلاف ثانية , بعد الانتهاء من القراءة , سينسى أمر المصيدة تماما ً وسوف ينتبه فقط إلى صندوقين أسودين , أحدهما ضمّ ( كراكيب الكلام ) الذاهبة إلى غيبها , والآخر ضمّ ( سوزان عليوان ) ساكنة نعشا ً صغيرا يتخذ من الحيرة وضعية بين السقوط , كمجاراة للجاذبية , والارتفاع , كمعاندة وتحدّ لها .
المطر والجوّ الماطر , مفردة وحالة طاغيتان . وفي تقابل معهما , الكتابة والوحل . بل يسعني القول . الكتابة بالوحل . حيث ما من أفعال معتادة للمطر, كما تكرّست قاموسيا ً ووجدانيا ً . وما من ردود أفعال أو نتائج تساير ذلك الاعتياد .
يأتي المطر في ( كراكيب الكلام ) كمصدر للأوجاع والمرارة وممارسة الكيد , إذ يحضر متخلصا ً من كلّ محمولاته الدلالية , محتفظاً ببعده الفيزيائي , وبما يثيره هذا البعد في الذات من ردّ فعل لحظي يشكّل صِفر التجربة كآن وليس كعلامة رياضية .
بالسؤال , وإجابته الكامنة فيه , ( أي مطر ٍ هذا الذي / يطفيء النجوم بحذائه . ؟ ص5 ) , تبدأ ( سوزان عليوان ) , غير أنها , وكأنما تعاند طغيان المطر كفعل وحيد في مساحة وجودها , تتمسك بالحكاية , التي لا تنشد الإخبار بقدر ما تتشكل منه , كمعادل آخر للوجود , يصون يقظتها , ويضمن حريتها . وبهذا تأتي الكتابة كتأجيل للمحو , إن لم تكن كإيقاف له . ويدفعنا إلى قراءة كهذه , حضور اليد بجرأتها المفاجئة ( وأنت يا يدي / من أين أتيت بكل هذه الجرأة . ؟ ص 5 ) , جرأتها على القيام بما لم يتكشف بعد , والذي أسمح لنفسي بالادعاء أنه الكتابة , الكتابة التي ستحاول إضاءة النجوم ثانية .
ما من افتراض في ( كراكيب الكلام ) . هي حشرجات كائن في الحيز اللامرئي بين الولادة والموت . كائن يعيش موته وولادته فوق ( بياض العدم ) متخبطا ً في وحول طمسه كما تكوّنه . والكائن هنا هو الكتابة ذاتها , النص ذاته , حيث ما من صفر للتجربة التي تبدأ وتنتهي متخذة أصفارا ًعديدة تخص الذات , ومعززة قيمة ما يمكن تسميته الصفر الشعري على حساب الصفر التأويلي , أو الصفر المفترض , والذي يخص المتلقي بالدرجة الأولى .
وهنا يمكنني البدء من حيث انتهت سوزان . ذلك أن الآن هو صفر التجربة فيما أتلقى , والأزمان السابقة أو اللاحقة تتبدى كضرورات وليس كمحصلات تلقائية لعدم انزياح الصفر الشعري عن مركزيته كمرجِع وبالتالي إسناده للشعور الحي بالزمن .
( " الوداع " / يا لوقعها / حين تذرف هكذا / فاصلة بين فراغين / في سياق المطر . ص 44 )
المطر الذي لا شيء سواه , كإطار للتجربة , وكمصدر وحيد لآليات جريانها :
( لا شيء / لاشيء سوى المطر / على زجاج النافذة " وجهي الآخر " / على الشارع البائس مثل حب قديم تدوسه الأقدام ... / . ص 6 )
مطر يدفعنا أحياناً للظن بأنه الحياة . الحياة ذاتها . كتراكم لفواصل من العدم . غير أن حضور الثلاثين , دون غيره من الأرقام , يبقي المطر في معناه الفيزيائي . ذلك أن الثلاثين , التي تتموضع كسور ٍ أحجاره قطع من ذات الشاعرة وأشيائها الحميمة , ما هي إلا السنين التي عاشتها الشاعرة :
( سور الثلاثين / بأحجاره التي / من طيني ومن دموعي . ص 38 )
وفي معاينة تلك الأحجار ومحاولة إحصائها تتجمع لدينا حصيلة من الكائنات والأشياء التي تشكل باجتماعها معنى الكائن وسورة وجوده :
الحجرات – المقعد الوحيد – تلك الحقيبة - ذلك المعطف – الأب الغائب – الطفولة السوداء – الأم – شجرة العائلة – غابة الأصدقاء- قصص العشق - ....
غير أن ذلك السور / العمر لم يؤطِر بقيامه سوى العزلة والدموع :
( سور بقامة العتمة / تحفّه اثر عبورها الغيوم / ليعلو بعزلته بلا أشجار / بدموعي المعلقة لوحات مائية تسيل بألوانها على حجارته . ص 40 )
وللمطر أفعال تتفتح بموازاتها الذاكرة ويلتمع الشوق كنصل يهوي :
( كلما اشتدّ المطر / تذكرتها / تلك الأيام الدافئة كالجلد / .. / أيامنا التي / كلما تذكرتها / اشتدّ المطر . ص 36 )
وكأنما هنالك نوع من الكيدية المتبادلة , فالمطر الذي لا ينتج بسقوطه سوى الوحل , بكل ما لهذه الكلمة من معان ودلالات مرذولة ( مع أنه ذات المطر الذي يسقط في تلك اللحظة ليصنع جمالا ً في موقع آخر بالنسبة إلى كائن آخر ) تقاومه الذات الواقعة في التجربة باستنفار ذاكرتها التي يحاول محوها أيضا ً باشتداده مع استحضارها , وهكذا ..
ويحضر الآخرون بمجارة للمطر , أو كمرآة له , آلة للفتك ِ , وآية في الإلغاء :
( الآخرون دائما ً / بأحذيتهم الموحلة على صفحة روحي . / .. / الآخرون : / الكتابة السوداء على جلدي وجدراني / كابوس المطر المتكرّر . ص24 )
ثمّ يتنامى الشعور بالانسحاق تحت وقع المطر إلى درجة الإذابة أو الإسالة :
( خطواتي خيط أسى / كأنما الأمطار تسيل بي حين أسير / كأنها دمع حذائي . ص 34 )
وصولا ً إلى الفاجعة :
( حياتي – تحت المطر – حائط / هل من عقاب / أقسى من الزمن . ص 39 )
أخيرا ً . لا بدّ لي من القول . أنني كنت , وما أزال , متعئرا ً في قراءة النصوص الطويلة وإعادة إنتاجها , لكثرة ما تنتصب أمامي من إشارات مرور تعيدني , في أحيان كثيرة , إلى النقطة التي انطلقت منها . ويرجع هذا برأي إلى السردية المتشظية في صوغ التجربة وليس في التجربة ذاتها . وتجنح هذه النصوص , مرغمة , على الاستنجاد بالصوَري المبتكر كلبوس يحاول إحياء التجربة في السرد وإعادة اللحمة إلى السردية . قد ينجح هذا الأمر أحيانا ً , كما في النص الذي بين أيدينا , وقد لا ينجح أبدا ً . ويعود السبب في ذلك , كما أرى على الأقل , إلى البراعة في تشكيل المحسوس والملموس , وفي توزيع المتبقي من جذوة التجربة بطريقة تجعل عدوَانا واحتراقنا أمرا ً ممكنا ً .
ويمكنني القول أيضا ً , فيما يخصّ هذه الأنواع من النصوص , التي تأخذ فيها التجربة مساحة زمنية كبيرة , بأن تكرارا ً , يثقل ولا يغني , سيشوبها بكل تأكيد , على أنه انتقال بين زوايا المعاينة والاحاطة , غير أنها قد تكون ذات الزوايا المطلة على ذات المشهد . كما يلحظ القاريء ندرة خلوّ تلك النصوص من الوقوع في شرك استخدام أدوات المهنة التي حفرها وصنّعها الغير , وبهذا تتشابه معه , ومع غيرها من مستخدمي ذات الأدوات , حيث تبقى رائحة المعلّم عابقة في بعض مناطق النص . وبالنسبة لنص سوزان حضرت أثناء قراءته ثلاث صوَر لثلاثة شعراء :
تقول سوزان : الخيبة الأعمق من الغفران .
يقول بسام حجار : الألم أن يكون الدمع أعمق من محجر العين .
سوزان : وضحكاتنا أعلى من الأسوار .
وديع سعادة : نتسلق ضحكاتنا لأن صراخنا شاهق جدا ً .
سوزان ؛ كلما اشتد المطر تذكرتها ..... وكلما تذكرتها اشتد المصر .
هنادي زرقة : كلما أحبّت رجلا ً تعثرت . وكلما تعثرت أحبت ..
أورد الصوَر دون تعليق . وأقول لسوزان : ها قليلنا . شكرا ً على كثيرك ِ .
#ياسر_اسكيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟