|
سوريانا وسهى وأنا -على وهج الذاكرة- عيسى ضيف الله حداد
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 6484 - 2020 / 2 / 6 - 16:34
المحور:
الادب والفن
سوريانا وسهى وأنا "على وهج الذاكرة" عيسى ضيف الله حداد يتم ظلم بعض الأعمال الأدبية حين يتم تأخير نشرها، خاصة الروايات الحديثة التي تتناول أحداثا جرت في القرن الماضي، وحجم ظلم يتوقف على فنية الرواية، فكلما كانت فنيتها عالية، وقع عليها الظلم أكثر، وهذه الرواية من ضمن الأعمال المظلومة، حيث تتناول فترة تبدأ من الاربعينيات وحتى أواخر السبعينيات، وهي أقرب إلى رواية السيرة، فالسارد يتحدث عن نفسه، حتى أنها بدا ـ أحيانا ـ سيرة ذاتية وليس رواية، وهذا يعود إلى انفعال السارد وتأثيره بما يسرده. حدث الرواية يتمحور حول علاقة الراوي هو شاب مسيحي يتعلق بفتاة "سهى"، أبوها مسلم وأمها مسيحية، يحبها وتحبه، تتطور العلاقة بينهما ليكون هناك علاقة جنسية، كثمرة لهذا الحب، فهما يحتاجان للجنس، لأثره الإيجابي عليهما، لكن هناك (حكمة) سمعه السارد وهو طفل من أحد أقرانه في القرية، بأن هناك شيء محظور عند ممارسة الجنس مع الفتيات، إلا وهو غشاء البكارة، فكان عندما يمارس الجنس يحرص على عدم إيلاج داخل المهبل، وكان يلجه في الدبر، ليبقى محافظا على وجود الغشاء، لكن في بداية العملة كانت (سهى) تفتح فخذيها وتشد على وريكتيه، وهذا جعله يكتشف ـ لاحقا ـ أن أخوها "همام" أجبرها وهي بنت الثانية عشر على الخضوع والانصياع لرغباته الجنسية، وبعدها تدخلت أخوتها "هنادة" لتمارس معها السحاق. الحديث عن الجنس أخذ أكثر من ثلثي الرواية، لكن كان يلازمه الحديث عن بعض الأحداث في سوريا والمنطقة العربية بشكل موجز، لكن بعد الصفحة مائة وعشرون، أخذت الأحداث السياسة مكانها لتكون موازية للحديث عن سهى، وتتنمى الأحداث السياسة أكثر، بعد الصفحة مائة وخمسون لتنصب على حرب 1973، حتى أن القارئ في الثلث الأخير من الرواية يجد سرد جديد متعلق بالحرب والنظام الجديد في سورية طغى على أية أحدث أخرى. يجبر السارد على الهروب من سورية إلى لبنان، لأنه مطلوب للأجهزة الأمنية، لكنه يستطيع العودة ـ تهريب ـ للبضعة أيم في شهر تشرين، حيث تكون ذكرى (الحركة التصحيحية)، والتي كون فيها رجال الأمن في اجازة، ليكتشف أن سهى سافرت إلى السعودية، بعد أن أجبرها "همام" على الزواج، ويفقد السارد حبيبته ووطنه معا، من هنا كان عنوان الرواية يشير لهذا الفقدان، فقدان الحبية "سهى" والوطن سورية. المكان اللافت في الرواية أن السارد عندما يتحدث عن المكان يستخدم ألفاظ بيضاء ولغة ناعمة سلسة: "أقبل الربيع.. دمشق تكشف عن محاسنها السرية.. فاحت روائح النرجس والزنبق وعانق عطر الياسمين .. استيقظت النفوس من سباتها الشتوي .. انتعشت جواي لظا وشوقا .. امتلأت نفسي حيوية، منحني الربيع حنينا إلى الطيران .. وفي آفاق الحلم والأخيلة حقلت أجنحتي" ص 59، إذا تتبعنا وصف المكان من الأدباء الذين أجبروا على ترك وطنهم غصبا وكرها، نجدها يتناولون المكان بحنية حب، وهذا ما نجده عند غالبية الكتاب الفلسطينيين، الذين جعلوا من نصهم الادبي مكان للتغني ولإبداء الحب للوطن الضائع، وها هو "عيسى حداد" يؤكد على هذا الأمر. ولم يقتصر الأمر على دمشق أو سورية، بل نجده أيضا في بيروت ولبنان: "بيروت لوحة متعددة الألوان .. للشمس في بيروت حلتها.. لها حكاياتها في الشروق وغروبها.. تشرق الشمس في لبنان من وراء الجبال، وقد أبى صنين إلا أن يحجبها بقمته السامقة علوا نحو السماء، حائلا إياها من العبور بين كتفيه قبل أن يختطف منها قبلة الصباح" ص67، فالعلاقة الحميمة مع المكان تلازم كل مشرد، بعيد عن وطنه، فإذا كان هنا الحديث عن المكان بلغة بيضاء وناعمة بضعة أسطر، فأن السارد عند عودته الأولى خلسة إلى دمشق، تغنى بها بصفحتين، وكانت لغته تعكس المكانة والحضور الذي تحتله دمشق: "في ظلالها تتمايل الأعشاب وأزهار سكرى، وقد روتها وأنعشتها خمرة الربيع... راحت أنفاس النسائم تقبل وجناتنا...تتراقص على أغصان أشجار السرو والصفصاف ...لكم نسبغ على الأشياء من حولنا آيات السحر والجمال .. حالما تغمر البهجة نفوسنا" ص174و175، وهذا الأثر الذي جاء بنوعية وكمية تفوق ما جاء في السابق، يؤكد على أن الوطن عندما نغادره مكرهين مجبرين، وعندما نأتيه خلسة/تهريب متحملين خطورة هذا الأمر، سيكون لقاءنا به لقاء الأحباب، لقاء الأم بوليدها، وهذا ما كان من السارد. حتى وقت الخطر استحضار المكان يضفي لمسة من السكينة والهدوء: "الزوارق البحرية الإسرائيلية قرب الشاطئ... انتشرنا على الفور بين بيارات البرتقال، قضيا الليل بطوله تحت الأشجار.. كانت ليلة مفعمة بالتوجس وبرودة الليل ورطوبة البحر ..تلاشت بددا ونحن نستنشق عطر الليمون التي تذكرنا بفلسطين ويافاوي يا برتقال.." ص149و150، هذا المشهد يجمع السارد ثلاثة امكنة معا، صور، التي تجري فيها الأحداث، وفلسطين، من خلال البرتقال، ودمشق، من خلال تذكر مناداة الباعة "يافاوي يا برتقال"، فالمكان يلازم المشرد، الممنوع عن وطنه كما يلازمه ظله. ألف ليلة وليلة السارد في النصف الأول من الرواية، وبما ان الحديث يدور عن الحب والعشق، جاء السرد أحيانا بسجع يحاكي ما جاء في كتاب ألف ليلة وليلة، وهنا يكون السارد قد أقرن فكرة الجنس بحكمة، فقدم قصة مشوقة ومحببة للقارئ: "أدركنا الصباح، والنور لاح.. داعبت أصابع الأجفان ..يدانا تنفصلان في سكون، وقد تحاشيا مباغتة العيون.." ص63، اعقد أن هذا الشكل من السرد يعكس أثر الثقافة التي تثقف بها السارد، والتي جاءت من خلال اللاوعي، من هنا نجده اقرن الحديث عن الحب والجنس باللغة الأدبية التي جاءت في كتاب ألف ليلة وليلة. "لم أرنو للأكثر وأنا أتذكر، مذ دخلت مغامرة الشبق الجنسي، من شأني إمتاع الصبية، من دون إيلام أو أذى يذكر، لي وعلي الحذر، ومالي لي، لي سوى الآتي، إن الآتي قد توفر" ص70، يبدو وكأن السارد يتغنى بالحب والحديث عنه، كما تغنى صاحب كتاب ألف ليلة، فالحديث عن الحب مفرح، ويبهج السامع والراوي، فنعكس هذا الأمر على اللغة والألفاظ التي استخدمها السارد. ولا يكتفي السارد بالسجع فقط، بل نجده يقدم صور أدبية أيضا: "على هدوء ومهل يدي تتسلل.. ما بين الفخذين تتسلل.. بمكر ويسر تعبر مملكة ما بين الفخذين .. سهى تلكزني تهمس لي: تمهل أوجوك تمهل.. على رسلي أسري أتجول، بين العشب الامي في عمق ما بين الفخذين، برفق أرحل .. أناملي تتجول... بحفية وخفة تتجول .. في أرجاء الهيكل.. تتلمس أعمدته الرخامية، تعانق زواياه الخفية، تتسلل للركن السري فيه، لتعزف سمفونية الرغبة فيه" ص69، وبهذا يكون العقل الباطن للسارد هو الذي يتحكم في لغة السرد وطريقته، فالألفاظ الناعمة والتغني واستحضار لفظ "سمفونية"، والصورة التي تجمع بين الجنس والطبيعة، كلها تؤكد على أن السارد تماهى مع الأحداث، فأظهر لنا هذه اللغة الجميلة والناعمة والشيقة. الجنس والخمر رغم أن الخمر والجنس لهما مفهوم لسبي في المجتمع، إلا أن السارد قدمهما بطريقة جديد: "كأس من الويسكي...دبيب الحرارة ينساب في جسدي.. قس ظله انخفض سقف كآبتي .. كنت أتوق إلى النسيان ... كأس آخر .. أثمر ..كانت خبرتي قد كشفت لي، بأن الجنس يحرر النفس من أدرانها، يعيد إليها توازنها، في ظله تعثر الذات على صفائها، في غمرته يجدد المرء طاقته، يغدو فيه قادرا عللا رؤية موقعه، وتحديد ما بين له وما عليه.. لعله سيكون سلاحنا الممجد انسيان كأبتنا وما نحن فيه من كمد" ص 116، السارد هنا لا يتحدث عن الجنس (الحرام) بل عن الجنس بصفة عامة، فهو عد تجاربه العديدة استنتج هذه الفكرة، وللمتلقي أن يأخذ بها أو يتكرها، لكنها بالنسبة له حقيقة مكتشفة، وكذلك الأمر بالنسبة للخمر، فرغم أنه محرم، إلا أن السارد قدمه كشفاء للكآبة وضيق الحال. الجنس أدبيا واللافت أن السارد يقدم مشاهد الجنس بصور ادبية وبإيحاءات، وهذا ما جعل المشاهد مقبولة أدبيا: "...يا للسماء، آهاتنا المكبوتة تهب رياحا، تجتاح جوانحنا بصمت، عرق يتصبب .. قلب يخفق.. شفاه تخترق شفاه .. روح تعانق روحا.. لهيب في لهب.. نار تعانق نارا.. همس لها مني كلمات.. كلمات كابتهالات في هيكل عشتار.. والنار في أعماقي لها جمرات من دون عناء، جسدها يسند على الجدار.. فخذان ينفرجان بإتقان، يداي تحيطان حينا بالردفين، يرتفعان حينا نحو النهدين، ينحدران إلى حديقة ما بين الفخذين، وترى السري المنتصب كالطود، برفق يتخطى الثوب، إلى ما بين البين.. يتجول في أصقاع الهيكل" ص72، هنا يمكن الفرق بين تقديم الجنيس بالصور والإيحاء الأدبي، والأدب الأيروسي المنفر والمقزز، فما يقدم من جنس من خلال الصورة والإيحاءات يكون أثره إيجابي على المتلقي، ويستمتع بما يقم له، بينما في الأيروسي، الذي يميل إلى المباشرة والوضوح، يكون صاخب وعنيف ومنفر. المشهد السابق تجتمع فيه العاطفة والحب مع الجسد، لهذا (يتقبله) القارئ، فلو كان الحدث الجنسي هم الأساس، لما تناول السارد العاطفة والحب، وتأكيدا على أن الجنس عن السارد هو عملية حب ـ رغم تعاطيها مع الجسد ـ نجده يقرن الجنس بالطبيعة: "..لا أمهلها حتى أبادرها قبلة حارة مديدة عميقة كالالتهام.. يداي ترفعها من ردفيها. ساقيها يلتفان حولي... شفتاي ترحلان في حضرة النهدين.. تمرحان في بطء فني بين الحلمة والحلمة.. وتري الجنسي يغبر إلى موقعه السري بين حديقة الفخذين.. ينتقل حذرا، حذرا أبدا في عمق الهيكل .. أناملي تدور في جوانبه. ترتعش بين أعمدته .. تتسلق في نوافذه .. تدغدغ أعشاب وأزاهير حديقته" ص81، قلنا في موضع غير هذا أن المرأة والطبيعة والكتابة والتمرد العناصر التي يلتجئ إليها الكاتب وقت الضيق، أو هي عناصر الفرح بالنسبة له، وهنا عندما أقرن السارد الحب بالطبيعة أكد على دور هذه العناصر، فهي تخفف عنه ثقل الواقع وتمنحه السعادة أيضا. وتأكيد على ميل السارد نحو الطبيعة، وعلى أنه ينظر إليها كما ينظر للمرأة، للحب: "...شرعن الشمس تأوي لمقرها خلف الجبال، مودعة إيانا بأناملها الذهبية، راسمة في الشفق الغربي وعلى صفحة الغيوم الربيعية لوحة سريالية، متداخلة الأشكال والألوان.. الشمس في إشفاقها علينا أمرتنا: ألا عدوا .. فأطعنا.." ص81، هذا المشهد الخالي تماما من ذكر الجنس والعلاقة الجسدية، يؤكد على أن السارد لا يتعاطى مع الجنس كجنس، بل كأدب، كأحد عناصر الفرح، عناصر التخفيف، من هنا وجدناها تحدث عن الطبيعة بصورة بيضاء، كما تحدث عن الحب/الجنس. حالة الاضطراب تجعل السارد يميل نحو الجنس، فقد حدثنا أنه ينمح الهدوء، ويساعد على التخلص من الكآبة، في هذه المشهد نجد صورة سريعة للجنس: "يا للسماء.. توهجي وصخبي وعواصفي ألقاها.. للمرة الأولى نتعرى، أراها بكليتها، تراني بكليتي.. جسدها وجسدي.. لا حائل..! يا للجسد ... يا للتناسق الفذ .. يا للملمس البض، يا لفرحي .. أتنشق عبيرها في ضوء النهار بلا ستار.. بين ذراعي هي، بين ذراعيها أنا.. هل نحن ما نحن فيه حقيقة، أم حلم!، ألمسها أعصرها.. لأتحرى هل أنا في دارة أوهام، أم ..! أوتري الجنسية تعزف ألحانا غير مرئية.. تنشد أشعارا مجوسية.. كما لو كنت ملكت عشتار، وتكللت بإكليل من غار" ص93، اللافت في المشهد أن الحركة السريعة والمضطربة، فهي اشارة على أن السارد لم يستطع (ضبط) مشاعره، فكانت الأفعال سريعة ومقتضبة، فبدا وكأنه سجين وخرج إلى الحرية، ويريد الحصول عليها، على جسد سلمى بشغف ولهفة، كما أن الألفاظ المتشابه والمتماثلة "بكليتها/بكليتي، هي/أنا" تشير إلى الاندفاع والرغبة في التلاحم والانصهار معها، وهذا يشير إلى أن السارد لا ينظر للجنس/للمتعة كفعل متعلق به فقط، بل بها أيضا، لهذا نجده يذكرها كما يذكر نفسه، فالفعل لم يكن يريده هو فقط، بل هي أيضا تريد ممارسته، فكلاهما مأزوم ويعاني ويسعى لفعل يخفف عنه ويفرحه. الممنوع/الحرام المحرمات ولممنوعات الثلاث هي الدين، الجنس، السياسة، وتناول أيا منها يدين الشخص ويمكن أن يدفع حياته ثمنا لهذا التناول، "سهى" تكشف حقيقة المحرم الممنوع، الجنس، والطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع هذا المحرم/الجنس: "أرى إنه بمقدار ما تكون تلك المحرمات مصانة في العلن بمقدار ما تكون مخترقة في الخفاء,, وفيما لها من قدرة فعالة في الهيمنة علينا، تجعلنا أسرى لها، إلى درجة يصعب التحرر منها، حتى لو رغبنا" ص90، طرق جدار الجنس وتناوله يمثل تحدى واجاوز لأحد الممنوعات اجتماعيا، ومن ثم سيفتح آفاق أمام المحرمات الأخرى، أو تناول أحد المحرمات، السياسة، الدين، أيضا سيسهم في كشف زيف الواقع الذي يعيشه المواطن والمجتمع، الذي يهتم بالشكل فقط ويتجاهل المضمون، الهدف. أعتقد أن تناول الجنس في الرواية جاء ضمن هذا المنظور، تحدى وتجاوز الممنوع والتمرد على الواقع، أو بمعنى آخر تحريك الماء الراكد، وها هو السارد يكشف معلومة عن الجنس بقوله: "ألا ترين أن إرواء رغبة الجنس ليس مجرد متعة بحد ذاتها، إنما هي تحرير للنفس من أدرانها..!! ألا يشكل تجديدا للذات وتوازنا لها..!" ص94، هذه النظر إلى الجنس أراد بها السارد أن يقول أن الجنس ليس جنس فقط، بل هو شيء/طاقة تحدث أثرا إيجابيا، وكأنه يدوا القارئ أن أن يتقدم من (فلسفة) الجنس، ولا يقف عند الفعل بشكله المجرد فقط، فالأبعاد النفسية للجنس تتجاوز النظرة المجردة للفعل. السارد يأخذنا إلى الأمام موضحا أهمية الجنس: "ألا يحررنا الجنس من رجس الشرق وركام الترهات.. ألا ندرك عبره، حريتنا ويشعرنا بإنسانيتنا.. قالت: أجل. ..نجعله هما وغما وكدرا.. نقتلعه من فطرته ونجعله زيفا وتملكا وشرا ومحض ارتهان .. ألا نحوله إلى شبح مسيطر على العقل والسلوك، ليصبح المهيمن الكلي السري على الذات يأخذ بجماحها ويأسرها هوسا.. بدلا من أن يكون استجابة للطاقة الكامنة في أعماق النفس والجسد، يتحول عالة وعلة مهيمنة تؤدي إلى زعزعت النفس وانشقاقها على الذات، أليست ممارسة الجنس تشكل تحرر للذات، ألا يحرر العقل والنفس من كل هوس " ص 100، إذا كان الجنس يحمل كل هذه الايجابية، فلماذا يتم قهره وحبسه، كما يتم حبس المفكر الذي يدعو للحرية والتقدم من الحياة بعيدا عن الخرفات والجهل، فالتعاطي مع الجنس بهذه الروح سيحرر الافراد والمجتمع من عبء جسدي ونفسي، ويجعلهما ينطلقان بخفة وحرية. مقابل الحرية تكون العبودية، ونتيجة الحرمان سيكون التطرف: "...القمع الجنسي لم يكن له حضور زمن الفطرة الأولى.. حامل يحل القمع الجنسي يضغط بعنف على الفطرة، يمزق كيانها ويكبح النفس آسرا لنبضاتها، مما يؤدي إلى تأزم النفس وانشقاقها على ذاتها... تقمع نفسك وجسدك، تتحول إلى إنسان غير متوازن.. عندما يصبح القمع سيد المكان.. تتخلخل المقاييس، وتتعمم الأكاذيب والأوهام يصبح كل شيء ممكننا" ص118، بهذا يكون السارد قد استكمل فكرة الحرية وأثرها الإيجابي على الفرد والمجتمع، مقابل السلبيات التي ستتبع سجن/حرمان الإنسان من أن يمارس ويتناول حاجة أساسية فيه. القمع السياسي إذا كان (الجزء) الأول من الرواية ممتعا لتناوله موضوع الجنس والحب، فأن (الجزء) الثاني تحدث عن السياسة والقمع، وهذا يحسب للسارد، الذي قدم ما هو مريح على ما هو صعب وقاسي، وهذا أسهم في تقدم القارئ من الرواية. ننوه إلى أن المرأة في المجتمع العربي تتعرض لاضطهادين، اضطهاد النظام السياسي لها، واضطهاد المجتمع، لهذا نجد "سهى" توجه سلطة همام، كأخ وكنظام: "...ألقت على حافتها قصاصة من ورق... قرأت بخط عجول...أما كسجينة ممنوعة من مغادرة المنزل، لشقيقي صلة وثيقة برئيس الأمن السياسي.. أعلموه بشأننا.. أخشى عليك من شرورهم" ص167، ولكنها، رغم هذا القمع المزدوج إلا أنها تتحدى وتنذر حبيبها بالخطر المحدق به وبها، وهذا التحدي يشير إلى أن المرأة قوية، وتعمل كما يعمل الرجل على مواجهة النظام/الأخطار. يقدم السارد صورة عن حالة القمع التي يتعرض لها من قبل اجهزة النظام: "انباء عن اعتقالات في البلاد، وتيرة قلقي تتعالى، أين خالي الضابط في الأمن السياسي ـ يخبرني: كن حذرا يساورهم الريب فيك. ... لملم أوراقك وكل ما تستطيع من الحاجيات، صدر قرار باعتقالك،... أضعك على الحدود اللبنانية، عليك تدبير شؤونك فيما بعد، لا تخبر ذويك" ص169، والمفارقة أن هذه السطوة على المواطنين يقابلها هزيمة ساحقة من العدو: "في نيسان 67ـ جرى اشتباك إسرائيلي سوري، أدى إلى تحكم طائرات سورية عديدة .. راح في إثرها الجنرال وزير الدفاع، قائد سلاح الكيران (حافظ الأسد)، يتباهى بالقوة العسكرية لجيشه ولطيرانه.... في 5حزيران 67 ـ في ظل تعمية دولية خيمتها أميركية، تشن إسرائيل حربها الخاطفة، تهزم الجيوش الثلاث (مصر، سورية، الأردن) تحتل سيناء والضفة الغربية والجولان" ص 110و111، فالمثل الشعبي القائل: الناس بتقتلني وأنا بقتل مرتي، وأنا بعون الله عليها قادر، ينطبق على الأنظمة العربية، فهي ضعيفة ومقهورة أمام عدوها، لكنها صاحبة بطش وبأس على مواطنيها. ومن هنا يمكنا ربط التمرد الجنسي بالحالة الهزيمة، فمواجهة النظام المهزوم بطرق والحديث عن المحرمات/الممنوعات التي يتمسك بها، يمثل تمرد وثروة عليه وعلى مفاهيمه، هكذا يمكننا فهم الجنس الذي تحدى به السارد وسهى النظام والمجتمع، فالمهزوم عليه أن يعيد النظر بطريقة تفكيره وسلوكه، أو إيجاد من يعمل جعله يفكر ويغير سلوكه. حرب 67 الحديث عن الهزيمة مؤلم للأفراد وللشعب، فنحن الأمة الوحيدة في هذا العصر التي لا تجد ما تفتخر به، فلم تحقق حلمها، لا بالوحدة ولا بالتحرير ولا بالحياة الفضلى/الاشتراكية، الهزيمة الساحقة التي قتلت الحلم العربي كانت في حرب 67، كان وقعها شيد على الأمة، حيث كانت النظم الاشتراكية والقومية الوحدوية هي من هزم، وليس الأنظمة الملكية والرجعية التي كانت مسؤولة عن هزيمة 48: "تتوارد الأنباء عن إعلان سقوط القنيطرة، قبل حدوثه، ومن دون قتال..! من المسؤول عما جرى يا ترى..!! ....تروي الأنباء أن جاسوسا إسرائيليا استطاع اختراق سلاح الطيران المصري، قيض له جمع نفر من الطيارين في سهرة عربدة.. دامت الحفلة الماجنة حتى لحظة الهجوم المباغت للطيران الإسرائيلي على المطارات المصرية (فجر الخامس من حزيران) كان من شأن جلسة العربدة هذه، حسم المعركة قبل بدئها، الجيش المصري في سيناء يتيه في الصحراء" ص113و114، وهنا نطرح سؤال ما الهدف من هذه الذكريات المؤلمة، فالغالبة الأمة تعلم حقيقة حرب 67؟، أم أن السارد أراد أن ينبش الذاكرة العربية، مبينا أن (قادتها) الأن هم من هزموا، ولا يحق أو لا يجوز للمهزوم أن يكون قائد؟، أم أراد أن يقول أن هؤلاء الذي يظهرون بطشهم وقوتهم ما هم إلا ضعفاء هزمتهم دولة صغيرة، ويمكن أيضا أن يهزمهم الشعب؟، واعتقد أن كل الأسئلة مبررة. عاصفة عام 70 في عام 1970، تم قتل المشروع القومي العربي الوحدوي بعد أن قتل عبد الناصر مسموما، وبعد أن تم ضرب العمل الفدائي الفلسطيني في الأردن،، فهو بداية التقهقر للمشروع القومي الوحدوي العربي والتحرري الوطني: "أيلول إلى تشرين: ... النظام السياسي في الأردن يهاجم قواعد الثورة الفلسطينية ـ الجيش السوري يتدخل ثم ينسحب تحت ضغط من القوى الكبرى والانظمة العربية ـ المقاومة يتقلص وجودها في الأردن.. ـ مؤتمر عربيـ عبد الناصر يفارق الحياة.. النظام العربي يفقد بوصلته الناصرية... شهران: الجنرال السوري يتسلم الحمن في البلاد.. يتخلص السادات من الرموز الناصرية وينفرد في حكم مصر" ص137و138، كل هذا الكوارث حدثت في عام 1970، أهمية ذكر هذا الأحدث يكمن في ارتباطها بحال الأمة اليوم، فبعد قتل عبد الناصر، ظهر السادات الذي هدم وقضى على كل الانجازات الاقتصادية والاجتماعية والقومية والتحررية، وأرجع مصر والعرب إلى عصور الانحطاط والتبعية، كما أن ضرب الثورة الفلسطينية أضعف قدرتها على العمل التحرري، وأضعف إيمان الأمة على استرداد ما فقده من أرض وكرامة. حرب1973 كان يمكن لهذه الحرب أن تغير العالم باسره، وليس العرب فقط، لكن وجود (قادة) مثل السادات الذي يبحث عن مجد شخصي، حتى لو كان على حساب الأمة والوطن، جعل أثار ونتائج الحرب كارثية على مصر والعرب وفلسطين: "القوت المصرية تتوقف شرقي القناة بعد عبورها الكاسح، لم تستثمر عنصر النصر لتستكمل زحفها نحو الممرات متلا والجدي التي يسهل الدفاع عنها ـ يستغل شارون استراحة المحارب ليقوم بالهجوم المعاكس...بدلا من معالجة مسألة الثغرة بشجاعة وحكمةـ يصرف السادات جل اهتمامه لتطبيق قرار مجلس الأمن بوقف اطلاق النار.. يتوقف القتال على الجبهة المصرية، دونما تنسيق مع الجانب السوري، الجيش الإسرائيلي يسترد مواقعه، يتقدم حتى نخوم طريق دمشق درعا.. يتم صد الهجوم بمساعدة الجيش العراقي. يتوقف القتال من قبل الجانب السوري، من دونما تنسيق مع نظيره العراقي.. الجيش العراقي ينسحب بغضب" ص186، اراد السارد من هذا الحرب القول أن أمة يقودها (السادات) لا يمكن ان تنتصر، وعندما ركز على عدم تنسيق الجيوش مع بعضها ـ حتى أثناء خوض المعركة ـ أرادنا أن نتأكد أننا أمام عصابة وليس قادة. من هنا يمكننا أن (نغفر) للسارد حديثه عن الجنس، فما تبعه من أحداث كانت مؤلمة وقاسية، فالجنس بين الحبيبين، السارد وسهى، لم يؤذي أحدا، بل على العكس، أسهم في التخفيف الضغط عنهما ومنحهما شيء من الفرح، وهذا أثر ايجابا على القارئ، بينما النظام الرسمي العربي، الذي ضيع فلسطين في 1948 وعام 1967، وخاض حرب 1973، كان هو المؤذي الحقيقي للمواطن للأمة، وهو حال دون أن تكون سهى لزوجة للسارد، وهو الذي مارس القهر والقمع على المواطنين، فإيهما أكثر خطورة على الأمة، الحب/الجنس أم النظام الرسمي العربي؟ بهذا يكون السارد قد تناول محرمين، ممنوعين، الجنس، والسياسة، وهذا يعد تمرد وثورة على الواقع الرسمي والشعبي/الاجتماعي العربي. الرواية من منشورات دار آمنة للنشر والتوزيع، الأردن، عمان، طبعة 2014.
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نبوءة الشاعر في ديوان -عيون الكلاب الميتة- عبد الوهاب البيات
...
-
مناقشة كتاب ديوان شعر «في مديح الوقت»
-
كميل أبو حنيش لقد صرت أبا رسائل من القلب
-
في مديح الوقت -مرزوق الحلبي-
-
الأنثى في -مدينتنا- نزهة الرملاوي
-
سورية والدين
-
الشاعر والمرأة والواقع كميل أبو حنيش -صفا فؤادي-
-
التقديم الناعم في رواية -قلب الذئب- ماجد أبو غوش
-
ياسين محمد الباكي -أين هم-
-
مناقشة رواية أوراق خريفة
-
رمال على الطريق مفيد نحلة
-
جريمة الشرف في الرواية -شرفة العار- إبراهيم نصر الله
-
قصائد الأندلس
-
مجلة شذى الكرم السنة الخامسة،
-
ديوان زفير سعادة أبو عراق
-
ومضة -هكذا هم الفقراء أحمد خلف نشمي
-
المعتقل الفلسطيني في كتاب -الصدور العارية- خالد رشيد الزبدة
-
مناقشة كتاب اقتفاء اثر الفرشة
-
رحلة إلى جوهانسبرغ بيفيرلي نايدو
-
حازم يعود هذا المساء نبيل عودة
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|