أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عباس منصور - مستقبل الأديان والفكر اللاهوتي















المزيد.....



مستقبل الأديان والفكر اللاهوتي


عباس منصور

الحوار المتمدن-العدد: 6481 - 2020 / 2 / 3 - 19:14
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كتاب الحرف في الطبيعة والتاريخ
الباب الأول
موجز ديانات النسل الإبراهيمي

مقدمة
الحرف يعني التحويل والنقل من صورة إلى صورة وهو عكس الاستقامة..فحرف الشيء يعني إعادة وجوده أو تصويره بهيئة لاتطابق الأصل المحروف عنه..والحرف حادث في الطبيعة والتاريخ ،وبتأمل النص المقدس الذي هو كلمات من حروف متضامَة مع بعضها البعض تمت صياغتها ودفعها في التاريخ مع الحضور البشري الإنساني ..النص المقدس إذا تأملناه نراه ينظر إلى كل مفردات الطبيعة من حولنا بوصفها كلمات للخالق تم إخراجها الى حيز الوجود ومنها الانسان الذي هو آخر حرف في الكلمات الإلهية..
و الكائن في المشيئة الإلهية قبل الخلق لايشبه الكائن بعدما صار وجودا متعينا وقع الحرف عليه ،وكذلك التاريخ الذي هو نتاجات بشرية في شكل موجودات مادية كالبنايات والآلات والطرق المعبدة أو بوصفه كلمات من حروف يقع عليها الحرف والازاحة والتبديل كل لحظة ،هذا التاريخ لايشبه التاريخ قبل الحرف عندما كان تصورا في عقول الناس، وغاية السعي الوجودي بشرا وكائنات هو العودة إلى الأصل الأول قبل أن يقع عليه الحرف ،هكذا هو صميم الدين(كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) 28البقرة وهذا يعني أن أصل الإنسان كان في الموت ثم صيره الله إلى حياة ثم أماته ثم يحييه ثم يرجع إلى الله ،فكل الكائنات ومنها الإنسان قد صدرت عن الله وإليه ترجع ،ويتحدث القرآن في مواطن كثيرة عن موتتين وحياتين ،فالموت الأول بلاشك هو الكائن في التصور الإلهي قبل الحرف ،قبل الخلق، والحياة الأولى هي الدفع إلى هذا الوجود والموت الثاني هو الخروج من هذه الحياة ،والحياة الثانية الأبدية ،هي العودة إلى الخالق الواحد.
ولما كانت الكتب المقدسة (العهدان القديم والجديد والقرآن) حروفا لكلمات مخطوطة فهي إذا نتاجات تاريخية تقبل الحرف المتواصل طبقا لتطور التصورات البشرية عن الذات والوجود ،مع العلم أن لكل حرف ظاهرا وباطنا وكلاهما في حالة تحول وتغير دائمين، والإنسان بوصفه حرفا وطبقا للتصور الديني الإبراهيمي فقد صاغه الله على صورته ( يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله ذكرا وأنثى خلقه)1و2تكوين 5وفي القرآن ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) 4التين ومن الطبيعي أن تكون نهاية هذه الحياة بكل مافيها من حروفات طبيعية كالشجر والجبال والبحار والحيوان والإنسان ومن حروفات تاريخية كالمباني والفنون والكتب والعلوم ،من الطبيعي جدا أن تكون نهايتها بالعودة إلى الأصل الواحد،ثم إليه ترجعون.

الفصل الثاني
موجز تاريخ ديانة إسرائيل
يقول الرب في سفر إرميا: وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدا جديدا ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم ،يقول الرب: وأجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبا...لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد ،هكذا قال الرب الجاعل الشمس للإضاءة نهارا وفرائض القمر والنجوم للإضاة ليلا الزاجر البحر حين تعج أمواجه رب الجنود اسمه: إن كانت هذه الفرائض تزول من أمامي يقول الرب فإن نسل إسرائيل أيضا يكف من أن يكون أمة أمامي كل الأيام.
هكذا كانت آخر عهود الرب مع شعبه المختار وسمَاه عهدا جديدا ـ قبل حلول العهد الجديد الذي ابتدأ بيسوع بن مريم ـ ضمن لهم به البقاء ما بقيت الأرض والسماء والشمس والنجوم كما لم تعد الشريعة التزاما خارجيا بل صارت مطبوعة في قلوبهم ودمائهم ، باختصار اتحد الرب بشعبه ولن يغضب عليهم مرة أخرى مهما فعلوا ،أو بالأحرى هم شعب صار محصنا بمشيئة الرب من الوقوع في الخطيئة ومعصية الرب لأن شرائعه صارت جزءا من وجودهم ومن روحهم ،كل ذلك بعد عودتهم من السبي والسجن البابلي في القرن السادس قبل الميلاد،هذا السبي الذي استمر سبعين عاما في أرض بابل بين الرافدين، بعدما نالهم الغضب الأخير من الرب إلههم بسبب اتخاذهم معبودات الأمم الأخرى آلهة مثل الأفود والترافيم و البعليم والعشتروت وملكوم وكموش وآمون والتزوج بنساء الأمم الأخرى من الفلسطينيين والصيدونيين والحويين والبابليين.
والتاريخ البشري قصير جدا حسب التصور التوراتي في أسفار العهد القديم فمنذ تم الدفع بآدم إلى هذه الأرض وابتداء التاريخ البشري لاتتجاوز تلك الفترة اثني عشر ألفا من السنوات لأن امتداد النسل البشري منذ آدم وحتى عيسى مذكور بالسنوات في تلك الأسفار،وتلك مخالفة كبيرة لما استقرت عليه العلوم الطبيعية بشأن بداية البشرية ، فعدد الأبناء من آدم وحتى إبراهيم حسب العهد القديم عشرون فردا،وبالانصات لماورد بالأسفار عن إبراهيم وأحفاده يعقوب(إسرئيل) وأبنائه ومنهم يوسف وبنيامين وحتى الحفيد الأخير موسى الذي هرب من مصر مع قبيلته إسرائيل ،بالإنصات لطبيعة العلاقات وطبقا لتاريخ المصريين الموثق على البردي وجدران المعابد والجبانات يمكننا التخمين بوجود إبراهيم في القرن الثامن عشر قبل الميلاد وإذا جمعنا تدوينات الأسفار العبرانية وتدوينات التاريخ الموثق من حضارة مصر حتى الآن يمكننا القول بكثير من الثقة أن عمر الإنسان على هذه الارض في حدود عشرة آلاف عام ،وهذا قليل جدا إذا ماقيس بالعمر الذي تقترحه علوم الطبيعة والأجناس ،وقد أدرك كثير من علماء الأديان هذا المأزق مثل الدكتور عبدالصبور شاهين الذي ذهب في كتابه لسان آدم إلى أن آدم المذكور قي القرآن ليس هو أبو البشر إنما سبقه أكثر من آدم يمثلون بدايات متعاقبة لبني البشر.
ومع إن موسى هو الذي جاء بألواح الشريعة ولم يكن لليهودية كديانة وجود من قبله إلا إنهم لايحتفلون به كثيرا ربما لأنه تربى في مصر ويحمل اسما مصريا لم يستطيعوا تحريفه وطمسه ومن المؤكد أن كل نسل القبيلة التي بدؤوا يطلقون عليها لقب شعب مع خروجهم من مصر، من المؤكد أنهم جميعا يحملون كثيرا من ملامح الحضارة والثقافة المصرية ومنها الدين وهذا مايؤكده عالم المصريات المرموق جيمس بريستد في كتابه فجر الضمير بقوله:كان ظهور العبرانيون لأول مرة في خطابات تل العمارنة التي يرجع تاريخ أقدمها إلى مابعد سنة 1400قبل الميلاد بقليل أي قبل أي أدب عبراني وصل إلينا(يقصد بالأدب العبراني أسفار العهد القديم) وهذه الخطابات تكشف لنا عن وجود جماعات من العبرانيين الرحل كانوا ينزحون إلى فلسطين التي كانت وقتئذ تحت سيطرة مصر،حيث كانوا يدخلون هناك في سلك الجنود المرتزقة ولانعرف من شأنهم بعد ذلك شيئا مدة قرنين من الزمان إلى أن كان وقت ذلك الأثر المصري الذي أقامه في طيبة (الأقصر) مرينبتاح بن رعمسيس الثاني قبل سنة 1200ق.م بنحو عشر أو عشرين عاما فقد حفظت لنا فيه أنشودة نصر نجد فيها ذلك الملك يفتخر بقوله (وإسرائيل قد دمرت وبذرتها محيت) وقد كان ذلك في عهد القضاة وهو سفر توراتي سابق على وجود داوود وسليمان ولاحق لهروب موسى وإسرائيل من مصر.
والعالم حسب التصور التوراتي له رب اختص نسل إسرائيل بن اسحق بن ابراهيم بمعرفته ومحبته وأن جميع الخلق ليسوا أهلا لتلك المعرفة والمحبة،وان هذا العالم انحرف إلى الخطيئة ومعصية الرب فدمره في زمن النبي نوح ثم أعاد تجنيس الأجناس التي أمر الرب بحشدها في سفينة النجاة التي عهد بالقيام عليها لنبيه نوح ثم انتشار البشر في بقية بقاع الأرض بعد انحسار الطوفان وظهور اليابسة ثم قام نوح بفلاحة الأرض وغرس كرما ثم شرب من عصيره فسكر ونام ورأى ابنه حام عورة أبيه نوح أثناء نومه وحكى لأخويه سام ويافث، وبعد أن استيقظ نوح حكى له سام ويافث فدعا لنسل سام بالسيادة والكثرة وعلى نسل حام بالمذلة والهوان ،نسل حام الذي جاء منه حسب التصور التوراتي المصريون والكنعانيون والكوشيون واليبوسيون والبابليون ومنهم النمرود وغيرهم من الأمم المغضوب عليها توراتيا.
ومنذ بداية الخلق والرب يضع ضوابط ومحاذير وتشريعات فيحتال عليها الإنسان ويخترقها ،وضع آدم وامرأته في الجنة وحرم عليهما تناول الثمار من شجرتين فتجرآ وأكلا من واحدة فاطل على بعض أسرار الإله و تدفقت فيهما الرغبة الجنسية بمجرد الأكل من الشجرة فبادر الإله بطردهما من الجنة وتشديد الحراسة على الشجرة الأخرى باللهب والحديد المنصهر حتى لايستطيع الإنسان الأكل منها فلايموت أبدا ويصبح خالدا سرمديا كالإله (وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الابد فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها فطرد الإنسان وأقام شرقي عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة) 22و23تك3
أما ابنا آدم البكر قايين فعمل فلاحا والصغير هابيل عمل راعيا للغنم في البرية وكل منهما قدم قربانا للرب قايين قدم أثمارا ومحاصيل وهابيل قدم من أبكار غنمه ومن سمنها فنظر الرب إلى قربان الغنم الذي من هابيل وانصرف عن قربان الفلاح قابيل (وهذا دليل على منزلة الرعاة البدو لدى إله السماء) فاغتظ قايين وقتل أخاه ومن هنا بدأت الاتصالات بين السماء والأرض ،إنسان الأرض يقدم القرابين ليرضى عنه إله السماء، وعرف آدم زوجته ثانية فأنجب شيثا ومن هذا الشيث تناسل الناس وتكاثروا وانتشروا في الأرض حتى عم الفساد وساءت الأحوال بسبب الشر الذي يفعله الإنسان في عين الرب ،فتم تدمير البشرية وإعادة تخطيطها وهندستها من جديد بإلهامات الرب لنبيه نوح وبعد البداية الجديدة بدأت تظهر ملامح الديانة والنسك والشعائر فنوح يبني مذبحا للرب يقدم عليه القرابين لإدخال الرضا والسرور إلى قلب الإله والإله يعطيه علامة الرضا والحظوة بظهور قوس قزح الملون في أفق السماء عقب المطر، قوس قزح الذي يتخذه المثليون جنسيا شعارا لهم الآن(وبنى نوح مذبحا للرب وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات للرب فتنسم الرب رائحة الرضا وقال الرب في قلبه لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت)20ـ22تكوين 8
وتبدأ التشريعات (سافك دم الإنسان يسفك دمه لأن الله على صورته عمل الإنسان) 6تكوين9 وقال الله هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض13و12 تكوين 9
وبعد فترة من اجتماع البشرية يتشاركون ويتحدون في تشييد برج بابل فيخشى الإله من قوة اتحادهم فينزل من سمائه ويضربهم ويبلبل ألسنتهم فلا يفهم بعضهم بعضا فيتفرقون وينصرفون عن الأعمال الجبارة التي تضاهي عمل الآلهة وقال الرب هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل . والآن لايمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه هلم ننزل ونبلبل لسانهم حتى لايسمع بعضهم لسان بعض 6و7تكوين 11
ثم يأتي إبراهيم وتبدأ مرحلة أكثر تحديدا وتخصيصا فيما يتعلق بالنسل الإلهي المقدس إبراهيم يهرب مع أبيه تارح وابن أخيه لوط بن هاران من وجه حاكم أور الآشوري نمرود من نسل كوش بن حام الملعون هو ونسله بعورة والدهم نوح و يتغرب إبراهيم في أرض الكنعانيين التي هي فلسطين ثم يلجأ الى مصر من الجوع والقحط الذي أصاب أرض كنعان التي فر إليها من بطش النمرود البابلي، وهنا يقطع الرب معه عهدا خاصا بينه وبين النسل الابراهيمي (فقال لأبرام اعلم أن نسلك سيكون غريبا في أرض ليسألهم ويستعبدون لهم فيذلونهم أربع مئة سنة ثم الأمة التي يستعبدون لها أنا أدينها وبعد ذلك تخرجون بأملاك جزيلة ...في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات)13الى 18تكوين 15
وعلامة الوفاء الإلهي لهذا العهد هي أن يبتر كل صبي من نسل ابراهيم حشفة عضوه الذكري( هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك يختن منكم كل ذكر فتختنون في لحم غرلتكم فيكون علامة عهد بيني وبينكم ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم ...أما الأغلف الذي لايختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها انه قد نكث بعهدي)10الى 14تكوين 17
إبراهيم نفسه اختتن في الثمانين من عمره والمدهش هنا أن الرب يحدثهم بصفتهم شعب رغم أنه لم يكن هناك سوى إبراهيم وولده إسحق وإسماعيل من سريته هاجر المصرية والذي لايعد من العبرانيين حيث ابتكر كهنة العهد القديم صيغة للاعتراف بنسب العبراني في أن تكون أمه من بني إسرائيل ولذلك لايعد إسماعيل عبرانيا وربما حدث هذا بسبب ظروف تدوين أسفار العهد القديم التي ظلت في التداول الشفاهي حتى منتصف القرن الخامس قبل الميلاد عندما وقع النسل الإسرائيلي في السبي والنفي فأحسوا بالخطر وبدؤوا في تحويل المقدس الشفاهي إلى مخطوطات مدونة وخصوصا أنهم في تلك الفترة قد أصبحوا شعبا اختلط بأمم كثيرة لها قدم عريق في الحضارة ومنها مصر وبابل وفارس والآراميين والفينيقيين..
وإذا كان إسرائيل نفسه لم ينجب سوى ابنة واحدة من ليئة هي دينة التي زنا بها أحد الفلسطينيين فكيف حصل هؤلاء الأسباط على زوجات لهم ،بالتأكيد هناك الخال لابان مخزن النساء على تخوم دمشق يمدهم بالنسوة رغم أنهن لسن إسرئيليات ورغم أن نساء الأمم والشعوب الأخرى رجس ونجاسات في شريعة إسرائيل على إثرها غضب عليهم الرب وأسقطهم في السبي البابلي لكنه الاحتيال المفتوح دائما لخلاص إسرائيل من كل شدة إنه الرب المحب وهم الشعب الأثير لديه والذي لايطيق انصرافهم عنه.
ومن الملاحظ أن جميع الأنبياء المرسلين من رب السماء منذ آدم يتحركون على أرض البوادي ويعملون بالرعي رغم تتطور الحرف التاريخي الذي حول كثيرا من الأماكن إلى قرى ومدن تزخر بآلاف البشر المستقرين في جماعات قد انتقلت من حياة الترحل والتنقل الدائم وراء أسباب الحياة من ماء وعشب وصيد إلى حياة الاستقرار والاعتماد على تصنيع المواد الأولية إلى منتجات يحتاجها أهل المدن ،من هؤلاء الناس الساكنين في المدن لم يخرج نبي واحد في مصر أو فارس أو الإغريق أو البابليين أو الآرميين أو الأمازيغ أو الصينيون والهنود والأفارقة فكل الأنبياء من أبناء البرية الساكنين فيها أو من نسلهم القريب وإن أرسل بعضهم إلى أهل القرى والمدن الذين يأتي ذكرهم في الكتب المقدسة دائما على أنهم من الفجار العصاة المتمردين على تعاليم الألهة فكانت دائما مدن المصريين وقراهم في مرمى الغضب والهلاك الإلهي وكذلك بابل وصيدا ونينوى ودمشق وعمون وحتى أورسالم نفسها مدينة الفلسطينيين التي خصصها الرب كمأوى مقدس لشعبه الأثير لديه ،ومن هنا يمكن فهم الإشارة الأولية في بداية سفر التكوين عندما تقبل الرب قربان البدوي الراعي هابيل ورفض قربان أخيه الفلاح العامل في حقل دائم مستقر وبهذا يمكننا فهم طبيعة الصراع المزدوج بين الرب الإله وبني الانسان على المعرفة وامتلاك الخلود وقهر الموت ( من خلال فهم حديث الرب بعدما علم بعصيان آدم والأكل من الشجرة الأولى شجرة المعرفة مما اضطره إلى وضع الشجرة الأخرى شجرة الخلود تحت حراسة قوية محاطة بجبال النار المشتعلة من المعادن المنصهرة وطرد آدم من الجنة)وبين البشر بعضهم البعض على الحظوة بالقرب من الإله ونيل رضاه عندما تقبل قربان راعي الغنم هابيل العائش في البرية والإعراض عن قربان الفلاح قايين الساكن والمقيم في الحقل ،كما يمكن فهم الخدعة التي قامت بها رفقة زوجة إسحاق عندما رغب زوجها إسحاق إعطاء بركته ودعاءه بالنبوة لولده البكر عيسو(أدوم) السارح في البرية دوما فاحتالت أمهما رفقة على الأب الذي شاخ وفقد بصره احتالت مع ابنها يعقوب(إسرائيل) على سرقة البركة ودعاء النبوة من الأب العاجز الأعمى وذلك لأنها كانت تحب ابنها إسرائيل المقيم معها في الدار وتفضله على عيسو الهائم دوما في البرية وراء الصيد ،هذه الإشارة الجلية في جلب النبوة تجاه حياة الاستقرار والمدنية أججت الصراع بين يعقوب وعيسو الذي صمم على الانتقام من أخيه ووقعت بينهما صراعات وحروب ورثها نسلهما رغم أن أبو عيسو (اسحاق ) أمره بالرحيل والعيش بعيدا عن أخيه.
وإسرائيل في دياناتهم يبيحون الاحتيال ولو على الرب ذاته لتحقيق مقاصدهم ورغباتهم فإبراهيم يكذب لينال رضا المصريين عندما لجأ إليهم هاربا من الجوع. حتى آدم نفسه من قبل وبعدما عصى الرب حاول الاختباء في شجر الجنة ،وإسرائيل احتال مع أمه لخديعة أبيه إسحاق ثم احتال يعقوب ( اسرائيل)بعد ذلك مرتين على خاله لابان عندما أخذ جميع غنمه وبنتيه وخادمتيهما ليئة وراحيل وبلهة وزلفى أنجب منهن جميعا اثني عشر ولدا صاروا أسباطا(فروعا أساسية) لنسل إسرائيل الذي هو يعقوب وهم رأوبين وشمعون ولاوي ويهوذا ويساكر وزبولون والبنت دينة من الزوجة ليئة ومن أختها راحيل أنجب يوسف وبنيامين ومن سريته زلفة أنجب جاد وأشير ومن السرية الأخرى بلهة أنجب دان ونفتالي .
وموسى نفسه تعاونت أمه وأقاربه الإسرائيليون المولودون في مصر واحتالوا على الملك وقدموا له طفلا اسرائيليا على انه طفل مصري لقيط وجدوه في النيل وداوود الذي احتال على امرأة جاره وتلصص عليها من سطح المنزل واضطجع معها (زنا بها) وحاول إخفاء الجريمة باستدعاء زوجها أوريا الحثي الذي كان يحارب في جيش داوود الملك النبي من جبهة القتال ليضطجع معها ولكن أوريا رفض فأرسله الى الحرب مع توصية قائده أن يتركه بيد الأعداء ,هذه المرأة بتشيبع تزوجها داوود بعد قتله لزوجها أوريا فأنجبت له سليمان ,وابن داوود أمنون عشق أخته إيثامار واحتال ليضجع معها فلما زنى بها علم أخوه أبشالوم وقتله فدخل داوود وحارب ابنه ابشالوم حتى قتله, ورأوبين ابن يعقوب من ليئة يزني بسرية أبيه بلهة وموردخاي يزرع هداسا(استير) في قصر الملك الفارسي أحشويرش أثناء السبي بعد علمه بخلاف الملك مع زوجته فيقع الملك في حبها, وعليه ملكت استيرعرش فارس تديرالمملكة على هواها فتجعل الملك يقتل وزيره هامان الذي يكره اليهود ثم يحارب البابليين ويقضي عليهم ويعيدهم إلى مدينة الرب المقدسة أور سالم بعد إعادة بتائها،وربما كانت تفاصيل أنبياء إسرائيل وكهنتهم في كتبهم المقدسة سلسلة متواصلة من الاحتيالات والخدع وهذا طبيعي جدا في عالم تم تصوره على إنه صراع بين الخالق والمخلوق من جهة وبين المخلوقين جميعا ـ بدوا وحضراـ من جهة أخرى .
ويستمر هذا الصراع حتى يبلغ ذروته في توالي الملوك الانبياء على الحكم في اسرائيل التي انقسمت بعد داوود إلى مملكتين متناحرتين هما يهوذا والسامرة فهدم عاصمتهم التي نقل اليها داوود خيمة الرب التي ظلت تتنقل من جيل إلى جيل من أنبياء إسرائيل منذ موسى مرورا بيوشع ،داوود أخيرا يشرع في إقامة بيت لله لاول مرة ،بيت لم يكتمل إلا في زمن ابنه الملك النبي سليمان (وفي تلك الليلة كان كلام الرب إلى ناثان قائلا.اذهب وقل لعبدي داوود هكذا قال الرب أنت تبني لي بيتا لسكناي لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم بل كنت أسير في خيمة وفي مسكن)1ألى 5 صموئيل الثاني 7
..وهنا تنبغي الإشارة إلى أن وصايا الله وشرائعه وأدوات الكهانة كانت تنتقل في خيمة من نبي إلى آخر منذ تكلم الله مع موسى على جبل (الطور) في برية سيناء التي شردهم فيها الرب 40 سنة حتى يطهرهم من رجس المصريين وثقافتهم فيموت كل هذا الجيل الخارج من مصر والذين هم نسل يعقوب بن إسحق بن إبراهيم وتنبت زريعة جديدة كليا في غبار البادية ببرية سيناء واعتبارها أرض معزل لتطهير النسل المبارك المخصوص بحب الرب ومعرفته وتتم صياغته تحت عيني الرب الذي أراد تنشئتهم من جديد وتخليصهم من كل آثار المصريين الذين يطاردونهم حتى في أحلامهم كشعب علمهم ومد لهم أسباب التطور فحقدوا عليه وتعاونوا على إبادته عبر العصور بكل الطرق ومازالوا,الرب لم يشأ أن يميت موسى نفسه في الأرض المقدسة ولا حتى جثمانه لم يمنحه الحظوة بالدفن في تراب أرض الرب التي قدسها لهم على الرغم من أن موسى مؤسس الشريعة والتوراة التي هي صميم الديانة اليهودية فيما بعده فلو لم يكن موسى ماكانت يهودية ولا توراة او شريعة، موسى لم يشأ الرب أن يجعل قدميه تطأ الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم وشرد شعوبها بينما أكمل خادمه يوشع بن نون هذه المهمة وحارب الفلسطينيين وشاء الرب أن ينصر شعبه لدرجة أنه أمر الشمس ألا تغيب يوما كاملا وبقيت في أفق السماء ولم يأت ليل ألا بعدما فرغ يوشع من قتال الفلسطينيين وتوزيع اراضيهم المقدسة على نسل إسرائيل حسب أسباطهم أبناء يعقوب (إسرائيل)السبطان رأوبين وجاد ونصف سبط منسى قد أخذوا نصيبهم في عبر أردن أريحا شرقا نحو الشروق 15 عدد 34 وفي تلك الأيام كان سبط الدانيين يطلب له ملكا للسكن لأنه إلى ذلك اليوم لم يقع له نصيب في وسط أسباط إسرائيل1قضاة 18
ولم تبق لإسرائيل دولة موحدة على أرض مستقرة لها حدود متعارف عليها إلا في زمن داوود وسليمان وظل الصراع والقتال بين أبناء البيت الإسرائيلي بسبب واقعة زنا( وفي تلك الأيام لم يكن ملك لإسرائيل كان رجل لاوي متغربا في عقاب جبل أفرايم فاتخذ له امرأة سرية من بيت لحم يهوذا فزنت عليه سريته وذهبت من عنده إلى بيت أبيها في بيت لحم يهوذا وكانت هناك أياما أربعة أشهر)1و2قضاة 19
وهذا الرجل الذي من بيت لاوي(أحد أبناء يعقوب) بات لدى رجل من سبط بنيامين فأحاط أهل المدينة ببيت الرجل البنياميني (فخرج إليهم الرجل صاحب البيت وقال لهم لاتفعلوا شرا بعدما دخل هذا الرجل بيتي لاتفعلوا هذه القباحة هو ذا ابنتي العذراء وسريته دعوني أخرجهما فأذلوهما وافعلوا بهما ما يحسن في أعينكم) 3و4 قضاة 19وعلى إثر هذه الواقعة قامت حرب بين الإسرائيليين لأول مرة وتم طرد أحد أسباط إسرائيل الاثني عشر (وندم الشعب من أجل بنيامين لأن الرب جعل شقا في أسباط إسرائيل)15قضاة 21ومن اللافت أنه لم يذكر اسم الرجل ولا المرأة على الرغم من أنهما أحدثا شيئا عظيما في تاريخ العبرانيين فبسببهما طرد نسل أحد الأسباط من إسرائيل وربما لذلك لم يذكر اسمهما حتى لايصبحا لعنة على مر الدهور هذا في حين ذكرت أسماء لشخصيات عبرانية هامشية للغاية مثل أبيمالك وامرأته نعمى تأسيسا لقصة راعوث ،حتى غزاهم الآشوريون عندما أرسل نبوخذ نصر البابلي جيشه فهدم أورسالم وأخذ غالبية إسرائيل من نساء وأطفال ومقاتلين وأنبياء إلى السبي والأسر في بابل داخل حدود الرافدين وظلوا هناك سبعين سنة حتى أعادهم الملك الفارسي قورش بن أحشويرش الذي تزوج أستير من بنات إسرائيل فحولوا قصره ورجاله إلى جنود لهم، استغلوهم في التحريض ضد البابليين والانتقام منهم وإعادة المسبيين وبناء أورسالم من جديد.
ولم يكن الاحتيال الإسرائيلي قاصرا على الخيانة والمكر في سبيل تحقيق الرغبات والأهداف إنما طال أيضا أركان النسك والكهانة فإبراهيم الذي هو الجذر المؤسس القائد نقل عن المصريين عادة الختان للذكور واعتبرها علامة عهد من الرب ودليلا على الوفاء التام بين نسل إبراهيم والإله كما نقل طريقة المصريين في تسمية نسلهم وذلك بحسب الوظائف والمهام والمواهب التي يتمتع بها كل مولود ولايتم معرفة ذلك إلا بعد فترة يقضيها الطفل متعلما في المعبد تحت إشراف الكهنة الذين يراقبونه وهو يتنقل بين مفردات المعبد وما فيه من صنائع وحرف كتربية الماشية والترميم والتحنيط ووصناعة المراكب وأدوات الزراعة، والأطفال يستهويهم نشاط ما فينخرطون فيه بمعاونة الكهنة ومعاونيهم من المعلمين وبعد اتقان الطفل صنعة ما يتم تسميته بحيث يكون اسمه معبرا عما يبرع فيه من صنعة كأن يكون مثلا آخيتي نوت أي عالم الفلك المتأمل أبراج السماء وهكذا ...وهذه الطريقة في التسمية أعجبت إبراهيم فغير اسمه من أبرام بمعنى أبو رام (طفل واحد) إلى أبراهيم(أي أب لجمهور غفير من الأمم) وكذلك تغير اسم ساراي إلى سارة ويعقوب إلى إسرائيل وعيسو إلى أدوم وأتصور أن تغيير أسماء آباء الكنائس بعد ترقيتهم إلى هذه المهمة والرسالة والوظيفة هو من بقايا تأثرهم بالثقافة والدين المصري القديم وكذلك اختراع مايعرف بالأديرة الذي هو ابتكار مصري أصيل ابتدأه آباء كنيسة الاسكندرية في العهد الجديد هو من بقايا المعبد المصري القديم حيث المكان للخلوة والعمل والانتاج.وكذلك ختان الذكور الذي هو علامة العهد الأبدي بين شعب إسرائيل وبين الرب لم يهتد إليها إبراهيم إلا بعد أن اختلط بالمصريين وقد كان في الثمانين من عمره ،ورغم أن مصر كانت الرحم الذي ضم هذا النسل المشرد الهارب من القحط والجوع فتناسل وتكاثر من خيرات شعبها ونعم بالتسامح والعيش المسالم رغم كل ذلك لم ترد مصر ولو مرة واحدة بصيغة من رضا أو عرفان منهم أو من ربهم رغم ورودها بالاسم 680في أسفار عهدهم القديم.
ملخص علاقة الرب بشعب إسرائيل
وكأن الرب لم يعد يحتمل الانعزال والوحدة عن مخلوقاته فاختار من نسل الإنسان واحدا هو إسرائيل جعله شعبا يحبه ولايقدر على افتقاده وهذا الشعب قام بالإعلان عن هذا الإله وتقديسه أمام جميع الخلائق وكأن بين الرب وإسرائيل عهدا وعقدا وميثاقا إلى الأبد يقوم الرب بمقتضاه بحماية إسرائيل وتفوقها وغلبتها على كل شعوب الأرض من بني الإنسان على أن يلتزم هذا الشعب بتقديس الرب وإظهاره في مرمى الأمم والشعوب ‘على مرمى الأزمنة ,إنها علاقة وعهد بدأ منذ 3700سنة تقريبا زمن الجد الأكبر إبراهيم ومازال مستمرا حسب توالي المرسلين من الرب إلى هذا الشعب بمجيء عيسى ,ورغم أن شواهد التاريخ والأحداث الواردة في عهدهم القديم تنبئ بغير ذلك ومنذ البدء فقد قال لهم ربهم في قدس أقداس شريعتهم مع موسى وهو يهرب بالشعب من مصر ليزرعهم في الأرض التي خصصها لهم ربهم قال في الوصايا العشر:أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لايكن لك آلهة أخرى أمامي....من ا إلى 16 خروج 20
تلك كانت الوصايا العشر بتحريم الكذب والقتل والزنا والسرقة والشرك وغيرها من المحرمات التي وردت في ذلك الموضع من سفر الخروج إلا إن نسل إسرائيل من أنبيائه وحتى كهنته وأفراد الشعب قاموا بنقض كل ذلك فزنوا وكذبوا وقتلوا وأشركوا بالرب أيضا فقد زنا داوود وارتبط سليمان بزوجات أجنبيات وامتلأ بيته وهيكله بالبعليم ومولك والعشتروت وكموش وداجون من معبودات وأصنام الأمم الأخرى.
وفي نهاية هذا الموجز عن تاريخ ديانة إسرائيل الذي يتناقض تماما مع تاريخ المنطقة التي تحرك فيها هذا النسل من تخوم مصر جنوبا وحتى الموصل ونينوى شمالا مرورا بدمشق وصيدا والأردن وفلسطين في الوسط مع الانتباه دائما أن كل هذا المحيط كان لأمم وشعوب لديها حضارات متقدمة عرفت التدوين والتوثيق لكل منجزاتها الحضارية بكل الطرق ومنها الكتابة بينما بقيت إسرائيل تتداول شفاهيا أدبها وثقافتها التي جمعتها من كل تلك النطاقات ولم تشرع في تدوينها إلا في القرن السادس قبل الميلاد عندما تم أسرهم ونقلهم إلى بابل وتخريب مدنهم في فلسطين مما اضطرهم إلى الشروع في تدوين ميراثهم الثقافي خوفا من الهلاك في سراديب بابل قرابة 70سنة وظل هذا التداول التدويني الجديد في حالة من القلق والتغير حتى ابتدأ ظهور نبيهم الجديد عيسى الذي شرعوا في التمهيد لقتله فقرر تلامذته تخليده ونقل ديانته اليهودية الجديدة إلى كل الأمم رغم تحذيره السابق بقوله لتلامذته ( إلى طريق أمم لاتمضوا ...بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ) من5ألى 7متى 10
الفصل الثالث
موجز تاريخ المسيحية والكنيسة(اليهودية الجديدة)
ذهب يسوع المسيح يتمشى مع تلاميذه في نواحي صور وصيدا فصاحت عليه امرأة كنعانية (ليست من بني إسرائيل) طالبة الرحمة بابنتها المجنونة تريد من المسيح شفاءها والتلاميذ يطردونها بعيدا وهي تواصل الصراخ حتى توقف المسيح فأجابها:لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة,فسجدت أمامه تستعطفه قائلة : ياسيد أعني فرد عليها: ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب. وهو يقصد أن بني إسرائيل(البنين) هم المستحقون لبركاته وليس لبقية الأمم التي عبر عنها بالكلاب ،ولم تتوقف المرأة عن الاستعطاف قالت: نعم ياسيد والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة عظيم إيمانك ليكن لك كما تريدين..فشفيت ابنتها من تلك الساعة. من 21إلى 28 متى 15
في هذا النص الإنجيلي قمة التناقض بين المسيح الثائر على قومه إسرائيل لدرجة أن يسقط عنهم الاصطفاء وبين المسيح الذي يكرس لأفضلية إسرائيل عند الرب المحب لنسلهم أبد الدهور فقد سبق وقال لهم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ,ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون(طائفة تشبه الفلاسفة وعلماء الكلام في طريقة حواراتهم) أمثاله عرفوا أنه تكلم عليهم وإذ كانوا يطلبون أن يمسكوه خافوا من الجموع لانه كان عندهم مثل نبي ,هذه الجموع نفسها هي التي سارت وراءه هازئة ساخرة تطالبه(وهو ابن الرب صاحب المعجزات) أن ينقذ نفسه عندما ساقوه إلى القتل
وكان المسيح قد بدأ مشواره النبوي مع شعب إسرائيل بعد انحيازه ليحيا النبي واعتمد منه (التعميد بمياه نهر الأردن طقس ابتدعه يوحنا المعمدان_النبي يحيا_ لإزاحة الخطايا عن الشعب) فما كان من كهنة إسرائيل إلا أن قتلوا يوحنا بعدما انتزع منهم الاصطفاء بقوله الذي جاء بالإنجيل: لاتبتدؤوا تقولوا نحن أبناء إبراهيم إن خالق إبراهيم يستطيع أن يجعل من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم.فحرضوا هيروديا التي كان يحبها الحاكم الروماني لفلسطين هيرودس أن تطلب من الحاكم قتله وفعلا سلطت ابنتها سالومي التي أعجب هيرودس برقصاتها أن تطلب منه رأس يوحنا وقد فعل ,وفي هذا الوقت من تاريخ اليهود الإسرائيليين كانوا قد وصلوا إلى قاع الحضيض ونقض عهود الرب بما فيها الوصايا العشر
فأشركوا بالله وعبدوا ألهة الأمم الغريبة وقتلوا أقرباءهم وأخوانهم وأنبياءهم وكذبوا وسرقوا وزنوا وفعلوا كل قبيح في عين الرب ـ الرب الذي أباد أمما بأكملها بالصواعق والأعاصير والطوفان لمجرد أنهم لم يمتثلوا لرسله ـ فبدأ المسيح بنقض كل قناعاتهم العقائدية كما جاء في إنجيل متى الإصحاح 8من ا إلى 12 الحق أقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات وأما بنو الملكوت(الإسرائيليون) فيطرحون إلى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان .
ويسوع نبي لإسرائيل حولته الكنيسة فيما بعد إلى نبي للناس كافة,اسمعوه يوصي تلامذته: إلى طريق أمم لاتمضوا وإلى مدينة للسامريين لاتدخلوا بل اذهبوا بالحري إلى خراف إسرائيل الضالة,لقد وصل اللاهوت (علم الدين ) ذروته مع عيسى وربما كانت الآيات من 13إلى 20 في الإصحاح 16من إنجيل متى وشبيهاتها في الأناجيل الأخرى ربما كانت هى الكاشف وفي عمقها( أنت هو المسيح ابن الله الحي) ردا من التلميذ بطرس على المسيح عندما اجتمع المسيح بتلاميذه وسألهم عما يقوله الناس بشأن المسيح من هو فأجابوا بأن بعضهم يراه يوحنا المعمدان وآخرون يراه إيليا أو إرميا إلا إن بطرس الذي كان اسمه سمعان قال: أنت هو المسيح ابن الله الحي ,فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك ياسمعان بن يونان إن لحما ودما لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات, وانا أقول لك أيضا أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات.
لقد هاجم المسيح رؤساء الكهنة والفريسيين وزعماء اليهود في أورشليم ونقض كثيرا من يقينهم الديني ومنها تحريم العمل في السبت ( او ما قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت في الهيكل يدنسون السبت وهم أبرياء...إن ابن الانسان هو رب السبت ايضا) وواصل هجومه ( أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة فمنهم تقتلون وتصلبون ومنهم تجلدون في مجامعكم وتطردون من مدينة إلى مدينة لكي يأتي عليكم كل دم زكي سفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح ,حتى توجه لرثاء أورشليم قائلا:يا أورشليم ؛ يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرساين إليها.. كم مرة أردت أن أجمع أولادك...)
كما حرم الطلاق واعتبر المطلقة زانية والذي يتزوجها زانيا رغم أنه في شريعة موسى يجوز أن تطلق المرأة بكتاب ودعا إلى محبة الأعداء والعفو في القصاص ,وكان يعلم أثر ذلك على إسرائيل فقال لتلاميذه وهو يزودهم بتعاليمه قبل إرسالهم للتبشير والتعليم في قرى اليهود ومدنهم وتجمعاتهم: لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض ,فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها) كما يخبر بقرب القيامة وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء وحينئذ تنوح جميع قبائل الارض ,الحق أقول لكم : لايمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله,السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لايزول,هذا التأكيد على أن يسوع هو نبي لإسرائيل التي انحرف كهنتها بتعاليم الرب(وانت يابيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل)6متى 2
وبعدما شرع يسوع في مواجهة انحرافات الكهنة بدؤوا في التخطيط لقتله فقدموا شكاوى وشهودا لدى كبير الكهنة (قيافا) الذي أدانه بالهرطقة والكذب والتجديف على الأنبياء وهدم الناموس ثم رفع الشكوى الى الحاكم الروماني بيلاطس الذي حاول افتداءه لكنهم رفضوا وقبل القبض عليه أخبر تلاميذه بأنه سيقتل صلبا ويدفن وفي اليوم الثالث يقوم(يصحو) من الأموات ,وقد علم اليهود بهذه الوصية فطلبوا من الحا كم بيلاطس تخصيص قوة عسكرية لحراسة المقبرة إلا إنه في الأخير غادر المقبرة وذهب الى أبيه الذي في السماء.
إلى هنا لم تكن هناك ديانة مسيحية لها كنيسة كالتي نعرفها اليوم بل كانت هناك بذرة ستبذل المجامع المسكونية لرؤساء الكنائس دورا حاسما لوضع الأسس والتفاصيل لغرسها ورعايتها بكل السبل ,فحتى نهاية القرن الأول الميلادي كان ينظر للمسيحية باعتبارها فرقة يهودية منشقة حتى أن يوسيبوس القيساري أهم مؤرخ للمسيحية يقول إن التاريخ أهمل الدعوة المسيحية حتى نهاية القرن الثاني الميلادي وأول من اعترف بها من غير اليهود كان نيرون حاكم روما الذي اعترف بالقديس مرقص عام 62ميلادية(وربما كان ذلك سببا في طرد اليهود من أورشليم بأمر من نيرون حاكم روما إلى واليه على أورشليم)
و بعد الاجتماع الأول الذي عقده تلاميذ المسيح ورسله في أورشليم سنة 50 ميلادية وأقروا فيه دعوة الأمم الأخرى إلى المسيحية ذهب بطرس إلى روما ومعه مرقص ابنه بالتبني الذي غادرها بعد ذلك إلى طرابلس الغرب ثم إلى الإسكندرية التي أسس فيها كنيسة لنشر تعاليم المسيح ,مع الانتباه أن مصر في ذلك الحين كانت قد سقطت بأيدي الرومان في سنة 31ق.م وفقدت استقلالها بانتصار أكتافيوس على مارك أنطونيو وكليوباترا ومن المهم هنا أن نشير إلى انهيار تأثير مكتبة الإسكندرية الحضاري والديني بعد التدمير الأول الذي أحدثه يوليوس قيصر سنة 48ق.م وظلت في تدهور حتى تدمير السرابيوم في 380ميلادية مع مابقي من المكتبة واعتماد المسيحية دينا رسميا لمصر بعدما اعتمدها الامبراطور الروماني تيودوروس دينا رسميا للإمبراطورية في الربع الأخير من القرن الرابع الميلادي ومواصلة اضطهاد المكتبة وعلمائها وفلاسفتها لأنها كانت في نظر دعاة المسيحية معقل للكفر والخلاعة والوثنية .
ومنذ خروج المسيح من حياة الناس لم تكن هناك كنيسة قامت لا بالمفهوم اللاهوتي الذي صخرته (أنت هو المسيح ابن الله الحي) ولا بالمفهوم العمراني المدني ,لقد قام المسيح من مقبرته وصعد إلى ربه في السماء وبدأ يلتقي بتلاميذه ومريديه على نفس الجغرافيا القديمة التي طالما أحيا على أرضها الأموات وشفى المرضى من البرص والجذام وسار على الماء وأوقف العواصف ,خرج وبدأ بطرس نشاطه ومعه بعض التلاميذ وبعد ثلاثة قرون من النشاط التبشيري والدعوي أسفرت عن طرد بقية الإسرائيليين من أرض كنعان فيما عرف بالسبي الثاني على يد تيتوس الوالي الروماني على فلسطين ونزوح غالبية الإسرائيليين إلى جزيرة العرب في وادي القرى وفدك وتيماء ويثرب والمقنا ودخول كثير منهم في المخابئ فيما عرف بعد ذلك بعصر المكابا كما أسفرعن إقامة كنيسة الإسكندرية وكنيسة روما وكنيسة أنطاكية إضافة إلى كنيسة بيت المقدس التي شهدت اجتماع التلاميذ وقرارهم بنشر المسيحية في أوساط الأمم الأخرى غير الإسرائيلية وعقد المحفل المسكوني الأول في نيقية(مدينة بيزنطية قديمة قامت القسطنطينية على أنقاضها)لإقرار الأقانيم الثلاثة الآب والابن والروح القدس وطبيعة الابن هل هو صادر عن الآب أم هو مساو له في الجوهر وكانت مساهمات بابا الاسكندرية في هذا المحفل مؤثرة أسفرت عن مذهب في المسيحية اسمه الآريوسية نسبة الى آريوس بابا الإسكندرية ثم عقد المحفل الثاني في 431 ثم عقد محفل خلقدونية الذي انقسم فيه الأرثوذكس في مصر والسريان وأثيوبيا وأرمينيا وأرثوذكس روم وتلاه بعد 30 عاما محفل التدشين الذي افتتحت به العاصمة الجديدة القسطنطينية وإعادة الاعتبار للمعتقد الآريوسي (الطبيعة الواحدة للأقانيم الثلاثة) عن طريق أسقف القسطنطينية يوسيبوس النيقوميدي و بعد ذلك بفترة تدشين كنيسة انطاكية وفي 1054انقسمت كنيسة روما فيما عرف بالانشقاق العظيم على خلفية الجدل في الروح القدس وهل هو صادر عن الآب أو عن الآب والابن معا ونشأ المذهب الكاثوليكي وفي القرن السادس عشر وبعد فتح القسطنطينية وانفصال روما ظهر المذهب البروتستانتي.
وهكذا فإن الديانة المسيحية بوضعها الحالي وملامحها المعروفة بها في العالم الآن مدينة للنشاط الكنسي الذي تعهده الفكر اللاهوتي ودفع به إلى الأمام لتطوير أسس ومرتكزات التصور الإسرائيلي اليهودي عن الذات والوجود والتي تبدأ بواكيره الأولى من سفر التكوين وقصة الخلق...فالصراع بين الإنسان والإله دخل أفقا جديدا بعدما تمكن الإنسان من الفرار من الموت ونيل الأبدية بتخليص المسيح من قبضة الموت ,والإله الذي منع الإنسان من المعرفة والخلود بتحريم الشجرتين في الجنة ها هو الإنسان آدم قد أكل من الشجرة الأول فنال المعرفة وها هو الإنسان الأخير يسوع المسيح قد أكل من الشجرة الثانية ليمحو خطيئة الإنسان الأول فنال الخلود وقهر الموت، ومازال الصراع قائما بين الإله والبشر وبين البشر أنفسهم من أحفاد هابيل الراعي صاحب القربان المقبول وأحفاد قايين المقيم في الحقل صاحب القربان المرفوض , فالكنيسة رؤية فكرية جامعة تضم كثيرا من الإشراقات الغنوصية الباطية وكثيرا من الرموز الفلسفية , إنها خلاصة رؤية الفلاسفة والحكماء في حضارات البحر المتوسط من مصر والرافدين وآرام وبلادالإغريق.
والآن فها هو صراع الإنسان مع الآلهة وفق التصور الإسرائيلي قد عبر أفقا جديد في الجرأة والتحدي ,فهذا بابا روما الجديد الذي هو مندوب ابن الرب الحي يصرح بأن قصة الخلق أسطورة وأن الجنة والنار كذلك وأن للمرأة حق الباباوية وجدارة مندوبية المسيح على الأرض ,وها هي كثير من كنائس الغرب تبارك زواج المثليين ويطالب مساندوها دول العالم بالاعتراف بحقوقهم ضمن منظومة الأمم المتحدة لحقوق الانسان ,ومن هذا الموطن ألمح انحلال سيطرة التصور العبراني الإسرائيلي على مقاليد البشر، وخصوصا بعد شلح بابا روما بيندكتوس بهدوء رغم أن هذا أمر نادر الحدوث في تاريخ الكنيسة, شلحوه بسبب محاضرته التي أدخل فيها اللاهوت(الفكر الديني)في عباءة الفلسفة واعتباره أحد تجلياتها.
الفصل الرابع
موجز تاريخ الدعوة المحمدية
في الربع الأخير من القرن السادس لولادة يسوع أرسل أبرهة (أبراموس )النصراني إلى النجاشي ملك الحبشة يخبره ببناء كنيسة في صنعاء اسمها القليس لم ير مثلها في الأرض وليجعلها قبلة الناس ويصرفهم عن بيت العرب الذي بمكة ,بعدها يتوجه بجيش لهدم بيت العرب المقدس بعد قيام أحد النسأة(الذين ينسئون الأشهر الحرم بتأخير شهر المحرم الذي كان اسمه المؤتمر إلى ناجر الذي صار اسمه صفر) بالتبرز والتبول في باحة القليس تدنيسا واستهانة بما قام به أبرهة ,وفي هذا السياق ظهرت أول إشارة إلى سبب كراهية قريش لأهل الطائف من ثقيف وهوازن عندما أرسل الثقفيون واحدا منهم اسمه أبو رغال لإرشاد أبرهة إلى موضع كعبة قريش التي كانت تنافس كعبة ثقيف وإلهها اللات رب ثقيف وهوازن سكان الطائف ,مات أبورغال على تخوم مكة في منطقة تسمى المغمس وظل قبره هناك ترجمه قريش إلى الآن سرا وعلانية ..حقيقة ومجازا.
الحالة الدينية في مصر والحجاز والشام واليمن
تم نشر المسيحية بالقوة في مصر مع بداية حكم الإمبراطور دقلديانوس سنة284م وسمي بعصر الشهداء واتخذه المصريون بداية للتقويم القبطي وبعدها تم الاعتراف بها كديانة رسمية للامبراطورية الرومانية في عهد ثيودوسيوس مع نهاية القرن الرابع( من 378وحتى395م) وذلك بعد تأسيس كنيسة مرقص بالاسكندرية والتي تولت تعيين الأساقفة في الحبشة (أكسوم) حتى 1958م. وفي زمن الامبراطور قسطنطينيوس سنة 340م أرسل أسقفا هو ثيوفيلوس على رأس حامية لنشر المسيحية في جنوب آسيا ببلاد العرب السعيد وفي سنة 525م وقبل ميلاد الرسول محمد ب50 سنة ارتد الملك الحميري اليمني ذو نواس( ملك سبأ) عن المسيحية واعتنق اليهودية وقتل المسيحيين حرقا في الأخدود بنجران شمال اليمن فطلب الامبراطور جوستينيان مساعدة المصريين لما لهم من سلطة دينية في إقناع أثيوبيا( الحبشة)في العبور وتأديب المللك الحميري ذو نواس وفعلا أرسل الملك الحبشي جيشا قوامه 70 ألفا إلى ذو نواس بقيادة أرياط وضمن جنوده أبرهة الأشرم الذي انقلب بعد ذلك على أرياط وقتله بعد هزيمة ذو نواس الذي تهود و حرق نصارى نجران ,وبسبب غضب ملك الحبشة لقتل قائده أرياط حاول أبرهة استرضاءه ببناء الكنيسة الفريدة (القليس) بصنعاء في سعيه للاستقلال بحكم تهامة واليمن والحجاز عن ملك الحبشة (أكسوم).
وفي سنة532م عقد الامبراطور جوستينيان معاهدة مع الفرس بشأن تقاسم النفوذ في اليمن وفي سنة 627م وعندما كان الرسول محمد في الخامسة والأربعين من عمره هزم الامبراطور الروماني هرقل جيوش الفرس التي احتلت مصر وبعض الولايات الشرقية في 616م .وقبل ذلك بقليل كان قد نشب صراع على العرش الروماني بين فوكاس وهرقل والي إفريقيا في سنة 610م والتقى الجيشان في الإسكندرية وانتصر هرقل الذي لقبه العرب بأرطبون الروم ’يذكر أن شرق جزيرة العرب قد انتشرت فيها المسيحية منذ هزيمة الملكة زنوبيا أمام الإمبراطور أوريليانوس في 271م
وفي عمق تهامة والحجاز كان مضاض بن عمرو الجرهمي وشيخ القبيلة الذي ينتسب إليه العرب كان قد هزم العماليق وأصبحت له السيادة على مكة التي كان اسمها مقربة أو ماكورابا كما جاء في تاريخ يوسيفوس ثم انتقلت السيادة إلى خزاعة ثم إلى قريش ومنهم هاشم بن عبد مناف من ولد قصي بن كلاب الذي تزوج سلمى بنت عمرو الخزرجية من عرب الجنوب الأزد فأنجب هاشم شيبة الحمد عبدالمطلب جد الرسول محمد.
وكان لكل قبيلة صنم يضعونه في مكان مخصوص يسبغون عليه مظاهر القداسة والنسك والشعائر فقبيلة هذيل اتخذت سواعا صنما معبودا وكلب اتخذت ودا وطيئ اتخذت يغوثا وهمدان اتخذت يعوقا وذو الكلاع من حمير باليمن اتخذت نسرا وجارتها خولان اتخذت عميانس وقريش اتخذت هبلا والعزى وإساف ونائلة البغيين اللذين مارسا الجنس في الكعبة عند زمزم فسخطهما الله صنمين فعبدتهما قريش وملكان بن كنانة اتخذت سعدا اما ثقيف فقد اتخذت اللاة في الطائف والأوس والخزرج (الأزد) اتخذت مناة وذو الخلصة كان صنما لدوس وخثعم وبجيلة بمنطقة تبالة من بلاد العرب وفلس كان لطيئ ومن يليها بجبل طيئ ورئام لحمير من أهل اليمن ورضاء لبني ربيعة من قبيلة تميم وذو الكعبات كان لبكر وتغلب من قبيلة وائل.
وإضافة لكل ماسبق من أحوال العقيدة الدينية كان هناك الأحناف ومنهم ورقة بن نوفل وعبيدالله بن جحش وعثمان بن الحويرث وزيد بن عمروبن نفيل وأمية بن ابي الصلت وقس بن ساعدة وأبوبكر بن قحافة وعبدالمطلب بن هاشم وخالد بن سنان العبسي الذي قال فيه الرسول : نبي ضيعه قومه وعدي بن زيد وحنظلة الطائي وأكثم بن صيفي وعامر بن الظرب وأبو أمية بن المغيرة وأسعد بن كريب الحميري ورباب بن البراء وأبو قيس بن صرمة وسعد بن عبادة وعباد بن بشر وسعيد بن زيد وسعد بن معاذ سيد الأوس وعبادة بن الصامت وزهير بن ابي سلمي ,من هؤلاء اجتمع أربعة هم عبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث وزيد بن عمرو وورقة بن نوفل اجتمعوا في عيد العزى وقرروا هجرة أقوامهم فهاجر عبيدالله بن جحش مع زوجته أم حبيبة( تزوجها الرسول محمد فيما بعد) إلى الحبشة وتنصر ومات هناك وابن الحويرث ذهب إلى بيزنطة وتنصر هناك واستعدى البيزنطيين على مكة على أن يكون واليا عليها من قبل القيصر ففشل وفر إلى الغساسنة من نصارى الشام فأرسلت قريش الهدايا إلى الغساسنة فمات عثمان بن الحويرث مسموما ، أما زيد بن عمرو بن نفيل فهرب وزوجته وعمه الخطاب واعتزل الأوثان وتنصر ورقة بن نوفل وبقي في مكة يترجم نصوصا إنجيلية من الرومية إلى العربية,ومن خلال هؤلاء تم نشرالكثير من التعاليم والذكر الوارد في كتب اليهود والمسيحيين فها هو زيد بن عمرو بن نفيل يتحدث عن الدنيا والآخرة وعن الله وصفاته كما يروي طرفا من القصص الذي جاء قرآنا بعد ذلك:
أربا واحدا أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور،عزلت اللات والعزى جميعا كذلك يفعل الجلد الصبور،فلا العزى أدين ولا ابنتيها،ولاصنمي بني عمرو أزور،ولاهبلا أدين وكان ربا لنا في الدهر إذ حلمي يسير،عجبت وفي الليالي معجبات وفي الأيام يعرفها البصير،بأن الله قد أفنى رجالا كثيرا كان شأنهم الفجور،...ولكن أعبد الرحمن ربي ليغفر ذنبي الرب الغفور،فتقوى الله ربكم احفظوها متى ما تحفظوها لاتبوروا،ترى الأبرار دارهم جنان وللكفار حامية سعير،وخزي في الحياة وإن يموتوا يلاقوا ما تضيق به الصدور.
إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا وقولا رصينا لايني الدهر باقيا،إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه إله ولا رب يكون مدانيا،ألا أيها الإنسان إياك والردى فإنك لاتخفي من الله خافيا،وإياك لاتجعل مع الله غيره فإن سبيل الرشد أصبح باديا، حنانيك إن الجن كانت رجاءهم وأنت إلهي ربنا ورجائيا،رضيت بك اللهم ربا فلن أرى أدين إلها غيرك الله ثانيا،وأنت الذي من فضل منّ ورحمة بعثت إلى موسى رسولا مناديا،فقلت له اذهب وهارون فادعوا إلى الله فرعون الذي كان طاغيا،وقولا له أأنت سويت هذه بلاوتد حتى اطمأنت كما هيا ،وقولا له أأنت رفعت هذه بلاعمد أرفق إذن بك بانيا،وقولا له أأنت سويت وسطها منيرا إذا ما جنة الليل هاديا،وقولا له من يرسل الشمس غدوة فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا،وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيصبح منه البقل يهتز رابيا،ويخرج منه حبه في رؤوسه وفي ذاك آيات لمن كان واعيا، وأنت بفضل منك نجيت يونسا وقد بات في أضعاف حوت لياليا،وإني لو سبحت باسمك ربنا لأكثر إلا ما غفرت خطائيا،فرب العباد ألق سيبا ورحمة علىَ وبارك في بنيَ وماليا.
وفي سياق توصيف الحالة الدينية في صدر دعوة الإسلام كانت مصر في عصر الرسول (571ألى632م) تحت سلطة هرقل إمبراطور الروم وعلى كنيستها أسقف شرعي هو بنيامين يؤمن بالطبيعة الواحدة للمسيح حسب ثوابت كنيسة الإسكندرية فعزله هرقل الذي يدين بأفكار كنيسة روما ووضع مكانه أسقفا ملكانيا هو قيرس الذي سماه العرب بالمقوقس كان فيما سبق أسقفا على كنيسة أفسوس في بلاد الأكراد ثم ناب قيرس في وقت لاحق عن هرقل في حكم الإسكندرية في حين هرب الأسقف الرسمي بنيامين إلى الصحراء في الأديرة( القلايات) من بطش هرقل وقيرس.
وفي الوقت الذي كان يتفاوض فيه عبدالمطلب مع أبرهة لإعادة الإبل والأسلاب التي نهبها أبرهة قائلا: أنا رب هذه الإبل أما البيت فله رب يحميه ,فيسترد عبدالمطلب حلاله ويفشل أبرهة في هدم الكعبة في هذا التوقيت يولد الرسول محمد لأحد أبناء عبدالمطلب اسمه عبدالله والذي مات قبل ولادة ابنه محمد الذي جاء في إمارات نبوته أثناء الولادة وقبلها وبعدها روايات تناقلتها كتب التاريخ كما تناقلت من قبل وقائع مشابهة عند ولادة الرسل والانبياء من النسل الابراهيمي ...فهاهي امرأة من بني أسد أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب طلبت من عبدالله ابو محمد أن يقع عليها(يعاشرها جنسيا) وستعطيه مثل الإبل التي نحرت عند الكعبة وكانت قد رأت نورا فوق جبهته فتركها وانصرف الى آمنة زوجه ثم رأته بعدما عاد من عند آمنة وقد انقشع ذلك النور كما أن أمه قالت عند ولادته انها رأت نورا خرج منها رأت به قصور بصرى من أرض الشام وهاهم الرهبان في طريق التجارة مع الشام يرون فيه علامات النبي المنتظر وغمامة تظلله وشجرة لايجلس تحتها إلا نبي كما نقل عن راهب مدينة بصرى (في محافظة السويداء السورية الآن) ثم حادثة شق الصدر وهو يرضع في بني سعد بالطائف (لماذا يستأجر العرب مرضعات؟)إانها طريقة في التربية تكسب الأطفال قسوة واستقلالية كما تمنع الآباء والأمهات من التدليل المفسد للشخصية ,هوعرف بدوي ظهر له صدى في تشريعات القرآن فيما بعد(وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلاجناح عليكم..)(فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن..)
ومن المعروف أن لكل قبيلة عريقة جذر تنتسب إليه فهل كان هناك رجل اسمه قريش انتسبت إليه هذه القبيلة ولماذا لم يتواتر اسمها في أشعار العرب قبل الإسلام وفي بواكيره؟ يقول علماء النسب إن قريشا تنتسب إلى النضربن كنانة الجد البعيد لمحمد ،بينه وبين الرسول اثنا عشر من الآباء فهو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر,فكل من تفرع من عند النضر فهو قرشي وسميت قريش بذلك من التقرش وهو التكسب عن طريق التجارة أو التجمع وهذا ذكرني بقبيلة مشهورة في جزيرة العرب اسمها الظفير حيث تظافر شتات ممن لاينتسبون إلى قبيلة محددة ومعروفة ,تظافروا وتجمعوا تحت اسم واحد وهذا مايبدو أن نسل النضر بن كنانة وماتفرع عنه قاموا بمثله أي تقرشوا وتظافروا ليكونوا عونا بعضهم لبعض على بأس القبائل المجاورة التي مازال نسلها يعيش في نجد والحجاز وما جاورها في اليمن والعراق والشام ومصر مثل تميم وشمر وعنزة وحنيفة وعبس ويام وغيرها الكثير الذين تناثروا في الأرض وخصوصا بعد حركة الفتوحات والغزوات العربية حاملة لدعوة الإسلام.
شب الرسول في كنف جده عبدالمطلب حتى بلغ الثامنة ثم في رعاية عمه أبي طالب الذي ظل جواره حتى وصل الخمسين من عمره قبلها بدأ يتردد على كهف بالقرب من مكة, مغارة اسمها حراء يقضي فيها أوقاته في سكينة وقبلها وفي سن الرابعة والعشرين تزوج من سيدة تزوجت مرتين قبله ولديها أولاد وأموال تتاجر فيها ،سيدة قيَمة على أمرها ,زوجه إياها ابن عمها القس النصراني ورقة بن نوفل على شريعة أهل الكتاب في الغالب ومما يدعم قولنا أن الرسول لم يتزوج عليها كما هو معمول به في شريعة عيسى ولما ماتت وهو في الخمسين تزوج إحدى عشرة مرة ،غيرمن تسرَى بهم وملك اليمين وامرأة وهبت نفسها للنبي ، تزوجهم جميعا على شريعة الدين الجديد الذي جاء به ,قضى ستا وعشرين سنة من شبابه في زيجة واحدة بينما تزوج عشر مرات وتسرى بأربع في اثنتي عشرة سنة من كهولته ومن العجيب أنه لم ينجب من كل هؤلاء الثيبات والأبكار إلا من السيدة الأولى والجارية التي تسرى بها مارية المصرية وأن جميع أبنائه الذكور ماتوا صغارا بينما ظلت بناته على قيد الحياة حتى بعد وفاته.
بدأت مناوشات الرسول وتحرشات قريش وغيرها من القبائل به منذ أعلن أنه رسول الله وآتاهم بكلام الله الذي هو القرآن ,فها هو الرسول يقول لأبي جهل(عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي):كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم وذلك في سياق الوفد الذي ذهب إليه حال مرض الموت الذي ألم بعمه أبي طالب كما طلبت بنو عامر أن يكون لهم الأمر من بعده حين ذهب إليهم يدعوهم إلى الإسلام فقال لهم : إن الأمر لله يضعه حيث يشاء ، كما رفضت بنو عامر بن صعصعة الحلف مع الرسول ورد عليه زعيمهم بيحرة بن فراس قائلا: أفتهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ؟! لا حاجة لنا بأمرك ، وكانت قريش فرضت حصارا على النبي وأتباعه نصت وثيقته على عزل المسلمين وحصارهم ومنع التعامل معهم بالبيع أو الشراء أو المصاهرة واستمر الحصار ثلاث سنوات حتى نقض الصحيفة كل من هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود, تلك الصحيفة أكلتها الأرضة كما يزعم كاتبو السير إلا فاتحتها باسمك اللهم وفي هذا السياق عرض الرسول نفسه على وفود العرب في موسم الحج فأخبره سويد بن الصامت من أشراف يثرب عن كتاب معه يسميه حكمة لقمان فقرأ عليه محمد شيئا من القرآن فاقتنع سويد بكتاب محمد حتى إن قومه يقولون حين قتله الخزرج إنه مات مسلما.
وعلى الرغم من أن الرسول لقي أذي بالغا من قريش في مكة بلغ إلى حد التآمر على قتله في جوف الكعبة والتعرض لأتباعه الضعفاء بالتعذيب والتجويع والحبس والقتل ,رغم كل ذلك حافظ الرسول على بنيان القبيلة ولم يتعرض لهم بقتل أو إبادة كما فعل مع أهل الطائف من ثقيف أو هوازن أوكما فعل مع قبائل العرب المحيطة بيثرب مثل هذيل وغطفان وخزاعة وسليم ومحارب وثعلبة وجزيمة وقد أغار عليها جميعا ونال منهم غنائم وأسلابا إلا قريشا عندما غزاها قال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء ومن دخل داره فهو آمن بل أعطى شرفا لزعيمهم أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمش بن عبدمناف بن قصي بن كلاب الذي قاتله في بدر وأحد والخندق وتحالف عليه مع كل أعدائه ،منحه شرفا أن تزوج ابنته وقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن رغم أنه وحتى ذلك الوقت لم يكن من المسلمين وبعد ذلك أعطاه من غنائم وأسلاب الطائف مئة ناقة من أموال ثقيف وهوازن ،حافظ الرسول على قبيلته واتخذ منهم عونا بالقوة أو بالسياسة على بقية القبائل ثم جعل أمر الخلافة فيهم إلى أن تقوم الساعة بقوله إن الأئمة من قريش ونرى ذلك بجلاء في قول الرسول لعمر بن الخطاب عندما هاج واحتد على عمرو بن سهيل في صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة:لعلك ترى منه موقفا يرضيك ,وقد صدقت فراسة النبي عندما هاجم عمرو بن سهيل قريشا عقب موت النبي قائلا لهم كنتم آخر من أسلم فلا تكونوا أول من يرتد وعندما جهز جيشا من ماله لقتال المرتدين زمن أبي بكر.
كما يتجلى حرص الرسول على إرضاء قريش في قول الأنصار(الأزد) لقي رسول الله قومه عندما أجزل لهم العطاء من أسلاب هوازن وثقيف فقد أعطى أبوسفيان بن حرب وابنه معاوية والحارث بن كلدة والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى أعطى كل واحد منهم مئة ناقة فقالت الأنصار(لقي رسول الله قومه)
وكانت جزيرة العرب في تلك الأثناء غارقة في دوامة من التناحر السياسي بين القبائل على موارد الرعي وآبار المياه ودواعي الشرف والفخر الصحراوي بينما الفرس (المجوس) والرومان المسيحيون يتربصون بها وبأهلها يحاصرونها شرقا في الحيرة عن طريق عملائهم المناذرة وغربا في إمارة الغساسنة عملاء الرومان في بادية الشام .في مكة قريش لها السيادة وفي الطائف ثقيف وفي يثرب اليهود يذلون عرب اليمن من الأوس والخزرج(الأزد) ويفشون بينهم الفتن والعداوات نظرا لأن الأوس والخزرج وفدوا إلى يثرب عقب انهيار سد مأرب , وكان اليهود قد انتشروا في فدك وتيماء والمقنا ووادي القرى ويثرب بعد أن طردهم الحاكم الروماني تيتوس من فلسطين سنة 61م، فتملكوها قبل وصول الأوس والخزرج بثلاثة قرون تقريبا .
حاول الأوس والخزرج الاستعانة بمن حولهم من العرب فاستنجدوا بالملك الغساني جبلة الذي أغار على اليهود في يثرب وكان ملكهم الفيطون يفتض بكارة فتيات الأزد (الأوس والخزرج)قبل زواجهن إمعانا في إذلالهم, قام مالك بن العجلان فقتل الفيطون وفر إلى ملك حميرتبع الأصفر,وظلت محاولاتهم حتى زمن الرسول محمد فتوجه أبو الحيسر أنس بن رافع مع قومه من بني الأشهل إلى مكة طالبا العون وعقد حلف مع قريش ضد أبناء عمومتهم الخزرج فسمع بهم محمد فجاء إليهم ودعاهم إلى الإسلام فاستجاب له أحدهم وهو إياس بن معاذ وقد كان الأوس والخزرج في شغل هذه الأيام استعدادا لحرب بعاث وقد ذكرهم الرسول بفضله عليهم عندما غضبوا من إغداق الرسول على القرشيين من أموال غنائم حنين ونسيانهم،قال ابن هشام في حديث عن أبي سعيد الخدري:لما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا لقريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء،وجد(حزن)هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة( الكلام)حتى قال قائلهم لقد لقي والله رسول الله قومه فدخل عليه سعدبن عبادة( الذي عزله الرسول قبيل فتح مكة والذي اعترض على تحديد الخلافة في قريش خلال مؤتمر السقيفة والذي هرب إلى بصرى الشام وقتل بها ولم يعرف قاتله حتى إنهم نسبوا مقتله إلى الجن التي قالت شعرا في مقتله)فقال يارسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ,قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ,ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء قال: وأين أنت من ذلك ياسعد؟قال: يارسول الله ما أنا إلا من قومي قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة قال:فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة قال:فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال:قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول الله فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال :يامعشر الأنصار ما قالة(كلمة) بلغتني عنكم وجدة (حزن)وجدتموها على في أنفسكم ؟ألم آتكم ضلالا فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف الله بين قلوبكم قالوا : بلى الله ورسوله أمنٌ وأفضل قال ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا بماذا نجيبك يارسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل قال:أما والله لوشئتم لقلتم فلصدقتم آتيتنا مكذبا فصدقناك وعائلا فآسيناك ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك أوجدتم (حزنتم)يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة(مال زائل) من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس شعبا(الطريق الضيق المتعرج) وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار أبناء أبناء الأنصار قال:فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظا ثم انصرف رسول الله وتفرقوا.
وقصدت التأني في هذا الموقف لسببين الأول حسن تصرف الرسول في إرضاء الناس كل حسب تكوينه ومعرفته الدقيقة بمواطن التأثير فيهم سواء المكيين أو الأنصار وثانيا لأن هذا الحديث النبوى وحديث آخر سنأتي عليه لاحقا في بقيع الغرقد يودع الأموات قبل موته بثلاثة أيام فيهما الكثير من فصاحة ومتانة النص القرآني ذاته.
إذن الأنصار يبحثون عن حليف ليعاونهم في تخطي عقبتي اليهود والحرب المستعرة بين الفرعين الأوس والخزرج ,وكان أن التقط الرسول الفرصة السانحة بعد أن أغلقت أمامه أبواب مكة والطائف فقررطرق أبواب يثرب فتواعد مع أوسها وخزرجها رجالا ونساء أن يعقد معهم بيعة موثقة بحضور عمه العباس الذي لم تعجبه البيعة الأولى فعقد الثانية في العام التالي سنة622م بحضور خمسة وسبعين رجلا بينهم امرأتان.
ثم فرهو ومن معه إلى يثرب واستمر بها عشر سنوات لم يضيع فيها لحظة واحدة لبلوغ هدفه وهو السيطرة على جزيرة العرب والانتقال إلى مستعمرات الفرس والروم المجاورة(أعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم)وهنا سأنقل لكم وقع هذه الهجرة وأثرهاعلى سادة مكة وزعمائها من خلال حوار بين أبي جهل(الحكم بن هشام) وبعض وجوه مكة، يقول الحكم:يامعشر قريش إن محمدا نزل بيثرب وأرسل طلائعه وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا فاحذروا أن تمروا طريقه أو تقاربوه فإنه كالأسد الضاري إنه حنق عليكم لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم(طرف خف البعير)،والله إن له لسحرة ما رأيته قط ولا أحدا من أصحابه إلا رأيت الشياطين ,وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة( اسم أم قبيلة الأوس والخزرج وهي خولة بنت الأرقم) فهو عدو استعان بعدو فقال له مطعم بن عدي:يا أبا الحكم والله ما رأيت أحدا أصدق لسانا ولا أصدق موعدا من أخيكم الذي طردتم و إذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه قال أبو سفيان بن الحارث كونوا أشد ما كنتم عليه ,إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلا ولاذمة,فمن الواضح من خلال حديثهم أن هناك تحالفا بين محمد ومن هربوا معه من ناحية وبينه وبين الأوس والخزرج من ناحية أخرى وهذا التحالف في غاية الخطورة على مصالح قريش والمكيين عموما وخصوصا أن يثرب تقع في طريق رحلة الصيف إلى الشام فماذا لو قعد لهم المطرودون والمنفيون نفي القرود وقطعوا عليهم تجارتهم؟ وقد قاموا بذلك فعلا, فغير القرشيون تجارتهم إلى الشام من طريق يثرب إلى طريق العراق حتى يتحاشوا تربص الرسول وأنصاره بهم فأغار عليهم الرسول بسرية قادها زيد بن حارثة (العبد المجلوب من الشام) في مئة راكب وكان نعيم بن مسعود هو الذي نقل خبر تغيير قريش لمسار قوافلها إلى الرسول فأسر المسلمون دليل القافلة الفرات بن حيان وكان صفوان بن أمية هو قائد القافلة ,والملاحظة الأخرى أن هناك عداوة عميقة بين القرشيين وعرب مكة من جهة وبين الأوس والخزرج من جهة أخرى يمكن معرفة أسبابها من خذلان القرشيين للأزد(الأوس والخزرج) في صراعهم مع ظالميهم يهود يثرب كما وأن بعض مصادر التاريخ تشير إلى طرد بعض الأزد من مكة عقب لجوئهم إليها هربا من انهيار سد مأرب وذلك قبل الإسلام بقرنين تقريبا ،فعندما ينادي العربي عربيا آخر باسم أمه فاعلم إنه بلغ من الحقد والكراهية تجاهه مبلغا عظيما ،فالأوس والخزرج ابني قيلة ،حاول زعيمهم سعد بن عبادة أن ينفرد بقريش ويعمل فيهم السيف سبيا وفيئا وغنيمة حين وضعه الرسول على ميمنة الجيش الفاتح لمكة بعد ثماني سنوات من الهجرة وعندما تأكد للرسول غيظه وكراهيته عزله مع الالتفات إلى أن سعدا هذا أسره القرشيون في مكة عقب بيعة العقبة الثانية فأجاره جبير بن مطعم بن عدي والحارث بن أمية لأنه كان يجيرهما ويضمنهما قبل الإسلام في التجارة إلى الشام ، وكذلك استمر الاضطهاد لسعد وقومه بعد وفاة الرسول وانصراف الأنصار عن صراعات الامويين والهاشميين والفرس فيما تلا من أيام وأحداث.
وإذن ،يبدو أن هناك اتفاقا بين الرسول واليثربيين أهم مافيه أن ينقذهم الرسول ورجاله من بطش اليهود الذين يسومونهم سوء العذاب وقد التزم الرسول بذلك واجتهد فيه حتى لم تكد تمضي ست سنوات حتى تم إجلاء كل طوائف اليهود من المدينة وتوزعت أملاكهم فيئا وغنائم بين جيش المسلمين ورسولهم ،يدفعني إلى الاعتقاد بهذا الرأي حرمان الانصار(الأوس والخزرج) من غنائم حنين والحوار الذي نقلته بين الرسول وبينهم فيما سبق.. والدليل على أن حلف الرسول مع الأزد كان جوهره تخليصهم من اليهود هو قيام الرسول بإجلاء بني قينقاع وطردهم من يثرب بعد بدربثلاثة أشهر,حاصرهم الرسول وتدخل عبادة بن الصامت وعبدالله بن أبي بن سلول زعيم الخزرج وحليف بني قينقعاع لفك الحصار وإجلائهم إلى أذرعات بالشام وبعد أحد بخمسة أشهر طرد الرسول يهود بني النضير لرفضهم المساهمة في ديات قتلى أحد ووزع أملاكهم على المهاجرين فاستغنوا بها عن معونة الأنصاروفي السنة الخامسة للهجرة طرد بني قريظة بعد سبيهم لمؤازرتهم القرشيين في غزة الخندق وكانوا من حلفاء الأوس فبيع سبيهم في العراق وكانوا 700من النساء والأطفال واتخذ منهم الرسول ريحانة ملك يمين بعدما رفضت الزواج منه, أما يهود فدك وتيماء ووادي القرى والمقنا فرحلوا بلا قتال فأخذها الرسول فيئا خاصا تنازعت ابنته وزوجها فاطمة وزوجها على وراثته بعد موت الرسول فرفض أبوبكر وكان فيما بعد من أسباب العداوة بين السنة والشيعة كما أعمل الرسول القتل في اليهود فرادى منذ وصل يثرب وممن أمر بقتلهم سلام بن الحقيق وأسير بن رازم قتلهما عبدالله بن عتيك غدرا وأبا عفك قتله سالم بن عمير وهو نائم في فراشه وابن الأشرف قتله محمد بن مسلمة وقال الرسول لمن شاركوا في قتله (أفلحت الوجوه) وفي بني النضيرأمر الرسول بحبس زعيمهم كنانة بن الربيع وتعذيبه للاعتراف بمكان كنز بني النضير ثم قتله خالد بن الوليد وبعدها تزوج الرسول امرأته صفية بنت حيي بن أخطب،وفي خيبر قدمت زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم طعاما مسموما(شاة) للرسول بعدما قتل أخاها وزوجها فأكل منها هو وصاحبه بشربن البراء ولم يستسغ الرسول لحم الشاة فقذفه من فمه وأكل بشر فمات ،وعلم الرسول أن الطعام كان مسموما ،وقبل موته أرسل إلى امرأة بشربن البراء وقال لها: هذا آوان انقطاع أبهري(الأورطى) من شاة خيبر المسمومة ،ولم تكد تمر ست سنوات على توطنه في يثرب حتى قضى على اليهود تماما وتفرغ لقبائل العرب في مكة والطائف ومنهم قريش وثقيف وهوازن ،فعمد إلى جس النبض عمليا بالذهاب إلى العمرة وكان ماكان من منعه من دخول مكة وعقد صلح الحديبية الذي تجلت فيه آيات الفهم العميق الذي غاب عن صحابته المتحمسين للقتال ومنهم عمر بن الخطاب الذي قال للرسول: إذا كنا على الحق فلماذا نعطي الدنية في ديننا ،وعلي بن أبي طالب الذي رفض كتابة وثيقة صلح الحديبية لكنه رضخ تحت إصرار الرسول ،وبعد عامين من تلك الواقعة توجه للسيطرة على مكة ثم الطائف ونجح نجاحا باهرا في كسر أنف كل القبائل إلا قريش التي وضعها في المقدمة بمهاجريها وطلقائها ممن آذووه وحاولوا التخلص منه ومن صداع دعوته.
بعد فتح مكة زالت الغشاوة عن أعينهم وفهموا مقاصده العالية ،لقد وحدهم ضد أعدائهم خارج حدود نجد والحجاز وأبقى بيضتهم مصونة ومنع البأس بينهم ووجههم صوب أعدائهم الخارجيين وهذا ما التقطه أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام مفسرا غزارة الغزوات والفتوحات في عهد عمر بن الخطاب قائلا: لقد منح ابن الخطاب فهما ذكيا لطبيعة العرب فشغلهم بحروب خارجية قبل ارتدادهم للحرب فيما بينهم.
كل ذلك والنص القرآني يتواتر ويتطور مواكبا الأحداث وصفا وتقنينا حسب وضعية المسلمين ومستوى قوتهم ونفوذهم ،نرى ذلك واضحا في تحريم الخمر وشريعة التعامل مع غير المسلمين من الأمر بالمعروف إلى الصبر على الأذى إلى الحرب الدفاعية ثم أخيرا مقاتلة غير المسلمين من الناس كافة مشركين ونصارى ويهود ونقض التعهدات المبرمة معهم ،ومن خلال تصرفاته وسيرته نرى أنه لم يضع السيف في رقاب من تؤتي معهم الكلمة كما لم يضع الكلمة في أسماع من لايرضخ لها ،وهو لم يفرط أبدا في حقه وثأره لدى من تعمد أذيته بشكل شخصي, فكل من تعرض له بالشتم أو السخرية قتلهم ,منهم أبوعفك وأم قرفة وعصماء وفرتني وأبوجهل وابن الأشرف والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وعبدالله بن خطل والحويرث والهباراللذين راودا ابنته زينب حين رجوعها من مكة للمدينة بينما عفا عن عبدالله بن سعد ابن خالة عثمان بن عفان وكذلك عكرمة بن أبي جهل وهند بنت عتبة زوج أبي سفيان بن حرب ،كما عفا سابقا عن عمه العباس وعقيل بن ابي طالب والعاص بن الربيع زوج ابنته زينب بعدما وقعوا في الأسر يوم بدر مع ابن ابي معيط والنضربن الحارث.
وقبل موته أتته شيوخ قبائل العرب خاضعة تبحث عن الأمن فسالمهم كل قبيلة حسب وضعها كما أقر بدهان عامل الفرس على اليمن كما قام بحج أزال من طقوسه ما لايرضى عنه وأبقى الحجر الأسود والطواف ومنع الخمر في جوف الكعبة ،كما قام بغزوتين على مستعمرات الروم في مؤتة وتبوك كإشارة عملية لما ينتظرهم من مستقبل وأرسل رسلا إلى الأمراء والحكام في البلاد المجاورة ،ثم مات سنة 732م بعد عشر سنوات من إقامته في المدينة ،مات ودفن في غرفة نومه على غير طريقة العرب والمسلمين، ثم دفن معه أبوبكر بعدعامين وظلت أرملته عائشة مقيمة في الغرفة حتى مات عمر بعد ثلاثة عشر عاما ودفنوه مع صاحبيه فغادرت عائشة الغرفة.
وبعد موته عبر صحابته وخصوصا القرشيين عبروا العقبات ومنها اختيار خليفة للرسول وقد حسمها أبوبكر وعمر في سقيفة اليثربيين من بني ساعدة وكذلك مواجهة الأنبياء الكذبة مثل طليحة الأسدي وسجاح ومسيلمة بن حبيب الحنفي كما واجهوا المرتدين عن الإسلام جزئيا أو كليا في حروب متواصلة لمدة عامين ،وفي عهد عمر يقوم المسلمون بالقضاء تهائيا على نفوذ الفرس في حرب القادسية وسقوط عاصمتهم المدائن ومقتل كسرى وسلب مدنهم وسبي نسائهم وبيعهم رقيقا في سوق المدينة ،كما قضوا على النفوذ الروماني البيزنطي في واقعة اليرموك.
وهكذا واصل رجال الدعوة المحمدية تقدمهم معتمدين على زعمائهم من قريش خلال حكم صحابة الرسول أوخلال قيام الفرع الأموي القرشي بالخلافة وصراعه مع الجناح الهاشمي من أبناء عمومته الذين استعانوا بالموالي الفرس للقضاء على الأمويين وهكذا ظلت بلاد الشرقين الأدنى والأوسط وجزء من الشرق الأقصى وجنوب أوروبا تحت سيادة دولة المسلمين التي أسسها الرسول القرشي محمد بن عبدالله الهاشمي ،ورغم ما وقع من القتل والسبي والنهب بين المسلمين أنفسهم بدءا بمقتل عمر وعثمان والزبير وعلي وأبنائه وأحفاده في كربلاء وعين التمر والحرة ثم مقتل الأمويين على يد العباسيين الهاشميين وإخراج جثث خلفائهم منذ معاوية وحتى مروان بن محمد وحرقها ونثرها في الهواء وخصوصا أسرة عبدالملك ومروان بن الحكم .
هي مقتلة عظيمة تتردد أصداؤها في جنبات التاريخ في منطقة الشرق, معظم ضحاياها ممن انخرطوا فيها وكأنه تصديق لحديث النبي مع الأموات في بقيع الغرقد عن أبي مويهبة مولى(عبد) رسول الله قال بعثني رسول الله من جوف الليل فقال؛ يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن استغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال : السلام عليكم يا أهل المقابر ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ,يتبع آخرها أولها, الآخرة شر من الأولى ،ثم كرر نفس المعنى قبل وفاته بيوم وهو يتأمل المسلمين في صلاتهم بإمامة أبي بكر قائلا:أيها الناس سعرت(بلغت قمتها في الحريق) النار وأقبلت الفتن كالليل المظلم, وإني والله ما تمسكون علىَ بشيء, إني لم أحل لكم إلا ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرم القرآن.
وكأنه كان على يقين بما ستؤول إليه الأمور اللاحقة من صدامات دامية ومجازر حتى بين أفراد القبيلة الواحدة أوبين أفراد البيت الواحد في نفس القبيلة نظرا للمقدمات التي أقيمت عليها هذه الدولة وتلك الخلافة الدينية التي أصبحت جزءا من نسيج السياسة منذ اعتماد إمبراطورية الروم على الدين واتخاذ المسيحية دينا رسميا للدولة في القرن الثالث الميلادي وقبل الاسلام بأربعة قرون.
الباب الثاني
نظرة في الأصول


الفصل الأول
تأملات في الطبيعة والتاريخ
من الطيارات الهداهد والعصافر والعنادل والسناجب والقطارب والخفافش ،ومن الدبابات الحمير والبغال والخيول والناس والجوامس، ومن الزواحف السحالي والثعابين والبرص والعقارب والحرابي والأسارع ،ومن السابحات التماسيح والأنقليس والسلطعون والقرموط والحوت والضفادع ،فهل ترى فيهن شيئا من التاريخ ؟
أخبرني سيد النون بأن الكتابة الحقة تختار شكلها وقالبها ،إذ الحيز الحق من جنس المحيوز، والشكل بضعة المعنى .
وقال :
الأجساد حقائق والأزياء أقنعة ،وكل سطح في مرمى الحس قناعٌ باطنه جوهر المعنى ولا خير فيمن لايبصر المعاني وراء الاقنعة.
وقال:
الشكول رموز تختزل المعنى ،والمعنى واحد لأن تعرية الأقنعة جميعها تخلع التاريخ ؛تخلصنا من تراكمات الزمن وخبرة العقل التي كرستها جهالات الناس وغفلتهم ،ومن تخلص من الأقنعة دخل قلب المعنى وصار في عضوية الواحدية.
وقال :
كل حيوية طارئة من المواليد هي محاولة لمحو الزمن، وفي ذات الوقت تخطو الحيوية على صراط التاريخ مسفرة عن عمق التواجه مع الأضداد الذي يكشف المعنى ويجلي نفاذ البصيرة ،فما التاريخ إلا وقت مغموس بخبرة الناس التي لو أزيحت عن الحضرة فما تبقّى إلا الغريزة التي تكشف عناصر واحديتهم مع الشجر والحجر والطيارات والدواب والزواحف والسابحات .
وقال لي :
لماذا المنازل والدور والبنايات صارت مبعثا للإزعاج والمرض؟ قلت : لأنها خاصمت الغريزة وأقامت معها قطيعة صارمة وانغمست في جهالة الوقت المدجج بقيم مغلوطة تحت ضغط احتيالات جديدة مثل الحداثة والعولمة ومابعدهما حيث الهدف واحد _منذ أول رمية للقتل _وهو الاستبداد والاستغلال والخضوع للجهالة والغفلة.
وكان سيد النون أخبرني قديما من قبل شبورة العولمة بأن الإنسان كائن اتصالي وهذا ما أيدته وقائع الوقت لاحقا في تشبث الأطفال والغلمان والبنات والنسوان والقادة والبلطجية بالهواتف المحمولة وقلت في نفسي : هذه الطوارئ في حياة الناس هل أزاحت التعاسة وفتحت بصائص للبهجة والحبور ؟ فما أبصرتُ إلا رجال الله في المحافل المقدسة يباركون التماثل في الجنس و زواج المثليين والمثليات واستنساخ سلالات مخلطة من البقر والناس والزواحف والدبابات والسوابح والطيارات !!؟وأبصرت القنابل والمدافع تدك الحقول وحظائر الزواحف والدبابات والسوابح والطيارات.
وقلت في نفسي :
المعرفة خبرة بالتاريخ أما العرفان فخبرة بالغريزة, ومن الحكمة ان تحيا في قلب التاريخ وأنت تخلعه كل لحظة بالعرفان والتماس الغريزة في كل نقلة من الحس والمشاهدة, فلاخير إذا وقع الناس أسرى للتاريخ حيث لا نهاية للخداع والغفلة والجهالة.
وانظر معي قول الشاعر المأسور بخبرة التاريخ :
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه ؟
وهذا أيضا :
واحتمال الأذى ورؤية جانيه
غذاء تضوى به الأجسام
وكذا قوله :
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا ما من صداقته بد .
و ذا:
ولست بمستبقٍ أخا لاتلمّه
على شعث أي الرجال المهذب ؟
فهذا كلام مأسور بمفهوم الصداقة والعدا والاستعباد والحرية حسب مقتضى تاريخ الناس حيث السيادة في نفاذ الرأي والاستبداد والعاجز عندهم من لايستبد وحيث الحضور البشري معركة لابد فيها من غالب ومغلوب ،قاهر ومقهور؛ بينما العرفان يقتضي أنهم جمعيا ذات واحدة موجودون للتعاون فيما بينهم على مصاعب الوقت وغوامض الأحداث والظواهر, ومن الواضح أن تلك الرؤية تنظر إلى الحياة في نطاق مايعرفه الناس عن بعضهم البعض منذ الولادة وحتى الموت. لاينظرون إلى مصائرالأحياء الذين يرحلون بالموت ويدخلون في حيوات أخرى هم في غفلة تامة عن تبصرها وتأمل أبعادها.فكيف يرتقي الحضور الإنسي وهو غارق في هذه الغفلة, ساقط في قرار العجز والجهالة ؟
والوقوع في أسر التاريخ يدفع إلى الكذب ويغري به كل لحظة كما يروج للضلالة والزيف والافتعال والتصنع ويشوه المشاعر والغرائز ولايمكّنها من النفوذ والفعالية كما يدفع إلى الخجل منها ودمجها في سياق التجارة بكل شيء حتى الجنس ؛ ذلك السر العظيم صار من ضمن الصفقات الجالبة للمتع الحسية الطارئة التي لاديمومة لها ،إنه الأسر التاريخي الذي يدفع البشر إلى الجهالة والغفلة لاهثين وراء سراب المتعة والسعادة المؤبدة بحيوز هذه الحياة المتغيرة ,متجاهلين ملامح الحيوات السابقة والتالية والتي نحمل ندوبا وآثارا منها ,غير إنه لايمكن التدليل عليها أو الإقناع بها لأي مأسور بهذا العقل التاريخي المغرور والمتعالي على العرفان ،القافز فوق الغوامض والأسرار التي يقبض عليها سر الوجود وتتابع الحيوات وتداخلها.
وهذا الخلط والضلال والزيف كرسته رسالة رب الوجود كما تصوّره بنوه الذين قدموه لبقية الناس على أنه اختارهم وخصهم بمحبته وسلطانه وانتقى أفضل الأرض وأفضل الدبابات والطيارات والسابحات والزواحف لتكون رهن مشيئتهم ،لهم المن والسلوى وللأغيار الموت والغبار والإعصار والقمل والجراد والدم .
رب الوجود الذي أخرجوه من الوجود وعزلوه على عرش في حيّز حصين لايصله أحد إلا بسلطان من قبيلة الأخيار المصطفين الحاملين تعاليمه التي لاتتوانى عن تدمير الحياة وتكدير حياة الناس بالقتل والسبي والاستعباد دونما جريرة إلا الطمع في لقمة خبزهم وضمة الخضار والفاكهة التي تنبت في السهل والوادي على ضفاف النهر والينبوع.
إنه التاريخ إذا ً الذي صاغ عقائد الناس ومفاهيمهم عن الوجود غيبا وشهودا حسب خبرة الوقت المضللة والمزيفة فأورثهم الشقاء والقبح ،فلاخير في دين وقع في أسر التاريخ ولم يتجاوزه إلى منابع العرفان والغريزة.
النزعة الدينية وتجليات العولمة
يقف الناس في قلب الحياة صارخين، ضجر ومظالم وأفق بهيم، تندفع الخطوات تحت سمائه، لاوقت لقراءة الوقت والوجوه، ماجناه أسلافهم عليهم من اندفاعات شوهت مظاهر الحياة من حولهم وأورثتهم التعاسة والضلال، إنهم في قلب حياة لا وصل بين وجوهها، بينها وبين ملامحهم،يحطمون ما فيها من جمال وحيوية، لاضوابط تقود سعيهم ، أصبحوا مجرد خطوات بلا يقين في دروب الحياة.
ربما يكون الانغماس في الحضور المادي واتخاذه غاية للسعي هو السبب؛الحضور المادي الذي صاغ وجودهم حركة وسكونا وفق أنماط صارمة تتجاهل خصوصية الوقت والمكان لتعظيم الطاقات الاستهلاكية المهلكة ،فالنص الحياتي الذي يعيشون فيه لايفرق بين أجناس الوجود من شجر وحجر وبهائم،أجناس تظهر وتختفي في تحولات المادة وصياغاتها المتجددة، والناس جزء لاتمايز بينهم وسط هذا الحشد الكثيف لغبار المادة الكاسح، ملامحهم مشتركة، لا أحد يشغله سؤال المآلات، الغاية من الوجود، وجود البشر والشجر والحجر والبهائم، ربما لأن الصياغة المادية لنص الحياة لها من يقوم بها طوال الوقت ، يعملون على تغييب سؤال الغايات ونفيه من طريق الناس بكل السبل والوسائل وخصوصا مع نشاط العولمة التي تحالف كهنتها لتنميط الحياة اعتمادا على تطور وسائط الاتصال التي توشك على إزاحة التمايز الجغرافي ، إنه صراع صاخب بين قمة المنتج التاريخي الذي هو العولمة وبين الغريزة البشرية الضابطة لإيقاع التاريخ وسيرورته.
الحياة تمضي إذن تحت ضغط ومعوقات التاريخ البشري المتسلح بالغباء، يحاول عرقلتها، غير مدرك أنه مسلك مستحيل، والمحصلة إهدار حيوات البشرالخاضعة لسيطرة النخبة التي أنتجت في آخر السعي نص العولمة وحشدت له كل الأذرع التي تظن أنها الضامن لاستمرار هذا العماء، وهي لاتمل من تطويع كهنة الديانات لإعداد صياغات جديدة للنصوص المقدسة التي تسيطر على يقين العوام ؛ لكن الحقيقة إنه استغلال بشع لغرائز البشر في الافتقار إلى أجوبة عن سؤال البدء والمآل وتأبيد مفهوم متماسك عن سيرورة الوجود ومآلاته في ظل النصوص المقدسة التي يتداولها الناس والتي تبدو كصياغات محدودة وقاصرة بحكم خبرة الإنسان، صياغات كسيحة لمفاهيم البشر عن سيرورة الوجود والقوى الإلهية الضامنة للعدل والكرامة والحرية.
والعولمة التي هي ذروة مسعى التاريخ الآن يبدو أنها هذّبت مفاهيم الديانات واستعملتها كأحد جنودها الظاهرين المخلصين، تماما كما فعلت الامبراطورية الرومانية قديما والتي اهتدت بعد صراع طويل مع المسيحية إلى استخدامها كذراع طويلة وقوية للإبقاء على الامبراطورية ودفعها للأمام.
وبوصفي من ضمن محيط المثقفين بالنص الإسلامي في رؤية الوجود درسا ومعايشة أسجل اعتراضي على ما آلت إليه مفاهيم هذا النص الذي انشغل كهنته قديما وحديثا في صياغته وتقديمه كرأس حربة في قبضة السلطة الحاكمة على مر العصور، أسجل اعتراضي على تآمر الكهنة وغفلتهم في فهم النص وتطويعه قائدا لكتيبة الحفّاظ المدافعين عن ملكوت الحكام.
وفي المحصلة نحن أمام مفهومين رئيسيين للنص الحروفي المقدس أولهما يرى الإنسانَ خلقه الله من تراب ثم من علقة فمضغة مخلّقة وغير مخلقة ثم قرار في الرحم فالخروج طفلا ثم يبلغ أشده فموت في الشباب أو إرجاء إلى أرذل العمر حيث الزهايمر،وآدم أول البشر من طين صار نبيا تليه سلسلة أنبياء من نسله تنتهي بمحمد العربي، هؤلاء الأنبياء جاؤوا بتعاليم تضمن للناس السعادة والقرار في الدنيا وبعد الممات حيث الجنة، والمخالفة لهذه التعاليم وهذا التصور تعني الضلال والكفر والتعاسة هنا في هذه الحياة الدنيا أو فيما يليها من حيوات؛وهذا المفهوم الأول يحشد أتباعه لقتال ومقاومة المنكرين الكافرين الجاحدين بهذا التصور بكل الطرق حيث يرى أنه الصواب وغيره الضلال والفساد الذي يجب القضاء عليه ؛ هذا عن المفهوم الرئيسي الأول أما الآخر فلايهتم بما سبق وإنما يحتشد بتأويلات متواصلة واستنطاقات دائمة للنص المقدس بهدف ترسيخ عروش الحكام وتقديم الأفق الديني اللازم لحشد العوام والحفاظ على حالة الرضا والقرار بما يقع من أحداث وتغييرات في النسق التاريخي لترسيخ الغيبوبة والبلادة ضد النص المقدس الوجودي الذي يتجدد كل لحظة.
صورة الله في الوعي عبر العصور
لم تهتد البشرية بأجمعها على مدار تاريخها إلى مفهوم أكثر إطلاقا وتحررا من مفهوم الله ، فبينما تبدو كل المفاهيم نسبية وقابلة للإزاحة والتشكل عبر الزمن يوغل مفهوم "الله" في المطلق والأبدية، فهو القديم الذي صدرت عنه جميع الخلائق وإليه تعود، وهو الأبدي الأزلي المطلق في الإحاطة والقدرة، وهو كل شىء وفي الوقت ذاته هو ليس بشىء مما يقبل الإحاطة أوالتعبير عنه بأية طريقة من طرق الوعي البشري ، إذ كيف يحيط الحادث النسبي وهو الوعي البشري بالقديم الأزلي المطلق وهو الله؟
وقد تبنى الترويج لهذا المفهوم والتكريس له عبر الزمن أناس أخذوا صفات مميزة وعُرفوا بألقاب كثيرة مثل الكهنة والرائيين والأنبياء والرسل والقديسين والقساوسة والأئمة والدعاة وما إلى ذلك من ألقاب تنبع من طبيعة المهمة التي يقومون بأدائها والتي تتمحور حول الترويج والتكريس لمفهوم "الله" وعرض مقاصده وشرائعه وتعاليمه على أبناء الجنس البشري عبر العصور.
ومنذ أن طرأ الجذر السماوي في الاعتقاد الديني مع حضور النسل الإبراهيمي في التاريخ الإنساني منذ ما يقرب من أربعين قرنا تقريبا ؛ منذ ذلك الحين بدأ مفهوم"الله" يأخذ أبعادا جديدة، ويحمل تعاليم جديدة من أخطرها أنه لا بأس من إراقة دماء البشر في سبيل تكريس هذا المفهوم.. وظل هذا المفهوم سائدا قرابة خمسة عشر قرنا حتى أتى أحد أبناء النسل الإبراهيمي - يوحنا المعمدان - قبيل ميلاد المسيح وحاول تحرير هذا المفهوم من الاحتكار الإبراهيمي فما كان إلا أن قتل، وكذلك قتلت بشارته المتمثلة بمجيء السيد المسيح الذي اضطهد وحورب حتى أزهقت صورته الإنسانية عندما صارحهم بكسر هذا الاحتكار "لا تبتدئوا تقولوا نحن أبناء إبراهيم ،إن خالق هذه الحجارة يستطيع أن يجعل منها أبناء لإبراهيم .
ومع ظهور آخر حلقة في سلسلة الجذر الإبراهيمي في طرح مفهوم "الله" مع نبي الإسلام محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن مرة بن ...إسماعيل بن إبراهيم ... بن سام بن نوح ... بن آدم؛ مع هذا الظهور تميّز طرح مفهوم "الله" بأربع مراحل أولها الدعوة السلمية "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ..." النحل 125، ثم الأمر بالصبر على الأذى "أُذن للذين يقاتـَلون بأنهم ظـُلموا وأن الله على نصرهم لقدير" الحج 39، ثم الأمر بالحرب الدفاعية "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" البقرة 190، ثم أخيرا الأمر بقتال كل الناس من غير المسلمين في سبيل تكريس المفهوم الجديد الأخير لله "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" التوبة 29.
فهي تتضمن أولا الدعوة السلمية بالحكمة والموعظة ثم الصبر على الأذي ثم الحرب الدفاعية ثم أخيرا قتال كل الناس حتي يؤمنوا بالدعوة الجديدة أو يدفعوا الجزية!!

وقد عرفت الدعوة إلى الله في كل العصور رجالاـ ومنذ بداية الرسالة المحمديةـ يمثلون منطلقات كل مرحلة من المراحل الأربع السابقة ، فالمرحلتان الأولى والثانية اتفقتا مع نزوع المتصوفة وأصحاب الفكر الفلسفي وكذلك المستضعفين حكاما كانوا أم محكومين، والمرحلة الثالثة هي تحصيل حاصل فكل إنسان يدافع عن نفسه وقت الخطر ولكن ربما اختلفت وسائل الدفاع، والمرحلة الرابعة والأخيرة جسّدها المسلمون قولا وفعلا في عصر الخلافة الراشدة - عصر الرسول وصحابته - ثم عصر التابعين وحتى القرن الثالث الهجري من خلال دولتي بني أمية وبني العباس، وكلاهما فرعان من قصي بن كلاب بن مرة... بن إسماعيل بن إبراهيم... بن سام بن نوح... بن آدم عليهم جميعا السلام.

وهي مرحلة تميزت بالعنف والاستبداد والإرهاب ووجدت دائما على مر التاريخ وحتى الآن من يروج لها ويحاول تكريسها؛ بل إن الأعداء في مرحلة ضعف المسلمين ربما ساهموا في تغذية تلك الدعوة وتنظيمها من قبيل "إن أفضل طريقة للسيطرة على التاريخ وتصريف أموره هي اصطناع الأعداء واختيارهم وإمدادهم بالخطط وأسباب القوة" لأن ذلك من شأنه أن يقطع الطريق على الأعداء الأصلاء، فالأعداء المصطنعون هم دائما في مجال السيطرة والتحكم وخطرهم مأمون في كل الأحوال وعموما فهم لن يتمكنوا من الخروج عن النص.
والدعاة في عصر ما قبل ماركوني وقبل اكتشاف طريقة البث والاتصال عبر وسائط صناعية، الدعاة إلى "الله" في عصر ما قبل ماركوني لم يكن أمامهم من وسيلة لبث دعوتهم إلا عبر الأشكال الاجتماعية في الأسواق والمساجد والكتاتيب والمدارس وما إلى ذلك، ولم يكن من وسيلة لتجميع غالبية الناس على مفهوم واحد لـ "الله" ولذا تجاورت وتعايشت المراحل الأربع جنبا إلى جنب، ومن بلد إلى آخر ومن ثقافة إلى ثقافة، أما مع تطور وسائل الاتصال أصبحت السيطرة ممكنة وصار بالإمكان بث الدعوة على نطاق كوني؛ بل أصبح في مقدور الحكومة العالمية للتاريخ البشري أن تصيغ الدعوات وتنشرها بالكيفية التي تلائم مصالحها، ومن هنا غابت صورة الداعية القديم الذي يغشى المجتمعات وحلت محلها صورة الداعية النجم، فالدعاة صاروا صناعة تماما كما يصنع نجوم الفن والثقافة والرياضة والسياسة وأصبحوا في قبضة المؤسسة الإعلامية المخابراتية تماما كنجوم "هوليوود والفيفا.

والدعوة إلى قتال غير المسلمين المتمثلة في المرحلة الرابعة تبناها القائلون بالناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم فقتال غير المسلمين حسب فهمهم فرض وقد نسخت هذه المرحلة الأخيرة ما قبلها من المراحل وأوقفت العمل بما قبلها تماما مثل تحريم الخمر الذي جاء هو الآخر في النص القرآني على أربع مراحل، بينما لا يقر ذلك من لا يأخذ بالناسخ والمنسوخ، وتلك قضية في الفقه فيها أقوال كثيرة متشعبة .
وحتى نقترب أكثر من المشهد المعاصر في مجال الدعوة إلى الله والقائمين بها لا غضاضة من ضرب أمثلة من سياق الدعوة والدعاة، فطائفة من الدعاة الذين يوصفون بالعصرية ويمثلهم داعية كعمرو خالد ينطلق خطابه من ضرورة معايشة غير المسلمين والتحاور معهم ودعوتهم إلى "الله" بالمفهوم الإسلامي وإن كان ذلك مستحيلا في المنظور العملي الواقعي لأنه - إن كان يعلم أو يجهل - يضع نفسه إزاء ثقافة تكرست عبر عشرات الحقب لها مؤسسات راسخة تم بناؤها عبر عشرين قرنا منذ انطلقت تعاليم المسيح من شرق المتوسط إلى غربه وأسست هناك الكنيسة التي صارت فيما بعد محورا وقطبا لصياغة الوعي والسياسات والمناهج في كافة مناشط الحياة، فـ "الله" عندهم مفهوم تأبدت ملامحه ولا إمكانية لزحزحته على بساط ثقافات دينية أخرى، وخطاب السيد عمرو خالد في النهاية هو لنا نحن - أبناء شرق المتوسط - ولكنه يأتينا من مائدة غربية عبر وسائط غربية، ولن يجد مثل هذا الخطاب مسلكا أيا كان في الوعي الغربي المعاصر، ولما كان مآل خطابه لنا فلذا نجده لا يتطرق مطلقا إلى صورة الحكم والحكام "الذين تؤبدهم الحكومات الغربية على مصير القرار في شرق المتوسط"، وهو أي السيد عمرو ونظراؤه صديق العائلات الحاكمة في شرق المتوسط، وإن انفسحت عبقريته وآفاق دعوته، فهو يدخل بمريديه مباشرة إلى يوم الحشر,يوم القيامة حيث الشمس فوق الرؤوس وعرق الناس قد سال وارتفع حتى بلغ الرقاب وأمنيات الجميع في هذا المشهد ليست سوى الانصراف من هذا المجمع ولو كان المنصرف إلى الجحيم، ويذوب السيد عمرو في الحشرجة والبكاء ويتبعه المريدون، وهكذا فليس عجيبا أن يصبح السيد عمرو بما يحمله من خطاب في الدعوة صديقا للكثيرين من شخصيات الحكومة العالمية في الأمم المتحدة في جنيف وأوسلو وكوبنهاجن وواشنطن وحتى الكويت وبيروت.
هذا بينما دعاة على شاكلة السيد أحمد القطان والسيد محمد حسان ممن يتبنون حتمية الصراع والاصطدام بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب لا مكان لهم على مائدة الحكومة العالمية وإن كانوا ليسوا ببعيد عن نطاق السيطرة والاستفادة بدعوتهم في نطاقات تكتيكية محلية من قبيل خلق الذرائع، ومن أراد أن يستزيد فعليه أن يستمع إلى تسجيلات السيد محمد حسان عن نهاية العالم والمعركة الفاصلة بين أنصار الله وأنصار الشيطان في سهل مجيدو "هرمجدون.

فتعاليم الله ومقاصده وغاياته ليست متشابهة في خطاب الدعاة الجدد فهناك من يكرس خطابه لتعليم المسلمين كيفية معاشرة النساء وتزويجهم وتطليقهم بل وكيفية تنظيف أجسادهم إن بالاستحمام أو بمجرد الشطف أو حتى بالتراب إن تعذر وجود الماء، وهناك من يكرس للتمرد على الحكام الظلمة والخروج عليهم وإعادة دولة الرسول وأصحابه، وهناك من يكرس لضرورة التعايش مع غير المسلمين والاستفادة من منجزاتهم في العلوم والعمران، وهناك من يكرس لحضور النظريات الكونية والإعجاز العلمي في الرسالة المحمدية، وهناك من يكرس للسيطرة على الفنون والثقافات وصبغها بصبغة إسلامية كضرورة من ضرورات الاستمرار والتطور الحتمي حتى تتناسب الدعوة إلى "الله" مع تطور وسائط الاتصال وثورة المعلومات، وهناك من يدعو إلى طاعة الحاكم - ظل الله في أرضه - درءا للفتنة والفرقة والاختلاف بين طوائف الشعب متعدد الأعراق والمذاهب، وهناك غيرهم الكثيرون ممن يتبنون مفاهيم ويكرسون لأفكار تبتعد أو تقترب من روح العصر بدرجات متفاوتة، وكل أولاء وهؤلاء ينطلقون من مفهوم "الله"، وكل هذا وجماعة المؤمنين بالمفاهيم المحمدية عن "الله" وخلقه يعيشون في بلادهم بلا صناعة أو سيادة أو تطور، يتقاتلون فيما بينهم على الأولويات النظرية بشأن السؤال التالي: هل التخلف والرضا بالاحتلال من الأمور التي تساعد على إقامة الدين وحفظ النفس والمال والنسل أم لا؟ وهل أخطأ أبو بكر وعمر ومن شايعهما في حق علي أم لا؟ وعلى هذا تقوم الصراعات والأحزاب والفتن في بلادنا وتستمر.

وعموما فإنه يمكن القول بأن المراحل الأربع للدعوة إلى "الله" في خطاب الدعاة لها وجهان أحدهما يكرس للتعايش وتبادل المنافع مع الآخر، والوجه الآخر يكرس للاستئصال وحتمية الصراع، وعلى هذا الأساس يمكننا فهم لماذا يجلس دعاة من أمثال الشعراوي وسيد طنطاوي وخالد الجندي وعمرو خالد وحتى الحبيب الجفري وطارق سويدان؛ لماذا يجلس هؤلاء في الكرسي المجاور تماما لكرسي السلطان إن في الحكومات المحلية أو في الحكومة العالمية؛ بينما يجلس أمثال بن لادن والظواهري وأبو حفص المصري والزرقاوي وأبوبكر البغدادي وعمر عبد الرحمن ومن قبلهم عبد الحميد كشك وسيد قطب في زنازين الحكومات المحلية أو زنازين الحكومة العالمية في غوانتانامو أو السجون السرية للحكومة العالمية لدى أتباعها في أوروبا الشرقية وشرق المتوسط، وكل فريق منهما لن يعدم الأسانيد والشواهد والحجج في البرهنة والتدليل على صدق وجهته وصحتها، فتراثنا وواقعنا يذخران بالأحداث والشواهد المؤيدة والداعمة لكل فريق.
ولما كان مفهوم "الله" بهذا الاتساع والغنى والتنوع والإطلاق أمكن توظيفه في خطط السياسيين والقادة والزعماء عبر التاريخ لحشد المزيد من الأنصار وشحذ الصراع بدوافع جديدة وخلق أسباب السيطرة والتمكين والحكم، وهذه أصبحت من السنن الثابتة في تطور التاريخ الإنساني منذ أكثر من ثلاثة وثلاثين قرنا مع هروب بني إسرائيل مع نبيهم موسى من مصر وحتى الآن، وأظنها ظاهرة ستستمر في مصاحبة التطور التاريخي لبني البشر حتى أمد ليس بقصير طالما هناك من يتجرأ على استغلال أطهر النوازع الإنسانية في الشوق والتطلع إلى فهم العالم والاطمئنان على مآله ومصيره، أطهر النوازع الإنسانية في المعرفة والبحث عن أسباب الوجود ومآله على المستوى الفردي والجماعي والتوق إلى الخلاص والتحرر من قبضة التاريخ الذي صنعه البشر أنفسهم على امتداد العصور، وعلينا ألا ننسى أبدا بأن "الله" وفق مفاهيم الجذر السماوي الإبراهيمي في العقيدة قد كتب أرضا لبعض الناس " ... ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ... وكذلك لا ننسى بأن الأرض هي لـ "الله" يثبّت فيها من يشاء من عباده الصالحين، وهؤلاء الصالحون تتم صياغتهم وفق مفهوم "الله" ذاته في أذهان المؤمنين به على اختلاف ثقافاتهم.
فهل بالإمكان بعد كل هذا التاريخ أن تحلم البشرية بتخليص الله من مفاهيم الدعاة وتركه لفطرة الناس يهتدون إليه بحسب تجليه في حياتهم من الميلاد إلى الموت !؟
الحلف المقدس
كثير من المؤمنين بالله ومنهم الجماعات الإسلامية ، يحاولون فرض الله بالقوة على عباده ، والغريب أنك ترى هؤلاء المؤمنين في صف الطواغيت ضد عباد الله ، والأغرب أنهم أغنياء حدّ التخمة ، هل لأنهم وكلاء الله بينما عباده الفقراء عياله !! أغنياء في الفقه والمال والنساء . وكلاء الله توسّعوا في فقه الوكالة هذا فأفتوا بالوكالة في توصيل الزكاة لعيال الله وكذلك الوكالة في الحج عن غير القادرين ماليا أو صحيا أو الميتين بالرغم من أن الفريضة ليست واجبة في هذه الحالة لانتفاء شرط الاستطاعة ، ولن نندهش إذا سمعنا غدا أو بعد غدٍ من فقهاء الوكالة هؤلاء فتوى بجواز الوكالة في الصلاة وغيرها فيما تبقى من فروض فالأغنياء لهم ما لا يحق لغيرهم حتى في الشعائر والنسك.

وما دام الأمر كذلك ، والتحالف على أشده في هذا العصر بين فقهاء الوكالة الأغنياء والطواغيت من الحكام العساكر وطائفة التجار التي امتدت تجارتهم إلى كافة أرجاء المعمورة وتداخل رأسمالها في منظومة عالمية لا يمكنك التمييز فيها بين ما هو إسلامي ومسيحي ويهودي ، أو بثنائية أكثر حدة بين ما هو مؤمن وما هو كافر ، أيعني ذلك أن هناك مالا مؤمنا وأخر كافرا ؟
و الله العظيم الذي يحاول بعض أتباعه فرضه بالقوة على عباده ، ترك لعباده – كما خلقهم – نصوصا لا ينفذ مدّها وعطاؤها في إطار عظمة واعتناق ينبع من داخل عباده كما عرفهم وخلقهم " وفي أنفسكم ، أفلا تبصرون " ، وأي محاولة لإقامة الله في أرضه بالقوة باطلة ولا جدوى منها سوى الدمار والتخريب ،إلا أن أتباعه الأغنياء وأبواقهم من فقهاء الوكالة لا يقرون بذلك فتراهم ينصبّ غضبهم لله على ثلة من عباده بسبب ملابسهم القصيرة أو كتاباتهم أو طريقتهم في تأدية رسالتهم في الحياة في حين يغضون الطرف كليا عن طواغيت يتصرفون بمصائر عباد الله المؤمنين حسب مزاجهم ،فمن هؤلاء الطواغيت من هتك الأعراض وقهر الشرف لدى عباد الله على الملأ ، ومنهم أصحاب السمو والمعالي والملك في حين أنها كلها صفات تنزيه لخالق السماوات والأرض ، فهل هي مصادفة أن يتحالف فقهاء الوكالة مع الطواغيت التجار ؟ ولماذا لم تظهر كلمة الحق عند سلطان جائر وهاهو الجور يسد علينا الطرقات ويغطي عنان السماء ؟
هذا هو العنف ، الإقصاء القائم على غير عهد مدني بين عباد الله في الأرض ،التجار احتكروا أسباب الحياة بمعاونة الطواغيت والعسكر وفقهاء الوكالة ، والطواغيت العسكر تكفلوا بنشر الفزع والرعب والقضاء على السلام الروحي والاجتماعي ، وفقهاء الوكالة احتكروا تعاليم الله وأفسدوا على الناس حياتهم الدنيا والآخرة أيضا .

وأشد الضحايا تأذيا هم المثقفون الذين يحاولون تغيير العالم بالكلمة ,فكما إن هناك مثقفين يرتعون في نعيم الحلف المقدس يحاولون تكريس المظالم بالكلمة أيضا وهناك المثقفون أنصار التغيير بالكلمة لم يشذوا عن تشريع الله العظيم فهو الذي أوحى بأنه " من رأى منكم منكرا كما أنه تعالى أوحى بـ " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " وهكذا تتجلى عظمة الخالق حيث أنه تعالى الأعلم بمن خلق ، ففيهم المكرسون للمظالم أطيعوا الله " وفيهم الداعون إلى التغيير " من رأى منكرا " والفقيه الحق من يقر بهذا الاختلاف لا أن يسعى ويحشد عدته لنفي الآخرين المخالفين له في الفقه والاعتقاد .

الطواغيت العساكر لهم رسالة ، ولهم منظومة لتنفيذ هذه الرسالة ، وضعوا فيها مكانا حيويا لفقهاء الوكالة حيث أناطوا بهم تثبيط العزائم وتفريغ الحياة من أي مضمون إنساني معقول يقوم على احترام كيان الإنسان ، وبالتالي هم لا يكفّون عن فرض تشريعات وأفكار تسلب من الحياة معقوليتها ومضمونها كما أنهم تكفلوا بتفزيع أرواح عباد الله وقهرهم في جلودهم دنيا وآخرة .

وإذا لم يكن فقهاء الوكالة في معية طواغيت العسكر فأنى لهم السكوت على المظالم هل يأمرهم دينهم بذلك ؟! ولماذا تراهم فصحاء للغاية في أمور تتعلق بفقه الزي والخلوة في حين يفرخ على رؤوسهم الطير لو تعلق الأمر بفقه مشروعية الحكومات ؟! هذا إن لم يؤازروها ويكرسوا مشروعيتها بنصوص دامغة من كتاب الله ومن سنة نبيه وسلفه الصالح .

هذا مناخ خصب جدا لتكاثر العنف سواء اتخذ وسائل تعبيرية في سياق الحياة والتاريخ أم ظل خامدا ساكنا ملغوما بانتظار أي خلخلة في تلك المنظومة وفي ذلك الحلف المقدس حتى تندلع البراكين ويسود الغضب وجه الحياة .

والمثقفون أنصار تغيير العالم بالكلمة الذين يبدون رأيهم الحر فيما حولهم هم أول الضحايا ، فوجودهم يعتبر نشازا ودخيلا على تلك المنظومة وينبغي إسكاتهم بأي ثمن ،ومخطئ من يتوهم بأن محاولات الإقصاء وممارسة العنف على المثقفين وغيرهم ليس لها مردود ،نعم ، قد لا يظهر مردودها على السطح ؛ لكنه يبقى مؤثرا وإن أخذ صورة المعايشة السلبية والكفر بقيمة الوجود !

الفصل الثاني
أعراف البادية
جاء في القرآن "واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثه أشهر واللائى لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا"4 سورة الطلاق .
جاء ذلك في القرآن ولم أسمع أحدا من الأساتذة الدعاة الشيوخ يدلل على أن مضمون تلك الآية يبيح نكاح الأطفال ويعطي شرعية للرجل الشاب او العجوز أن ينكح طفلة لم تبلغ سن الحيض ، ويجوز له أن يطلقها ، وان شك في بلوغها سن الحيض عند الطلاق فله أن يحبسها عن نكاح غيره مدة ثلاثة أشهر(عدة) .
طبعا اكتشفت كل ذلك متأخراً واكتشفت أن المصريين لا يحبون الخوض في أعراض الناس وحرماتهم أو النيل منهم وتجريسهم ولا يحبون اتباع العورات والفتن والاختلاف فهذا دينهم في السر والعلن منذ الآف السنين ، وعلى هذا يسير معلموهم في الأزهر والجامعات والمدارس والمساجد حتى الآن ، ولذا سكتوا عن أعراف البدو التي أقرتها الرسالة المحمدية مما يتصادم مع أعراف المصريين، وكنت أحسب أن العرب كالمصريين ، والمصريين كالعرب لا فرق بينهم في مباشرة أمور الحياة والنظرإلى الوجود ومسائل الزواج والطلاق والغنى والفقر وتكوين الأسرة وتربية الأولاد ومعاملة الضعفاء والمساكين وممارسة الحرف والمهن والصنائع ، كنت أحسب مصر كالعرب ، إلى أن انتقلت إلى بلادهم وأقمت بينهم في الرابعة والثلاثين من عمري وكانت الصدمة التي أربكتني لأكثر من خمس سنوات إلى أن عرفت الحقيقة بعد معاناة وطول اصطبار على متابعة الحياة من حولي في بلادهم وفي متون الكتب التي أسلمتني إلى المشي في العهدين القديم والجديد والفقه الإسلامي والسير والتفاسير وكتابات قدماء المصريين و آدابهم عبر ثلاثين قرنا سبقت مجئ الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد.
لم أسمع أحدا يحلل ما يقال عن كرم العرب وأنه من قبيل الرياء والسمعة و البحث عن الرياسة ، وان الشجاعة لديهم هي استئساد على الضعفاء والمنكوبين وخصوصا إذا أمنوا العواقب ؛وعرفت لماذا لاتشتمل معاجم العربية على كلمة الضمير إلا دلالة على كل مستور وسري وليست لها أي دلالة على قيمة أخلاقية تتحكم في السلوك ،فالضمير عندهم هو كل مضمر ومختبئ ولا علاقة له بالاخلاق والسلوك، لم يقل لي أحد أن العرب هم من بقايا أحفاد الهكسوس الشاسو بدو الشرق الذين تحرشوا بالمصريين ومازالوا سلبا ونهبا عبر العصور مع الإسرائيليين أبناء عمومتهم.
عندما كنت في الخامسة والعشرين من عمري مكثت في العراق تسعة أشهر ما بين بغداد والفلوجة مدرسا على شاطئ الفرات ولم أجد كبير فرق بين المصريين والعراقيين ، وظننت أنهم عرب وأن العرب كلهم هكذا، لم أكن أعلم أن القسم الأكبر من العراقيين ليسوا عربا وأن العراق نفسها لم يكن اسمها كذلك إلا في وقت متأخر من تاريخ الإقليم ، وقرأت النص القرآني معاودة ثلاث مرات ولم تستوقفني حينها إلا مسالة " إسرائيل " هذا الرجل الذي صار قبيلة ثم شعبا على مدى خمسة قرون قضى أربعة ونصفا منها بين المصريين في أرض مصر ، هذا الرجل النبى القبيلة الشعب، أزعجنى النص القرآنى فى تناول سيرته ، فهو قد اصطفاه الله واختاره هو ونسله وميّزه على العالمين وكتب له أرضا بشعبها ، إسرائيل هو نفسه الشعب والقبيلة التى واصلت معصية الله ومخالفته ولم يتحمل الرب إبادتها على الرغم من تتابع الهلاك والإبادة على صفحات القرآن لكل الأمم التى عصت رسلها ابتداء من نوح وثمود وهود ولوط وشعيب وغيرهم إلا شعب إسرائيل الذي لم يفعل الرب معهم سنته في العصاة ، وهذا كله في القرآن مما أربكني وأزعجني كثيرا .
في بلاد العرب وأثناء إقامتي بينهم انفتح التاريخ القديم والوسيط على الواقع وأصبح كله أمامى سيرة واحدة واضحة ؛ حلقات تسلم إحداها إلى الأخرى ، فالأديان منها جذر سماوى قادم من خارج التاريخ ومنها جذر أرضى اهتدى إليه البشر خلال حياتهم فى كل أصقاع المعمورة عبر التاريخ ، و الجذر السماوى تمت حلقاته كلها في منطقة صغيرة من العالم بين الموصل على الفرات وحتى طيبة على شاطئ النيل في جنوب مصر وأن أهم حلقاته ظلت متداولة شفاهة إلى أن تم تدوينها في القرن السادس قبل الميلاد في سراديب بابل أيام الغزو الآشوري لأرض إسرائيل المكتوبة في اللوح المحفوظ .
وعرفت أن الدعاة الأنبياء كلهم من نسل واحد تكرس تماما ابتداء بإبراهيم وحتى محمد في المدة ما بين القرن الثامن عشر قبل الميلاد وحتى السادس الميلادي على مدار ثلاثة وعشرين قرنا تقريبا وأن البشرية منذ محمد بلا أنبياء مكرسين من قبل السماء على الرغم من أن الحياة تتوالد والآثام والشرور والمعاصي تتوالى وبنو البشر يعيشون في ضنك ومازالت الأيام تدفع بالجبابرة والعصاة والضالين حسب المفهوم الديني في الجذر السماوي .
في بلاد العرب أصبحت أصغي جيدا للنصوص وعرفت أن الدين الذي دعا إلى المساواة وأن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى قال خليفة رسوله في سقيفة بني ساعدة عقب وفاة الرسول عندما أوشك الأنصار على اختيار زعيمهم سعد بن عبادة ليخلفه ـ ابن عبادة هذا قالت كتب السيرة أن الجن قتلته في الصحراء و روت في مقتله شعرا على ألسنة الجن .
في السقيفة حسم خليفة رسول الله الأمر بالقول إن الأئمة من قريش وهم يتنازعون على من يتولى خلافته في تدبير أمور المسلمين ، وقريش قبيلة , والمعنى أن الله فضلها و جعل الحكم والسلطان فيها وهذا ضد مبدأ التقوى والمساواه ,وقد ظلت في قريش رياسة الناس وخلافة الرسول تداولها بنو أمية وبنو العباس من هاشم وكلهم من قريش بمن فيهم الأربعة الراشدون .
وعرفت أن العرب مازالوا قبائل إلى الآن و أن كل حكام بلادهم من نسل قبائل مشهورة وعريقة ؛ لكنهم لا يظهرون أسماء قبائلهم لمكرٍ فيهم يعتبرونه نوعا من الحكمة لعدم إثارة الآخرين ضدهم بلا مبرر في زمن الثورات الاجتماعية و الديمقراطية وتداول السلطة و الدساتير المكتوبة بين الحكام والمحكومين , فأغلبهم من قبائل عنزة أو تميم أو شمّرأو هاشميون من قريش لهم قصص طويلة في التحالف مع حكومات الاستعمارلمساعدتهم في القضاء على العثمانين منذ مطلع القرن العشرين و حتى الآن .
وفي بلاد العرب عرفت أن الإسلام لم يفرض الجزية على العرب النصارى من قبائل تغلب بن وائل المجاورين للروم , وذلك لأنهم يعتبرونها "خوة" " فردة" وإتاوة يفرضها القوي على الضعيف وأنهم لا يحتملون ذلك فهرع عمر بن الخطاب الى فقهاء يثرب فأجازوا له أن يأخذ منهم ضعف الزكاة المفروضة على المسلمين ؛ بينما عُزل والي مصر عمرو بن العاص لأنه لم يستخلص الجزية من المصريين كما ينبغي وشك في ذمته وأرسل له من يحاسبه , هذا العمرو الذي جمع مليوني دينار من ذهب الشعب المؤمن الذي رفض تبديل دينه كما فعل الفرس ـ إلى حين ـ وارتضى دفع الجزية , عزله عمر وعين مكانه على الخراج عبدالله بن سعد بن أبي السرح ـ أحد المطلوبين للقتل في القائمة السوداء عند فتح مكة ـ هذا السرح جمع أربعة ملايين من الدنانير الذهبية جزية من ذهب المصريين فكان تعليق عمر أن قال لعمرو هامزا لامزا " يبدو أن مصر في عهدكم قد أصابها لفاح" هذا مع العلم بأن الشعب المصري ظل تعداده عبر التاريخ يتراوح ما بين مليونين وستة ملايين حتى مجئ محمد علي وإصلاحاته الإدارية والزراعية و المائية ، ومع ما يقال عن أن الجزية لم تفرض إلا على كل ذكر قادر على حمل السلاح , فهل كان في مصر في عهد عمر بن الخطاب مليونان من المصريين المقاتلين وإذا كان الأمر كذلك فهل كان تعداد المصريين في ذلك الزمان اثني عشر مليوناً إذا أضفنا النساء والأطفال والكهول! ؟ ابن الخطاب لم يشأ أخذ الجزية من نصارى العرب على الرغم من صراحة النص القرآني في وجوب أخذها " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عند يد وهم صاغرون " 29 التوبة , وعرفت أن " صاغرون هذه " ليست معنوية كما يحاول فقهاء مصر تقديمها للناس إنما لها اشتراطات وإجراءات مادية محددة وملزمة ؛ لم يشأ ابن الخطاب أخذ الجزية من نصارى العرب في حين عزل والي مصر لأنه في نظره تهاون في جباية الجزية من نصارى المصريين ! ؟ وهكذا سلب العرب المسلمون ذهب مصر بالجزية تقربا الى الله كما سرقه بنو إسرائيل من قبل بزعامة نبيهم موسى قبل ذلك تقربا إلى نفس الإله .
وعرفت في بلاد العرب أن كل الأنبياء والرسل الذين ذكرو في القرآن لم يحمل أحدهم سيفا في وجه الناس سوى داوود ومحمد وأنهم كانوا أصحاب معجزات أو شهودا عليها ما عدا النبي الخاتم الذي لم يورد له النص القرآني معجزة أو خرقا لناموس أو قانون و إن كان الشعراوي في أواخر القرن العشرين حاول فلسفة الأمر بالقول أن معجزة كل نبي كانت من جنس ما برع فيه قومه و أعداؤه فمعجزة موسى كانت السحر و معجزة عيسى إحياء الموتى وشفاء المرضى ،والنار معجزة إبراهيم أما محمد فكانت معجزته الكلام , بلاغة الكلام حيث العرب كانوا أهل بلاغة إلا أن محمداً لم يكن ولم يقل أنه نبي للعرب وحدهم بل هو حسب قوله تفرد بالنبي الخاتم وتفرد بأخذ الأسلاب و الغنائم من أعدائه المهزومين تحت وطأة الحرب . وعرفت أيضا أن المسلمين فقط هم الذين يعترفون بسماوية الديانة اليهودية وكذلك المسيحية وأنهما من عند الله بينما اليهود و المسيحيون لا يعترفون بسماوية الدين الإسلامي وأن المسلمين في نظرهم مجموعة من الناس أتيح لهم زعيم ذكي استطاع أن يوحد قبائل العرب ويصنع منهم قوة تغلبت على مستعمرات الفرس والروم من حولهم في الشرق والغرب , وتمكن رجاله في عهده وبعد موته من احتلال البلدان والشعوب المجاورة وطرد المستعمرين من الفرس والرومان في ظرف تاريخي كان مواتيا حيث ضعفت القوتان ـ الفرس والروم ـ نظرا للحروب المستعرة بينهما والتي استمرت أكثر من ألف سنة قبل مجئ رسول العرب إضافة إلى عوامل الضعف والانحلال الداخلي في كل امبراطورية منهما وأن ذلك من الأمور الطبيعية في التاريخ حيث يتغلب الأقوياء على الضعفاء و أن الأيام دول بين الشعوب و الأقوام عبر التاريخ الإنساني كله .
عرفت في بلاد العرب أن نظام ملك اليمين ما زال معمولا به من خلال نظام الكفيل وقوانين الإقامة وكذلك نظام الرق والتجارة بالبشر ولماذا لم يحرم الإسلام ذلك النظام بل أبقاه وجعله من كفارات المسلم إذا عصى ثم أراد التوبة ؛ في حين دخل الإسلام بتشريعاته المفصلة في أمور النكاح والطلاق والعدة والرضاعة وغيرها من الأمور التي تسير عليها الشعوب والأمم والناس منذ الخلق وحتى الآن دونما تشريعات تفيض بها السماء على قلوب الأنبياء الرسل .
وعرفت فى بلاد العرب أن شيخ القبيلة لايجوز لأحد أن يطأ نساءه من بعده سواء مات عنهن أو طلقهن فى حياته ، ولماذا حرم الإسلام نكاح زوجات الرسول بحجة أنهن أمهات للمسلمين على الرغم من أن النص قال فى موضع آخر ( إن امهاتهم إلا الائىْ ولدنهم ) 2المجادلة ، ولماذا لم يطلق الرسول واحدة من نسائه وفضل الاحتفاظ بأكثر من عشرة منهن على الرغم من مخالفة ذلك لما جاء به من تشريع !؟ "مثنى و ثلاث و رباع ".
وعرفت حجم التناقض و اللامعقول فى كثير من أحداث الإسلام وما جاء به المسلمون الأوائل ، ولماذا سكت الرسول عن قتل عصماء بنت مروان وكعب بن الأشرف وأبى عفك فى يثرب لمجرد أنهم تعرضوا له بالشتم ولم يقترب من هند بنت عتبة زوجة ابى سفيان التى مثّلت بجثة عمه حمزة فى معركة أحد وأخرجت كبده من أحشائه وأكلت منه بعد أن أعتقت عبدها وحشى مكافاْة له على قتل عم الرسول ،ولم ينلها سوء بل أكرمها الرسول كما أكرم زوجها عند فتح مكة بعد خمس سنوات من مقتل عمه قائلاً :" من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" . و كيف لم يدع الرسول إلى قتل أحد من أقاربه القرشيين في مكة على الرغم من أنه قتل النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط اللذين أُسرا مع عمه العباس بن عبدالمطلب و ابن عمه عقيل بن أبي طالب و زوج ابنته زينب أبي العاصي بن الربيع و سهيل بن عمرو فعفا عن أقربائه و قبل منهم الفداء بينما قتل النضر و عقبة مع العلم أنهم جميعاً وحتى ذلك الحين كانوا كفاراً جاءوا من مكة لقتل الرسول و أصحابه , و الأغرب من ذلك أن الرسول أعطاهم الأموال و هم كفار , أموال الغنائم التي سلبها من قبيلتي هوازن و ثقيف يوم حنين ؛ أعطاهم على سبيل التأليف "المؤلفة قلوبهم" و منهم أبو سفيان بن حرب و سهيل ابن عمرو , أعطى كلاً منها مئة ناقة . أعطى الكفار من أموال الكفار !! فلماذا إذا قتل و سلب كفاراً ليعطي و يهب كفاراً آخرين !!.
و عرفت في بلاد العرب أن أغلب ما أقره الإسلام من تشريعات و قوانين كانت أعرافاً و تقاليد معمولاً بها قبل الإسلام و منها أخذ الخمس من الغنائم عندما أقدم عبدالله بن جحش على فصل الخمس من الغنائم التي سلبها و سريته في غارة بأمر الرسول على قافلة مكية في السنة الأولى للهجرة (قبل غزوة بدر ونزول آية الخمس )و في الأشهرالحرم و رفض الرسول أخذ الخمس أول الأمر ثم عاد و أخذه بعد نزول الوحي الذي أباح القتال في الأشهر الحرم التي حرم فيها العرب القتال " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ... " و كذلك دفع الأجرة للزوجة التي ترضع طفلها و الحج و الجزية التي كان يفرضها سادات القبائل القوية على القبائل الضعيفة أو الغرباء حتى يسمحوا لهم بالعيش بينهم أو المرور في مضاربهم و كذلك الرجم و الجلد و إرضاع الكبير و نكاح الصغيرة و المهر الذي يدفع لولي المنكوحة مقابل استحلال فرجها و ملك اليمين و العبيد و الموالي و حتى القصص المتداول شفاهة ما بين تخوم الشام الرومانية حتى حدود اليمن و العراق الفارسية و لعل قصة موسى مع ملك مصر التي كتبها زيد بن عمرو بن نفيل شعراً و أوردها ابن هشام في سيرته ؛ لعلها أصدق دليل على ذلك , ناهيك عن عاد و ثمود و الأحقاف و أصحاب الأيكة وذي القرنين و أهل الكهف و غيرها من القصص السائرة في نطاق الجزيرة العربية و جوارها من القصص التي لم يرد ذكرها في العهدين القديم و الجديد .
وبعد ؛ فمن هم هؤلاء العرب !؟ هل كل من يتحدث العربية بأية لهجة أو لسان فهو عربي , أم أن العروبة لها علاقة بالعرق و الأصل و الثقافة لا بالنطق و اللسان , هذه قضية لم يحسمها أحد من الباحثين و خصوصاً في الفترة التي أعقبت التوسعات الكبيرة بعد مجيء الإسلام و صار لهم نفوذ و حكومة في كثير من البلدان و الشعوب المجاورة شرقاً و غرباً .
علماء اللغة و الأجناس من العرب و غيرهم يحسمون هوية العرب قبل الإسلام و يقسمونهم قسمين : عرب عاربة "بائدة" و هم الأقوام التي سكنت جزيرة العرب من عاد و ثمود و جديس وطسم و أميم و العمالقة و جرهم و حضرموت , و القسم الآخر هم العرب المستعربة "الباقية" و هم فريقان , عرب قحطانية جنوبية من حمير و نحوها من أهل اليمن و الفريق الآخرعرب عدنانية في الحجاز و ما يليها شرقاً و شمالاً , و كل تلك التقسيمات للعرب تقع في الفترة التي سبقت الإسلام , و لم يهتم أحد بالشعوب التي تعربت أو اعتربت بواسطة الإسلام خلال القرون من السابع و حتى العاشر الميلادي بسبب غزو العرب بالإسلام للشعوب في مصر و شمال إفريقيا و بلاد الشام و الرافدين و حتى اليمن .
وهذه شعوب لها ثقافاتها وحضاراتها ودياناتها وقد أثر فيهم العرب من خلال النزوج الكثيف لقبائلهم من شبه الجزيرة العربية صوب الشام و شمال إفريقيا .
وعلى الرغم من انهيار حكم العرب تماما في البلدان الإسلامية ابتداءً من القرن الحادي عشر الميلادي ووصول غير العرب إلى سدة الحكم والرياسة في كل العواصم من حدود الرومان والخليج الفارسي وحتى الأطلس غربا وإمساكهم بزمام الأمور ؛ على الرغم من كل ذلك إلا أن أحدا لم يهتم ببحث هوية تلك الأقاليم التي ساد فيها العرب المسلمون فترة من الوقت ثم استؤصلت شأفتهم وحل مكانهم سادة آخرون ليسوا عربا أحدثوا الكثير من التغييرات في الشعائر والشرائع لدرجة أن بعضهم هدم كعبة العرب في مكه ونقل حجرها الأسود إلى البحرين في القرن الرابع الهجري وعطل شريعة الحج الأكبر لأكثر من عشرين عاما ثم أضاف بعضهم أصنافا إلى قائمة المحرمات من المأكولات والمشروبات على المسلمين الذين ظل يقتل بعضهم بعضا منذ مصرع الخليفة الراشدي عثمان بن عفان وحتى الآن على حدود الكويت والعراق والسعودية واليمن .
والواقع أن تاريخ المسلمين الذي دوّنه مؤرخوهم أنفسهم لم يتحدث إطلاقا عن دول عربية أو حكومات عربية في المشرق أو في المغرب و أن الأقاليم التي غزاها العرب استمر تاريخها يكتب باعتبارها دولا اسلامية , فهناك من يؤرخ لليمن و أرض السواد - جزء من سورية والعراق - وبلاد الشام ومصر والبربر وشمال إفريقيا ,و لم يقل أحد من مؤرخي الحقب الإسلامية فى تلك البلدان أنهاعربية،وظلت تلك البلدان كذلك فى كتب التاريخ حتى انحلت سيادة الدولة العثمانية التركية - أحفاد السلاجقة غير العرب طبعا - مع نهاية الحرب العالمية الأولى فى العقد الثانى من القرن العشرين للميلاد وبداية الاستعمار الأوروبى لتلك البلدان والذى أعاد تسميتها وإطلاق حدودها الثقافية الجغرافية الجديدة محددا هويتها وملامحها وفق ما تقتضيه مصالحه ، ومن هنا برز مصطلح العروبة والعربية والدول العربية ، هذا العنوان الجامع الذى لم يكن أبدا ذا فعالية فى سير الأحداث وتطور الحضارة والثقافة فى تلك البلدان عبر أكثر من اثنى عشر قرنا منذ نشب الإسلام فيها وحتى نهاية العثمانيين .
هذه البلدان المنخرطة الآن فى حزمة تسمى جامعة الدول العربية ليس فيها من العرب سوى بلدان الخليج واليمن ، ولايوجد فى المراجع التاريخية منذ نشاْة بلدان الجامعة وحتى بداية القرن العشرين ما يشير إلى أنها دول عربية ؛ إنما العرب ودولهم كانوا فى شبه الجزيرة من اليمن وحتى حدود الشام على البحرين الأحمر والمتوسط ، وما زالوا حتى الآن هم العرب بالمعنى العرقى والثقافى، وإذا أردت أن تتعرف على ملامح هويتهم فما عليك إلا الذهاب إليهم والانخراط فى حياتهم - إذا استطعت - حتى تعرف ماذا يعنى العرب والعروبة ؟وستعرف أن الإسلام كأسلوب حياة يمارسه الناس ليس إسلاما واحد ا؛إنما أكثر من إسلام ،وستعرف أن ديانة كل إقليم من أقاليم المسلمين ما هى إلا امتداد وتطور لجذره القديم الذى يضرب فى عمق هوية هذه الأقاليم عبر آلاف السنين ،فالإسلام فى الشام فيه كثير من ملامح ديانة الآراميين وفى العراق ستجد رائحة بابل وآشور بقوة فى معتقدات الناس ومذاهبهم ومسلك حياتهم ، وفى وادى النيل هناك ديانة مصر القديمة وكذلك هناك الأمازيغ فى غالبية الشمال الإفريقى .
و ستعرف لماذا لا يتوحد هؤلاء الناس على الرغم مما يقال ليل نهار عن اتحادهم فى اللغة والدين ؛وستعرف لماذا تنشب الحروب بينهم طوال فترات التاريخ، ستعرف المواريث والأعراف الحقة لتلك الشعوب والقبائل؛نعم شعوب وقبائل هذا جذرها الحضاري وأنها لم تعثر حتى الآن على خيط يوحد مصالحها ونزوعاتها ويحترم حياة الانسان على الرغم من عثور الشعوب والقبائل فى غرب المتوسط على ذلك الخيط منذ أكثر من خمسة قرون مضت عندما أخذوا فى جمع المقدس السماوى وحبسه داخل جدران الكنائس وفتحوا الشوارع والمدن والحقول والتاريخ لصوت العقل والحرية واحترام وجود الإنسان .
الفصل الثالث
ملامح آلهة البدو
عرف الناس أشكالا عدة للحضور الجماعي لبني الإنسان،ذلك الحضور الذي وصل ذروته وقمة نضجه مع بداية الثورة الصناعية وانتهاء العصور الوسطى في أوروبا ، تلك العصور التي تميزت بتغلغل سلطان الكنيسة ورجال الدين في كل أمور الحياة حتى أنهم قتلوا أحد علمائهم – جاليليو جاليلي – الذي ذهب إلى أن الأرض تدور حول الشمس لأن ذلك يناقض المعتقد الديني حسب ما يفهمون .
وبانتهاء تلك الحقبة من تاريخ البشرية بزغت فكرة الدولة وظهر مفهوم جديد للحضور الجماعي لبني البشر على رقعة التاريخ ، هذا المفهوم الذي يحقق التضامن والتكافل والخضوع لنظم اجتماعية وسياسية واحدة دونما الاشتراك في ملة واحدة أو عرف واحد أو حتى لغة واحدة يتحدثون بها ،هذا الانخراط الذي يتم طواعية وفق العهد المدني بين الحاكم و المحكومين .
و قبل الوصول إلى مرحلة الدولة هذه والتي لم تتحقق أبعادها بعد في نطاق الناطقين بالعربية نظراً لاستمرار نفوذ نظم سابقة بعضها قبلي وبعضها شعوبي والآخر منها أممي ،نعم فما زالت التجمعات الناطقة بالعربية تعيش وفق مفاهيم القبيلة أو الشعب أو الأمة على الرغم من أن كل النظم الرسمية يصدح إعلامها صباح مساء مكرساً في مناهج التعليم والإعلام والهياكل المؤسسية معلنا أننا نعيش عصر الدولة وعصر المؤسسات ولكن للأسف دونما عهد اجتماعي ، نعم هناك دولة وليست هناك مواطنة ، هناك دولة وليس هناك دساتير ، هناك دولة تأبدت في ركاب حاكمها وعلى الجميع الطاعة طواعية أو كراهة ،هناك دولة ولا رأي للخاضعين لسلطانها في أي من أمورها ، في الحقيقة هذه تركيبة معكوسة ومغلوطة ومزيفة ، فليست هناك دول ولا يحزنون ؛إنما المتاح هو خليط من الشعوبية والأممية والقبائلية ، لكن المسيطرين على مقادير العالم حضارياً مصممون على مفهوم الدولة وضرورة تدشينه في كل أرجاء المعمورة ،أو أن المغلوب والمقهور دائما ما يقلد غالبه وقاهره حتى وإن في الخفاء ، ولذا فنحن لدينا دول كثيرة ؛بل كلنا دول بلا مسؤوليات ، بلا مواقف ، بلا عهد.
جاء في القرآن : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير " ( 13- الحجرات)
وتلك هي الآية الوحيدة في القرآن التي ورد فيها ذكر الشعوب والقبائل بوصفهما مفهومين للحضور البشري مختلفين ، والمثير في الأمر أن تقرير الوجود البشري في شكل قبائل أو شعوب جاء تحت صيغة " الجعل " التي تعني الرسالة والتي يتوقف على الالتزام بها من عدمه مآل الخاضعين له ، وردت تحت صيغة جعل وليس خلق التي تعني الحتمية والجبر ولا دخل لها برسالة المخلوق وطبيعة مآله ، إذن قسم الله خلقه من البشر في صورتين إحداهما القبيلة والأخرى الشعب وذلك ليؤدي كل حضور منهما رسالة خاصة يستفيد ويثري منها الآخر ويتحقق التنوع التاريخي لبني البشر لما فيه تحقيق الرغبات واستيعاب الطموحات داخل منظومة الاختلاف والتنوع التي صاغ من خلالها الخالق كل الخلائق أجناساً ورسالات , و عليك أن تتأمل
إني جاعل في الأرض خليفة إذ ما جدوى الخلق إذا كان بلا مشيئة أو إرادة مستقلة ، ما جدوى جعل الخلافة خلقا إذا صارت أمراً حتميا مقدراً لا فكاك منه مع الفعل " خلق " مثل : " خلق الله الليل والنهار " ولم " يجعل الله الليل والنهار " بل جعل النهار معاشاً وجعل الليل سكناً ، هنا تحدد الوظائف والأدوار والرسالات لمنظومة الخلق ؛ وعلينا أن نفهم مسألة القبائل والشعوب وفق هذا المعنى " جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . إذاً ستظل الشعوب شعوباً وستبقى القبائل قبائلا حتى نهاية العالم لأن لكل منهما دورا ورسالة وهي اتساع محيط التعارف والانفساح على الآخرين وتنوع نظم تلقي الوجود وبالتالي تنوع الصدور والأثر لتحقيق حكمة الاختلاف التي أقرها الخالق في قوله : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم. 118 -119هود .
وتقول المعاجم إن الشعب هو الجماعة من الناس تخضع لنظام اجتماعي واحد بينما تقول نفس المعاجم إن القبيلة هي إحدى عظام الرأس المتصل بعضها ببعض وهي الجماعة من الناس تنسب إلى أب أو جدّ واحد ، فأساس القبيلة هو الانتساب إلى الأصل الواحد – ولاحظ مدى استلهام مقومات الهوية في القبيلة من مدى تعمقها صوب الماضي – بينما أساس الشعب هو معيار الالتزام والخضوع لمعايير اجتماعية هي أصلا من نتاج علاقة الإنسان بالمكان ، فالإنسان داخل نطاق الشعب لديه روح الانخراط في عمل جماعي والانصياع لمعايير أخلاقية واجتماعية وسياسية ليست من إبداعه وتمس موقفه في الوجود من حيث تحقيق العدل والحرية والمكانة الاجتماعية والاقتصادية بينما جوهر القبيلة هو الاحتكام لجوهر أصلٍ – مزعوم – والانخراط في الحياة وفق معايير الجد أو الأب الذي هو دائما الأصل والغاية .
وقبل مجيئ الإسلام وانبثاقه من موطن العرب لم يعرف العرب مفهوم الأمة ولم يتداوله أحد منهم مطلقاً وفق المتاح لنا من نتاجهم اللغوي ،مع الإشارة إلى أن ما نعنيه بالأمة هنا هو الجماعة من الناس الذين يكوّنون وحدة سياسية وتجمع بينهم وحدة الوطن واللغة والتراث والمشاعر ، في حين عرفوا الأمة بمفاهيم أخرى وردت في القرآن, وقال الذي نجا منهما وأدكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله "45 يوسف . فمن الواضح هنا أن كلمة " أمة " تعني فترة زمنية محددة . كما وردت كذلك بمعنى الجماعة من الناس يجمعهم مقصد واحد مثل : " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون " 23 القصص . كما وردت بمعانٍ أخرى تفهم في سياقاتها بحيث يمكن فهم الأمة على أنها مجموعة من البشر لهم هدف أو غاية توحد بينهم في لحظة زمنية معينة ولذا فيمكن القول على أسرة معينة بأنها أمة ، بل يمكن القول على شخص واحد بأنه أمة وذلك إذا تشعبت المقاصد وعظمت وانخضع لها جمع غفير كقوله : " إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً " 120 النحل . والرجل الأمة كما تقول معاجم اللغة هو الجامع لخصال الخير ويمكن أن تكون القبيلة أمة من هذا المنظور إلا أن طموحها لا ينشط إلا باتجاه الماضي وتقديسه رغبة في مكانة معاصرة بينما الأمة لا تكون كذلك ولا يطلق عليها هذا الوصف إلا إذا كانت هناك غاية أو هدف يُخضع مجموع أفرادها له ويسعون لإنجازه ، فهل تمتلك القبيلة مثل هذا الهدف ؟ وخصوصا إذا استثنينا مسألة تقديس الأصل والحفاظ عليه بمعنى أنه هدف لا يتجاوز نطاق أفرادها بينما الأمة في أدق حضورها تحققاً نجدها في قوله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر 110 آل عمران . بل إن نطاق الأمم يخرج عن مجال البشر ليشمل كائنات أخرى كما ذكر القرآن : " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم 38.الأنعام " .
ولك أن تتأمل العربي في انتاجه اللغوي قبل الإسلام فعندما يبحث عن شيء يضعه في منزلة الشرف والسمو لا يجد سوى قبيلته ، فيقول عمرو بن كلثوم :
وقد علم القبائل من معـد إذا قبب بأبطحـــها بُنينا
بأنا المطعمـون إذا قدرنا وأنا المهلكون إذا ابتلينا
ولا يهم إن كانت تلك الصفات متحققه أم لا ، المهم أن تعلم القبائل الأخرى والتي هي الجمهور والحكم والسلطة التي تقر مفاهيم السيادة والشرف أو الضعة والمذلة ، ويقول زهير بن أبي سلمى وهو كسابقه من شعراء قبل الإسلام إلا إنه يتصف بالحكمة والرزانة ويقال أنه كان حنيفا من الأحناف ممن كانوا على ملة إبراهيم في جزيرة العرب قبل البعثة النبوية وأثناءها يقول :
ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة وذبيان هل أقسـمتـم كل مقسـم
تداركتما عبساً وذبيان بعـدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
ويقول لبيد بن ربيعة مفتخراً :
من معشر سنـّت لهم آباؤهم ولكل قــوم سنـّـة وإمامها
فها هنا منزلة الشرف ومدار الفخر أن يكون للإنسان آباء وأجداد اختطوا له مكانة ومجرى بين الأقوام الاخرى – ولاحظ أنه لم يقل أمة مع أنها هنا لها نفس المعنى – ويقول عمرو بن كلثوم التغلبي في موضع آخر من معلقته :
ألا يجهـلــــــن أحــــد علينا فنجهل فوق جهـل الجاهلينا
ورثنا مجد علقمة بن سيف أباح لنا حصون المجد دينا
وعليك أن تتمعن في حجة ومبررات سادات العرب من القبائل في رفضهم دين الإسلام ورسالة الرسول الجديدة في قولهم : ما هذا إلا سحرٌ مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين .. " 36 – القصص . وكذلك قولهم : " ولو شاء الله لأنزل ملائكة ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين 24 المؤمنون . وغيرها كثير من مثل : " أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا " 70 – الأعراف ، " أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا " 62 – هود ؛بل لا أجانب الصواب إن قلت بأن الذي صدّ أهل القبائل من العرب وهم من أهل الرسول ومن قبيلته ومن جزيرته ، أقول أن ما صدّهم عن دعوته في أول الأمرلم يكن سوى الإخلاص لدين الآباء والأجداد الذي هو أحد مرتكزات الشرف والسيادة في نطاق الفهم القبلي والحضارة القبلية ، فكيف يأتي رسول وينال من أهم وأعمق مرتكزات السيادة والشرف والأرومة لديهم ،إن البدوي يعبد ما كان يعبد أبوه ، وإن شرفه وأرومته في مدى أن يكون له أب أو جد له تراث يقوم هو بتجديده وإحيائه في كل يوم ، فماذا تبقى إذا نـُسفت تلك الركيزة ؟!
وبعد تغلغل الإسلام في الجزيرة وما حولها من شعوب وقبائل وأمم شرقا وغربا وبعد كل هذه السنوات من نشر تعاليم الرسالة الجديدة التي حملها أقوام لا يوحِّد بينهم سوى لغة وتعاليم جديدة تشمل كل مناشط البشر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ‘أقول : إن أعراف القبيلة ابتلعت التعاليم الجديدة وطوعتها ، وأكاد أقول إن الصراع بين القبيلة التي هي وحدة الوجود العربي وبين الأمة التي أرست مبادئها الرسالة الجديدة ، أكاد أقول أن الصراع حُسم لصالح القبيلة داخل نطاق المكان العربي في الجزيرة العربية بينما تفاوت الأمر في النطاقات الأخرى شرقا وغربا ، ولك أن تلاحظ أن هناك أمما قبلت الإسلام دينا ولغة مع بعض التأثيرات كمصر ، وأمم أخرى قبلته دينا مع تأويلات منبعها التراث الديني لهذه الأمم ورفضت لغته بمعنى أنها أبقت على الإسلام مطوعا لمعتقداتها السابقة واجتهدت فيه فخرجت بمذهب جديد وتأويل مختلف وردّت اللغة العربية وعادت إلى لغاتها القديمة كالفرس ، كما أن هناك أمما ارتضت لغة العرب ورفضت رسالة نبيهم وتلك هي الأمم المستضعفة من اليهود والمسيحيين وغيرها من الديانات المنقرضة داخل النطاقات الإسلامية الغالبة ، والصنف الأخير من الأمم تلك التي رفضت الإسلام دينا ولغة وناصبت أهله العداء ‘ ودارت معارك دموية طاحنة كما حدث في جنوب أوروبا في بلاد الوندال .
وغير عسير علينا أن نلاحظ مدى فعالية النظام الحضاري ( أمة – قبيلة ) ونختبر جدواه وذلك باستحضار المخاطر التاريخية والمراحل الحاسمة التي مرت بها أمة المسلمين ، فهم لم يواجهوا أعداءهم من المغول والصليبيين وحتى المستعمرين الجدد من فرنسا وإنجلترا وإسبانيا وغيرهم من أمم الغرب في العصر الحديث سوى بالإسلام ، وذلك لأن الإسلام منظومة حضارية متكاملة مع ذاتها فيها ما يغني ويفيد في مسألة الصراع ورؤية العالم والآخرين بينما العرب كنظام حضاري ليس له سوى موروث القبيلة الذي هو متقوقع ومحتضن للماضي وتراث الأجداد ، ومن هنا لا أعتبرها مصادفة أن نرى كل هذا السطوع والتكريس الصاخب لمفهوم الأمة العربية وخصوصا بعد غروب زمن الاستعمار القديم وإحلال زمن جديد من الاستعمار يقوم على أكتاف العسكر ومشايخ البدو من أبناء أمة المسلمين أنفسهم والتمركز حول مفهوم كاذب ومخادع مزيف اسمه القومية العربية أو الأمة العربية . إن هذه الفكرة استعمارية ولا شك ، اجتهد في غرسها المستعمرون وأقاموا لها مؤسسات تستنزف جهد ووعي واقتصاد الأمة الإسلامية ، ولك أن تلاحظ ما حققته جامعة الدول العربية من انجازات منذ قيامها وحتى الآن على أن تلاحظ ما تقوم به الجامعة من تكريس للتنازع والعزلة والفرقة بين شعوب الأمة الإسلامية ، وعليك أن تلاحظ مدى الاتصال والتلاحم والتزاوج والاختلاط والتشابه بين أقطار أمة المسلمين قبل الجامعة العربية وبعدها ‘عندها ستلاحظ وستتأكد أن الجامعة العربية مجرد أداة استعمارية شيّدها المستعمرون ووضعوها كأداة في أيدي العسكر المستبدين الذين تولوا خدمة الأهداف الاستعمارية سواء بقصد أو غفلة ؛ حتى أصبحتُ الآن لا أسمع أحداً يقول أين العرب وأين الجامعة العربية وذلك كلما عرض عارض واستبدت إسرائيل والغرب بأقدار المسلمين من أبناء المنطقة ؛ لا أسمع أحداً ينادي بالعروبة وبالجامعة العربية إلا وتيقنت أنه أحد اثنين إما مغفل أو متآمر وعميل فصراع كالذي يخوضه المسلمون الآن لا يُواجه إلا بأمرين ، الأول هو منظومة الأمة الإسلامية وهذا هو الأجدى والأكثر نجاعة أو منظومة الشعوب ،إذا لم تتيسر الأولى ، فشعوب المسلمين لديهم من مفاهيم الحضارة وصيغ الوجود الجماعي وصناعة المدينة ما يكفي لمواجهة المخاطر الاستعمارية ، لكن لا يُراد لهم أن يخوضوا الصراع على أسس عملية ناجعة وسليمة ، أسس تتفق وطبيعة سياقها الحضاري والتاريخي ، فالشعب السوري والشعب الفلسطيني والشعب المصري والشعب العراقي وشعوب المغرب العربي(الأمازيغ) وكل الشعوب الناطقة بالعربية لديها من مواريث الحضارة ما يمكنها من خوض صراع متكافئ مع إسرائيل أوالغرب ، هذا إذا حيل بينها وبين الانخراط في مفهوم الأمة الإسلامية وتفعيله .
ومما أضعف فرص الاحتكام إلى مفهوم الأمة الإسلامية في خوض الصراع ذلك الاختلاف والانشقاق بين اتجاهات الشعوب في تفاعلاتها مع معطيات الدين الإسلامي والذي أنتج بالحتمية هذا الغنى والثراء المذهبي من سنة وشيعة ، بل من اختلافات داخل أبناء المذهب الواحد ، هذا الثراء والغنى الذي هو مشيئة الخالق من جعل الناس مختلفين استخدم للتصفية الداخلية والقضاء على أسباب القوة ذاتياً وإجهاض أي محاولة حقيقية للنهوض وتكريس المجادلات الوهمية والمضللة والمخادعة من قبيل القومية العربية والأمة العربية والجامعة العربية .
والمدقق لأسباب التناحر الذاتي والإجهاض الداخلي في نطاق الأمة الإسلامية يجده حول قضايا فرعية ليست من صميم الإسلام ، والذي أعنيه بصميم الإسلام هنا ما جاء به الإسلام جديداً غير مسبوق لدى الشعوب والأمم الأخرى التي سبقت الإسلام أو جاورته ، والمدقق في هذا الأمر سيجد أن الإسلام لم يأتِ بجديد في نطاق التشريعات على مستوى الأفراد والجماعات ،والمرجع في ذلك ما جاء في القرآن(خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فلم يحرم الإسلام شيئا أو يحل شيئا لم يكن معروفا من قبل ، فالتحريم في نطاق المأكل والمشرب وكذلك في أمور الزواج والطلاق وغيرها من الأمور كان معروفا بدرجة أو أخرى ، وكذلك في تنظيم الأمور المالية عن طريق الزكاة والعمل والخراج وما شابه ، كل ذلك كان معروفا بدرجة ما تتفق أو تختلف في قليل أو كثير مما أقره الإسلام لأتباعه، إنما الجديد الذي جاء به الإسلام ولم يكن معروفا من قبل وقامت به دولته وازدهرت على مدى قرون طويلة وما كان لها أن تقوم لولاه ، أقول الجديد أمران : أولهما توحيد القبائل العربية تحت أهداف محددة و الآخر أن هذه الأرض هي ملك لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين ،بهذين المبدأين ساد الإسلام وانتشر وحقق دولة صارت أمة كبيرة وعظيمة .
وقد اجتهد المعادون لأمة المسلمين على تفريغ الإسلام من هذين المبدأين وإشغال المسلمين في أمور المناسك والشعائر وكيفية آدائها ومما هو في نطاق التسامح ونطاق " وأنتم أعلم بأمور دنياكم " ، وطالما انشغل المسلمون بذلك ، فلا أمل منهم ولا خوف من أمتهم ، ففي الحقيقة هم الآن ليسوا أمة واحدة إنما أمم شتى تمتلك إمكانية التوحد وعلى الأعداء أن يحولوا بينها وبين هذه الإمكانية ، ولذا أنت لا تجد من يعاديك على أسس التوحد العربي والأمة العربية لأنها فكرة وهمية وحائط في الفراغ لا أساس له وغير مفهوم ، ولكن إذا كان الخطاب والتوجه صوب التوحد على أسس أمة الإسلام ، فهذا أخطر المخاطر ، والغرب نفسه قد جرّب ذلك في علاقته مع الشرق منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا.
القصل الرابع
آلهة العهد القديم
الإله وفقاً للتصور الذي صاغه العهد القديم و امتدت ظلاله فيما تلاه من عهود لا وجود له لأنه مناف للطبيعة و التاريخ , و هذا سبب الخلل و الاضطراب المتواصل في المجتمعات المصدقة بهذا التصور و تحاول تمكينه في مجريات و تفاصيل حياته.
هذا الإله الذي صاغ من الطين بداية الوجود الإنساني الذي هو آدم ؛ و لم يقل لنا من أين أتى بالطين إلى الوجود , و لذا يبدو آدم مجرد بداية وهمية للوجود الإنساني , سبقته بدايات أخرى , و كذلك الماء الذي صيغت منه حياة الكائنات من البدايات الموهومة أيضاً , ناهيك عن مآل الوجود و نهايته حين تقوم قيامة الكائنات و منها قيامة الإنسان الذي يخلد في نار و حريق أوصافه تفوق الاحتمال أو جنان فيها انفلات واسع للتنعيم بالمتع و الشهوات و منها الطعام و الجنس و الخمر و كل ما يتخيله كثير من البشر باعثاً للنشوة و الفرح .
هذا الإله نفسه تدخل فيما بعد في دورة الحيض و الولادة و إشباع الجنس بين الرجل و المرأة كما سكت عن وطء الصغيرة التي لم تبلغ الحيض و كذلك اقتناء العبيد و الجواري و أطلق عليهن ملك اليمين و سكب في جنة المؤمنين به أنهاراً جارية من الجنس و الخمر و اللبن والعسل لذة للشاربين و سكب في جحيم الكافرين به سلاسل و أغلالاً و سعيرا.
و كل هذا التحفيز لم ينجح في تقويم حياة الناس و صلاحها ؛ بل امتدت أيدي الناس إلى السلاح و آلات القتل و التدمير الرهيب بأمر مباشر من هذا الإله نفسه كما استشرى القتل بين أتباعه منذ رحيل المنبئين عنه من الرسل و حتى الآن.
لماذا يتحتم أن نكون عبيدأ أولاد سيد ؛ و لماذا لا نكون أسياداً أبناءً للسيد الكبير ؛ من الذي خطط لاستعبادنا و إلقائنا عبيداً إلى الأبد نسعى للعبادة و العبودية لهذا السيد الذي نحن صادرون عنه و لا نكون إلا بهذا ؟ صيرورتنا و امتداد حيواتنا لا نراها إلا في ظلال هذه العبودية ؛ هل لعلاقة العبيد بالسيد في مجتمع الصحراء و البوادي الذي خرط الناس قبائل لكل منهم سيد؛ هل لهذا علاقة بصياغة تلك العلاقة بين السيد الكبير و بين عبيده الذين لا يطمحون أبداً للحرية و الاستمتاع بالوجود .
إني أتساءل : كتبة الوحى الذين جندهم الله لرسوله محمد ليكتبوا كلماته أين ما خطته أيديهم على العسب و اللخاف و جلود الحيوانات أين هذه الوثائق الأولية الدالة على انبثاق نور الوحي كلمات في عمق الصحراء تهدى الناس و تخرجهم من ضلالاتهم ؟!
الرسالة التي اهتمت بالكتاب و القلم و القراءة هل عجزت أن تحفظ وسائطها الأولية التي نشرت تعاليمها في ربوع الصحراء فظلوا كما يدّعون أميين يجهلون القراءة و الكتابة !؟ هل حقاً عجزت !؟ أم أن هذا الاختفاء المتعمد لتلك الوسائط و الوثائق قد تم السكوت عنه و تغييبه عن الوعي إلى الأبد !؟ بل إن أسئلة كهذه تفتقد المشروعية الإيمانية و يصبح الكشف عنها نوعاً من العداوة و البغضاء التي تستلزم شحذ كل الأسلحة المخبوءة في الجعبة الإيمانية بما فيها التكفير و القتل و النفي من هذه الحياة !!
ولماذا حينما نتحدث عن الطبيعة نستثني الإنسان و كأنه ليس من كائناتها ؟ على الرغم من الوعى الكاسح و الإقرار التام بأنه هو المستهدف أو إنه خلاصة هذه الطبيعة .
و ذلك يدفعنا إلى النظر في الكائنات الأخرى التي تشكل جسد الطبيعة من حولنا و التفتيش فيها عن أصول الدوافع و الرغبات و كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الوعي بالإنسان.
قد يكون الإنسان -ومن زاوية أخرى- هو خلاصة التاريخ و غايته ، كل هذا التراكم المعرفى و الخبراتى عبر الحقب و العصور منذ وجد الإنسان هو جوهر التاريخ المؤسس و الصائغ لوعي الإنسان .
هذا الإنسان التاريخي ماذا يقول بشأن مشكلات التاريخ و خصوصاً المقبل منه و الآتى و التي تتلخص في تنميط حياة البشر و حشد نموذج للحياة على الجميع السعي إليه والالتزام به طوعا أو كرها، مثل السعى للإقامة في المدن و ابتلاع أراضى الزراعة و الصحراء لتشييد مدن عملاقة لا تهتم بانتاج النسل كماً و نوعاً مما يهدد حقيقة بانقراض الجنس البشري الذي تمحور سعيه في خلاصته نحو اقتناص المتعة و حصد الرفاهية .
الفصل الخامس
الحاجة إلى الدين
الإنسان يقبع في العميق تحت تراكمات الزمن , هناك مجردا من السلطة التي تأبدت به على مر التاريخ ، ناهيك عن السلطة الأشد فتكا كونه كائنا يصخب دمه بالغرائز والنزعات التي لا تنهد طالما هو يمشي في الحياة سعيا وراء رغبة " ما " تتجسد في تبديات شتى لا تكف عن التغير والتلون .
والتقديس سلطة تهيمن على الذات الإنسانية ، تنفذ في كلية فعالياتها " روح ، إحساس ، فكر " وماهية هذه السلطة تعتريها إشكالية مربكة يجسدها السؤال التالي: هل للقداسةـ بوصفها سلطةـ كيان وحقيقة خارج متناول الذات الإنسانية ؟ سواء تجلت في ذات فرد أو جماعة ، بطريقة أخرى هل شرط تحقق القداسة هو النشاط والخبرة الإنسانية داخل حدود الزمن أم بالإمكان تصورها منزهة سرمدية في ذاتها ؟
من الواضح أن حصاد التجارب البشرية هو الذي يجسد المفاهيم ويعطيها معانيها ، وهذا الأمر يشمل القداسة ذاتها " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " 118 ، 119 من سورة هود .
لأن القداسة لو كانت سلطة فكيف تتحقق بمنأى عن مجسديها ؟" ... ولذلك خلقهم ... " بعيدا عن متناول الوعي الإنساني ويصبح المفهوم كأن لم يكن وندخل في رحابة تساؤل آخر، كيف نؤمن بما لا نعي ؟!
فالإنسان لم يتوقف عن محاولته إنشاء الأساطير وتشييدها وهذا يحكم مسيرته في التاريخ فيما فات وفيما سيأتي ، والأسطورة في أبسط تعريفاتها وأعمقها هي محاولة لفهم العالم واستيضاح ما غمض من ظواهره ، وأصحاب منطق الأسطورة في تفسير التاريخ يرون الكتب السماوية محاولة في هذا السياق وربما تكون أكثر كلية واستجابة لأسئلة الإنسان بشأن وجوده ومآله ، ويدعمون منطقهم بأن هناك أمما كثيرة مازالت حتى هذه اللحظة تباشر الحياة وفق أساطيرها خارج نطاق الكتب السماوية ( الهند و الصين ، مثلا ) والأمر المؤكد في هذا السياق أن هناك ضرورة مؤبدة في احتياج الإنسان لأسطورة كلية وانخراطه في مقولات تفسر له الأشياء وتهدئ مخاوفه بشأن مسيرته ومآلها ، إلا إنه في القرون الأخيرة من التاريخ الإنساني بزغت سلطة العلم وخاصة التجريبي ربما ليأخذ مكان الأسطورة للقيام بتلك المهمة في حياة البشرية ، ومن أهم سمات الأسطورة التي تقدسها الجماعة ( الأمة ) أن تستبد تلك الأسطورة بحياة معتنقيها ويباشرون الحياة وفق مقولاتها ومن شذ منهم يعاني النبذ ويتلقى لعناتهم ، ومهما يكن فإننا لا يمكن أن نتحاشى الفرق الأساسي بين جوهر الأسطورة والعلم إذ الأسطورة لا تقف عند حدود المادي والمتعين من حياة معتنقيها بل تضرب بالغيب و ( ما بعد الحياة ) بينما يتوقف العلم في نطاق الظاهرة المادية ، يفك عناصرها ويبنى عليها إنجازاته بشأن تحقيق المسرة وإجابة طموحات الجماعة ، ولذا لن يستطيع العلم أن يشغل مكان الأسطورة إلا إذا تدارك هذه المسألة وتجاوب مع كل طاقات الإنسان وخاصة الوجدانية والروحية وربما يكون قد شرع في ارتياد هذا الأفق من خلال الحدس والافتراضات كأفق ما خارج نطاق المادي والمتعين .
الاختلاف إذاً حتمية والقداسة تنسف الاختلاف ولا تقر به والإنسان وفق معتقداته أياً كانت مدفوع للاختلاف والقداسة معا وهذا جوهر محنتنه , أن يحمل هذا التناقض ويحيا به, لكن أليس بالإمكان تقديس الاختلاف ؟! محاولة ما لاستئناس التناقض والتغلب على شراسته ،ربما تكون محصلة السعي الإنساني في كليتها تسير وتطمح في تشييد قناعة كهذه ، ولكن الأمر يتطلب خبرة أعمق وأطول وتواريخ أخرى للسير الإنساني وربما كان لطبيعة الفعل في الجملة القرآنية دور في طموح كهذا ، أعني كشف أفق أمل في استئناس هذا التناقض ، أقصد الفعلين ( خلق ، جعل ) في الاستخدام القرآني للإحاطة بهذا الأمر "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا .. وجعل بينكم مودة ورحمة " ، " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ... " ، " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ... " ، " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " فالمحنة الإنسانية لا تتجلى إذاً في الخلق ولا تكمن فيما هو حتمي ولا قرار للتجربة بشأنه " خلق لكم من أنفسكم أزواجا ... فلينظر الإنسان مما خلق ,لكن المحنة الحقة والتجربة القاسية المورِّثة للشقاء أو عكسه تكمن في نطاق الفعل ) جعل ) وهو ما يستطيع الإنسان أن يتصرف بشأنه ويشكل جوهر تجربته الذاتية " جعل بينكم مودة ورحمة " من الملاحظ أن الإنسان لا ينخرط تحت مشيئة المودة والرحمة بل قد ينخرط في النقيض ، وكذلك مسألة جعل الناس أمماً أو أمة واحدة ، إنه طموح تبدو مشروعيته وإمكانية حدوثه وهذا ما يدفع التجربة الإنسانية في التفاعل والحركة مخلفة غبار المحنة أو السلم ، وكذلك قبول رسالة الخلافة في الأرض أو رفضها .
وفي غياب اليقين وأقصد به حالة انعدام الإجابات على التساؤلات الإنسانية بشأن الاحتمالات المسكوت عنها في مسألة الخلق والمصير ، في هذه الحالة تنهض مؤسسات عديدة تشمل كافة الأنشطة الإنسانية في التاريخ والسياسة والمجتمع وحتى الدين نفسه لتقدم الأجوبة التي تراها وتدافع عنها بل وتفرضها بشكل قاهر يمثل سلطة يصطدم بها كل فكر لا يقرّ قناعاتها ، وأسوق المثال التالي لتبيان الأمر بشأن مسألة الاستخلاف في الحياة إما أن يقوم بها الإنسان أو يرفضها , هل بالإمكان رفضها ؟!! بمعنى أن يأخذ موقف السماوات والأرض والجبال " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا " فكيف يكون المصير إذاً في هذه الحالة ؟! وإذا كانت للتساؤلات في مسألة الخلق بعض الشراسة فالحال أشد وطأة بشأن مسألة المصير إذ اليقين الديني في الإسلام حاسم ولا يستمد مفرداته من واقع حياة البشر حيث الجنة أو النار ،ومن الواضح أن الحديث يتناول منطقة خارج نطاق الوعي البشري القائم على الخبرة التاريخية ، وبالتالي جاء تشكيل هذا المصير وفق هذا المنطق ، ففي كل الاحتمالات من المستحيل استحضار هذا المآل وفق خبراتنا التاريخية .
إن النصوص المقدسة ( العهد القديم والجديد والقرآن الكريم ) قد حظيت بالاهتمام والحفاوة من جانب معتنقيها كما لم تحظ نصوص أخرى على مدار التاريخ الإنساني وخاصة القرآن الكريم حيث قرر النص نفسه أن الاهتمام به وتداوله من صميم العبادة ، وهذا التواتر في الحفاوة والتداول يجعل من الصعب مقارنته بأية نصوص أخرى إلا أننا يمكن أن نجري مقاربة لتمثل معنى القداسة ومنبعها ) بواعثها ) إذا تصورنا الأثر الذي يحدثه مثلا النشيد القومي لأمة ما وحالة الشجن الذي يثيرها في نفوس المنتمين إليه واضعين في الاعتبار أن النشيد القومي لا يملك أية آفاق ميتافيزيقية ولا أية روافد للمآل الفردي الذاتي فهو ليس أكثر من محاولة لخلق حالة توحيد جماعية ، يخيل إليّ أن معظم بواعث القداسة التي يحملها النص الديني والتي تثير غالبية نفوس معتنقيه ليس مبعثها التدبر والتأمل فيما يحمل النص من معاني بشأن الحياة ( الخلق / المآل ) بقدر ما تعتمد على مجرد التواتر والتداول التراكمي الجماعي الكاسح الموحد للجماعة ،في حين أن النص المقدس لا يعتني بهذه الحالة في الدرجة الأولى ،إنه نص للتأمل والدراسة " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " ... " وقرآنا فرقناهُ لتقرأهُ على الناس على مُكْثٍ " .
من الملاحظ أن نهوض المؤسسة الدينية القائم على اجتهادات الأسلاف وآرائهم وكذلك ممن يتقدمون الأمة المتدينة بصفتهم الواعين والفاهمين للنص ؛ هذا النهوض المقدس للمؤسسة الدينية أجهض الكثير من المقاصد التي يبتغيها النص وأقصد الاشتباك الذاتي والتأمل الفردي لمحتوى هذه النصوص والبلوغ للمعنى الكلي والحكمة القابضة بكل مسارات النص ومعانيه الجزئية ، مع العلم أن هذه المؤسسة قد صارت سلطة تدعمها وتحرص عليها السلطة السياسية ربما لما يحتويه النص المقدس من إمكانيات هائلة تبعث على التحرر والانعتاق من الخوف ,هذه الإمكانيات ذاتها يمكن توظيفها في الإتجاه النقيض .
إن حاجة الإنسان للدين تكمن في انقهاره وعجزه أمام الموت كظاهرة مؤبدة لا يملك شيئا حيالها ، وإذا كان العلم التجريبي مازال ينقب ويحاول في مسألة الخلق والتخليق وبلوغ الظواهر الكونية ومحاولة الإحاطة بها وأن إنجازاته في هذا الشأن تبدو مشجعة ومحفزة للآمال ، إلا أنه أمام الموت لا يستطيع التقدم إطلاقا ، وهنا تنشأ حتمية الدين .
المفاهيم حصاد الوعي بالتجربة الإنسانية التي تصوغ الوعي وتمنحه معالمه وهي لم تزل تتواصل ( كل يوم هو في شأن ) ، ( ويخلق ما لا تعلمون ) ولذا ينبغي الإيمان بحتمية التغير والتطور في المفاهيم ذاتها وهذا المنطق ينسحب على كل الظواهر المادية والروحية بما فيها الدين نفسه ! لكن هل من الضروري تحديد مفهوم الدين ، إن الأمر يبدو شديد الإرباك إذ أننا في حال تصدينا لمفهوم الدين نواجه ظاهرة ذات أبعاد كلية تستحوذ على مجمل النشاط الإنساني ماديا ووجدانيا وروحيا ؛ لكن في البداية يجدر الإقرار بأنه من المستحيل تصور وجود الدين بمعزل عن معتنقيه ، بمعنى أن الدين هو ذلك التجلي لحياة معتنقيه ؛إذ ما معنى تناول المستعصى والمستحيل عن الخبرة البشرية .

الدين يمكن أن يكون تعريفه هو طبائع الناس المتحكمة حيال ما يواجهون في الحياة ، وفي هذا السياق الناس على دين ملوكهم ، وعلى أية حال لسنا بشأن رصد كل التداعيات المفاهيمية المحتملة للدين بقدر ما يعنينا التبصير بعلاقة السماء بالأرض عن طريق الإنسان ، فكل المتدينين على اختلافهم يؤمنون بقوة ما تسيطر وتسيّر هذا العالم ولها تعاليمها المنوط بالجماعة الالتزام بها حتى وإن كانت هذه الديانة آخذة شكل تقديس جمادات أو حيوانات ، وهذه الديانات تؤمن في الغالب بوجود حياة أخرى بعد الموت الذي ينظر إليه كبوابة للمرور إلى تلك الحياة ، وفي الحالة الإسلامية يعد الدين هو ذلك الوحي الإلهي متضمناً تعاليم الله للبشر من خلال رسوله محمد وكذلك كل ما أقره النبي في حياته من توجيهات وممارسات بشرية ولم يبدله وحي في حياة النبي ، المثير في هذه الحالة أن الزمن يتقدم ، والله قد ألقى تعاليمه وانتهى الأمر وعلى معتنقي الدين تدبير أمورهم وفق فهمهم لذلك الوحي ومن هنا تتجسد الأزمة حيث حظيت بعض المفاهيم بقدر هائل من الذيوع والحفاوة ربما بلغت حد الوحي ذاته أو ربما كانت كأنها الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه .
تعيش الأمة المتدينة تاريخها إذاً وفق مفاهيم بشرية لنصوص الوحي ، والخطير أن استمرار هذا الأمر وتواتره من شأنه أن يقفل كل طاقات العقل والتفكير والبقاء على حالة جمود وحرمان البشرية من أزكى كنوزها في التفاعل وإقرار خبرات جديدة بلا شك كانت ستؤدي إلى مسارات جديدة أكثر رحابة وعمقا وخصوبة في مسيرة الأمة ، والباعث على تعميق الأزمة أن تلك الأمة المتدينة ليست الوحيدة على رقعة التاريخ الإنساني في اللحظة ذاتها وقد اكتسبت الأمم المجاورة خبرات مدنية أكثر تشعبا بل ربما سقطت عوامل الانعزال وإلى الأبد ، حال كهذه من شأنها أن تحول وضع الأمة ذات التفسير التاريخي والمقدِّسة لاجتهادات أسلافها أن تعيش حالة فانتازيا مفجعة ، فهي تتمسك بنص لا تعرف كيف تفهمه وكيف تستلهمه ، ويتحول الوحي إلى ترانيم وشعائر ونسك مقدسة دونما أية أصداء أو فاعلية لهذا الوحي فيما تباشره من أمور على مستوى ذاتها كأمة لها متطلبات مادية وأيضا كأمة عليها أن يكون لديها ما يبرر حضورها على نفس الرقعة الزمنية للتاريخ الإنساني الآني وتتجاور وتتفاعل مع أمم أخرى . بلا شك لا مفر من التبعية والعيش على إنجازات الآخرين دونما أي فهم أو توظيف للخصوصية على مستوى التاريخ أو الجغرافيا التي شكلت أمة بمواصفات هي بالضرورة تفردها عن غيرها .

وللخروج من حالة كهذه ثمة احتمالات ثلاثة ،إما أن يتأبد الوضع الحالي والذي يتخذ من التبعية وانعدام الهوية عنوانا له ، وإما فصل مفاهيم السلف عن الوحي تماما وإيقاف استبدادها وسلطتها على انفعال الأمة بالحياة ، وإما بالنظر إلى الوحي نفسه والوقوف أمامه نفس الموقف الأول الذي وقفه الأسلاف وهَدْم كل القداسات المفهومية للأسلاف تجاه النص والنظر إلى مفاهيمهم في إطار الخبرة الكلية للأمة والقابلة للتطور وفي هذا الشأن الأخير ثمة اقتراحات قد نتعرض لها لاحقا .

وبعد ، فما هو الدين ؟ إذا كان من المستحيل اعتبار الدين حالة سرمدية صمْدا لا تحتاج لطاقات الخبرة الإنسانية للتفاعل معها ومحاولة فهمها والوعي بها ؛ يبقى أن الدين - السماوي - لا يخرج عن كونه مفاهيم إنسانية للوحي في إطار حدود العالم وخبرات البشرية وأن هناك قوة تسيطر على العالم وتسيّره وأن الموت بوابة لحياة أخرى ، وفي هذا السياق تبقى مفاهيم البشرية عن الوحي هي المعنى الحقيقي والفاعل للدين في إطار حكمة الخلق .
" يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين "
" وله الدين واصبا "
" إن الدين لله فلا تدعوا مع الله أحدا "
" لكم دينكم وليَ دين "
فالتصور القرآني للدين إذاً رحب إذ من المحتمل أن لكلٍ دينا ، بداية ممن يؤمنون به ، وحتى الكافرين به ، ولذا فمن الصحيح أن نتصور الدين على أنه مفهوم الإنسان عن العالم وعن نفسه وحتما أن لكل إنسان مفهوما لهذا الأمر ، والفارق هو مكان الإله من هذا الدين وموقعه ، والمشكلة الأكثر إرباكا في مسألة الدين الذي يأخذ الإله الخالق المسيطر موقعا مركزيا فيه هو الوحي ، إذ أن إيمان الأمة المؤمنة بالله تضعه في مكانة لا يدانيها أحد ممن خلق ، فهو منزّه ومفارق عن كل ما تصل إليه حواس الإنسان بما فيها الفكر نفسه باعتباره حاسة كلية ، فكيف يقدم الإله مفهوما عن ذاته وحقيقته بلغة هي من مقتضيات الوجود الإنساني ويزاولها في التواصل مع من حوله وصياغة مفاهيمه عن مفردات العالم والإحاطة به ، إذ إن نفس اللغة سوف يصوغ بها الإله خطابه لبني البشر وهذه حكمة المفارقة المدهشة ،لأنه من غير المنطقي أن يحيط الحادث الجديد المتغير بما هو قديم وأزلي، من المستحيل أن يحيط اللاحق وهو اللغة بالسابق القديم وهو الإله، وعنما نجد الإله عليما وحفيظا وسميعا وبصيرا حسب لغة القرآن ، بل أكثر من ذلك نجده يغضب بل ويندم كما في لغة العهد القديم لابد من أخذ ذلك على سبيل المجاز، إن اللغة والتي هي من صنائع التاريخ لا الطبيعة أكبر العقبات في الإحاطة والإيمان بالخالق الإله ، إذ لا يحس الإنسان بتعامله معها حالة تقديمها لحكمة الخالق من الخلق والتعبير عن حقيقته ، لا يحس الإنسان بفرق كبير إذ أنه يستخدم نفس اللغة في انشغالاته اليومية للتعبير عن مواقف تعتريه في رحلته الحياتية .

الباب الثالث
في حضرة نووت
الفصل الأول
آخيتي نووت ماعينديت..
أنا في حقل أبي يانووت،الموسيقى تغمر كل شيء، الأشجار،تعاريج القبة السماوية،أفتح بابي ونافذتي على شمس وقمر يسبحان في دورة الفلك المنقوعة في فتنة الموسيقى، نعيق الغربان ،هديل اليمام والحمام،نهيق الحمار،نقيق الضفدع،مواء القطط ونباح الكلاب،عواء الذئب ،الطيور التي تلهو فوق قمم الأشجار والهداهد التي تحط مع أبي قردان على أخاديد الحقل تلتقط الديدان.
أنا في المحترف الحقلي برتحوت آخيتي،بعض مما أورثنيه أبي يانووت ، أبي ذو الأملاك التي لاتحصى،أبي الذي كان معي وأنا أتطلع إليه وأكبر،أبي الذي توارى عندما وعيت حضوره وامتد بصري وبصيرتي بامتداد أملاكه،توارى خلف الحروف التي أجاهد لإزاحتها وأعود إليه،وأنا أعبر حروف هذه الفتنة النائمة اليقظة ليل نهار ،الرياح وحركة السحب،كل شيء هنا حولي يحمل رائحته وأختام حضوره الفصيح.
_من أين جئنا وإلى أين نمضي يانووت؟
التاريخ بكل منتجاته يحاول الإجابة،الفلسفة والعلوم التجريبية يحاولان،الدين يحاول، العلم التجريبي متجدد ، الدين ثابت،وكلاهما يقدمان تصورا بشأن بداية الأشياء ومآلاتها،ولو قارنا بين الدين والعلم فسيحظى الأخير بقبول واسع لأنه متطور وما على الدين إلا أن يجاريه إن أراد البقاء في معادلة الوجود.
يانووت..
أنت بسيطة وصديقة للحكمة، وروحك قوية كليونة المياه،لاحبَ بلا وعي بالذات وبالوجود،فإذا وقع حب فتلك قوة جبارة بين الرجل والمرأة،أيتها الزاكية في كل المواسم والحقول،الأشجار والقطط والضفدع والطيور ترنو إليك، المياه في النهر تنتظر عودتك ،هل تسمعين صلواتها يانووت؟
إنها في مرمى بصيرتك،أنت قابضة عليها،لاتهملي الغنوص، تأملاتك الباطنية،ماوراء الحروف والأقنعة من معان،يتها الروح الساحرة،كيف أغفل وأنام عن حيوات تتقد في روحي،أيتها الروح المتأججة،لقد أذهلتني،ما توقعت أن بروحك كل هذا الزكاء والحكمة.
_لاتثق بروحي كثيرا ،فأنا الثبات في التغيروهذا يجعل الحياة ضجيجا وثورانا لاينتهي.
كنت هنا من قبل،أنا هنا دائما، لم أعد أخشى فقدان متعي الكبيرة التي اهتديت إليها عبر اندفاعاتي في الوقت,
إن التاريخ والجغرافيا ماهما إلا تفاصيل وإشارات للوعي,حروف في مرمى القراءة،تماما كقشرة البيضة أو حدود الشرنقة التي تتلاشى عندما تكتمل حيوية الطائرأو الدودة داخل كل منهما،كذلك التاريخ والجغرافيا لايعنيان شيئا في ذاتهما،إنهما حاضن متجدد، مجرى لعبور الحياة واستمرار تدفقها، وعلى هذا فالوثوق بهما والإيمان بثباتهما كشيء مستقل يؤدي إلى فساد الوقت والحياة.
عطرك لايغادر المكان يانووت، هنا سنموت ونبعث كما شئنا في انطلاقة الطير من طين الحقول إلى سماء العبير،من فسوق النبتة وتصارع ظلمتين ،الطين وصلابة القشرة،عطرك لايغادر الوجود أيتها الزاكية،يابنت رب الحكمة؛لارب الجنود المدججين بشهوة السلب وقنص أملاك أخوتهم متجاهلين أواصر القربى بينهم،عطرك لايغادر أيتها الزاكية،هل كنت تعرفين أن ابن نفيل وابن أبي الصلت يوحى إليهما من رب الوجود في قلب بادية العرب قبل حلول النبي محمد إذ يترنم الأول بالواحدية قائلا:
أربا واحدا أم ألف رب أدين إذا انقسمت الأمور.
بينما يذوب الآخر في الحال والمحلول صادحا:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدة أطاعت فصبّت سجالا
فيجيبه نشيد الواحدية في حضرة ابن نفيل:
عزلت اللات والعزى جميعا كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا عُزى أدين ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزور
ولا هُبلا أدين وكان ربا لنا في الدهر إذ حلمي صغير
عجبت وفي الليالي معجبات وفي الأيام يعرفها الصغير.
أيتها الزاكية عبر المواسم والفصول ،هل كان ابن نفيل وابن أبي الصلت يوحى إليهما من كتاب الوجود المكين في تلك الصحراء المعزولة عن أسباب التطور والفجور الشعبي؟ أما كانا يتمنيان النبوة؟ ويرددان رجع الأماني في تمتمات تستحضر الواحدية واتحاد الحال بالمحلول؟ وهل نفث الشيطان في أمنيتهما أم ظلا في معزل يابنت رب الوجود!!
_ من أي زمن أنت أيها الفاتن؟
_ الزمان لوتعرفين كالمكان وحدة واحدة لاتقبل الفصل، وحدة لها تجليات بحسب مشيئة انفعال المكان بقوة الوجود والخلق،عندها يتجلى المكان جبلا أوسهلا قاحلا مجدبا أو واديا أخضر تتدفق فيه الأنهار، الزمان شيء حدث لايحيط به إلا من انخرط في مشيئة الواحد وانضم إليها، كل شيء سيحدث قد حدث قبلا ويمكن معاينته عندما نصبح في مشيئة الواحدية,فكل الأشياء منا ونحن منها,نتناثر في الوقت ونجتمع ، منا من يشعر ببعضه ، يتلمس روحه في الأشياء حوله ومنا من يغفل في فتنة الوقت وعبقرية التشكيل والحركة،والموت ضامن لاستمرار التناثر والاجتماع.
_كأنك تسمع الزمان وتراه ، تلمس روحه،كأن البصيرة والوعي والعرفان حاسة لديك؟
_ أسمع وأرى مفاصل الحرف في تاريخ الناس داخل الوجود، أسمع طأطأة الأخطاء البشعة وأنات الخلق من الحرف والاعوجاج ،من البشاعة التي يقترفها الجهلاء الحارفون المنحرفون في حق الوجود، القتل حرف،مخاصمة الطبيعة في معايير العمران حرف،طلب السيادة والشرف تحت مزاعم الاصطفاء الإلهي ونقاء العرق حرف خطير، الظلم حرف ،كلهم سواء؛لكن الحارفين ينزهون أنفسهم عن الواحدية الحقة ضمانا للاستبداد بالقوة المزعومة على مساحة هذه الحياة العابرة،وأخطر الحارفين عن سياق الواحدية هم البدو المؤمنون بنقاء العرق واصطفاء الآلهة لهم وأحقية الولاية والسيادة على أبناء الواحد ,هؤلاء المبثوثون في رحلة العودة إليه.
_رب الوجود يصطفي من يشاء لما يشاء...
_هذا رب وجود البدو في الصحراء،ليس رب الوجود الحق، إنه حرف للعدل والحق، ماذنب الشعوب المبثوثة من قديم في جنبات أرض رب الوجود؟وبأي حق وعدل يصيّرهم البدو إلى سبايا وقطيع ودهماء تسوقهم سياط النخبة المصطفاة من رب الصحراء؟ رب إسرائيل وقريش، الأولون فضّلهم على العالمين، ووضع الإمامة والقيادة في الآخرين إلى أبد الآبدين!!
نحن نعيش حرفا وخللا عظيما وضلالا لن يخرج البسطاء منه إلا بطلوع الروح، انحرافا حاولت الكنيسة وبعد ثلاثة قرون من اختفاء عيسى آخر أنبياء إسرائيل؛حاولت الكنيسة بالفلسفة الإغريقية والغنوص الشرقي أعادة التوازن إلى لاهوت البداوة لكنها فشلت وصارت عمائم القساوسة وصلبانهم من الذهب الخالص الذي اعتصر حياة الفقراء الرازحين تحت سلطان الضلال والخداع، ومن بعد الكنيسة حاول العازلون تدمير الواحدية،لكنهم سيفشلون.
_ماذا تقصد بالعازلين؟
الذين يعزلون المادة عن الروح، يعزلون المشهود عن التصور والخيال والحلم والأشواق والطموح ,يعزلون الظاهر عن الباطن، الشكل عن المضمون، الموت عن الحياة، الذين يعزلون الغنوص عن البدا في تناولهم للوجود وأسراره وسيرورته.
_هذا كلام صوري، نظرٌ،ليس فيه من طين الأرض شيء!
_ الجوعى يريدون طعاما، المفزوعون يريدون أمنا وسكنا، العبيد يريدون حرية، والعطشى ماء، والمرضى شفاء، ماذا لو أدرك الجميع أنهم هم الجوعى والعطشى والأسرى والمفزوعون والمرضى؟هذا جوهر التشرد والمعاناة في رحلة العودة إلى الواحدية ،ماذا لو أدرك الجميع أنهم شيء واحد، جسد واحد تشظى إلى أشلاء تسعى للالتئام ,تسعى لإعادة الشلو للأصل ؟يا آخيتي نووت ، لقد اقترفنا كل شيء صعب وقاس وخيالي إلا الواحدية، اقترفنا القتل والاستبداد والنفي والتعالي والاحتقار والجهالة والغطرسة والاحتكار فما جلب لنا إلا التعاسة والانعزال، لماذا لانقترف التأمل والنظر في الواحدية ؟ لماذا نصر على تقديس رب الاصطفاء والنخبة البدوية ؟ موسى تردد كثيرا في الاقتراب من حكمة المصريين الذين ربوه وعملوا على رعايته حتى صار يافعا وقتل منهم رجلا وهرب إلى صحراء سيناء ثم عاد ليقول لهم إنه نبي إسرائيل فتهكم منه ملك مصر قائلا : كيف تكون نبيهم وأنت لست منهم ؟ أما ربيناك منذ صغرك؟ أنك لست إسرائيليا,أنت مصري لقيط ألقاك أبواك في حابي (النيل) ,كما أنك قاتل وهربت من جريمتك والأنبياء ليسوا قتلة مجرمين!!ورغم كل ذلك هرب موسى بإسرائيل نحو صحراء الشرق وقال لهم في تثنيته:
لا تكره مصريا لأنك كنت نزيلا في أرضه
وفي آخر السلالة المصطفاة من رب جنود الصحراء حاول عيسى إصلاح اللاهوت فقتله كهنة إسرائيل فما زاده القتل إلا خلودا لأن أنصاره اعتصموا بالواحدية كأقوى مايكون الاعتصام.
- أراك تلمّح إلى تعارض التاريخ و الطبيعة !
- في تصوري الطبيعة أنتجت تاريخها على أكمل وجه ممكن في مصر القديمة و لم يحدث أن تقاربت كائنات الطبيعة و تاريخها حتى صارت تمتزج بها كما حدث في تلك الحقبة من حياة الإنسان في مصر و كلما ابتعد النموذج المصري عن معطيات طبيعته في تلك الحقبة ازداد تشوهاً و تشتتاً و اغتراباً وسط ضغوطات منتجات تاريخية لطبيعات أخرى من الشرق (الهكسوس - الفرس - العرب) أو من الغرب (الإغريق - الرومان - أوروبا الحديثة)
- لماذا انحرفت بالحديث من العام إلى الخاص ؛ من الكون و الوجود و العالم و الطبيعة إلى مصر ؟
- مصر جزء من طبيعة العالم طوال التاريخ ، كل المنتجات التاريخية للطبيعات الإنسانية رفدت مصر, احتكت بها ,عايشتها امتزجت أو تنافرت بدرجات و حتى الآن مازال ذلك حقيقياً , مصر القديمة هي الإنتاج التاريخي الأكثر كمالاً للوجود
- حتى و إن خرجت مصر عن نطاق التأثير أو الجذب ؟
- طبيعة مصر لا تجعلها خارج نطاق الجذب أبداً دائماً هي جاذبة بمعطيات الطبيعة بل أصبحت جاذبة بمنتجات الطبيعة التاريخية انظر مثلاً إلى قضية العبرانيين التي أنتجت إسرائيل و اليهود عبر التاريخ منذ أربعة آلاف سنة تقريبا و حتى الآن مصر جاذبة ففيها نضج الوعي الجماعي لإسرائيل و تحولت من قبيلة إلى شعب في أرض مصر و منها خرجت قديماً إلى جوارها تحاول إقامة حضورها التاريخي مرة أخرى كل ذلك لأن إسرائيل يفتقد إلى الطبيعة الثابتة الحاضنة القادرة على انتاج تاريخها الخاص كما حدث في مصر القديمة ,إسرائيل بنت إله الصحراء الذي يسعد بالسلب والقنص والسبي ,فأنزلهم على بلد ليست لهم وأمرهم باغتصابها وسلب أهلها ,ألا تذكرون :إله البدو فرح بقربان الراعي البدوي هابيل وأعرض عن قربان المقيم في الحقل قايين.
إسرائيل ظلت في بؤرة الوعي الإنساني طوال الوقت بانجازها الضخم في مجال احتكار الوعي الديني و أعني به الجذر السماوى في التدين و الذي يبدأ بإبراهيم الذي ينظر خلفه فيحدد بدايات النشأة و ينظر أمامه فيعطيهم ميراث الأرض و ملكها و نخبوية الحضور في الحظوة الإلهية حتى في هذه السلبية لا يمكن تصور إسرائيل في غياب مصر التي نشأت إسرائيل في حجرها ,و غرس التراث المصري ندوباً عميقة في المسلك الإسرائيلي في الوعي بالذات و النظر إلى العالم .
- في مصر هناك دائماً من يدفع إلى تجاهل كل هذا الزخم و الحضور المصري في الطبيعة و التاريخ .
- أظنه من نتاج الاحتكاك الحديث بالشرق و أعني به العرب و ميراثهم الديني في التاريخ و الحضارة المحمول أصلاً على أكتاف إسرائيل.
- ماذا تعني ؟
- لا أعتقد أن أحداً يمكن أن يفهم القرآن في غيبوبة تامة لمنجزات إسرائيل في العهدين القديم و الحديث (التوراة - الإنجيل)
- عندما أحدثك عن الأديان المنسوبة إلى السماء فأنا في قلب التاريخ المؤثر بحسم في جسد الحضور المصري.
- و ماذا عن الغرب ؟
- دفع السيرورة المصرية في نطاق تجربة الغرب ليس بحجم خطورة الارتباط بمعطيات الاحتكاك بالضغط الشرقي ,مصر مع الغرب لا يمكن أن تكون بمعزل عن مصيره بمعنى لو ارتبطت به فهي معه رفعةً و انحطاطاً أما مع الشرق فالأمر مختلف لأننا نكون أسرى لمنطق الغنيمة بمدلولها الطبيعي الحاد و المباشر و المشروع جداً في ثقافة التاريخ الشرقي (العرب - إسرائيل)مع الغرب أخطر ما يواجه مصر هو الخضوع لمنطق العولمة القائم على تنشيط أشكال الاستهلاك في المأكل و الملبس و المواصلات و السكن و ذلك لتشييد الشركات العملاقة التي تأخذ مكانة الدول في تحديد مصير العالم و هذه كارثة تواجه العالم كله بما فيه إسرائيل و مصر و العرب.
هكذا فعل الإسكندر قديماً و بريطانيا و أمريكا حديثاً, بينما البدو الذين هبطوا على مصر مدججين بإله يوجب على المرأة أن تقبض أجرة إرضاع ابنها و يبيح نكاح الصغيرة و إرضاع الكبير و ممارسة الجنس مع أربع إناث دفعة واحدة و يبيح القتل و السلب و السبي بدواعي الكفر و الإيمان هؤلاء البدو هم سبب انحطاطها عبر العصور ابتداءً من غبارهم الهكسوسى الذي حط على شرقها و حتى آخر هبة في القرن العشرين كان قد أخمدها المصريون بالسيطرة على قلب صحراء البدو في عصر محمد على مع العقد الثاني من القرن التاسع عشر .
_تحدثني عن احتكار محبة الإله واصطفاءاته ،لكنك لاتحدثني عن البحث عن محبته، وهل من الفطرة إجبار الناس على الصلاة ضربا في سن العاشرة؟هل رأيت أحد يضرب رضيعا ليلتقم حلمة ثدي أمه؟ هل رأيت أحدا يرغم الناس على الأكل والشرب والجنس والخوف من الألم؟تلك هي الفطرة التي أعرفها والصلاة الحقة هي جالبة السكينة التي تأتي في كنف المحبة لا الإكراه وإيلام الصغار ، أما قهر الناس صغار أم كبارا على إقامة الصلوات بطريقة معينة فليس من الفطرة في شيء، هنا يبدأ التحرر من الإله التاريخي الذي اخترعه البدو واحتكروه، يصطفيهم ويصطفونه،هذا الإله التاريخي خدعة لاحتكار وعي الناس والسيطرة على طموحهم ،بينما الإله الحق هناك في قلب الطبيعة وروحها ، قابض على قوانينها وسننها الصارمة،هذا الإيقاع الساحر للوجود في حركته وسكونه،في صمته وكلامه،في ذكورته وأنوثته،، صلابته وليونته، ضعفه وقوته،برده وحره، نوره وظلامه،كل هذه الأضداد الظاهرة لدفع الملل وضمان الحيوية والتنوع، كلها واحد حين تنغمس في النغم الأساسي لهذا الوجود.
من الحماقة الخوف والفزع من رب الوجود الذي نحن بعض امتداده، من العارخشية الفقر والحاجة ونحن في قلب بستانه المعمور بالثمار والظلال،ومن الجنون الاعتقاد بأن لهذا الإله نخبة مقربة أثيرة لديه، كيف والجميع منه يصدر وإليه يرد دائما وفي كل لحظة؟ إلهنا متجدد الشأن على الدوام ونحن على طريقه، لا انفصال على الإطلاق بينه وبين رعاياه، إنه القديم ونحد أحداثه فكيف يحيط الحادث بالقديم ؟وكيف يدرك اللاحق السابق؟هل تعرفين يانووت أن كل شيء في الوجود يصلح للحسن ونقيضه؟حتى معرفة الإله حال انحرافها!!كل الأشياء تحمل أضدادها على الدوام.
كل الأشياء هنا تسبح في الواحدية ،سواء ازدهت بالرقص أم صرخت من وعورة الدرب، سواء صعدت من دخان أو غبار في زقزقات الصبح على شرفات النهار، سواء رأيتها في مناقير الهداهد أو فوحات العبيرأو صعدت من جهالة :خذوه فغلوه هذا العتل الزنيم..تراك تسألين؟
من الذي وضع كل هذه البذاءة في فم الوجود؟
تسلل البدو إلى سرير العرش يانووت ، شوهوا مقادير الوجود.
الموت والميلاد يجددان الأمل في العدالة، في التعجيل بالخلاص ، بالواحدية، والحكومة السرية لهذا العالم تأبى، والوجود الذي كلما توهمنا كشف عمائه توغلنا في عماء عميق، وأصدقائي معظمهم لايثقون في العقل فيطرحونه في المنفى ويأنسون بالخرافة والأساطير خارج الزمن صوب يوم الخليقة ويوم الحساب رغم أن البابا الجديد يصرخ بأن آدم وجهنم مجرد أساطير ، محاولات بدائية تمت في أزمنة قديمة لاستئناس هذا الوجود الغامض الذي نحيا بعضا من حيواتنا فيه.
لن يخرج أحد من هنا بقلب سليم كما جاء في العهد الأول،والذي يكتشف العلامات ويصل التجريد بالمحيوز،والرمز بالمعنى سيرى كل شيء،تماما كما يرى توالي النهارات والليالي ويحسب الظلمة والنور بينما لو مدّ بصيرته خارج الحيز بعيدا عن نطاق الأرض سيجد زمنا آخر ونورا وظلمة آخرين وشموسا وأقمارا وحيوزا أخرى.
لن يخرج أحد من هنا بقلب سليم؛حتى لوبقي متابعا يتفرج ولم يشترك في مخاضة هذه الوليمة ،سينفطر قلبه إلى أشلاء وهو يرى شظايا الخلق تتناثر حوله في كل الاتجاهات، شظايا لن تلتئم إلا بمزيد من الحيوات والمشقة والتأمل، أبدا ..أبدا لن يخرج أحد بقلب سليم!!
وهبتكم ..ماذا وهبتكم؟ ليس في جيبي سوى الأسئلة، لم أجمع في هذا الجيب متاعا؛بل لم يغرني شيء من متاع هنا بعدما عاينت دماء المشقة حتى في الولادة وانبعاث المزيد من الحيوات ، الحيوز هنا مشغولة بالتعب ولا يزينها سوى الجهالة والمظلمة؛ كل حبور أو فرح ينطلق من فوهة الغياب والنسيان،فإذا أردتم أن تفرحوا غيبوا في الجهالة والمظلمة،فكل حبور مفتعل يزرع المزيد من المظالم الآلام!!
نظرت في الصخر والينبوع،نظرت في الصلب واللين،الموت يضبط إيقاع الحياة،خياراتي كانت دائما صعبة يانووت.
_أنت تقول ذلك، الحقيقة لم تكن لك خيارات مطلقا،،لا أحد يختار شيئا،جميع الكائنات صدى قوة واحدة تستبد بالوجود الذي نحن أحد مفرداته، والصدى يتتابع ولا ينتهي مجسدا حيوية الواحدية.
_ حتى الزمن الذي نحسبه بالنور والظلمة ، بتوالي النهارات والليالي؟
_حتى الزمن لاشيء،الزمن لاشيء،اخرج من حيز الأرض وسترى أن الزمن لاشيء، إنه مجرد تشبث بالوهم لتأبيد الحضور في هذا الحيزالأرضي،خارج الأرض هناك معايير أكثر رسوخا لحساب الأعمار والأزمنة.
_ انت تعرفين الكثير من أسرار الوجود!!رغم إن صمتك وملامحك يوحيان بغير ذلك.
_السكون لا الحركة أصل الوجود ، السكون منطلق كل تجدد، السكون أصلٌ والحركة عارض، تماما كالموت الذي هو قاعدة ومنطلق لكل حياة جديدة،السكون أصل الحركة ولاحركة بدونه.
_الزمن خارج الحيز الأرضي، والسكون الذي هو أصل...
_ لحظة..دعك الآن من الزمن خارج الحيز الأرضي وانظر في ذاتك، المحسوس منها والمجرد، الدم، القلب كعضو ينبض، الأفكار ، الانفعالات، المبادئ والأخلاق،كل مالديك من حواس ومجردات، هل تستطيع أن تخبرني متى تكونتْ وكيف تطورتْ في مدارج النمو أو الضمور؟هل تستطيع تحديد ذلك بدقة على وجه اليقين؟وهل تستطيع الجزم أنها جميعا تكونت هنا في هذه الحياة أم أنها واصلة إليك من حيوات أخرى وقد ورثتها أنت بعد خروج تلك الحيوات من هنا وصارت إلى حيوات جديدة،الزمن لاوجود له صدقني، إنه خدعة تشغلنا عن التأمل والنظر في الأصول، لاتثقوا كثيرا بالزمن الذي يأتي و يمضي ، تذكروا دائما، جاء قبلكم ناس كثيرون ومضوا منذ أزمنة سحيقة،كنتم عنها غائبين،وفي أزمنة سحيقة كنتم شهودا عليها، تذكروا الذين خرجوا من هنا، الموتى فيكم أكثر من الأحياء، فكيف تثقون في هذه الحياة وتضعون فيها كل آمالكم؟كيف تثقون بالزمن الذي يمضي؟
_من نحن ؟ المصريون من هم أيها الشيخ الفاتن؟
_نحن_المصريين_حصاد البدو والأوطان منذ غزوات الهكسوس الاوائل وحتى قبائل الترك العثمانية مرورا بقبائل الأمازيغ البربر وحتى قبائل العرب وتنظيمات المماليك، فالمصريون الذين توطنوا ضفاف النيل فصاروا أوطانا كانوا مطمعا طوال الدهر للبدوالشاسو الهائمين في صحاري الشرق وكذلك للبدو المشوش الهائمين في صحراء الغرب، المصريون خلاصة ذلك الصراع.
ـــ أسألك عن هوية المصريين، مالذي يحركهم ويؤثر فيهم؟
_لم تتعرض بلد للغزو والسلب كما تعرضت مصر ومن كل الشعوب والأمم والقبائل شرقا وغربا وذلك عقب سقوط عاصمتهم القديمة طيبة والحديثة منف، أدرك المصريون بعدها أنهم لا أمل لهم في النجاة من مطامع البدوالمنبعثين من الصحراوات المترامية حولهم شرق النيل وغربه،ولهذا قرروا التعايش معهم واحتواءهم على قاعدة الدين الذي نضج واكتمل في أكناف طيبة عاصمتهم الأولى، لقد ترك المصريون ندوبا وبصمات عميقة في عقائد البدو الغزاة الذين وفدوا إلى مصر بغرض السلب والنهب,,
_ مازلت لا أفهم
_ صبرا آخيتي نووت،في تاريخ المصريين دوافع موضوعية للتطرف ضد عقائد الآخرين أو معها؛لكن دوافع الاحتواء والتسامح والتعايش أقوى وأعمق،لانها من تراثهم الأول الذي قرر التخلص من أسطورة نقاء العرق والانتساب إلى نسيج الإنسانية الواسع، فخالط المصريون غزاتهم نسبا وعيشا ومصاهرة طوال التاريخ، ودماء المصريين تضم خصائص كل شعوب الأرض وقبائلها من النوبة الأفارقة وحتى الإغريق الأوربيين والفرس وقبائل العرب والأمازيغ، إن التسامح والعيش المشترك له قاعدة وراثية في دماء المصريين وليس مجرد تعاليم من دينهم القديم فقط!!والعجيب أنه لم تزل للمصريين خصائصهم المميزة رغم كل هذا الاختلاط الهائل، يبدو أن هوية المصريين تمتد إلى جذور أعمق من اللغة والدين ونقاء العرق المزعوم!!فصراخ المرأة التي حاصرها الفيضان في صان الحجر يصك أذني هنا في سبنتوس،فاصمتي يانووت حتى تعبر جثث المواليد التي تطفو على سطح الفيضان في سخا ومنوف وبلهيب والخيس، انصتي لصراخ الأمهات والآباء الذين يصارعون الموت وهم يرفعون الجسور، علهم يكبحون شهوة الفيضان في مسرة اللعين.
_ماكل هذا الألم الذي يعتصر حياة الناس،وخصوصا قبل الممات؟ما الألم؟
_إنه لاشيء أيضا بالنظر إلى سرمدية الحيوات وتداخلها الفاتن المتقن، من يستشعر حيواته السابقة واللاحقة لايتألم،وما انتفاضة الألم في حضرة الموت إلاتنويعة في إيقاع الكائنات الراقص في قلب الوجود من حولنا،انظري يانووت ، ليس أسوأ من التاريخ الذي شيّد تلك التصنيفات على سلم القبح والجمال، في الحقيقة ليس في الوجود قبح أو جمال،الوجود، كل الوجود، المعلوم منه والمخفي هو طريق للعرفان،طريق للعودة إلى الواحدية.
- انظري في قلب هذا المعبد يا أخيتي نووت انظري هذا الطريق إلى الخروج من هنا في هذا الطريق ستعرفين كل شئ بعد أن تكوني قد عرفت اسمك هل تعرفين اسمك يا نووت ماعنيدت ؟
- نعم و أعمل به منذ اهتديت إليه اسمى صلة السماء بالأرض و ما عليها من بحار أنا صلة السماء بالأرض وحدة الوجود و الكائنات ,هذا بعض من ظلال اسمي.
- نحن صلة الكون و دفعة في دفق أثره و قيامه نحن أبناؤه المساكين يا نووت !! لا نملك تعبيراً عن حضورنا و نرى عجزنا في التواصل مع كثير من ذواتنا الأخرى التي تفصح عن حضورها هنا بطرق غير الكلام!!
_ أنا لا أفهم شيئا مما تقول..كل ما أفهمه أن لدي رحما باردا عاطلا يصرخ رغبة في تجديد الحياة.
_ وهذا من صميم حضورنا...أن نسعى للحصول على ماهو منا في هذا الوجود والاتحاد به.
_ مازلت لاأفهم ،ليست لدي فرصة للفهم ،أنا أسيرة لهذا الضغط، رحمي يصرخ يريد التجدد،هل تفهمني؟
_ أنت لاينقصك شيء لتدخلي بداية جديدة،الجنس قاعدة العرفان، عندما يطمئن الرحم على بقائه.
_ كم أنا فرحة بك،وأنوي الصمت معك طويلا !

الفصل الثاني
الحرف بين الأصل والتاريخ
المأسورون بالتاريخ في كرب عظيم طالما استكانوا لهذا الحرف الكبير,فما خروج الوجود بكل كائناته إلى عالم الشهود إلا حرف كبير عن سياق الواحدية، وإن أردت فهما للحرف حقا فما عليك سوى استدعاء الواحدية والاستقامة مع طبائع الخلق ومقارنة الطبيعة بما وقع عليها من حرف وتحريف عبر مسيرة الزمن ، المدن حرف ،والبنايات حرف ،الملابس حرف ،نظم الحكم والإدارة،وسائط التواصل من ظهور الدواب وحتى شاشات التواصل عبر الانترنت وما سيستجد ،تلك كلها حروف عن أصل وحيد هو البداية,هو الواحدية.
والنص الإلهي (مخلوقات وحروفا) رمز للإشارة إلى الواحدية التي تتوالد في حيوات متعاقبة عبر الزمن ،النص الإلهي الذي تقدس لدى أتباع النبيين عبر الزمن وفي كل الأمم ماهو إلا رموز تحتاج إلى قراءات لاتنتهي في حضرة النص الوجودي ومضاهاة الدلالات والمعاني ووصل الطاقة المبتورة بين المحروف وبين النص الأصلي ،النص الحرفي المقدس ومنه القرآني لا نفاذ له أو أثر بمعزل عن نص الوجود الذي هو كل المخلوقات.
ونحن هنا في حضرة المحروف العربي المقدس نقلا عن الوجود في ثنايا القرآن التي تستلزم الإنصات للمصطلحات الحرفية التي ينبئ النص عن دلالاته ومضامينه من خلالها وأهمها مصطلحات (القرءان _ الذكر_ الحكمة_الكتاب) ويلحق بها ما يمكن استنباطه وهما التعاليم وحرف المتعاصر وأعني به سرد الأحداث والوقائع التي عاصرت فترة إخراج النص القرآني إلى حيز التداول البشري والتي استمرت ثلاثة وعشرين عاما تقريبا بدءا باقرأ في غار حراء داخل الحيز المكي وحتى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا في الحيز اليثربي ،و التعاصر منه ..ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم...وإذا جاء نصرالله والفتح وكذلك وامرأته حمالة الحطب..وعتل بعد ذلك زنيم.
أما التعاليم فتعني التشريعات والصيغ الإلزامية في السلوك الخلقي والتعامل الإنساني ومنها الشعائر والنسك من صلوات وزكوات وصوم وحج ،تلك هي مضامين النص القرآني المقدس والمحروف عن النص الوجودي بكل كائناته الواقعة في حيز الشهود والوعي أو المخفي منها.
ولايمكن فهم نص المحروف القرآني إلا بمحاولتين موضوعيتين وأخرى إجرائية ،فأما الموضوعية فـتبدأ بتصنيف المضامين في عموم النص تتبعها إعادة ترتيب المحروف النصي بحسب توقيتات التداول البشري في حياة النبي محمد خلال ثلاثة وعشرين عاما تجسد النص فيها من عالم الوجود الغيبي إلى عالم الوجود الحرفي في شكل حروف مخطوطة على سطوح ممهدة من الجلد أو العظام أو حتى جريد النخل تشكلت منها بحسب المصطلحات القرآنية آيات وسور اتخذت أسماءها خلال فترة التداول في حياة النبي ثم صارت توقيفا لايجوز حرفها مرة أخرى ،أما المحاولة الإجرائية فتهدف إلى فهم دلالات المصطلحات الست وهي القرءان _ الكتاب_ الذكر_الحكمة_التعاليم _التعاصر بوصفها عناوين على تصنيفات مضمونية يمكن إعادة فهم القرآن بضم كل آياته تحت مصطلح عنوان مما سبق ،هذا مع قراءته مرة أخرى مرتبا بحسب توقيتات التداول البشري في حياة النبي.
القرآن
يبدو لي مصطلحا خاصا بالأداء الصوتي الشفاهي وصلا ووقفا ومدا وقطعا وإشباعا وإمالة وما الى ذلك مماهو معروف بنظم القراءات ، والقرآن من القراءة بمعنى الفهم والتدبر وما يؤدي اليه من طرق الأداء وهذا كله في نطاق الحرف العربي ، ولو إننا ترجمنا النص القرآني إلى لغة غير عربية(أعجمية) وتم تداوله كتابة أو شفاهة في هذا النطاق اللغوي الجديد فلايمكن أن نسميه قرآنا رغم حصول الفهم بدرجة ما تختلف من مستوى قربها مع الفهم في نطاق لغته التي كتب بها أول مرة إملاءً من النبي محمد على كُتّابه ،فمثلا لو قلنا (الله نور السموات والأرض) فهذا من النص القرآني لكن لو ترجمناها إلى
God is the light of skies and earth
فإن ذلك ليس قرآناً و لكنه ترجمة ما لمعنىً ورد في القرآن الذي صار مصطلحا عاما لكل ما ورد في النص من ذكر وحكمة وكتاب وتعاليم ومعاصرة,القرآن الذي أصبح مقدسا بفعل التواتر والتراكم الزمني المتواصل عبر القرون بطرق أدائية مختلفة ومميزة عن غيره من النصوص أصبح مفارقا لغيره لأنه مرتبط بالصلوات وفيه شمولية لكل أوضاع وسلوكيات المؤمنين به حتى صار مجسدا لوعي معتنقيه بالوجود والتاريخ والغريزة وما وراء التاريخ قديما وفي كل الحيوات السابقة واللاحقة لحضور المؤمنين به منبئ بمصائرهم ومآلاتهم،(ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته)فالقرآن كما إنه اسم جنس على نوع من الكتب السماوية المقدسة فهو نظام في الأداء والتعبير عن المضامين وهو مشتق من دائرة دلالية واسعة هي (قرأ) لها معان متعددة منها المعرفة(وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ويوم القيامة نخرج له كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك) فمن المعلوم أن كثيرا من الناس لايعرفون القراءة بمعنى فهم ماهو مكتوب في الصحف ، وهي في الغالب إحدى الصور المهجورة من مصدر الثلاثي مثل توهان وسرَحان ورهقان ووجدان ورضوان وعدوان ورجحان وبطلان وشنآن وماشابه على نفس الوزن من الفعل الثلاثي ثم صارت علما على النص الإسلامي المقدس ككتاب للمسلمين على شاكلة التوراة والإنجيل كتابي اليهود والمسيحيين المقدسين( رغم اختلاف المسلمين واليهود والنصارى على مفهوم ودلالة هذه الكتب) فاليهود يسمون كتابهم المقدس بالعهد القديم الذي ربما كانت التوراة أحد أسفاره(سوره) والمسيحيون يسمون كتابهم بالعهد الجديد وهو عدد من الأناجيل ربما كان مايقصده المسلمون هو أحد الأناجيل في العهد الجديد(الإنجيل الخاص بسيرة المسيح في الحياة الدنيا مثلا)،والدليل على أن كلمة قرآن أحد صور المصدر الثلاثي المهجور قول القرآن في سورة القيامة:(لاتحرك به لسانك لتعجل به .إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرآناه فاتبع قرآنه.ثم إن علينا بيانه.)فهذه الطريقة في الأداء القرائي(القرأنة) هي من الوحي تماما كالمعاني والدلالات والمضامين وكل ما اشتمل عليه نص المسلمين المقدس.وربما كان هذا هو الفرق الجوهري بين القرآن وأحاديث الرسول محمد التي بين أيدينا، (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)،فالتنزيل والقرآن مصطلحان على عموم النص المقدس الذي صار حروفا منها ماهو حكمة ومنها ماهو كتاب ومنها ماهو ذكر ومنها ماهو تعاليم ومنها ماهو أحداث معاصرة.
من الأمور البدهية أنه لايعطف الشيء على مثله؛ بل على ما يمتاز عنه وفي القرآن (نص المسلمين المقدس)لدينا الكتاب،الذكر، الحكمة،التعاليم(تشريعات وشعائرنسكية)، وتعاصر، تلك مضامين النص وكلها وحيّ وتنزيل من الله الذي يوحي إلى الشجر والحجروالبهائم وإلى أم موسى التي لم يقل أحد أنها من أنبياء الله ؛ وحيٌ من الله تأبّد في الكلمات الحروف تعبيرا وإحاطة بالنص الأصلي الذي هو الوجود بكل كائناته ماعلم منها ومازال مخفيا، إلا إن مؤامرات الكهنة وسدنة الدين تحالفت على مرمى العصور على حرف الكلمات والغرائز عن سياقاتها لمواءمة تطلعات الحكام وتأبيد استنامة العوام، مؤامرات الكهنة وغفلتهم عن سياقات النص كانت على الدوام عائقا أمام اتصال الناس بحقائق الوجود كلمات حروفا وغرائز.
ألف لام ميم، ذلك الكتاب لاريب فيه...ويعلمهم الكتاب والحكمة...كاف ها يا عين صاد، ذكر رحمة ربك عبده زكريا..فالكتاب والحكمة والذكر صنوف من الوعي والخطاب متمايزة ،ولايجوز الخلط بينها على اعتبار أنها جميعا كتاب أو حكمة أو ذكرلافرق بينها في المضمون والدلالة،وربما كان هذا الخلط هو السبب في تحول الدين إلى ساحات للحرب والشقاء والتعاسة مثلا (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) فماذا لو دعونا إلى ربنا بالكتاب أو بالذكر أو بالتعاليم ؟ لاشك سينشأ الصدام والعنف والإقصاء بكل السبل ,فالدعوة إلى الدين وتبشير الآخرين لاتكون إلا بهذا الصنف من المضمون القرآني الذي هو الحكمة.
فالكتاب والذكروالحكمة والتعاليم والمعاصرة عدة النص القرآني الذي أصبح له نظام ذو ملامح وخصائص في القراءة والسمع والأداء والترتيب والتنظيم ،وبإمكان أي دارس ومتأمل ومعايش للنص القرآني تصنيف مضامينه المعرفية ومن هنا يدرك مدى فعالية النص وإمكانيات نفاذه إلى حدود جديدة في الزمان والمكان والدلالات، فالدعوة إلى سبيل الرب لاتكون بالذكر أو الكتاب أو غيرهما من المضامين المعرفية في القرآن، إنما تكون الدعوة إليه بالحكمة ، وبالحكمة فقط ، وهكذا يتواصل النص مع طاقات الوجود المتجددة وغرائز الكائنات المندفعة نحو استبقاء الحياة والحفاظ على أبديتها، بالحكمة وليس بالكتاب الذي يثير الفتن بسبب اختلاف تأويله الذي لايعلمه إلا الله فقط، (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله(قلى) والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب.) الراسخون في العلم لايخوضون في تأويله لأنهم لن يحيطوا بعلم الله الذي احتفظ بتأويله.وهكذا فالنص الإسلامي المقدس الذي صار حروفا ناسخة لنص الوجود الأصلي الذي هو المخلوقات مثله كغيره من النصوص المقدسة تحتوي على طاقة عرفانية هائلة لاتنفد تماما كأسرار الوجود الذي هو النص الأصلي الشاغل لطاقات البشر ،على مر حيواتهم عاكفون على الإحاطة به وفهم العلاقات البنيوية المفجرة لطاقاتهم وتغيير أنماط حياتهم على الدوام تبعا لما يتوصلون إليه من أسرار، النصوص المقدسة؛كل النصوص المقدسة هي رموز عرفانية قابلة للتأويل والفهم طالما هناك بشر يأتون إلى هذه الحياة.
والآن يقف الناس في قلب الحياة صارخين، ضجر ومظالم وأفق بهيم، تندفع الخطوات تحت سمائه، لاوقت لقراءة الوقت والوجوه، ماجناه أسلافهم عليهم من اندفاعات شوهت مظاهر الحياة من حولهم وأورثتهم التعاسة والضلال، إنهم في قلب حياة لا وصل بين وجوهها، بينها وبين ملامحهم،يحطمون ما فيها من جمال وحيوية، لاضوابط تقود سعيهم ، أصبحوا مجرد خطوات بلا يقين في دروب الحياة.
ربما يكون الانغماس في الحضور المادي واتخاذه غاية للسعي هو السبب،فالنص الحياتي الذي يعيشون فيه لايفرق بين أجناس الوجود من شجر وحجر وبهائم،أجناس تظهر وتختفي في تحولات المادة وصياغاتها المتجددة، والناس جزء لاتمايز بينهم وسط هذا الحشد الكثيف لغبار المادة الكاسح، ملامحهم مشتركة، لا أحد يشغله سؤال المآلات، الغاية من الوجود، وجود البشر والحجر والبهائم، ربما لأن الصياغة المادية لنص الحياة لها من يقوم بها طوال الوقت ، يعملون على تغييب سؤال الغايات ونفيه من طريق الناس بكل السبل والوسائل وخصوصا مع نشاط العولمة التي تحالف كهنتها لتنميط الحياة اعتمادا على تطور وسائط الاتصال التي توشك على إزاحة التمايز الجغرافي ، إنه صراع صاخب بين قمة المنتج التاريخي الذي هو العولمة وبين الغريزة البشرية الضابطة لإيقاع التاريخ وسيرورته.
الحياة تمضي إذن تحت ضغط ومعوقات التاريخ البشري المتسلح بالغباء، وهو يحاول عرقلتها، غير مدرك أنه مسلك مستحيل، والمحصلة إهدار حيوات البشرالخاضعة لسيطرة النخبة التي أنتجت في آخر السعي نص العولمة وحشدت له كل الأذرع التي تظن أنها الضامن لاستمرار هذا العماء، وهي لاتمل من تطويع كهنة الديانات لإعداد صياغات جديدة للنصوص المقدسة التي تسيطر على يقين العوام ، لكن الحقيقة إنه استغلال بشع لغرائز البشر في الافتقار إلى أجوبة عن سؤال البدء والمآل وتأبيد مفهوم متماسك عن سيرورة الوجود ومآلاته في ظل النصوص المقدسة التي يتداولها الناس والتي تبدو كصياغات محدودة وقاصرة بحكم خبرة الإنسان، صياغات كسيحة لمفاهيم البشر عن سيرورة الوجود والقوى الإلهية الضامنة للعدل والكرامة والحرية.
والعولمة التي هي ذروة المسعى التاريخي الآن يبدو أنها هذبت مفاهيم الديانات واستعملتها كأحد جنودها الظاهرين المخلصين، تماما كما فعلت الامبراطورية الرومانية قديما والتي اهتدت بعد صراع طويل مع المسيحية إلى استخدامها كذراع طويلة وقوية للإبقاء على تماسك الامبراطورية ودفعها للأمام.
وبوصفي من ضمن محيط المثقفين بالنص الإسلامي في رؤية الوجود درسا ومعايشة أسجل اعتراضي على ما آلت إليه مفاهيم هذا النص الذي انشغل كهنته قديما وحديثا في صياغته وتقديمه كرأس حربة في قبضة السلطة الحاكمةعلى مر العصور، أسجل اعتراضي على تآمر الكهنة وغفلتهم في فهم النص وتطويعه قائدا لكتيبة الحفاظ المدافعين عن ملكوت الحكام.
وفي المحصلة نحن أمام مفهومين رئيسيين للنص الحروفي المقدس أولهما يرى الإنسانَ خلقه الله من تراب ثم من علقة فمضغة مخلقة وغير مخلقة ثم قرار في الرحم فالخروج طفلا ثم يبلغ أشده فموت في الشباب أو إرجاء إلى أرذل العمر حيث الزهايمر،وآدم أول البشر من طين صار نبيا تليه سلسلة أنبياء من نسله تنتهي بمحمد العربي، هؤلاء الأنبياء جاؤوا بتعاليم تضمن للناس السعادة والقرار في الدنيا وبعد الممات حيث الجنة، والمخالفة لهذه التعاليم وهذا التصور تعني الضلال والكفر والتعاسة هنا في هذه الحياة الدنيا أو فيما يليها من حيوات؛وهذا المفهوم الأول يحشد أتباعه لقتال ومقاومة المنكرين الكافرين الجاحدين بهذا التصور بكل الطرق حيث يرى أنه الصواب وغيره الضلال والفساد الذي يجب القضاء عليه ؛ هذا عن المفهوم الرئيسي الأول أما الآخر فلايهتم بما سبق وإنما يحتشد بتأويلات متواصلة واستنطاقات دائمة للنص المقدس بهدف ترسيخ عروش الحكام وتقديم الأفق الديني اللازم لحشد العوام والحفاظ على حالة الرضا والقرار بما يقع من أحداث وتغييرات في النسق التاريخي لترسيخ الغيبوبة والبلادة ضد النص المقدس الوجودي الذي يتجدد كل لحظة.
والكلمة معنى واسع، فالمسيح كلمة الله ، ونصوص الكتب المقدسة كلمة الله ، ومابين الكلمة الحرف والكلمة الفعل تندفع مصائر الكائنات، ولا شيء سابق لتصوره، وكل وجود سابق على تصوره لايعول عليه،ومتى تصورنا الشيء فقد ظهرت كلمته وبان حرفه وانضم إلى نص الوجود الحروفي، فالكلمة الحرف منتج تاريخي، أما الكلمة الفعل فهي أساس الغريزة واندفاع السيرورة في مسعاها، وهدف الإنسان من السعي مؤاخاة الغريزة والتاريخ، مؤاخاة الغريزة بالإنصات إليها والاستجابة لغاياتها العظيمة ، وفهم التاريخ المؤاخي للغريزة والشاق المنشق عنها، فالتاريخ الحكيم هو ما كانت كل منتجاته استجابة عميقة لتناسق الغريزة وتوازنها.
والسياق المادي القاصر ينظر للإنسان وغيره من الكائنات محصورا بلحظتي الميلاد والموت هذا بينما النص الحروفي المقدس يقول: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على خلقهم ألست بربكم قالوا بلى أن تقولوا إنا كنا عن ذلك غافلين.) نعم نحن كنا هنا من قبل لحظة الميلاد والدخول في هذه الحياة، وكنا شهودا بما تلزمه الشهادة من وجود للحواس من سمع وبصر وشم ولمس، فلاشهادة بلاحواس والتأبيد المادي للحياة أفقد الإنسان قدرته على الوصل مع حيواته السابقة ناهيك عن حدسه واستشعاره بالحيوات المقبلة ، وهكذا فما حرْفات الفهم البشري المستمرة للنصوص المقدسة إلا مؤامرة لتأبيد حضور الحكام وسلطتهم الغشوم على حضور الناس وإحباط ما فيهم وما في الحياة من حولهم من غرائز ورغبات طامحة للتجدد والتطور أبدا،هي محاولة جاهلة من كهنة النص الحروفي لابتلاع النص الوجودي المقدس، وهي قاعدة الصراع التاريخي الذي يعمل على تصدعات البشر والحياة.
والاعتماد على التاريخ في الإقناع بصواب وحقانية الفهم للنص المقدس ماهو إلا مزيد من العماية والضلال ،وما يقال عن قوة حضارة ما وازدهارها في عصر ما بسبب التمسك بالدين ماهو إلا مغالطة ومخادعة لتأبيد غيبوبة العوام، وهذا ينطبق على كل الديانات بلا استثناء بعد التمحيص والتدقيق وتحليل شواهد التاريخ وسعي الحكام وجنودهم وأتباعهم على رقعة الزمن، فالديانات التي تذخر نصوصها بتأييد الحرب والقتال واختلاق الخصوم تبدأ من بني إسرائيل حتى أتباع المسيح بعد أن أعيدت صياغة ديانته في المحافل الكنسية عقب خروج عيسى يسوع المسيح من تاريخ الناس على اختلاف الروايات في اختفائه ومستوى ظهوره ثم ديانة الإسلام التي بدأت برسوله محمد ونصه المقدس القرآن ،والرجوع إلى تدوينات التاريخ عن تلك العصور سيعلمنا كيف صار الدين مطية للغالب الحاكم وسوطا لإيلام المستضعفين والعوام وقهرهم لدرجة أن أنصار النبي وأتباعه انخرطوا في قتل بعضهم بعضا وعصيان تعاليمه أولا بأول عقب وفاته ، كما حدث ذلك مع أتباع موسى ثم أتباع المسيح الذي أعيد بناء ديانته في المحافل الكنسية المقدسة بعد ثلاثة قرون من صعوده إلى السماء ثم مع أتباع محمد من المسلمين.
وفي النظر إلى الذات والوجود لابد من الالتفات إلى التمايز بين مسالك اليهود والمسيحيين والمسلمين؛ تلك المسالك التي مهدها وقام على حراستها عبر التاريخ كهنة وسدنة محتشدين بالتآمر والغفلة ولازالوا يبتكرون وسائل للمؤامرات والخديعة للحفاظ على القطيع ساكنا مستلبا داخل الحظيرة؛ حظيرة الإيمان بمفاهيمهم التي يعاودون صياغتها باستمرار لمواءمة طموح وخطط الحكام الغالبين والإبقاء على غيبوبة القطيع داخل الحظيرة. إنهم أخطر أسلحة النظم الحاكمة ، أخطر من الصاروخ والقنابل والغازات السامة.
وحاجة الإنسان للدين تماما كحاجته للطعام والأمن والجنس، والدين هنا بمعنى الجواب على سؤال البدء والمآل ، بدء الوجود ومآله ,وفي قلبه وجود الإنسان نفسه ومآله، من أين أتى وكيف؟ وإلام يصير وكيف؟ هذا جوهر الدين كغريزة، أما الدين كتاريخ ووقائع وأحداث وشخوص فهذا ما يحرص الكهنة على الخلط بينه وبين غريزة الدين، فانخرطوا في تكريس العبودية وتشييد أسوارها كفعل تاريخي يرضي إله الوجود ، بل جعلوا العبودية هي غاية الوجود ومآله ومن ثم سلبوا الإنسانية جوهر طموحها وتجددها الطبيعي وهذا أعظم إحباط لطاقات الإنسانية وأمكر حيلة لأهدار معنى الإنسانية.
وهل العبودية إلا شغل تام وانفعال متواصل على مساحة الوقت كله منذ مبارحة الطفولة وحتى الموت ؟وتأمل قول أبي العلاء المعري : وحب الحياة أعبد كل حي / وعلّم ساغبا أكل المرار
وما تصوير العبودية في النصوص المقدسة كتكريس للقهر والتسلط إلا مكر عميق مركب اهتدى إليه الكهنة الأوائل وعملت سلالتهم من بعدهم على النفاذ به عميقا في وجدان الناس وأفكارهم لشلّ حواسهم وكبت الحيوية فيهم؛ حتى تكاد النصوص المقدسة وفقا لتصوراتهم مجرد إفزاع واحتقار وتهويل من انتقام الخالق الذي يترصد الناس في كل لحظة وكأن تلك هي المهمة والوظيفة الأساسية التي من أجلها كان الخلق والسيرورة.
الإله نفسه غيبٌ خارج مرمى الحواس ولذا كل ماينسب إليه من خلق وجبروت وإحياء وإماتة وتعذيب وتنعيم في حيوات أخرى غيبية، كل ذلك سيظل غيبا ما لم يتأمل الإنسان هذا الوجود بنصيّه المحسوس(المشهود) والحروفي.
لقد تجمد النص الحروفي المقدس وتحنط كمومياء أو حجر تتداوله المياه والزلازل وعوامل التعرية، والناس تمت مصادرتهم واحتكار حياتهم واحتقار حواسهم وغرائزهم بواسطة تصورات الكهنة وتوقيف دلالات النصوص الحرفية( التي هي رموز)عند مستوى طموحهم القائم على إرضاء الحكام وإرضاء إله لاوجود له بتلك الملامح إلا في خيالاتهم وتصوراتهم المشوهة العقيمة.
الله الحق قديم متجدد، وكل يوم هو في شأن ، ويخلق ما لاتعلمون،وهذا مبرر استمرار الحياة، هذه الحياة التي يبدو الإنسان فيها صاحب إرادة واقتدار وتحكم في مصيره الذاتي على الأقل مابين مبارحة الطفولة وحتى الموت؛ورغم ذلك يبدو النص الحروفي المقدس جامدا ساكنا انصرف الناس عنه واتخذوه تعاويذ وأحجبة لطرد الشياطين التي تصيب الناس بالخلل والمرض والفرقة والقطيعة والألم، صار النص تعويذة لطرد الأرواح الشريرة.
الناس يقتلها الجوع والحروب والكوارث ،وكهنة النصوص الحروفية منشغلون بكيفية ركوع المرأة في الصلاة والتنظيف من الاستحاضة ووضع اليدين في القيام والطريقة الحلال في دخول الحمام وآداب التبول والتبرز في الحل والسفر، منشغلون في تكييف النصوص لمؤازرة استبداد الحكام( ظل الله في الأرض) وحماية ظهورهم من غضب الشعب المسلوب سعيه والرازح تحت الفقر والقهر والجهالة.
الذكر
( واذكرفي الكتاب إبراهيم...إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لايسمع أويبصر ولايغني عنك شيئا.) الحجارة والتماثيل المنحوتة أوثان وأصنام هي من صنع الخالق الحق الذي وضع قمة الكمال التشكيلي في الجسد البشري فعلى صورته خلق الله الإنسان. ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم..أصنام وأوثان ينشغل بها أبو إبراهيم وأتباعه طول الوقت،يهيمون بها مغرمين في شغل واستذكارعلى مساحة الوقت، إنها العبادة إذا،وما العبادة إلا الشغل، وكل منشغل بما في الحياة فهو عابد لها ؛عابد للنص الوجودي الأصلي وإن كان لايستحضر ما وراءه في كل لحظات الانشغال، الانشغال والذكر هما العبادة وضدهما النسيان والذهول والإهمال..يقول الشنفرى من شعراء الجاهلية أديم مطال الجوع حتى أميته وأصرف عنه الذكر صفحا فأذهل؛ هذا من جذر الدلالة في معنى الذكر إلا إنها جاءت في القرآن كمصلح على جنس من المعرفة ؛( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون.) ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون.إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري.وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر...ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم )،فمن الواضح أن الذكر هنا جنس من العرفان ضمن مضامين النص مثله مثل الكتاب والحكمة والتعاليم والمعاصرة
وإذا كان الأمر كذلك فكيف لنا تحديد مواطن الذكر في القرآن؟ إنها كل موطن ورد فيه سيرة نبي سابق من أول آدم وحتى محمد، كل نبي له سيرة وقصص سواء في علاقته مع الله أو سيرته في قومه وما وقع بينه وبينهم من أحداث أو حتى ملابسات ظهوره وخلقه في هذه الحياة، (واذكر في الكتاب مريم...واذكر عبادنا أبراهيم وإسحق ويعقوب...و إسماعيل وإليسع وذا الكفل...واذكر في الكتاب موسى...واذكر في الكتاب إدريس.)وهكذا أدرك حكماء المصريين تلك المعاني العميقة فاتخذ المتصوفة من الذكر والحضرة تجسيدا مشهديا للمعنى الحروفي العميق للعبادة ،فالحضرة اسم مرة من الحضور الذي هو ضد الغياب والذهول والنسيان ، فبالذكر والحضرة يكون الإنسان في عبادة دائمة خالصة ،وليس من الضروري أن تكون كل قصص الأنبياء بتفاصيلها قد حدثت واقعيا بالفعل ؛ وخصوصا إذا توسعنا في الإحاطة بتفاصيلها من العهدين القديم والحديث، إنها طريقة في التعليم تخص الأنبياء والرائيين والكهنة،تماما كالأمثال، فعندما يسأل التلميذ معلمه عن شيء غامض يقوم المعلم بسرد مثل أوقصة يفهم منها التلميذ ما غمض عليه من المعنى ،إن قصص الأنبياء بتفاصيلها أمثال تعليمية في غاية الفصاحة ، لفهم أمور العالم ففي قصة يونس مثلا دليل وحجة على حتمية أن يمتثل الإنسان لأداء رسالته في الحياة وأنه لامهرب من القيام بها ،وفي قصة زواج يعقوب من بنات خاله مثل على الاحتيال والذكاء والدهاء في طريقة أخذ الحق ،وفي قصة شمشون مثل بليغ على عواقب إفشاء السر، وهكذا فهي أمثولات لفهم أمور الحياة وما وراءها،وهكذا لأن النصوص المقدسة هي في الأساس مادة للتعليم وفهم العالم فيها الكثير من المبالغات وتجاوز الامكانيات والاحتمالات الطبيعية لسير الأحداث والوقائع وهذا كله لإحداث الأثر المطلوب.
الكتاب
ألف لام ميم.ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين / ومنهم أميون لايعلمون الكتاب إلا أماني / ألف لام را تلك آيات الكتاب الحكيم /الف لام را كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير/الف لام را . كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور /فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم /طا سين تلك آيات القرآن وكتاب مبين /وماكنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك/حا ميم .والكتاب المبين /يا سين./ والقرآن الحكيم. إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا.
فمدلول كلمة الكتاب وحسب استقصائنا لمواطن ورودها في النص القرآني تتمحور حول معان عدة أكثرها ذيوعا أنه نوع من المعرفة الإلهية التي يختص بها الله بعضا من أنبيائه وخصوصا من النسل الإبراهيمي كإسحق ويعقوب وإسماعيل ودادود وسليمان وموسى وعيسى ومحمد، ولم تقابلني سوى إشكالية واحدة في سياق هذه الدلالة في سورة الجاثية(وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون. هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ماكنتم تعملون )فلوكان الكتاب واحدا بمعنى العلم الإلهي بمصائر الخلق والمخلوقات والأحداث والوقائع التي جرت وستجرى بوصفها من العلم الإلهي الذي علمه الله لأنبيائه فأصبحوا عالمين بكتاب الوجود ومآلاته؛ لو كان كذلك فمن الصحة أن يكون الكتاب واحدا لكل الأمم ؛إلا إن (كل أمة تدعى إلى كتابها) توحي باختلاف الكتب رغم ماجاء تعقيبا في الآية التي تليها (كنا نستنسخ...) والتي تذهب إلى المعتقد الأساسي لدى كل المسلمين بأن اليهود والنصارى حرفوا كتاب الله وزيفوا ما أعطاه الله لأنبيائه من الكتب ولهذا جاء الكتاب في نسخته الأخيرة (القرآن)التي تكفل الله بحفظها من التحريف إلى الإبد؛ رغم ما يصعد من تساؤلات هنا، ولماذا لم يتكفل الله بحفظ كتابه المنزل على أنبيائه السابقين؟ ولماذا تكفل فقط بحفظ النسخة الأخيرة من الكتاب التي نزلت على نبي العرب؟؟رغم أن هناك ثلاث آيات أخرى في القرآن تتحدث عن الكتب دونما إشارة إلى تحريف من مثل(كل آمن بالله وملائكته وكتبه)و(ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه..) و(وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين)في الحديث عن مريم، إذن كتب مصائر الوجود متعددة ،وهنا فما لزوم (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) في مشهدية القيامة والحساب؟‘ إن كلمة الكتاب وردت261مرة في القرآن ومعانيها تدور في فلك المعرفة الوجودية بتفاصيل الحياة والممات(ذلك الكتاب لاريب) و(قال الذي عنده علم من الكتاب) والكتاب بمعنى المصائر الشخصية للأفراد(اقرأ كتابك) وكذلك بمعنى الفرض والفريضة( أن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا) كما تأتي بمعنى الكلام المخطوط في صحيفة أو قرطاس(ورقة)من مثل(ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس) و(ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا تقرؤه)و(اذهب بكتابي هذا) وهنا تتجلى حتمية المعرفة الوثيقة عند تلك الأمم بالكتابة والقراءة والأوراق بوصفها وسائط لتداول المعرفة في تلك العصور وليس كما يروج الغالبية من الناس لأمية هذه الأمم وجهلها بالقراءة والكتابة.
الحكمة
ولقد آتينا لقمان الحكمة/يؤتي الحكمة من يشاء/وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل/وأنزل عليك الكتاب والحكمة/واذكرن مايتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة/ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين.
الحكمة وطبقا للدلالات في سياقاتها خلال المواضع العشرين في القرآن هي جنس من العرفان والفهم والوعي منحه الله لأنبيائه وغيرهم مثل لقمان الذي يقال انه من الأحباش أو من النوبيين (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) الحكمة تقترن بالكتاب والتوراة والإنجيل في سياقات النص القرآني بوصفها من عطاءات الخالق لعباده من الأنبياء والرسل.كما أنها في الآية 81 من سورة آل عمران(سورة الاصطفاء العظيم) تقترن مع الكتب السماوية التي أخذ الله فيها عهدا وميثاقا مذيلا بالغضب حال نقضه(إصري) على أنبيائه السابقين من آدم إلى عيسى بأن يؤمنون بنبوة محمد هم وأقوامهم وقد أقر الأنبياء السابقون بذلك!!!وهذا من عجيب القرآن أن يومن السابق باللاحق ولم يعاصره أويشهده ،إنها الواحدية إذن , واحدية لحظة الخلق ,واحدية البدء , واحدية المآل, والعجيب أيضا أن يعد جميع من سبقوا من الخلق كانوا مسلمين (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون/ قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لانفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون/ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.)
إن الإسلام كمصطلح ديني يكمن في هذه الآيات الست(81إلى 85) من سورة آل عمران ؛حيث كل المخلوقات مسلمة طوعا وكراهية,والاسلام جامع لكل تعاليم النسل الإبراهيمي من الأنبياء،ابراهيم اسماعيل اسحق يعقوب وأبنائه الاثني عشروموسى وعيسى ، والنبيون (احترازا) حتى لايسقط أحد والنبيون هذه تشمل داوود وسليمان ويحيا وزكريا ممن أتى ذكرهم في القصص القرآني وممن لم نقصص كإشعياء وصموئيل ودانيال وإرميا وغيرهم .
التعاليم...شريعة/عبادات/أخلاق
هذه أيضا من المضامين المعرفية التي وردت في القرآن(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (وأتموا الحج والعمرة) (وانكحوا الأيامى منكم)(لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (ولاتقل لهما أف) (فلاتحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره)(فمن شهد منكم الشهر فليصمه)
وهذه التعاليم غالبا تأتي في صيغ الأمر أو النهي أو كتب عليكم..أو فرض وهكذا
المعاصرة/ المحايثة
وهي الإخبار بالأحداث والوقائع التي حدثت في زمن الدعوة(قدسمع الله قول التي تجادلك) و(ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) (ثاني اثنين في الغار إذ يقول لصاحبه) وكل ماورد في النص ساردا لحادثة وقعت للرسول وأصحابه من معارك وأمور حياتية (إن الذين جاؤوا بالإفك منكم)
تلك هي المضامين المعرفية التي اشتمل عليها النص القرآني والتي تسهل علينا فهم النص ومعرفة قراراته وتصوراته الكلية بشأن الوجود إذا حاولنا جمع النصوص التي تتشارك في مضمون واحد مع بعضها بعيدا عن ترتيب الآيات في المصحف، تلك المحاولة ستجعل من النص الحروفي نصا فاعلا ومشاركا في نص الحياة الأصلي صائغا ومجددا ومتجددة دلالاته وليس مجرد نص للتبرك وطرد الجن والتعوذ من الشياطين؛ذلك مع محاولة أخرى لإعادة ترتيب الآيات بحسب أسبقة نزولها(تداولها بين البشر) خلال فترة النبوة التي امتدت ثلاثا وعشرين سنة.
وبهاتين المحاولتين ؛التصنيف المعرفي للمضامين وإعادة الترتيب المتزامن يمكننا تدبر القرآن وفهمه كما أراد له صاحبه(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) وأخيرا وفي هذا السياق ..ما الفرق بين المسلم الذي عاش في زمن النبي وبين المسلم الآن؟ الفرق الجوهري أن المسلم الأول شاهد الإسلام وهو يتشكل لبنة لبنة وشهد القرآن وغيره من الوحي الذي نطق به النبي لحظة بلحظة,وعاصر التبدل والتغير وخصوصا في التعاليم والأحداث المعاصرة التي كان النبي أو صحابته طرفا فيها,بينما المسلم الآن يتلقى دينا مبتورا من سياق تشكله وكثير منهم يرفض القراءة والدرس المستهدف للإلمام والإحاطة بظروف تشكل النص وذلك من خلال كتب السير والتفاسير والمغازي .
الباب الرابع
مواريث العنف ومنابع اليقين
الفصل الأول
البدو يجوسون أرض مصر

الشاسو كلمة مصرية قديمة أطلقها المصريون قريبا من القرن الثامن عشر قبل الميلاد على البدو الغرباء القادمين من جهة الشرق لغزو بلادهم ، كما أطلقوا تسمية الهكسوس على أمرائهم ورؤساء قبائلهم ، وقد تمكن هؤلاء الشاسو في فترة ازدهارهم من اقتطاع جزء من البلاد ما بين دمياط والشرقية في أفاريس وأقاموا فيه قرابة ثلاثمائة سنة حتى أجلاهم الملك أحمس مع بداية حكم الرعامسة من الأسرة الثامنة عشرة في القرن السادس عشر قبل الميلاد .
وهكذا صار الشاسو مرادفا للبداوة وحياة الرعي والتنقل التي تميز حياة القبائل الرحل المتاخمين لحدود مصر الشرقية والتي كانت قبيلة إسرائيل "يعقوب" واحدة منها منذ اكتشف جده "إبرام" إبراهيم حياة المصريين واختلط بهم سبع سنوات ثم عاد ليوصيهم بأن ينتقلوا إلى مصر ويقيموا بها أربعمائة سنة حتى يخرجوا بأملاك وفيرة ، وهكذا صار وانقضت السنوات الأربعمائة بمجيء موسى هذا الطفل "اللقيط" الذي التقطه المصريون من اليم وأعطوه اسمه وثقافته .
وما كان لهذه القبيلة من قبائل الشاسو أن تزدهر وتتمركز في التاريخ إلا بفضل ما حافظوا على تداوله من قصص وأحداث ظلت تروى شفاهة قرابة ألف عام منذ ظهر إبراهيم إلى حيز التاريخ قريبا من القرن السابع عشر قبل الميلاد وحتى القرن الخامس قبل الميلاد في السبي البابلي حيث خاف كهنة الشاسو وأنبياؤهم من ضياع المخزون الشفاهي بالهلاك لدى الملك البابلي فعمدوا إلى تدوينه وكتابته ليصبح فيما بعد العهد القديم )التوراة) أسوة بـ (تحوت) الذي هو كتاب المصريين الجامع للحكمة ومواريث الكهنة والرائين في المعابد المصرية على مدار أكثر من ألفي عام سبقت الهروب الإسرائيلي من مصر والذي عُرف لاحقاً بالخروج .
وبهذا الجذر من التعاليم والحكمة تمكن الشاسو من أبناء يعقوب من صياغة وعي العالم نحو الوجود – ظاهره والمخفي منه – وأصبح هذا الجذر من الحكمة ومنذ ذلك التوقيت حكرا على هذه القبيلة من الشاسو وامتد في نسلهم من إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى ويوشع وداوود وسليمان وأبنائهم وأحفادهم حتى يحيى وعيسى – وإن تم قتلهما بسبب عدائهما لمنطق الشاسو – وانتهاءً بالإلحاق الأخير للنسل الإبراهيمي في جزيرة العرب من أحد أبناء بني هاشم .
الآن وبعد الهروب من مصر في أعقاب أربعمائة وثلاثين عاما من الإقامة بها نحن أمام قبيلة تعدت كثرتها نصف المليون من المحاربين – بحسب رواية سفر الخروج – لهم أرض خلقها الله من أجلهم وكتبها لهم أبد الدهر على تخوم مصر الشرقية ولا بد من القتال والحرب لتنفيذ هذا الوعد والتمترس في الأرض وهذا ليس شيئا جديدا في تاريخ البشر فمن قبل عرفت البشرية أطماعا وحروبا للاستيلاء على ثروات الآخرين من الشعوب والقبائل ولكن الفارق الوحيد هذه المرة أن الحرب صارت قدرا ومصيرا ومقدسا إلهيا من خالق العباد والبلاد وأي اعتراض عليها هو اعتراض على مشيئة الرب الخالق المسيطر وبذا قد ظهر ما يعرف بالحرب الدينية لأول مرة في تاريخ بني البشر .
هنا ولأنها المرة الأولى التي يُدعى فيها شعب يعقوب "إسرائيل" إلى القتال ؛ هنا سيعترضون ويتملصون أربعين سنة حتى يموت مخلصهم موسى في سيناء ثم يقودهم تلميذه وخادمه يوشع ومن بعد تتسع رقعة الحروب الدينية حتى تبلغ أوجها في عهد حفيده داوود وتصل ذروتها في عهد الحفيد العربي للنسل الإبراهيمي والمبعوث والمستنفر من (بكة/ مقربة/ ماكارابا/مكة) في قلب الصحراء العربية وتتواصل حلقاتها في عهد الصليبيين ثم تندلع ثانية في عهد بلفور وحروب بوش في موطن الجد الأكبر على مقربة من أور الكلدانيين في بلاد الرافدين من حيث ارتحل الجد الأكبر "إبراهيم" صوب أرض كنعان أول مرة منذ ما يزيد على سبعة وثلاثين قرنا مضت .
وتاريخ المنطقة لدينا يحتفظ بسيرة نوعين من الحروب ، الأول قاده أبناء المدن المنحدرون من حضارة ميراثها الاستقرار والصناعة ونموذجه الفصيح حروب الإسكندر الأكبر قائد الإغريق الذين وفدوا إلى المنطقة من غرب المتوسط في القرن الرابع قبل الميلاد فاستوطنوا وأقاموا المدن ومهدوا للعمران الجديد ، والآخر قاده الشاسو المنحدرون من التخوم الشرقية ونموذجه الفذ حروب القبائل العربية واستنفارها من جزيرة العرب صوب الممالك المتاخمة شرقا وغربا خلال القرن السابع الميلادي وما تلاه وكذلك الغزو المغولي التتري في القرن الثالث عشر للميلاد .
وحصيلة لكل هذه المواريث من الغزو والحروب وعلى مدار أكثر من ثلاثة آلاف عام مضت استقر ما يمكن تسميته بخط الحضارة الإنساني أو الجذر الحضاري للإنسانية امتدادا من نينوى وآشور وبابل مرورا بالساحل الآرامي والفينيقي حتى كنعان ووصولا إلى منف وطيبة وهليوبوليس وتل العمارنة في مصر ، هذا الخط الحضاري الذي صار هدفا لأي حركة استعمارية ناشئة أغرقته في بحيرة من العنف والدماء والأساطير كان أخطرها حلقات حروب البدو (الشاسو) ابتداءً من دعوة موسى وحتى جيوش الأطلسي التي يقودها مركز الحرب الأمريكي في البنتاغون وقد سُخرت لها كل إمكانيات الحضارة البشرية في الوعي والصناعة من أساطيل ومخابرات وصياغات إعلامية تهيء الوعي البشري للتعامل مع الوضع الجديد بقيادة الحفيد بوش .
ولك أن تحصي نتائج حروب الشاسو التي تأبدت في مرمى الوعي التاريخي ، حرق الإسكندرية وتدميرها في القرن السابع الميلادي ، تدمير بغداد بأجناد الشاسو المغول ثم التدمير الأخير بأجناد الشاسو الأمريكان ، هل لأن نينوى وبغداد ومنف وطيبة مراكز إشعاع إنسانية ألهمت السعي البشري آفاقا جديدة في صناعة الحضارة والعلوم الفكر تراها مؤبدة في النص المركزيّ المقدس الذي اعتمده الغرب منهلا للتربية والفكر والأخلاق على مدار أكثر من سبعة عشر قرناً منذ الاعتراف بالمسيحية كأحد الأديان الرسمية في الإمبراطورية الرومانية الوارثة للمجد الإغريقي وحتى الآن ، هل لأن ذلك كذلك انهمرت قنابل الشاسو الجدد ومدافعهم لإزاحة هذا الخط الحضاري عن تمترسه في قلب التاريخ الإنساني وذلك بامتلاكه وإلحاق الإهانة بشعوبه التي تبدو في سبيلها للانقراض .
فالواحد من أبناء الشاسو وطالما لا يؤمن إلا بالخيمة ونقاء النسل العرقي والعيش به وله على مدار التاريخ ؛ الواحد من الشاسو وطالما لا يؤمن إلا بحياة الترحال والتنقل فلن يحفل كثيرا بصناعة المدنية وتطوير حياة الإنسان ، وإلا بماذا تفسر هذا الإصرار الأسطوري على الاحتفاظ والانتماء للجد الأول مؤسس القبيلة على امتداد صحراء العرب أو في مفترق إسرائيل على مدار الأمم والجغرافيا والحضارات طول التاريخ ؛ هذا الشاسو الذي لا يدّعي من مواريث الحضارة سوى نصٍ تتناقله الأجيال وقد أفاض عليه من الجلال والقداسة متخذاً إياه يقينا لفهم العالم والتعايش فيه ؛ نصاً يتواصل به مع الوجود والموجود ظاهراً وميتافيزيقياً ، هذا الشاسو كم هو خطرٌ ودمارٌ وإعاقة في سبيل التطور الإنساني وعقبة في رقي الوجود ؟!
وقد يقول قائل إذا كانت هذه صيرورة الشاسو فأين إرادة أصحاب الخط الحضاري من نينوى وحتى طيبة ؟ يبدو أن تلك الشعوب وقد بلغت في تطورها شأناً رفيعا قد اقتنعت بأن لا جديد يستحق الدفع وقد استنفذت كل طاقاتها في التحضر والعمران ، أو ربما لأن طول الاختلاط والامتزاج بثقافات الشاسو وقناعاتهم قد أحدث شرخا وانقساما في الذات الحضارية لهذه الأمم والشعوب ولم تتمكن من الالتئام والاتحاد على ذاتها مرة أخرى أمام الضربات القاسية المتلاحقة لغشم الشاسو وجلافتهم على مر العصور حتى إن قائدهم في مصر وخلال القرنين التاسع والعاشر للميلاد قد هدّم المعابد والكنائس بامتداد مناطق نفوذه من الموصل شرقا وحتى طنجة في أقصى المغرب بل وقطع أيدي غير طائفته وألزمهم بلبس السواد ووضع الأجراس في رقابهم وحرّم خروج النساء من المنازل قرابة سبع سنوات ناهيك عن تحريم العديد من المأكولات والمشروبات وحشد في عاصمة الشاسو الجديدة (القاهرة) كل أبناء القبائل من الشرق والغرب من عقيل وحمدان ولواتة وزناتة وكتامة وهلمجرا من عجيج الصحارى في حين حرم شعوب البلاد من مباشرة حريتهم في المعتقد والفكر والعمران حتى إنه لم يعهد لأي منهم بمنصب في القيادة سلما أو حرباً واكتفى بتقريب الدخلاء والغرباء وأفاض عليهم من خيرات البلاد وثرواتها ، اكتفى بحظوة الغرباء والدخلاء في الفكر والمعتقد حتى راجت الطوائف والمذاهب والهرطقات وخلفت حصادا من قصور الرأي والرؤية وضيق الأفق في المسعى والمعنى .
والشاسو الجدد في الغرب الأطلسي ولولا بقية من آثار الفكر والرقي الذي امتد إليهم من النبع الروماني والإغريقي لما افترقوا عن جذر الشاسو الأصلي في شيء فالادعاءات هي نفس الادعاءات وروح النهب والتدمير والإعاقة هي نفسها وإلا بماذا يعد الشاسو الجدد أبناء المنطقة من الرفاهية والعمران ، إنهم يعدونهم بالديموقراطية والتحرر من قبضة جلاديهم ونشر قيم الحداثة والليبرالية ، وأنى لعاقل أن يقنع بذلك ؟! أليس هؤلاء الجلادون هم صنيعة نزعة الشاسو والبداوة في غرب المتوسط ومنذ الاحتكاك الدموي العنيف في القرن الحادي عشر للميلاد مع اندلاع حروب الصليب الدينية وحتى الآن مرورا بمحاولات الفرنسيين والإنجليز وأخيرا الأمريكان ؟! وكيف تقوم حضارة أو دعوة لعمران جديد بالحديد والنار والمكر والعنف والإكراه وسلب الثروات وانتزاعها من أصحابها ؟ ومن هم الجلادون الجدد ؟ أليسوا هم صنائع الشاسو من كتيبة الأمريكان؟ وهل هم إلا رموز لضبط الإيقاع الطائفي والمذهبي والعرقي في سياق العمالة والصنائع؟! ألا يتصور العقل في مرحلة ما بأن هذا قدر المنطقة وسيرورتها ولذا فلا أمل في المقاومة ولا مفر من التسليم بمنطق المقدس السماوي والاحتكام للقدر المحتوم المؤبد على مآل منطقة بكاملها تمتد من تخوم أوروبا الشرقية وحتى منابع نهر النيل؟!
في العالم ثارت اعتراضات واحتجاجات في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق وقامت حكومات وذهبت أخرى تحت ضغط الوعي المناهض لمنطق الشاسو ؛ لكن طالما أن الثروة والسلطة – التجارة والمخابرات – تحت سيطرة الشاسو الجدد فلا مناص من تمهيد الإرادة والوعي الإنساني وإخضاعهما لقوة الأسطورة والمدفع، وقد بلغ الرقيّ الغربيّ حداً في النظام وتوزيع المهام والمسؤولية في منظومات مؤسسية في التجارة والحروب بلغت حداً كاسحاً كاد أن يقتل صوت العقل ورحمة الاختلاف واستنارة التعدد وعبقريته .
في العالم ثارت ومازالت تثور احتجاجات تعلو وتخفت أمام ضراوة الأكاذيب والمدافع التي تتحكم في مصائر شعوب بكاملها وخصوصاً في نطاق الخط الحضاري القديم بينما تخف الوطأة في مناطق أخرى من الشرق الأقصى وشرق آسيا وأمريكا الجنوبية ، عصابات على منهج الشاسو تستبيح العالم وقناعاته في قرن العولمة والقرية الكونية ، عصابات من الشاسو الجدد حرمت البشرية من حصاد التقدم والرقي وزرعت التاريخ في أتون المحن والفتن والمنازعات متوهمة بأن احتكار السلطة والثروة سوف يدوم إلى الأبد.

الفصل الثاني
ضد البداوة
قال يوحنا بن زكريا وهو يبارك أبناء الشعب على بحيرة طبريا على مقربة من الجليل والناصرة : "يا أولاد الأفاعي مَنْ أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي . فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة . ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أباً . لأني أقول لكم إن الله قادرٌ أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم . والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجرة . فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار" (7-9 لوقا3(
- وقال يسوع المسيح – عيسى بن مريم – مخاطباً نفس الأبناء من شعب اليهود: " أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم . لكنكم تطلبون أن تقتلوني لأن كلامي لا موضع له فيكم . أنا أتكلم بما رأيت عند أبي . وأنتم تعلمون ما رأيتم عند أبيكم . أجابوا وقالوا له أبونا هو إبراهيم . قال لهم يسوع لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم . ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله . هذا لم يعمله إبراهيم . أنتم تعملون أعمال أبيكم . فقالوا له إننا لم نولد من زنا . لنا أب واحد هو الله . فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأني خرجت من قِبَل الله وأتيت ، لأني لم آت من نفسي ؛ بل ذاك أرسلني . لماذا لا تفهمون كلامي . لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي . أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا . ذاك كان قتـّالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق . متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب." (37-44 يوحنا8(
- ومن بعد ذلك قال محمد بن عبد الله مبلـِّغاً عن ربه في قرآنه: (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون . وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون)70و71 المائدة ، وكان من قبل وفي نفس هذه السورة قد خاطبه ربه قائلا: " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تختلفون48 المائدة
- وقبل كل هذا الجذر السماوي المقدس في ديانات البشر وعقائدهم المقدسة وقبل زمان داود مباشرة كلـّم الرب نبيه صموئيل قائلاً: "ندمت على أن جعلت شاول ملكا لأنه رجع من ورائي ولم يُقم كلامي فاغتاظ صموئيل وصرخ إلى الرب الليل كله" (10 صموئيل الأول 15 العهد القديم(
- وكان صموئيل قد قال للشعب في إصحاح سابق: "لا تخافوا إنكم قد فعلتم كل هذا الشر ولكن لا تحيدوا عن الرب بل اعبدوا الرب بكل قلوبكم ولا تحيدوا لأن ذلك وراء الأباطيل التي لا تفيد ولا تنقذ لأنها باطلة . لأنه لا يترك الرب شعبه من أجل اسمه العظيم لأنه قد شاء الرب أن يجعلكم له شعباً" (21-22 صموئيل الأول 12(
- وكان ذلك الرب قد أمر النبي صموئيل في نفس السفر قائلاً: "اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون ذلك لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم . حسب كل أعمالهم التي عملوا من يوم أصعدتهم من مصر إلى هذا اليوم وتركوني وعبدوا آلهة أخرى هكذا هم عاملون بك أيضاً" (7-8 صموئيل الأول 8(
- وسبق لهذا الرب نفسه أن كلـّم موسى من قبل آمراً: "ادخل قل لفرعون ملك مصر أن يطلق بني إسرائيل من أرضه فتكلم موسى أمام الرب قائلا هو ذا بنو إسرائيل لم يسمعوا إليّ فكيف يسمعني فرعون وأنا أغلف الشفتين فكلم الرب موسى وهارون وأوصى معهما إلى بني إسرائيل وإلى فرعون ملك مصر في إخراج بني إسرائيل من أرض مصر" (10-13 خروج6 العهد القديم(
- وقبل كل ذلك لما كان أبو هذا الجذر السماوي المقدس إبراهيم وأيام كان اسمه إبرام قبل أن يأخذه النعاس فيرى في المنام أنه يصير أباً لجمهور كبير من الأمم وعليه أن يغير اسمه إلى إبراهيم – وأنا أجزم بأن عادة تغيير الأسماء لدى أنبياء بني إسرائيل وربطها بالمعنى هي تأثر إسرائيليّ بطريقة المصريين في إطلاق الأسماء على أبنائهم بحسب الأعمال المنذورين لها وذلك بعد أن اتصل إبراهيم بالمصريين وعاش بينهم قرابة سبع سنوات – قبل ذلك كان أبو هذا الجذر قد "اجتاز في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة . وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض وظهر الرب لإبرام وقال لنسلك أعطي هذه الأرض فبنى هناك مذبحاً للرب الذي ظهر له" (6-8 تكوين12 العهد القديم
من كل ما سبق واستطال من نصوص أوردناها يمكننا القول بأن إسرائيل الذي هو بالأساس حفيد لإبراهيم أصبح شعبا مباركا اصطفاه الله ليحمل رسالته إلى بقية أجناس الأرض من الذين لا يرقون إلى تلك المنزلة – منزلة حمل الرسالة – وهذا ما عرف في التاريخ بشعب الله المختار من نسل سام بن نوح وأن كل من يرى غير ذلك فهو عدو لهذا الشعب ومن هنا صارت معاداة السامية جريمة تعاقب عليها حكومات الغرب – هذا الغرب الذي تلقف هذا الجذر المقدس على أيدي تلاميذ عيسى بن مريم منذ القرن الأول لميلاده من أمثال بطرس وفيليبوس واستمر هذا الجذر في النمو والتكريس والتكريز في تلك البلاد حتى الآن مما دفع مفكراً من طراز جيمس بريستد أن يقرر منذ قرن مضى بأن : "من الحقائق المدهشة أن يكون ذلك الإرث الخلقي العظيم قد وصل إلى المدنية الغربية من شعب خامل الذكر سياسياً منزوٍ في الركن الجنوبي الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط" . ولك أن تعلم أن الإرث الخلقي العظيم في كلام بريستد يقصد به ديانات الشرق – غير السماوية طبعاً – وأن الشعب الخامل سياسيا هو إسرائيل وأن الحقيقة التاريخية لهذا الشعب بعيدا عن تهاويل النصوص المقدسة يلخصها بريستد في قوله : "إن هذا الشعب لم يقم له نظام قومي خاص به إلا منذ العشر أو العشرين سنة السابقة لعام 1000 قبل الميلاد ولم يبق أمة موحدة إلا نحو قرن واحد على أكبر تقدير وعلى إثر انحلال تلك الدولة الصغيرة نجد أن الجزأين اللذين قاما على تراثها – يهوذا والسامرة – ظلا يكافحان البقاء ، فاستمر أحدهما – السامرة – مدة قرنين تقريباً وأما الجزء الآخر – يهوذا – فإنه مكث قرن وربع قرن من سقوط الجزء الأول قضاها في حياة قلقة شبه مستقلة تداولته فيها أيدي ممالك الشرق العظيمة قديما وقد حاق به كذلك الفناء التام بعد سنة 600 قبل الميلاد بزمن قليل ، وبذلك تكون حياة هذا الشعب المستقلة قد مكثت حوالي أربعة قرون على أكثر تقدير .

وما يعنينا في المقام الأول أن نقرر بأن زعماً كهذا – شعب الله المختار – لا يعدو كونه رؤية صادرة عن وعي قبيلة معينة من بني البشر ؛ هذا الوعي صاغته علاقة هذه القبيلة التي هي إسرائيل بالتاريخ وأحداث الزمان من حولها ، وهذا المفهوم عن الذات والوجود هو حزمة من الأساطير والأحاديث تصوِّر علاقة الإنسان بالغيب وتقدم تصوره عن نفسه وعن الوجود والحيوات السابقة واللاحقة لوجود الفرد في الحياة الدنيا – هذا التصور الذي يسميه بريستد إرثاً خلقياً عظيماً بعد أن اتصل بكل الرؤى والتصورات التي سادت في المنطقة من بلاد ما بين الرافدين وحتى أرض مصر فهو يقول : " لا شك في أن مثل نظام عطلة يوم السبت قد دب إلى الحياة الفلسطينية – قبل أن يدب في حياة شعب الله المختار – عن طريق مثل هذه الاتصالات العملية التي كانت تستند عليها المعاملات التجارية حسب التقويم المتبع فيما يختص بالأيام المقدسة التي لا يجري فيها بيع ولا شراء ولا بد أن مثل هذه الحال هي ما كان يسير عليه التجار الفلسطينيون حينما كانوا يتعاملون مع التجار البابليين .

ولا شك كذلك فيما أرى أن مفاهيم إسرائيل عن الإنسان والوجود كان يقابلها الكثير من المفاهيم والتصورات لقبائل وشعوب أخرى سابقة على هذا الشعب ؛ لكن ما تميز به التصور الإسرائيلي أنه ابتلع كثيرا من تصورات المنطقة وأعاد إنتاجها على مر سنوات طويلة زادت على سبعة قرون بعضها في أرض الرافدين وبعضها في أرض الكنعانيين ومعظمها في أرض مصر ؛ أعاد إنتاج تراث هذه الشعوب واضعا لنفسه مكانة مركزية تعلو فوق مكانة الإله ذاته لأنه "لا يترك الرب شعبه من اجل اسمه العظيم ولأنه قد شاء الرب أن يجعلهم له شعباً

ولا شك لدي في أن قتل يوحنا بن زكريا ويسوع ابن الرب وغيرهما من الأنبياء والرائين من الرجال الصالحين والملهمين بنفاذ البصيرة وسلامة الحس ؛ لا شك أن قتلهم كان بسبب تطاولهم وجرأتهم في سحب هذا التميز والاصطفاء من بني إسرائيل ، قـُتل يوحنا بسبب قوله : إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم ، وقـُتل عيسى أو "شـُبِّه لهم" بسبب قوله : لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم – الذي هو إبليس – تريدون أن تعملوا . وهكذا بدأت معاقبة المعادين للسامية والمحاربين للبداوة واحتكار الجذر الإبراهيمي المقدس .

وللحق أعترف بأنني لم أجد أسطع ولا أجرأ أو أحكم مما قاله يوحنا وعيسى في نقض فكر الاصطفاء المستند على الجذر المقدس الذي هو إبراهيم والذي شاء التجلي المقدس الأخير وفي إطلالته الأحدث والمثيرة بجزيرة العرب مع بداية القرن السابع من ميلاد عيسى – شاء هذا التجلي أن يمدّ النسل المقدس الجديد بالجذر المقدس الذي طوّح خطواته في جزيرة العرب صوب مكة (ماكارابا حسب تاريخ الإغريق والتي تعني مقربة ثم صارت مكة في الاستخدام القرآني مع الإسلام، وهذا يبدو منطقيا لأنني لم أعثر على الاسم مكة في كل أشعار العرب وموروثاتهم الأدبية السابقة على الإسلام))ليقيم فيها بيتاً آخر لله غير الذي أقامه من قبل عندما أفاق من نعاسه في شكيم عند بلـّوطة مورة ، أقام بيتاً آخر في قلب صحراء العرب وترك أحد أبنائه يرعى الامتداد الجديد للمقدس السماوي وسط قبائل البدو – الشاسو – ليثمر بعد ذلك فيما امتد من نسل سبأ بن عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان أو في نسل قصي بن كلاب بن مرة من ولد عدنان أخي قحطان، ليثمر ديناً جديداً هو امتداد وإكمال لما سبق من رسالات سماوية تعود إلى الجذر الأساس الذي هو إبراهيم .

ولنا أن نتصوّر مدى العنف والاضطراب الناشئ عن شعب يقدس أفكاراً ومزاعم لا وجود لها في حقيقة الواقع ، فالأوطان تنشأ عن التوطن في أرضٍ ما وإقامة علاقة بها في شكل آثار إنسانية على مدار الزمن تتبعها تصوّرات وأفكار ونظم أخلاقية واجتماعية وضوابط تحكم السلوك الجماعي وغيرها من أشكال النظم الاجتماعية والسياسية ؛ هذا إذا كان هناك شعب تواصلت أجياله على رقعة ما من الأرض ، أما إذا كان الوطن مجرد وعد يزعم الموعودون به أنه من ربهم وأبيهم الذي تألـّه عليهم واختارهم شعباً له وخلق لهم أرضاً وكتبها وأشهرها في سجل عقارات الوجود على مرأى ومسمع من كل البشر وعلى طول الأزمان في الجذر المقدس من ديانات البشر السماوية ، فعندما تكون الأرض ملكٌ لإله السماء والأرض – في التصور الإسلامي – فهو حرٌ في توريثها لمن يشاء ولا عجب أن يكون إبراهيم – الذي هو جزء من قبيلة على ضفاف الرافدين ثم نزح صوب فلسطين – لا عجب أن يكون هو المصطفى الذي أورثه أبوه وإله شعبه القادم من صلبه هذه الأرض وعلى هذا الشعب من نسل إبراهيم أن يتغربوا أربعمائة سنة في أرض المصريين قبل أن يباشروا حقوق التوريث والملكية في الأرض الجديدة عندما يخرجون من مصر وقد صار عددهم ستمائة ألف مقاتل عدا النساء والشيوخ والأطفال ، أليس هذا هو الرب الإله الذي ظهر لأبرام قائلاً : "اعلم أن نسلك سيكون غريباً في أرض ويستعبدون لهم فيذلونهم أربع مئة سنة ثم الأمة التي يستعبدون لها أنا أدينها وبعد ذلك يخرجون بأملاك جزيلة ... في ذلك اليوم قطع الربّ مع إبرام ميثاقاً قائلاً : لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات . القينيين القنزيين والقدمونيين والحثيين والفرزيين والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين"

أليس هذا الربّ هو نفسه الذي أوحى لمحمد بن عبد الله في قرآنه بعد خمسة وعشرين قرناً تقريباً من ذلك الوعد ، أليس هو نفس الرب الذي أوحى إلى نبيه الجديد في جزيرة العرب قائلاً : " وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"

وأليس هذا هو الشعب الذي خرج وراء نبي هو موسى ومعه ست مئة ألف مقاتل ، أليس هو الشعب الذي ردّ على موسى قائلاً : "إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون" ، ألم يكن صموئيل النبي محقاً قبل ذلك عندما صارح شعبه بأن الرب لا يحتمل الوجود دونهم ؟!!

ومسألة توريث الأرض للناس من قِبل الرب وردت في القرآن الذي هو خاتمة الجذر الإبراهيمي المقدس في ديانات السماء للبشر ، هذه المسألة وردت في القرآن في ثمانية مواضع منها أربعة صريحة في توريث الأرض لبني إسرائيل من مثل "فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم وكذلك أورثناها بني إسرائيل (57-59 الشعراء)
ومن مثل "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون" (137 الأعراف(
هذا ناهيك عن توريث الكتاب والحكمة والجنة مع العلم بأن الكتابة والتسجيل والإشهار كانت في دفتر الوجود الإلهي بصيغة "كتب" التي تستخدم في الفروض من العبادات مثل الصوم والصلاة .

إن الإيمان بجذر ديني كهذا كفيل بجعل العالم ينضح بالحروب ويضج بالفتن والخراب أبد الدهر ؛ ليس بين الشعوب والأمم والقبائل المختلفة فحسب بل داخل القبيلة والشعب الواحد وعليك أن تنظر في أمر القتال والدم المهراق بعد موت داود وانقسام مملكته أو حتى في آخر أيامه داخل عشيرة إسرائيل ذاتها ، وكذلك الحروب الطويلة التي أكلت قبائل العرب وعشائرهم وغيرهم من أمم العجم عقب وفاة رسول الإسلام ومؤسس دولته في عمق الجزيرة وما جاورها في الشام وفارس ؛ حتى أن المؤسسين أنفسهم لم يسلموا من القتل والاغتيال والمكيدة بعضهم لبعض طوال حقب متواصلة ما زال صداها يهب حتى الآن بين لحظة وأخرى في نطاق أتباع المذاهب المختلفة داخل الديانة الواحدة .

إن الاعتقاد بهذا الجذر المقدس كفيل بأن ينتزع من العالم أمنه وسلامه وتآخيه المأمول ، ولم لا وهو لم يرحم عشرة شعوب كاملة عددهم في أول أسفاره في العهد القديم ، عشرة شعوب كاملة من بينهم الكنعانيون لم يرحمهم و "كتب" عليهم الإبادة والتشريد ليقوم مقامهم أبناء الرب وحاملو مجده وذكره بين الأمم على مر العصور . هذا في حين أن صورة الواقع وحقائقه المتجلية على مرّ الزمن تنبئ بغير ذلك على طول الخط حيث لم يحفظ التاريخ لنسل هذا الشعب والمؤمنين بالجذر الإبراهيمي المقدس ، لم يحفظ لهم شيئا من أرصدة الحضارة في الفكر أو في العمران ناهيك عن صورتهم في الواقع المعاش بامتداد اللحظة الراهنة .

ولك أن تعلم أنه ومنذ طرأت على الوجود رحى الحروب المقدسة في سبيل هذا الرب ، منذ طرأت هذه النوعية من الحروب بمبادرة من نسل الجذر الإبراهيمي المقدس عقب نما وترعرع وتكاثر على مدار أربعة قرون في أرض مصر ثم زحف ناحية الشرق صوب فلسطين وبقية الشعوب المجاورة ودخل معها في حروب دينية مقدسة باسم الأب والرب ، منذ عرف التاريخ هذه النوعية من الحروب تضاعف عدد الضحايا والفتك وأساليب الغدر والدمار وعُرفت الإبادة الجماعية والتدمير الشامل الذي لا يترك حياً أو جماداً إلا حطمه وعليك أن تتأمل بنية المعتقد في الحرب الدينية فالمقتول الذي سُلبت أمواله وانتهكت حرماته وسُبيت نساؤه كافرٌ ومصيره نار جهنم وجحيم خالد بينما القاتل والسالب والناهب والسابي له ما يشاء من المُتع وإن قـُتل فهو شهيد له أضعاف مضاعفة من نعيم الجنة في معيّة أبيه وربه له ما يشتهي من متع الخلود ومرح الغرائز .
وبهذا الجذر المقدس استمدت الحروب طاقة جديدة ودوافع أكثر إغراء وضمنت حطبا لاينتهي من أرواح الناس ومددا خصبا من الحمية والدوافع التي تستلهم مغرياتها من عالم الشهادة بما فيه من مغانم وأسلاب ومتع حسية ظاهرة تحت ظلال رضا رب السموات والأرض الذي ينتظر عباده المؤمنين بجنات تذخر بالمزيد من الخمر والعسل والنساء وما لايخطر على بال الناس من المتع والتنعيم حيث ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!
وقد بلغ الحرف المقدس مدىً بعيدا في تكريس سطوة الإله وامتداد جبروته على الجميع وخصوصا أهل القرى فقد جاء في القرآن " فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين . ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم " . 99 ، 100 سورة يوسف .
فلولا أن دخلوا عليه مصر ولو لم يخرج هو بعناية ربه من البدو إلى مصر ، ولولا أن ذاق هذا النسل الإبراهيمي كرم الفيوضات في ملكوت النيل ، لولا مصر ما خرج بهم موسى نبيا ومشرعا يؤسس في دفء المعمور الغيبي ديانات ورسلا سوف تترى بعده من شعاب بيت أيل وجبل صهيون وبيت لحم في أرض فلسطين إلى شعاب مكة وسهول يثرب في جزيرة العرب .

تقول المعاجم : إن البادية هي الأرض السهلة الممتدة الصالحة للرعي والإقامة ، وإن من يسكنها متنقلا فيها يسمون البدو ، ويقابلهم أهل الحضر في أرض الحل والبيوت الدائمة وما يتبع ذلك من نظم تتمحور كلها حول الإقامة والقرار .

دخل إسرائيل – يعقوب - إذا وزوجاته الثلاث بعد أن ماتت الرابعة أم يوسف – راحيل - وهي تلد بنيامين شقيق يوسف ، دخل ومعه كل ذريته - سبعون نفرا - على ابنه الثاني عشر يوسف بعد أن تخلص منه الأسباط أخوته ، دخلوا عليه مصر وقد أصبح مكينا ذا قرار وعرش ، دخلوا مصر وصاروا هم أيضا أنبياء يوحى إليهم حسبما تشير الآية " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا " 163 النساء

إذن فنحن أمام نبي هو إسرائيل ابن نبي هو إسحاق حفيد نبي هو إبراهيم وقد أنجب إسرائيل ذرية كلها أنبياء يوحى إليهم وهؤلاء هم يوسف والأسباط أخوته بنيامين ورأوبين ويهوذا وجاد وأشير ونفتالي وزبولون ويساكر ودان وشمعون ولاوي ، هذا النسل الذي ظل يتكاثر في أرض مصر حتى أنجب أنبياء آخرين أشهرهم موسى وهارون اللذان أخذا قومهما من بني إسرائيل وعادا بهم إلى كنعان أرض غربة آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب والتي كتبها الله لهم في سجل الملكوت الرحماني الواسع ، كل هؤلاء الأنبياء عاشوا في مصر ما عدا إسحاق ومنهم من صاهر المصريين كإبراهيم وإسماعيل وغيرهما من نسل الأحفاد فيما بعد حتى آخرهم محمد بن عبد الله في جزيرة العرب .

والنص القرآني كما يبدو قد أقر الإسرائيليين على مقولاتهم ولم يختلف معهم إلا بعد أن صاروا يهودا خلال رحلة هروبهم من مصر يقودوهم موسى باتجاه كنعان أرض الميعاد حسب ما سطروا في مقدسهم الديني السماوي .

وهؤلاء الإسرائيليون لم يسأل أحد لماذا تركوا أرض غربة أجدادهم في فلسطين وانتقلوا إلى مصر ليخرجوا بعد حين في صحبة نبي آخر لهم هو موسى بعد أن تناسلوا وتكاثروا وأقاموا قرابة أربع مئة سنة في مصر ؟ لماذا أتوا ولماذا خرجوا ؟ وهل كانت لهم رسالة نحو المصريين ؟ ولماذا تصارعوا مع ملك مصر الفرعون الذي ورد ذكره في القرآن أربعا وسبعين مرة مقابل ثلاثا وسبعين مرة فقط لإسرائيل ؟ بمعنى لماذا احتفل النص القرآني بموضوع يبدو عرضيا وهو فرعون في سياق الكتاب المحكم وذلك إذا ما قورن بموضوع إسرائيل الذي هو عمود ودعامة راسخة في محكم الكتاب والذكر الذي لا تستقيم الديانات السماوية إلا به ؟

وأيما كانت الأسباب والدوافع وراء ما سبق فإن الحكمة الإلهية تقتضي منا أن نبحث ونفسر ونقلب الأمور على كل مظانها ؛ وخصوصا إذا كانت القضايا المثارة ذات شق تاريخي أصيل مزروع في تاريخ البشرية المقدس وأعني به الديانات كما أنه مغروس في أرض الحاضر وعلى نفس جغرافيا الصراع والنزاع بين إسرائيل من ناحية وبين سكان الأرض الفلسطينيين والصيدونيين وغيرهما من الأمم ، بل إن عيون الأحفاد من بني إسرائيل وقلوبهم ما زالت تهفو وتحن صوب ماضٍ تهادت فيه خطى الأجداد من الفرات إلى نيل مصر الكبير على صفحات العهد القديم ، وخصوصا لو عدنا إلى ما قبل إسرائيل بأبوين هما إسحاق وإبراهيم .

أقول إن النص القرآني لم يصطدم بالإسرائيليين مثلما اصطدم باليهود ، بل نجد كل المقولات الأساسية للإسرائيليين الذين جاءوا من البدو تتنفس بحرية كاملة في ثنايا النص . " وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " (20 ؛ 21 المائدة) ، " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين " (16 الجاثية) .

وذلك على الرغم من أن المسيرة الإسرائيلية لهؤلاء القوم والتي بدأت من يعقوب – الذي غير اسمه لاحقا إلى اسرائيل - وحتى موسى لم تكن لهم فيها أرض حتى يصيروا عليها ملوكا ، لأن أنبياء بني إسرائيل الذين أوردهم القرآن قبل موسى هم إسرائيل وبنوه الإثناعشر سبطا ثم موسى وهارون وهؤلاء جميعهم كانوا متغربين في مصر كأي أقلية وافدة مستضعفة ولم يكن لأي منهم أرض حتى يقيم عليها مُلكا إلا إذا كانت هذه بشرى مستقبلية جاءتهم على لسان نبيهم موسى وسوف تتحقق فيما بعد على زمان داوود – الذي يعد أول ملوكهم بعد خمس مئة عام تقريبا ثم نزلت وحيا بعد ذلك وقرآنا على محمد في جزيرة العرب بعد أكثر من ثمانية عشر قرنا على أحداث خروج موسى بقومه صوب الأرض التي كتب الله لهم . فمقولة الأرض الموعودة يسلم بها النص القرآني وكذلك مقولة الشعب المفضل والمصطفى والمختار من قبل الرب " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين " 47 البقرة

إن قضية إسرائيل خارج النص القرآني - أعني لو نظرنا إليها بمعزل عن السياق القرآني - تبدو سهلة شديدة الوضوح ، حيث المصادر الأخرى وأهمها أسفار العهد القديم وعلم التاريخ وخصوصا ما يتعلق منه بالحضارات القديمة في مصر والعراق وسوريا قد حسمت هذه المسألة بجلاء لا غموض فيه من حيث طبيعة الإله المعبود أو طبيعة الشعب العابد وعلاقاته بالأمم الأخرى .

من المعلوم بالبديهة - حسب المفهموم القرآني - أن كل نبي أُرسل بلسان قومه وأن كلا منهم بعثه الله لأمة بعينها - إلا محمد - فهل بُعث موسى أو يوسف من قبله إلى أمة المصريين ؟ بمعنى هل كان لنبي من بني إسرائيل أية دعوة كُلف بها من قبل الرب لتبليغها للشعب المصري ؟ . قال تعالى : " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم " 5 إبراهيم

ومن النص القرآني نعلم أن بني إسرائيل كقوم قد أُرسل إليهم كل من إسرائيل (يعقوب وبنوه الإثنا عشر) وموسى وهارون وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى بل إن هناك من لم يذكر القرآن اسمه وإن يكن ورد تفصيله في أسفار العهد القديم كما جاء في سورة البقرة 246 ، " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ... " كما أُرسل شعيب إلى قوم مدين وصالح إلى ثمود ولوط إلى قومه في سدوم وعمورة ؛ فكل الأنبياء منذ آدم وحتى عيسى بن مريم قد أرسلوا إلى أقوامهم ، وهذه سُنة الله في النبوة حسب منطق الديانات السماوية ، كما أن عذاب الله كان يحيق بالأمم التي أساءت إلى الأنبياء ولم تلتزم تعاليم الرسل إلا أمة إسرائيل فقد خالفت هذه السنة الإلهية في النبوة على الرغم من أنها أكثر الأمم رسلا وعصيانا بل إنها أغلظت مع المرسلين لدرجة قتلهم وتحريف رسالاتهم وعلى الرغم من كل ذلك سلمت هذه الأمة من العذاب والإبادة التي عوملت بها كل الأمم التي عصت رسلها وورد ذكرها في القرآن( ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد . وثمود الذين جابوا الصخر بالواد . وفرعون ذي الأوتاد . الذين طغوا في البلاد . فأكثروا فيها الفساد . فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبالمرصاد " 6-14 الفجر ، " كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية " 4 - 7 الحاقة
وهكذا كان مصير كل الأمم والأقوام من نوح وعاد وثمود ولوط ومدين وأصحاب الأيكة والأخدود وفرعون وملئه إلا قبيلة إسرائيل التي صارت بعد ذلك شعبا إثر معايشة المصريين لأكثر من أربعة قرون ما بين أبيهم إسرائيل و حتى حفيده موسى , أكثر من عشرين نبيا أرسلوا إليهم و كذبوهم و مع ذلك اختلفت معهم السنة الإلهية و أبقت فيهم النبوة و التكاثر في أقوامهم وهذه انعطافة تقود إلى مدارج أخرى ذات وشائج بالموضوع لكنها ليست المنشود هنا والذي يستهدف البحث في أسباب ودوافع الصراع والنزاع بين موسى وملك مصر . وهل كان موسى مرسلا من الله تجاه المصريين وحال الفرعون دون هذه الرسالة فنشب الصراع بين نبي مدجج بسلطان السماء وتسع آيات بينات على شاكلة الجراد والقمل والضفادع والدم وبين ملك استعلى وتجبر وخرق ناموس الخالق في أرضه ؟! وما الذي كان يريده موسى من الفرعون ؟ ولماذا لم يستجب له الفرعون ؟ يقول القرآن : " وقال موسى يا فرعون إني رسول رب العالمين . حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل " 103 ، 104 الأعراف ، وقال أيضا مخاطبا موسى وهارون : " فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى " 47 طه.

وفي موضع آخر خاطبهما قائلا : " فأتيا فرعون فقولا إنا رسولا رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل " 16 ، 17 الشعراء .

فإن كان مطلب موسى من الفرعون - حسب الآيات السابقة - أن يسمح له بالخروج مع بني إسرائيل من مصر صوب الأرض التي كتبها لهم ربهم كما يقرر القرآن : " يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون .... قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون .... قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين" 21-26المائدة.

وإذا كان الفرعون قد أخطأ وعصى وطغى هو وملؤه من الجنود والمستشارين فكيف نتصور أن يكون العقاب جماعيا - على غير سنة الله في العقاب - لمصر وأهلها أجمعين وذلك بالآيات الموسوية المهلكة من جراد وضفادع فالمعلوم من سنة الله في الجزاء أنه " كل بما كسبت يداه رهين " ، " ولا تزر وازرة وزر أخرى ، ثم إن موسى لم يكن مرسلا إلى شعب مصر ليبلغهم رسالة ربهم بل إنه باليقين نبي إسرائيلي مختص بقومه ، ولكن السؤال الرهيف واللطيف هنا هو هل كان مطلوبا من الفرعون - بما أن موسى وأخوه أُرسلا إليه - أن يؤمن بموسى وأخيه أم يؤمن لهما ؟! وقد تقول وما الفرق ؟ إنه كبير ، فإن كان المطلوب من الفرعون أن يؤمن بموسى أي يؤمن برسالته وبمجمل تصوره عن العالم كما هو عند بني إسرائيل وكأن ملك مصر واحد من بني إسرائيل ، وإن كان المقصود أن يؤمن لموسى أي يؤمن بأن هذا الرجل الذي تربى في بيت الملك وليدا والذي قتل رجلا من رعية الملك عندما بلغ شبابه ، مطلوب منه أن يصدق ويؤمن بأن هذا الرجل هو نبي لتلك الأمة التي ورثها هذا الفرعون - كأقلية وافدة - من آبائه وأجداده منذ عهد فرعون يوسف الذي استقبلت فيه مصر هذه السلالة اليعقوبية ، مطلوب منه أن يؤمن له بنبوته عليهم وبالتالي يترك أمر هذه الجماعة لهذا الرجل (اللقيط – القاتل( من وجهة نظره ليقرر مصيرها .ثم لماذا سكت النص القرآني عن الفرعون الأول الذي استقبل السلالة ومكّن لها أسباب العيش والتكاثر والتناسل في مصر ؟ وهل كان ذلك الفرعون كافرا وعاصيا وباغيا وطاغيا هو الآخر؟ هل كان ذلك الفرعون الآخر بحاجة إلى نبي ورسول ليذكره بما نسي من أمر الله وحسن إدارة المملكة والشعب ؟ لماذا سكت عنه على الرغم من أنه أيضا كان فرعونا لا يدين بدين يعقوب وسلالته الإسرائيلية؟!

إن هذه الوقفة اللطيفة بخصوص " آمن بـ " و " آمن لـ " وردت بموضعين في القرآن ، الأول بالأعراف الآية 143 : " فلما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك ولنرسل معك بني إسرائيل " ، (نؤمن لك) وليس نؤمن بك ، هذا مع العلم بأن النص القرآني عندما يتحدث في مواضع الجدل والإقناع بين الرسل وأقوامهم في قضية الإيمان يستخدم حرف الجر " الباء " مع الفعل " آمن " وتصريفاته المتعددة فمثلا " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتاكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين" 81 آل عمران . كما وردت في الموضوع الآخر في سياق القصة بين موسى وملك مصر على النحو التالي : " ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين . فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون "46-47 ، المؤمنون " نؤمن لبشرين " وليس " نؤمن ببشرين " ، إذن خلاصة الدوافع في ذلك الصراع المحصور بين موسى وأخوه من جهة وبين فرعون وملئه - وليس المصريين - من جهة أخرى كان بسبب رغبة موسى المكلف من قبل ربه بالخروج ببني إسرائيل من مصر ورفض الفرعون الاستجابة نظرا لأنه لا يصدق بأن هذا " الموسى " الذي منحه القصر الملكي اسمه وأسباب حياته والذي تورط فيما بعد في جريمة قتل خطأ لأحد المصريين هرب على إثرها ملتجئا إلى البدو " الشاسو " في أهل مدين ثم عودته إلى مصر بعد ظهور الإله له وتكليفه بالرسالة كأحد أنبياء بني إسرائيل الموكل إليه الخروج بهم من مصر نحو الأرض الموعودة لهم منذ زمان الجد الأكبر إبراهيم وقد آن الأوان لتحقيق هذا الوعد الإلهي لهؤلاء الذين اصطفاهم ربهم على كل العالمين .

يقول تعالى على لسان ملك مصر – الفرعون - : " قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " . 19،18 الشعراء ، فيرد عليه موسى " قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين " 20 ، 21 الشعراء .

وهذا كله من السياق القرآني الذي وردت فيه مصر كعلم على بلد وشعب خمس مرات ، اثنتين في سياق نزوح بني إسرائيل إليها في زمن يوسف وثلاثا في خروجهم منها على يد موسى مع العلم بأن الغالبية الكاسحة من أنبياء بني إسرائيل الذين ورد ذكرهم في القرآن أقاموا في مصر أو ارتبطوا بعلاقات مصاهرة منها مع المصريين منذ جدهم الأكبر إبراهيم وحتى نبيهم العالم لغة الطير سليمان بن داود مرورا بإسماعيل وذريته التي تنتهي بالنبي الخاتم في جزيرة العرب - بالرغم من كل هذه الأهمية والدعم من المصريين لم يرد ذكر بلدهم سوى خمس مرات في القرآن مرتبطة بيوسف وموسى في الدخول والخروج مع بني إسرائيل .

المؤكد أن المصريين كشعب وأمة عرفوا التدين بمعناه الواسع والحقيقي منذ مدة سابقة على ظهور أبي الأنبياء إبراهيم في منطقة الشرق الأدنى على التخوم المصرية وحتى وصيته لأبنائه وأحفاده بالمجيء إلى مصر التي خبرها لاجئا من جوع كالذي أصاب يعقوب وبنيه من بعدُ : " وحدث جوع في الأرض . فانحدر أبرام إلى مصر ليتغرب هناك لأن الجوع في الأرض كان شديدا "10 سفر التكوين الإصحاح 12 وبعد أن خبر مصر وعرفها جيدا أعلمه الرب قائلا : اعلم أن نسلك سيكون غريبا في أرض ليسألهم ويُستعبدون لهم فيذلونهم أربع مئة سنة ثم الأمة التي يستعبدون لها أنا أدينها وبعد ذلك يخرجون بأملاك جزيلة ... وفي ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلي النهر الكبير نهر الفرات " 13- 18 تكوين 15 ، وهذا الرب الذي سلطهم على كثير من الأمم يوصيهم قائلا " لا تكره مصريا لأنك كنت نزيلا في أرضه " 7 التثنية 23 ، ولا أريد الاستطراد في السياقات غير القرآنية في هذه القضية وخصوصا أن مصر ذكرت كثيرا في أسفار العهد القديم ، ناهيك عن كتب المؤرخين قديما وحديثا بينما لم ترد إسرائيل سوى مرة واحدة في كتابات المصريين القديمة و هذا أمر طبيعي باعتبارهم أقلية وافدة خاملة لا تجيد شيئا من صنائع الحضارة التي يعتمد عليها المصريون في حياتهم .

ومن المؤكد أيضا أن المصريين شعب اهتدى إلى عقائده عبر مئات الأجيال قبل وأثناء النسل الإبراهيمي ،تلك العقائد التي قال عنها المؤرخ وعالم الآثار الأمريكي جيمس برستيد : " لم يكن في الشرق القديم إلا عقيدة دينية واحدة تقول بأن الإله يزن القلب الإنساني وهي الديانة المصرية القديمة بما تشتمل عليه من المحاكمة الأوزيرية " . 382 فجر الضمير- الهيئة المصرية للكتاب .

وتلك كانت آخر لبنة في عمارة العقيدة الأخلاقية بعد التوحيد الذي توصل إليه المصريون أيضا في بداية الدولة الحديثة مع إخناتون منذ ما يقرب من أربعة عشر قرنا قبل الميلاد وقبل الخروج الإسرائيل على يد موسى من مصر وقبل دعوة محمد بما يزيد على عشرين قرنا .

إن عقائد الذين جاءوا من البدو والتي تصطبغ بالعنف والأحادية وضيق الأفق في النظر إلى مسائل الوجود ، تلك العقائد التي كرس لها الإسرائيليون في الشرق الأدنى قد تسللت إلى كثير من وعي الفقهاء ومفاهيمهم للدين فحاولوا إخضاع ذائقة الأمم الحضرية المتدنية بالضرورة للمزاج البدوي القاحل والمتقلب تحت دعاوى التوحيد وتنقية العقيدة من الشوائب لدى الأمم المستعربة وبادية الشام على الرغم مما يقرره القرآن من أن هناك الكثير من الأنبياء الذين لم يأت الوحي على ذكرهم : " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي إلا بإذن من الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون " 78 غافر . وكذلك قوله تعالى : " ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما " 164النساء ، وأليس ذلك هو القرآن الكريم الذي يقرر بأنه "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا . اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . من اهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " 13- 15الإسراء . وكذلك " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " 36 النحل ، وكذلك " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " 24 فاطر، ألا يدل كل ذلك على ضرورة وجود أنبياء في أمة المصريين وغيرهم من الأمم لم يحفل بهم النص الإسرائيلي نظرا لخصوصية العلاقة التي صاغها كهنة الشاسو بين إسرائيل والإله والأرض كما لم يأت الوحي على ذكرهم للنبي محمد الذي ابتدأت رسالته مع مرور العقد الأول من القرن السابع الميلادي ؟

وألا يدفعنا ذلك إلى النظر بعناية إلى جيمس بريستيد عندما يقول مع نهاية الربع الأول من القرن العشرين" لا شك أن موسى كان ملما بأقوال أولئك الأنبياء الاجتماعيين - من الذين لم نقصص عليك - والذين كانت أقدم كتاباتهم متداولة بين المصريين قبل 1500 سنة عندما ابتدأ موسى تعليم قومه ، ومن البديهي أن رجلا مثله نشأ محاطا بمثل ذلك النوع من الأدب كان لزاما عليه أن يشعر بالحاجة إلى دين يشتمل على تعاليم خلقية يزود بها قومه " ص 380فجر الضمير - الهيئة المصرية للكتاب .

وبعد ألا يحق لنا أن نتعجب من هذا التشابه بين القرآن و الشعر المنسوب إلى بعض شعراء العرب مثل زيد بن عمرو بن نفيل وإلى أمية بن أبي الصلت يقولان فيه من قبل مجيء محمد:

وأنت الذي منْ فضل من ٍ ورحمةٍ بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له فاذهب وهارون فادعوا إلى الله فرعون الذي كان باغيا
تماما كما جاء من القرآن من بعدهما و كأن رسالة موسى إلى قومه من بدو إسرائيل قد شملت المصريين أيضاً ؟!
الفصل الثالث
الاحتكار العبراني للدين
إن التدين ذا الجذر السماوي اختراع توصّل إليه العبرانيون خلال أكثر من سبعمائة عام في الفترة من هجرة إبراهيم إلى كنعان في القرن السابع عشر قبل الميلاد و حتى سراديب بابل في القرن السادس قبل الميلاد ، عاشوا خلالها بين حضارات الشرق الأدنى القديم من أور الكلدانيين فيما بين النهرين - دجلة والفرات - حتى طيبة ومنف وهليوبوليس على ضفاف النيل ، اختراع توصلوا إليه ونضج على مهلٍ في كنف كهنة حابي في بلاد المصريين لأكثر من أربعمائة عام ثم واصل صعوده في أرض كنعان وحتى سراديب بابل حيث قرروا احتكار العلاقة بين السماء والأرض إلى الأبد في نسل إسرائيل بن اسحاق بن إبراهيم وامتلاك الوعي البشري بهذا الاحتكار والتشويش على روح البشر في التواصل الفطري الحر مع خالقها وبديع الحياة من حولها ، ومن هنا كانت كل هذه الخصومة العارمة والعداء الرهيب الذي سيبقى مع نبي يقول لهم :

" قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين . ولا يتمنونه أبداً بما قدّمت أيديهم ، والله عليم بالظالمين . قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " الجمعة ، الآيات 6 ، 7 ، 8
كما سيظل عداؤهم و خصومتهم مع نبي آخر قال لهم "لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني ... أنتم من أب هو إبليس و شهوات أبيكم تريدون أن تعملوها ... " من37 إلى 44 يوحنى 8

وينبغي عليّ أن أقول أن النبي محمد أضر به وبرسالته فقهاء أمته من بعده حينما حوّلوا دعوته إلى كهانة أغرقت الناس في طقوس زعموا بها تربيةً وتهذيباً وتطهيراً لنفوس وأبدان وأرواح لا ينظرون إليها إلا على أنها مدنـّسة قذرة وحقيرة نجسة يجب السموّ بها عن طريق كهانة الشعائر والطقوس والإغراق فيها حتى لا يتبقى مكان للنظر والتأمل واستبيان ما فوق الرؤوس أو ما تحت الأقدام ؛ حتى لا يبقى متسع لإدراك الذي أمام البشر من تواريخ والذي خلفهم من مواريث .

إن رسالة محمد لو كان لها - وهذا هو الجديد فيها - أن تقف عند حدود نقض الاحتكار اليهودي لعلاقة السماء بالأرض وانحرافهم بميراث الإنسان في البحث عن الإله وإنهاء سطوتهم على روح البشرية – لو كان لها ذلك لكفاها ، لأنها ببساطة خطوة طموحة تعود بالبشرية إلى الدين الحق ؛ إلى فطرية العلاقة بين الإنسان وخالقه ، وما أخطرها أجلها وأقدسها من مهمة قصرت دونها كل الهمم والدعوات :

" لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذّبوا وفريقاً يقتلون " 70 ، المائدة

" ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ، أفكلما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتلون " 87 ، البقرة

وهكذا كانت دعوة محمد – على الرغم من إقرارها باصطفاء الله لبني اسرائيل و تفضيلهم على العالمين - بمثابة الكاشف والمشير في غاية الفصاحة والوضوح على انحراف بني إسرائيل واحتكارهم واستبدادهم بعلاقة الخالق – جل وعلا – ببني الإنسان .

إن اتهام أي إنسان بنقض المقولة التوراتية بشأن تاريخ البشرية وصيرورتها ومآلها ومحاكمته بدعوى معاداة السامية وكراهية اليهود واحتقارهم ،إن اتهاماً كهذا والسكوت عليه يُعدّ وصمة تضرب مصداقية عصرٍ بكامله ، تضربه في كل ما توصّل إليه وأنجزه في ميادين الفكر والتكنولوجيا والفنون ، بل وتدعو إلى مراجعة كل تلك الإنجازات والتشكك في جدواها فيما يتعلق برقيّ البشرية وتطورها في عصورها الأخيرة.
ولمعرفة محنة العقيدة التوراتية علينا أن نتأمل في نصوصها
"وقال الرب هوذا شعبٌ واحدٌ ولسانٌ واحدٌ لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل . والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه . هلـّم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض . فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض . فكفوا عن بنيان المدينة . لذلك دعى اسمها بابل . لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض ومن هناك بددهم الرب على وجه الأرض . " 11 ، سفر التكوين ، 6 ـ 9

هذا ما حدث مع قبائل نوح بعد نجاتهم وتأسيس الحياة من جديد عقب الطوفان وفق ما جاء في السياق التوراتي ، والمقصود بهم أولاد حام وسام ويافث الأبناء الثلاثة لنوح .

والأمر يحتاج إلى وقفة بسيطة لإلقاء إيضاح على مفهوم الإله لدى العبرانيين الذين تحيزوا في نهاية الأمر داخل نطاق يعقوب " إسرائيل " بن اسحاق بن إبراهيم بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن ارفكشاد بن سام بن نوح بن لامك بن متوشالح بن أخنوع بن يارد بن مهللنيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبو البشر على وجه الأرض حسب التصوير التوراتي أيضا .

فهذا الإله الذي يقدسه العبرانيون والذي انتخبهم دون بقية أبناء آدم ليكونوا حملة رسالته ومخلب قوته على مدار التاريخ يمكن الإحاطة بقدر معقول عن ماهيته باقتباس فقرة أخرى من سفر التكوين أيضا : " وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد . فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها . فطرد الإنسان وأقام شرقيّ جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة . " 3 ، سفر التكوين ، 22 – 23

فمن الواضح حسب الاقتباس الأول بشأن لغة أبناء آدم وفي الاقتباس الثاني الخاص بطرد آدم من الجنة بعد أن أكل من إحدى الشجرتين ( المعرفة - الحياة ) من الواضح أن الإله يخشى أن يصير ابنه " آدم ونسله " من القوة بحيث لا يستطيع السيطرة عليهم ولذا وضع شجرة الحياة " شجرة الخلد " تحت حراسة مشددة بعد طرد آدم من الجنة فطريقها مكدس بالعقبات والحواجز المعدنية الصلبة " الكروبيم " وكذلك السيوف الملتهبة .

و اتحاد لغة البشر(الحرف) كما في الاقتباس الأول من عناصر القوة التي يخشاها الإله في حال اجتماع البشر عليها ولذا نزل الإله وفرق بين آباء بني الإنسان في التأسيس الثاني - في زمن نوح عقب الطوفان - للحياة وذلك كله حسب التصوير التوراتي للتاريخ والحياة .

ولفتة أخرى من السياق المعاصر "السياق التوراتي معاصر على الدوام في وعي أبناء إسرائيل " في حكومة باراك السابقة قال رئيس حركة شاس الدينية في إسرائيل أن وزير التربية يوسي ساريد رجل شرير ويجب محو ذاكرته وذلك لأنه سمح بتدريس قصيدة للشاعر محمود درويش في مقررات التربية الإسرائيلية . وقد كان !! ، حيث التفّ الإسرائيليون حول شارون وانتزعوا ذاكرة الجميع ووضعوهم ثانية أمام الخيار التوراتي المقدس وهو أن الحرب يجب ألا تتوقف , و على شعب الله المختار أن يساعد إلهَهُ في توطيد مملكته عن طريق بلبلة البشر وزرع الفتن والشرور بين جميع بني البشر حتى لا يتحدوا أمام مشيئة الإله .

والترجمة (توحيد النص الحروفي) وكما هو معروف من أفضل السبل لتواصل المعارف والثقافات وتلمس عناصر الوحدة والاشتراك بين جميع بني البشر وهذا لا يجوز في العقيدة التوراتية لأنه يصب في النهاية ضد مشيئة الإله ,الذي نزل ببابل بعد تجمع البشر على لسان واحد بعد الطوفان ,نزل ويليل لسانهم ، والمنطق التاريخي للأمور يقول أن أفضل طريقة للتعامل مع هذا الوعي التوراتي هو تركه للعزلة حتى يتآكل فليس صحيحا أن ترجمة الأعمال العربية إلى لغة شعب الله العبرانيين سوف تجعل صورتنا واضحة أمامهم وسوف تمد جسور التواصل والمعرفة معهم ، هذا خطأ لأن المعتقد " قدس أقداس الإسرائيليين " أنهم شعب الله الذين اختارهم وهو وحده يمدهم بكل ما يطلبون وليس لدى الآخرين " الأمميين " شيء نافع أو مفيد لهم والمبرر الوحيد لدى الإسرائيلي لمعرفة لغة الآخرين هو الوصول إلى مكامن ضعفهم وعوراتهم والنيل منهم لتحقيق مشيئة الرب .
الباب الخامس
مآلات التدين البدوي
الفصل الأول
وتلك الأيام نداولها
قال عبدالملك بن عمير:دخلت على عبيد الله بن زياد وإذا برأس الحسين بن على بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم على ترس(سنة 61من هجرة النبي وبعد 50سنة من وفاة جده النبي محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف...)،فوالله مالبثت إلا قليلا حتى دخلت على المختارأبي عبيد وإذا برأس عبيدالله بن زياد بين يدي المختار على ترس ووالله مالبثت إلا قليلا حتى دخلت على عبدالملك بن مروان وإذا برأس مصعب بن الزبير على ترس بين يديه.
وروى ابن عساكرفي ترجمته لشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين بن على بن أبي طالب،إن ذا الجوشن هذا صحابي جليل قيل اسمه شرحبيل وقيل عثمان بن نوفل بن أوس العامري الضبابي بطن من قبيلة كلاب(نفس القبيلة التي تزوج منها معاوية بن أبي سفيان الأموي القرشي) ويكنى بأبي السابغة، (وسوف يحزّ المختار الثقفي رأسه بعد قليل.) قال:
وقتل مع الحسين ثلاثة وعشرون رجلا من ولده وأخوته وأهل بيته وهم جعفروالعباس ومحمد وعثمان وأبوبكر من أخوته، وعلى الأكبروعبدالله من أبناء الحسين،وعبدالله والقاسم وأبوبكر من أبناء أخيه الحسن،وعون ومحمد من أبناء عبدالله بن جعفر،وعبدالله وعبدالرحمن وجعفر من أبناء عقيل بن أبي طالب بالإضافة إلى مسلم أخيهم الذي قتله ابن زياد قبل قدوم الحسين إلى كربلاء،وكذلك عبدالله بن مسلم بن عقيل ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل .
ويضيف المؤرخ ابن جرير:وبعد الانتهاء من هذه المجزرة أمر ابن زياد فنودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فذكر ما فتح الله عليه من قتل الحسين الذي أراد أن يسلبهم الملك ويفرق الكلمة عليهم فقام إليه عبدالله بن عفيف الأزدي فقال: ويحك يابن زياد!! أتقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين!! فأمر به ابن زياد فقتل وصلب ,ثم أمر برأس الحسين فنصب بالكوفة وطيف به في أزقتها ثم سيَره مع زحر بن قيس ومعه رؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية بالشام وكان مع زحر جماعة من الفرسان منهم أبو بررة بن عوف الأزدي فخرجوا حتى قدموا بالرؤوس كلها على يزيد بن معاوية، ولما وضعت رأس الحسين إلى يزيد تأمل فيها وقال لمن حوله :أتدرون من أين أتى ابن فاطمة (بنت محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف)؟ وما الحامل له على ما فعل وما الذي أوقعه فيما وقع؟ قالوا :لا، قال :يزعم أن أباه خير من أبي وأمه فاطمة بنت رسول الله خير من أمي وجده رسول الله خير من جدي.
ثم يضيف أبوجعفر بن جرير الطبري:في تاريخه: يزيد وضع رأس الحسين بيد يديه وعنده أبوبررة الأسلمي فجعل ينكب بالقضيب على فم الحسين فقال له أبو بررة:ارفع قضيبك فوالله لربما رأيت رسول الله واضعا فمه على فم الحسين يلثمه.
ولما نقض أهل يثرب (المدينة)البيعة ليزيد سنة 63من هجرة النبي أرسل لهم جيشا شآميا بقيادة مسلم بن عقبة المزني بعد مقتل الحسين بعامين فأعمل فيهم القتل أو كما يقول المدائني: أباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام يقتلون من وجدوا من الناس ويأخذون الأموال ووقعوا على النساء حتى إنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من دون زواج(عدد سكان المدينة سنة 1816كان ثمانية آلاف)، أو كما قال المدائني عن أبي قرة عن هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرة من غير زواج (تقريبا كل نساء مدينة يثرب) وكان ممن فصلت رؤوسهم عن أجسادهم معقل بن سنان بعد أن قتل صبرا(حبس بلاطعام أو شراب حتى ينفق)،وكذلك عبدالله بن مطيع وأبناؤه السبعة وعبدالله بن حنظلة الغسيل وأخوه لأمه محمد بن ثابت بن شماس ومحمد بن عمرو بن حزم ، وأمر الفاتحون بضرب عنق سعيد بن المسيب لولا أن شهد رجل أنه مجنون فأخلوا سبيله، وكذلك محمد بن أبي كعب وعبدالرحمن بن أبي قتادة ومصعب بن عبدالرحمن بن عوف وأبوحكيم معاذ بن الحارث الأنصاري الذي أقامه عمر يصلي بالناس وولدان لزينب بنت أم سلمة وزيد بن محمد بن سلمة وسبعة من أخوته.
وبعد ذلك بعامين تولى المختار الثقفي حزً رؤوس قتلة الحسين وهم شمر بن ذي الجوشن وخولي بن يزيد وعمر بن سعد بن أبي وقاص وفي العام الذي يليه قتل مصعب بن الزبير المختار بن عبيد الله الثقفي وجماعة من أصحابه واحتز رؤوسهم وأمر بكف المختار فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد ولم تزل معلقة حتى جاء الحجاج بن يوسف الثقفي فأمر بها فرفعت وبعد خمس سنوات في العام الحادي والسبعين من هجرة نبيهم وضعت رأس مصعب بن الزبير بين يدي عبدالملك بن مروان وبعد سنتين قطعت رأس أخيه عبدالله بن الزبير بعدما تم صلبه بجوار الكعبة بضعة أشهر ويصف المؤرخون تلك الواقعة بقولهم :بعث الحجاج بن يوسف الثقفي إلى الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان بما وقع وبعث برأس الزبير مع رأس عبدالله بن صفوان وعمارة بن حزم وأمرهم إذا مروا بالمدينة أن ينصبوا الرؤوس بها ثم يسيروا إلى الشام ففعلوا ما أمرهم وأرسل بالرؤوس مع رجل من الأزد فأعطاه عبدالملك خمسمائة دينار ثم أمر الحجاج بجثة ابن الزبير فصلب على ثنية كدا عند الحجون بالقرب من الكعبة.
ولم تكد تمضي ستون عاما على هذه المقتلة البشعة التي قام بها الأمويون وأنصارهم وانتهكوا فيها كل الحرمات الإنسانية؛لم تكد تمضي ستون حتى سقطت رقاب الأمويون وحرماتهم في قبضة أبناء عمومتهم الهاشميين من أحفاد الحسين بن على بن أبي طالب وأحفاد عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب ،ففي العام 132من هجرة نبيهم تمكن قائد من أحفاد العباس بن عبد المطلب الهاشمي بمساعدة الفرس من إزاحة عرش أبناء عمومتهم من بني أمية بعد هروب آخر خلفائهم مروان بن محمد إلى سمنود في مصر وهناك تمكنوا منه وقتلوه وأرسلوا رأسه إلى أبو العباس السفاح (عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ...بن إسماعيل بن إبراهيم بن تارح بن ناحور ...بن سام بن نوح بن لامك بن أرفخشذ...بن شيث بن آدم)أول خلفاء العباسيين ومؤسس النسخة الثانية من دولة القبائل المصطفين الأخيارمن رب السماء والأرض في شرق المتوسط والذي كرّس فيهم نبيهم الإمامة كما ورد في صحيح البخاري من طريق الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن معاوية بن أبي سفيان قال : قال رسول الله: إن الأمر في قريش لايعاديهم أحد إلا كبّه الله على وجهه...
ورغم ذلك وكما قام ولاة الأمر من الأمويين القرشيين باستباحة دماء وأعراض أبناء عمومتهم الهاشميين القرشيين أيضا، فها هو إمامهم وقائدهم وابن عمهم ابو العباس عبدالله بن محمد مؤسس دولة العباسيين والملقب بالسفاح يتفنن في التنكيل والاستباحة والثأر من الأمويين أبناء عمومته بطريقة لم يسبقه فيها أحد من الإنس أو الجن مستعينا بالفارسيين فحاصر دمشق وأهلها من أنصار الأمويين خمسة أشهرثم استباحها ثلاث ساعات وقتل منها 50ألفا بعدما اختلف أهلها من عرب الشمال (المضرية) وعرب الجنوب(اليمانية)وجعلوا في كل مسجد محرابين للقبلة ومنبرين للخطابة وإمامين يخطبان حتى في الجامع الأموي(كان كنيسة يقال ان يحيى بن زكريا مدفون بها وقد حوّل الأمويون الكنيسة إلى جامع) قال ابن عساكر عن محمد بن سليمان النوفلي:كنت مع عبدالله بن محمد بن علي (السفاح) أول ما دخل دمشق،دخلها بالسيف،وأباح فيها القتل ثلاث ساعات وجعل جامعها اسطبلا للخيل والدواب والجمال لمدة سبعين يوما ، ثم نبش قبور بني أمية فلم يجد في قبر معاوية إلا خيطا أسود مثل الهباء ونبش قبر عبدالملك بن مروان فوجد جمجمة، وكان يجد في القبر العضو بعد العضو؛إلا هشام بن عبدالملك بن مروان فإنه وجده صحيحا لم يبل منه غير أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وهو ميت، وصلبه أياما، ثم أحرقه ودقّ رماده، ثم ذره في الريح.
ويكمل ابن عساكر: تتبع السفاح بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم، فقتل منهم في يوم واحد92ألفا عند نهر فلسطين بالرملة وبسط عليهم الأنطاع(مايفرش تحت جثث المقتولين من حصير أو سجاد وماشابه)ومدّ عليهم سماطا(سجادة كبيرة تفرش لتقديم الموائد عليها)فأكل وهم يختلجون تحته(مازالت الروح لم تخرج من أجسادهم المنتفضة)،وأرسل امرأة هشام بن عبدالملك واسمها عبدة بنت عبدالله بن يزيد بن معاوية،مع نفر من الخرسانية(الفرس) إلى البرية ماشية حافية حاسرة عن وجهها وجسدها عن ثيابها(بلبوص)، ثم قتلوها، ثم أحرق مابقي من عظم ميت منهم وأقام بها(دمشق)15يوما.
المدهش أن هذا المصير الأسود من القتل واستباحة الحرمات الذي قل نظيره في الإنسانية قاطبة بين الأعداء يحدث بين الأقارب وأبناء العمومة وصحابة النبي وأولادهم وأحفادهم والأكثر إدهاشا أن النبي نفسه تنبأ لهم بهذا المصير قبل موته بفترة وجيزة.
قال محمد بن إسحاق صاحب أقدم السير النبوية :حدثني عبدالله بن جعفر عن عبيد بن جبر مولى الحكم عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن أبي مويهبة مولى رسول الله قال:بعثني رسول الله من جوف الليل فقال: يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن استغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي،فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال:السلام عليكم يا أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ،أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها،الآخرة شر من الأولى.
فهو على علم يقين بأن ما زرعه فيهم وأرشدهم إليه طوال 23سنة هي عمر دعوته بينهم ستكون ثماره وخيمة مدمرة وعاقبته أعظم سوءا وشرا كلما تقدم الزمن ،حتى أن كعبة العرب التي رفع قواعدها إبراهيم وإسماعيل تعرضت للهدم واستبيحت مكة(مقربة) المحرمة وقتل عشرات المئات من الحجيج ودفنوا في بئر زمزم عندما ضربها الحجاج بن يوسف الثقفي بالمنجنيق حين تحصن بها عبدالله بن الزبير في صراعه مع أبناء عمومته الأمويين كما ضربت ثانية سنة317من هجرة الرسول كما يروي ابن كثير: خرج عليهم أبو طاهر القرمطي في جماعته يوم التروية فانتهب أموالهم واستباح قتلهم فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجيج خلقا كثيرا وجلس أبوطاهر على باب الكعبة والرجال تصرع حوله والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، فكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة، فلايجدي ذلك عنهم شيئا بل يقتلون وهم كذلك، ولما انتهى أمرَ أن يدفن القتلى في بئر زمزم ودفن كثيرا منهم في أماكنهم من الحرم وفي المسجد الحرام، ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلدهم(البحرين) فمكث عندهم 22سنة وتعطل الركن الخامس من أركان الإسلام.
الفصل الثاني
جولة في المستنقع
وقع عقبة بن أبي معيط بن أبان بن أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبدشمس بن عبد مناف بن قصي القرشي ؛ وقع في الأسر يوم بدر في السنة الثانية من هجرة الرسول الى يثرب , فلما صار في مواجهة الرسول وأدرك أنه هالك , قال مستعطفا : من لصغاري - من بعدي - يا محمد ؟ فرد عليه الرسول : لهم النار يا عقبة . وأمر بقطع رأسه فنهض على الفور عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري واحتز رأسه , و في هذا السياق يعقب إمام المؤرخين و كتاب السيرة ابن هشام قائلاً : ويقال قتله علي بن أبي طالب فيما ذكر لي بن شهاب الزهري وغيره من أهل العلم – و ابن أبي طالب قتله فيما بعد عبدالرحمن بن ملجم - هذا بينما يعفو الرسول في مشهد لاحق من مشاهد بدر عن أقربائه مثل ابن عمه عقيل بن أبي طالب وعمه العباس بن عبد المطلب و ابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وكذلك أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب ، وكانوا قد وقعوا في الأسر أيضاً بعدما جاؤوا جميعا ً مع عقبة من مكة لقتال الرسول وصحبه الذين تعرضوا لقافلتهم التجارية بقيادة أبي سفيان بن حرب وأرادوا نهبها , فاحتال أبوسفيان حتى أنقذ القافلة ووقعت الحرب .

هلك عقبة إذا وليذهب صغاره الى الجحيم حسب مشيئة رسول العرب والمسلمين في هذا المشهد الذي ربما يراه كثيرون مجرد حزم ممزوج بالقسوة اللازمة في مثل هذه المواقف وخصوصا مع خصوم من أمثال عقبة ممن تعمدوا إيذاء الرسول في مكة خلال السنوات السابقة على الهجرة , وأين ذلك من لينه ورفقه ورحمته في مشهد يرويه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قائلاً : كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا رفع رأسه أخذهما أخذا رقيقا فيضعهما على الأرض فإذا عاد عادا حتى إذا قضى صلاته أقعدهما على فخذيه , ويردف الإمام أحمد في موضع آخر وكذلك الترمزي راويا عن بريدة عن أبيه أنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال : صدق الله " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " نظرت الى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما . هكذا تكون الرحمة وتكون الغريزة مع الأبناء و الأحفاد بينما يذهب أطفال عقبة إلى قعر جهنم .

ولم يكد يمضي ستون عاما من واقعة بدر ومقتل عقبة حتى يسقط حفيد النبي - الذي ترك المنبر والخطابة رأفة بخطواته المتعثرة - قتيلاً بأيدي العرب المسلمين في الكوفة بقيادة عبيد الله بن زياد بن معاوية بن أبي سفيان و يتكالب عليه عمر بن سعد بن أبي وقاص والصحابي الجليل - كما يصفه بن عساكر- شرحبيل بن نوفل بن أوس العامري الضبابي الكلبي الملقب بأبي السابغة شمر بن ذي الجوشن ومعهم حولي بن يزيد الأصبحي الذي فصل رأس الحسين عن جسده . وكان الحفيد الثاني الحسن بن علي قد قتل من قبل مسموما كما قال محمد بن سعد راويا عن أم موسى أن جعدة بنت الأشعث بن قيس و بتحريض من الأمويين قد سقت الحسن سما فكان يوضع تحته طشت ويرفع آخر نحوا من أربعين يوما , فلما حضرته الوفاة قال الطبيب وهو يختلف إليه : هذا رجل قطع السم أمعاءه , إذن فلنذكر أن الرسول استباح دم عقبة في السنة الثانية للهجرة , فاستباح معاوية بن سفيان دم حفيده الحسن في السنة التاسعة والأربعين ثم استباح ابن معاوية يزيد دم حفيده الآخر الحسين في السنة الحادية والستين ومعه ثلاثة و عشرون رجلاً من ولده وإخوته وأهل بيته وهم جعفر والعباس ومحمد وعثمان وأبو بكر من إخوته , وعلي الأكبر وعبد الله من أبنائه , وعبد الله والقاسم وأبو بكر من أبناء أخيه الحسن وعون ومحمد من أبناء عبد الله بن جعفر وعبد الله وعبد الرحمن وجعفر من أبناء عقيل بن أبي طالب بالإضافة الى أخيهم الرابع مسلم بن عقيل الذي قتله عبيد الله بن زياد قبل قدوم الحسين الى كربلاء وكذلك عبد الله ابن مسلم بن عقيل ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل . وكان الحكام والقادة المنفذون لهذه المقتلة العظيمة إما صحابة أجلاء أو أبناء صحابة أجلاء - رضوان الله عليهم أجمعين - ! !
والعجيب في الأمر أن السيوف التي تحركت لحز كل هذه الرؤوس منذ رأس عقبة بن أبي معيط ورأس النضر بن الحارث في بدر وحتى الآن , هذه السيوف كان يحركها شرع الله وسنة نبيه وكل قاتل من هؤلاء - و قبل أن يسقط صريعا مقتولا في ضربات لاحقة - كل قاتل لديه مسوغ وحجة ومتكأ في شرع الله وسنة نبيه يبيح له فصل الرؤوس وقتل الناس والتمثيل بجثث المقتولين في كثير من الأحيان .
ويستمر القتل فاشيا في رؤوس الصحابة وأبنائهم والتابعين لهم بإحسان من بعدهم , وهاهم أهل يثرب - مدينة رسول الله – و بعد أن نقضوا بيعه يزيد فيرسل لهم يزيد جيشا شآميا يقوده مسلم بن عقبة المزني وذلك بعد مقتل الحسين بعامين , فأعمل فيهم مسلم القتل في واقعة الحرة أو كما يقول المدائني أباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام يقتلون من وجدوا من الناس ويأخذون الأموال ووقعوا على النساء حتى قيل أنه حبلت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرة من غير زواج أو كما يقول المدائني في سياق آخر عن أبي قرة عن هشام بن حسان : و لدت ألف إمرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرة من غير زواج .
وكان ممن فصلت رؤوسهم عن أجسادهم في تلك المجزرة معقل بن سنان بعد أن مات صبرا , والموت صبرا يعني أن يترك المأسور بلا طعام أو شراب حتى يموت , وكذلك عبد الله بن مطيع وأبناؤه السبعة وعبد الله بن حنظلة الغسيل وأخوه لأمه محمد بن ثابت بن شماس ومحمد بن عمرو بن حزم , وأمر الفاتحون ليثرب بضرب عنق سعيد بن المسيب فما أنقذه إلا شهادة أحد الرجال بأنه مجنون فأخلو سبيله , وكذلك محمد بن أ ُبيّ بن كعب وعبد الرحمن بن أبي قتادة ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف وأبو حكيم معاذ بن الحارث الأنصاري الذي أقامه عمرو يصلي بالناس وولدان لزينب بنت أم سلمة وزيد بن محمد بن سلمة وسبعة من أخوته .
ويمضي مشهد القتل المؤبد , وبعد ذلك بعامين يتولى المختار بن أبي عبيد الثقفي حز رؤوس قتلة الحسين وهم : شمر بن ذي الجوشن وخولي بن يزيد وعمر بن سعد و في العام الذي يليه يقتل مصعب بن الزبير بن العوام المختار بن أبي عبيد وجماعة من أصحابه ويحتز رؤوسهم ثم يأمر بقطع كف المختار ويسمرها الى جانب المسجد فتظل معلقة حتى يجئ الحجاج بن يوسف الثقفي ويأمر برفعها .
ويستمر القتل ويستحر بين أبناء الصحابة الذين عاصروا المشاهد الأولى لإقامة دعوة الإسلام , يستمر القتل وحز الرؤوس فما إن تأتي السنة الحادية والسبعون للهجرة النبوية حتى تقطع رأس مصعب بن الزبير بن العوام وتوضع بين يدي عبد الملك بن مروان في دمشق كما تقطع رأس أخيه عبدالله بن الزبير بن العوام بعد سنتين ويصلب بجوار الكعبة في مكة المكرمة المحرمة لعدة أشهر .
و إذا تأملنا كل هذا الدماء و الاندفاع الجارف للقتل و حز الرؤوس وفق منطق التاريخ ومقتضيات السياق الثقافي والاجتماعي لهذه البيئة من جزيرة العرب فإن الأمر تفسيره مقبول و طبيعي , فمن عادة العرب أن تهاجم القبائل بعضها بعضا ً و يأخذون في القتل و السلب و النهب و سبي النساء و استرقاق الأطفال و ربما يكون القتل بين بعض البطون أو الأفخاذ في القبيلة الواحدة , و القارئ لأيام العرب في الجاهلية يجد ذلك متاحا ً و ميسورا ً, فمثلاً هذا يوم السلان و كان لبني عامر على النعمان بن المنذر , فقد كان للنعمان بن المنذر في كل عام عير " قافلة " تحمل المسك لتباع في سوق عكاظ فتعرض لها بنو عامر فغضب لذلك النعمان , و بدأت الاستعدادات للمعركة و بدأ الأسر و القتل , و كل أيام العرب تقريبا ً تبدأ هكذا كيومي أوارة الأول و الثاني و يوم اليحاميم و يوم حليمة و يوم بزاخة و غيرها الكثير من الأيام , و يمكن قياس أيام العرب في الإسلام على أيامهم في الجاهلية وفق سياقهم التاريخي و الثقافي كيوم بدر و الذي أعلن عن ابتدائه زعيمهم الجديد محمد بن عبدالله نبي الله و رسوله – صلى الله عليه وسلم - ابتدأ النبي هذا اليوم و كما جاء في سيرة ابن هشام بقوله : هذه عير " قافلة " قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها . و معنى ينفلكموها أي يجعلها الله لكم مغنما و تستولون عليها , تماما كما حدث في يوم السلان الذي كان لبني عامر على النعمان بن منذر .
إلا إن يوم بدر و غيره من أيام العرب في الإسلام لا تقرأ و لا تدرس و لا تفهم كسياق تاريخي و أحداث و قعت لها أسباب و مقدمات و حوافز و أعقبتها نتائج مفهومة و واضحة أدت إلى تغييرات و مسارات جديدة يحياها الناس في أزمان جديدة و متغيرة ؛ و لكن تقرأ و تدرس وفق السياق المقدس و الذي شارك النص القرآني المقدس في الإشارة إليه و دخل في صميم العبادة و العقيدة و الإيمان بالله .. بالمطلق ..بالغيب . فأيام العرب في الإسلام لم تعد تقرأ أو تفهم وفقا ً لسياق التاريخ و مجريات الأحداث و كل ما هو نسبي و متغير مع العلم أن حروب العرب بعد الإسلام ليست إلا امتدادا لحروبهم قبل الإسلام إلا أن وحي السماء و مشيئة رب السماء و الأرض تدخلت في القتال و أصبح المقتول و المسلوب و المسبي و المغدور في النار يعاني من سخط الله و لعنته بينما يتمتع القاتل والسالب و الناهب من الذين أباح لهم الرسول دماء أعدائهم و أموالهم بقوله " من قتل قتيلا ً فله سلبه(أملاكه) " أصبح القتلة من جيش الإسلام في رضا الله و عنايته و من مات منهم يتمتع في جنانه بأنهار الخمر و العسل و يستمتع بما شاء من النساء الحور العين و الولدان المخلدين القائمين بالأباريق على خدمة أهل الجنة المتكئين على الأرائك و فوقهم تتدلى عناقيد الفاكهة من العنب و الرمان و السدر و لحم الطير سعداء في معية الخالق .
و ها نحن نعثر على صدى هذه المعتقدات و بعد أكثر من اثني عشر قرنا ً من غزوة بدر في رسالة عبدالله بن سعود قبل القبض عليه و إرساله إلى الأستانة لتحز رأسه هناك , ها نحن نقرأ هذا الصدى في رسالته إلى المقيم البريطاني في منطقة الخليج سنة 1817 ميلادية – 1232 هجرية عندما أغار أعوان عبدالله بن سعود من قواسم رأس الخيمة على السفن التي تبحر في مياه الخليج تحت الأعلام البريطانية و قد أمره المعتمد البريطاني بإعادة الغنائم و المسروقات التي أخذوها من السفن , نقرأ قوله " كيف تطلب منا أن نرد ما غنمناه من أعدائنا من أهل مصر و جدة و اليمن و شحر و المكلا و مسقط و البصرة و أهل فارس التابعين لسعيد بن سلطان , إنهم كلهم أعداؤنا فسنقتلهم حيث ثقفناهم تنفيذا ً لأوامر الله فيهم . الله أكبر " هذا بينما يبدي الأمير ابن سعود للمقيم البريطاني بروس استعداده للعمل سويا ً لتجديد الاتفاق المبرم في 1814م و أن تقام معاهدة بين الطرفين ينص فيها صراحة على عدم مساندة البريطانيين لأعداء الوهابيين معبرا ً عن أمله بأن لا يعكر حادث نهب السفن التابعة للحماية البريطانية علاقات الصداقة بينهما .
ألا يذكرنا ذلك بسهم المؤلفة قلوبهم من أمثال سهيل بن عمر و أبو سفيان بن حرب من كفار قريش الذين كان يخطب الرسول مودتهم و يسترضيهم بأموال الغنائم المسلوبة من ضعفاء القبائل في محيط مكة و الطائف و يثرب و يعطيها لصناديد الكفار ليأمن شرهم و يضمن حيادهم على الأقل في حروبه مع قبائل العرب الأخرى , فبريطانيا و مندوبها في الجزيرة العربية من المشركين و كذلك سهيل و أبو سفيان من الكفار , و كل هؤلاء و أمثالهم وادعتهم شريعة الإسلام و ثقافته و استرضتهم و قدمت لهم التنازلات فهوت سيوف المسلمين على المستضعفين و التعساء من أبناء القبائل الصغيرة قتلا و سبيا ًبدعوى قتال الكفر ونشر دين الله و تطهير جزيرة العرب التي قال رسولها أنه لا يجتمع على أرضها دينان !!
و من الغريب أن جزيرة العرب هذه و التي جاهد الرسول و صحابته من بعده في تطهيرها من الشرك و الكفر – حسب سياق الدعوة الإسلامية من الغريب أنها رجعت إلى عاداتها و شرائعها و معتقداتها التي كانت عليها قبل الإسلام , هذا مع ملاحظة أن سلطة القبيلة و سيادتها داخل نجد و الحجاز ظلت كما هي طوال الوقت إن قبل الإسلام و إن بعده على حد سواء.
فهذا مسعود الندوي في كتابه عن محمد بن عبدالوهاب , يصف الجانب الديني في جزيرة العرب بعد أكثر من أحد عشر قرنا ً من دعوة الإسلام قائلا ً : أما الدين فقد غشيته سوداء , فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة ستارا ً من الخرافات و قشورا ً من الصوفية و خلت المساجد من أرباب الصلوات , و كثر عدد الأدعياء الجهلاء , و طوائف الفقراء و المساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم و التعاويذ و المسابح و يوهمون الناس بالباطل و الشبهات و يرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء و يزينون لهم الشفاعة من دفناء القبور , و صار يشرب الخمر و الأفيون في كل مكان و انتشرت الرذائل و هتك ستر المحرمات على غير خشية أو استحياء , و نال مكة المكرمة و المدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام فصار الحج المقدس الذي فرض على من استطاعه ضربا من المستهزءات .
و عن الحالة الدينية في مناطق نجد داخل جزيرة العرب يقول الندوي : في وادي حنيفة كان يعبد قبر زيد بن الخطاب و في الدرعية كانت توجد بعض القبور و القباب التي تنسب إلى بعض الصحابة و كانت مراكز للتعبد الجاهلي , و في وادي غبيرة كانت قبة ضرار بن الأزور سوقا ً للبدع و الأوهام و في بليدة الفداء كانت النساء العاقرات يباشرن مع شجرة قديمة لطلب الأولاد , و على مقربة من الدرعية و عند غار هناك كانت ترتكب الفواحش المخزية و من أراد الاستزادة يمكنه الرجوع إلى كتاب عنوان المجد في تاريخ نجد لعثمان بن بشر النجدي .
و يصف الندوي الحالة السياسية لجزيرة العرب في منتصف القرن الثاني عشر الهجري بالقول : كانت نار الحرب الأهلية متأججة في جميع أنحاء نجد , كان بنو الخالد مسيطرين على جبل شمر في الشمال في قبيلة طئ و الإحساء , و في الدرعية كانت قبيلة عنزة ترسخ أقدامها , و في منفوحة قامت إمارة دواس , و نجد مع صغره و ضيق أطرافه كان موزعا بين دويلات و إمارات عديدة , يقول عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم في كتابه صراع الأمراء " لم يشهد التاريخ قبل عهد الدولة السعودية الأولى و منذ عصر الفتوحات الإسلامية أي غزوة أتت الخليج العربي من نجد أو من اتجاهها و كانت نجد طوال هذه الفترات إمارات مدن و مشيخات و قبائل لا رابط بينها إلا ما جرى به العرف .
هكذا عادت جزيرة العرب بعد صدر الإسلام إلى سابق عهدها و ظلت هكذا حتى قامت الحركة الوهابية بتحالفها مع الدولة السعودية و قام اتفاق بين محمد بن عبدالوهاب و محمد بن سعود حاكم الدرعية أصبحت الدرعية به منارة للدعوة و دخلت بموجبه حلبة الجهاد لنصرة الدين و ذلك في سنة 1775 ميلادي , و سيطر هذا التحالف الجديد على معظم أرجاء الجزيرة العربية و تم بمقتضاه إعادة فتح مكة و المدينة و الطائف و ضم مناطق الإحساء و غيرها إلى أن اصطدم هذا التحالف مع الدولة العثمانية الذي استنجد سلطانها بحاكم مصر محمد علي فأرسل ابنه طوسون ثم إبراهيم للقضاء على هذا التحالف و تم له ذلك في سنة 1818م بهدم عاصمة الدولة السعودية الأولى في الدرعية , و في وصف هذه المواجهة يقول الندوي : جعل محمد علي قيمة كل رأس من الوهابيين ستة دولارات و عندما و قعت أكوام الجثث المرسلة من ينبع إلى السويس أمام محمد علي طلب بالاكتفاء بآذان القتلى دون جثثهم , و أما عن مصير بن سعود فإنه أرسل إى الإسكندرية و من هناك إلى الأستانة فصلب هناك هو و أصحابه في 17 ديسمبر سنة 1818م – 18 صفر 1234هـ في فناء أيا صوفيا و علقوا على المشانق بعدما طيف بهم بكل إهانة في عاصمة دار الخلافة .
و يستمر القتل و النهب ساريا تحت مبررات الدين و العقيدة , و ما حز رأس صدام حسين ليلة العيد والمقتلة العظيمة القائمة بالعراق و الصومال و أفغانستان عن ذلك ببعيد و كذلك ما وقع من حروب مع الفرس في إيران أو في العراق و على أطراف نجد في الكويت و حفر الباطن , بل إن معارك فتح مع حماس و ابن لادن وحزب الله وكل ما أبَّ منها من تنظيمات و تشكيلات لا تفتأ تتكأ على الدين و منطلقات الجهاد المقدس سبيلا ً و سقفا ً لإتمام رسالتها .
... و بعد .. ألم يُقتل سعد بن عبادة مغدورا ً بسبب رفضه البيعة لأبي بكر في السقيفة بعد موت الرسول ؟ و لم يخجل العرب من اتهام الجن و العفاريت بقتله في زمن عمر ؛ بل نسبوا إلى الجن شعرا ً في قتل سعد بن عبادة !؟ و ألم يشارك محمد بن أبي بكر في قتل عثمان بن عفان مع ثلاثة عشر رجلاً من أتباعه و أخذ بلحية عثمان حتى سمعت وقع أضراسه قائلا ً له : على أي دين أنت يا نعثل , و ذلك حسب رواية بن عساكر !؟ و كذلك ألم يقتل مروان بن الحكم طلحة بن عبيد الله في موقعة الجمل !؟ و كذلك ألم يقتل عمر بن جرموز الزبير بن العوام و يحتز رأسه في الجمل أيضا ً !؟ و ألم يقتل زياد بن حفصة التميمي عبيد الله بن عمر !؟ ألم يقتل أبو غادية و ابن جوى عمار بن ياسر !؟ و ألم يقتل معاوية بن خديج محمد بن أبي بكر و يحرقه في بطن حمار !؟ و ألم يُقتل الأشتر النخعي مسموما ً و هو في طريقه لولاية مصر , قتله أعوان معاوية بشربة عسل مسمومة حتى صارت مضربا ً للمثل لدى العراقيين و الشوام عندما قالوا : إن لله جنودا ً من عسل .. حقا ً إن لله جنودا ً من عسل !!
و بعد كل هذا و قبله , ألم يمت رسول الإسلام نفسه بسبب أكلة من شاة مسمومة و ذلك حسب قوله قبيل وفاته عندما جاءت أم بشر بنت البراء بن معرور إلى الرسول تزوره في مرضه الأخير و هي التي مات أخوها فورا ً عندما أكل مع الرسول من الشاة المسمومة التي قدمتها زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم بعد مقتل زوجها و أخيها في خيبر , فقد جاء في سيرة ابن هشام أن ابن اسحاق قال : حدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال :كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد قال في مرضه الذي توفي فيه , و دخلت أم بشر بنت البراء بن معرور تعوده : " يا أم بشر إن هذا الآوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك في خيبر " و الأبهر كما جاء في المعجم الوسيط هو الوريد الذي يحمل الدم من الجسم إلى الأذين الأيمن من القلب .
انقطع أبهر الرسول و مات من أثر السم الذي دسته إمرأة ثاكلة فجعت في زوجها و أخيها أمام عينيها فأقدمت على قتل الرسول فمات صاحبه بشر بن البراء في الحال و ظل السم ينخر في جسد الرسول حتى مات بسببه بعد عامين .
و الغريب أن كل هذه الدماء و القتلى و الرؤوس المحزوزة تملأ جنبات التاريخ الإسلامي إلا أن أحدا ً لم يتوقف لتفسير ذلك و خصوصا ً أن القتل و الغدر و الغيلة نشبت بين أتباع رسالة دينية سماوية طرأت على تاريخ و جغرافية الشرق الأدنى في القرن السابع الميلادي و انتشرت في مستعمرات الإمبراطوريات القديمة المنهارة و خصوصا ً الرومان و الفرس .
و قد تكون عقيدة المؤرخين أجبرتهم على مثل هذا التناول للأحداث , فعندما يقتتل الرسول و صحابته مع أهل الطائف أو مكة و ما حولهما من القبائل يكون الحق المطلق في مواجهة الباطل المطلق و تجد تعليقات وافرة و تعقيبات فياضة بشأن جيش المؤمنين أو جيش الكفار و المشركين ؛ و لكن عندما يقتتل الصحابة و أبناؤهم مع بعضهم البعض فرادى أو جماعات ، و عندما تدور الفتن و المؤامرات و الغدر فيما بينهم لا تجد و صفا ً صريحا ً أو تعليقا ً واضحا ً و ربما تعمدوا إخفاء بعض الجوانب بالسكوت التام دونما تعليق ، فلم يحدثنا و لا واحد منهم عن السبب وراء قرار كبار الصحابة بدفن الرسول في غرفة نومه ببيت السيدة عائشة , و لم يقل أحد منهم كذلك لماذا قرروا دفن صاحبيه أبي بكر و عمر معه في نفس الغرفة بينما أوصت صاحبة الغرفة ابن أختها عبدالله بن الزبير قبل موتها بألا تدفن في هذه الغرفة ؛ بل في مقابر البقيع !!
لماذا هذا الاتفاق التام على الصمت !؟ فهل كان من طبيعة العرب و عاداتهم أن يدفنوا موتاهم في مكان نومهم و إقامتهم و معيشتهم أم أن في الأمر شيئا ً لا يريدون البوح به تصريحا ً أو حتى تلميحا ً !؟ و إن كانت لدى العرب سابقة في دفن الموتى بهذه الطريقة فما هي و ما ظروفها و ملابساتها !؟
و أمثال ذلك كثير في كتب مؤرخي تلك العصور , و منه لماذا دائما ً كانت ترسل الرؤوس المقطوعة مع رجال من قبائل الأزد غالبا ً !! هل تم ذلك بالصدفة أم أن في الأمر شيئا ً !؟ و لماذا كل هذه الرغبة العارمة في التدمير و القتل لدى المختار بن أبي عبيد و الحجاج بن يوسف الثقفيين !؟ والكثير الكثير من مثل هذه التساؤلات التي تسلتزم للإجابة عليها الدراسة الدقيقة لحياة العرب و مجتمعهم و عاداتهم و شرائعهم و قبائلهم و أسباب تناحرهم و أسباب فخرهم و عزهم و ذلهم و ما إلى ذلك من دقائق حياتهم ثقافيا ً و دينيا ً و اجتماعيا ً و عسكريا ً , نعم ينبغي كل ذلك حتى نفهم تاريخهم و نقف على دوافعهم و بواعثهم قديما ً و حديثا ً .
كل ذلك ينبغي القيام به حتى نفهم السر وراء كل هذه الدماء المراقة و تلك الرؤوس المحزوزة التي تجوب عواصم البلاد الإسلامية و يتفجر صداها في جنبات التاريخ عبر العصور.
الفصل الثاني
سنابك البدو في بطن مصر
المروجون لتسامح الإسلام في قرونه الأولى لايكفون عن محاولاتهم لتمرير مسألة الغزو العربي للبلاد التي كانت خاضعة لحكم الرومان و الفرس و ذلك تحت دعاوي التسامح و المودة وطبائع الأمور في وقائع الأزمان مما يحدث في تاريخ الناس عموما ً و التي تنطبق على وقائع الغزو العربي لمصر .

و يزعم كثيرٌ من الباحثين أن الرسائل المتبادلة بين أهل البلاد التي فتحها المسلمون في القرون الأولى التي تلت الفتح العربي الإسلامي ترينا أن إيقاع الحياة اليومية و تفاعلات الوقائع الصغيرة الفعلية كانت تختلف عما يتوهمه بعضنا اليوم من ويلات لقيها أصحاب البلد على يد البدو الغزاة .

و المتتبع لمراجع التاريخ و سير المؤرخين الأوائل يرى شيئاً مختلفاً , فهذا أبو الحسن بن يحيى بن جابر بن داوود البغدادي المعروف بالبلاذري و الذي يعد من أوائل المؤرخين حيث عاش في القرنين الثاني و الثالث للهجرة يقول في كتابه فتوح البلدان نقلا ً عن عمرو الناقد عن عبدالله بن وهب المصري عن الليث بن يزيد بن أبي حبيب " و كانت قرى من مصر قاتلت فسبى منهم و القرى بلهيب و الخيس و سلطيس فوقع سباؤهم في المدينة " ومعنى ذلك أن الذين رفضوا التسليم و الاستسلام قتلهم الغزاة و استحلوا نساءهم سبايا و أطفالهم عبيدا ً و أرسلوهم إلى عمر بن الخطاب في مدينة الرسول التي كانت يثرب اليهود و الأزد قبل الهجرة و يضيف البلاذري في رواية أخرى عن القاسم بن سلام عن عبدالغفار الحراني عن ابن لهيعة عن إبراهيم بن محمد عن أيوب بن أبي العالية عن أبيه قال : سمعت عمرو بن العاص يقول على المنبر : " لقد قعدت مقعدي هذا و ما لأحد من قبط مصر علي َّ عهد و لا عقد , إن شئت قتلت و إن شئت خمّست " أخذت الخمس " و إن شئت بعت إلا أهل أنطابلس " برقة " - و يبدو أنها كانت تحت النفوذ المصري في ذلك الوقت - فإن لهم عهدا ً يوفى لهم به " و هي نفس الرواية التي أوردها ابن كثير عن ابن اسحق و سيف في فتح مصر . 

و يروي ابن كثير في صفة فتح مصر عن ابن اسحق أن " أبو مريم و أبو مريام الأسقف كلّما عمرو بن العاص في السبايا التي أصيبت بعد المعركة فأبى عمرو أن يردها و أمر بطردهما و إخراجهما من بين يديه ... " 

و السياقات التاريخية التي أثبتها المؤرخون و كتّاب السيرة كثيرة و متفقة على أن قتالا ً وقع بين المصريين – القبط - و بين العرب و كذلك بين الروم في الإسكندرية و بين العرب و كذلك بين المصريين في النوبة و بين العرب و كل المراجع التي أوردتها و منها تاريخ ابن جرير الطبري و الكامل لابن الأثير و المغازي للواقدي كلها و غيرها تؤكد ذلك , إلا أن المقام هنا لا يسمح ، و لمن أراد الاستزاده عليه الرجوع لتلك المصادر و غيرها من أمهات كتب السير و التاريخ .

فالدارس لتاريخ الفتح العربي لمصر لا بد و أن يدرك أن المقصود بمصر في ذلك الوقت حسب مفهوم الفاتحين هو حصن بابليون في أليونة " منطقة قريبة من الروضة المعروفة اليوم " و تلك فتحها عمرو بن العاص بمعاونة الزبير بن العوام ومعهما خمسة عشر ألفا ً و خمسمائة من المقاتلين العرب " ثلاثة آلاف دخلوا مع عمرو بن العاص بالإضافة إلى إمداد أرسله عمر بن الخطاب بقيادة الزبير بن العوام قوامه اثنا عشر ألفا ً حسب رواية البلاذري عن ابن أبي حبيب " أن عمرو بن العاص دخل مصر في ثلاثة آلاف و خمسمائة و كان عمر قد أشفق من ذلك فأرسل الزبير بن العوام في اثنى عشر ألفا ً فشهد معه فتح مصر "

و بعد ذلك حسب نفس الرواية .. أن عمرو بن العاص لما فتح أليونة و جه عبدالله بن حذافة السهمي إلى عين شمس فغلب على أرضها و صالح أهل قراها على مثل حكم الفسطاط ، ووجه خارجة بن حذافة العدوي إلى الفيوم و الأشمونين و أخميم و البشر و وادات و قرى الصعيد ففعل مثل ذلك , و وجه عمير بن وهب الجمحي إلى تنيس و دمياط و تونة و دميرة و شطا و دقهلة و بناوبوصير ففعل مثل ذلك , و وجه عقبة بن عامر الجهني إلى سائر قرى أسفل الأرض " الدلتا " ففعل مثل ذلك , فاستجمع عمرو بن العاص فتح مصر فصارت أرضها أرض خراج " و كل ذلك فيما عدا الإسكندرية و النوبة و أنطابلس " برقة " هو المقصود بمصر لدى الفاتحين العرب و رواة سير الفتح .

و بعد ذلك بعام تقريبا ً استخلف عمرو بن العاص على مصر قائده خارجة بن حذافة العدوي و سار إلى فتح الإسكندرية التي كانت مركزا ً للرومان و جنودهم يديرون من خلالها شؤون الاستعمار في الأراضي المصرية , و خرج الروم و القبط " فلقيهم بالكريون - منطقة قرب الإسكندرية – فهزمهم و قتل منهم مقتلة عظيمة و كان فيهم من أهل سخا و بلهيب و الخيس و سلطيس و غيرهم قوم رفدوهم و أعانوهم , ثم سار عمرو حتى انتهى إلى الإسكندرية فوجد أهلها معدين لقتاله فأرسل إليه المقوقس(قيرس) يسأله الصلح و المهادنة إلى مدة فأبى عمرو بن العاص ذلك فأمر المقوقس النساء أن يقمن على سور المدينة مقبلات و جوههن إلى داخله و قام الرجال في السلاح مقبلين بوجههم إلى المسلمين ليرهبهم بذلك , فأرسل إليه عمرو أنه قد رأينا ما صنعت و ما بالكثرة غلبنا من غلبنا فقد لقينا هرقل ملككم فكان من أمره ما كان , فقال المقوقس لأصحابه : قد صدق هؤلاء القوم أخرجوا ملكنا من مملكته حتى أدخلوه القسطنطينية فنحن أولى بالإذعان فأغلظوا له القول و أبوا إلا المحاربة فقاتلهم المسلمون قتالا ً شديدا ً و حصروهم ثلاثة أشهر , ثم أن عمرا ً فتحها بالسيف و غنم ما فيها و هذا هو الفتح الأول للإسكندرية .

و نواصل الرواية من وقائع فتوح البلدان للبلاذري حيث يقول إن عمرو بن العاص استخلف على الإسكندرية عبدالله بن حذافة السهمي في رابطة(كتيبة ثابتة مقيمة) من المسلمين و انصرف إلى الفسطاط و كتب الروم إلى قسطنطين بن هرقل و هو كان الملك يومئذ ٍ يخبرونه بقلة من عندهم من المسلمين و بما هم فيه من الذلة و أداء الجزية فبعث رجلا ً من أصحابه يقال له منويل في ثلثمائة مركب مشحونة بالمقاتلة فدخل الإسكندرية و قتل من بها من روابط المسلمين إلا من لطف للهرب فنجا و ذلك في سنة خمسة و عشرين للهجرة – و ليس كما يقول بعض المروجين لسماعة الغزو والفتوحات ـــ أن قتلى المسلمين كانوا و احدا ً وعشرين رجلا ً مثل عدد من يلقون حتفهم في حادث ميكروباص . 

و بلغ عمروا ً الخبر فسار إليهم في خمسة عشر ألفا ً فوجد مقاتلتهم قد خرجوا يعيثون فيما يلي الإسكندرية من قرى مصر فلقيهم المسلمون فرشقوهم بالنشاب ساعة و المسلمون متترسون ثم صدقوهم الحملة فالتحمت بينهم الحرب فاقتتلوا قتالا ً شديدا ً ثم إن أولئك " الكفرة " ولووا منهزمين فلم يكن لهم ناهية و لا عرجة دون الإسكندرية فتحصنوا بها ونصبوا العرادات فقاتلهم عمرو عليها اشد قتال ونصب المجانيق فأخذت جدرها ، وألح حتي دخلها بالسيف عنوة فقتل المقاتلة و سبى الذرية وهرب بعض رومها إلى الروم وقتل عدو الله منويل وهدم عمرو والمسلمون جدار الاسكندرية0

وكل من شاهد فتح مصر حسب سير الرواة والمؤرخين يدرك أن مصر لم تفتح مرة واحدة وان السيطرة عليها من قبل العرب الغزاة استغرق حوالي أربع سنوات كما يدرك أن مصر كانت مستعمرة رومانية قبل الغزو العربي بأكثر من سبعة قرون و أنها كانت ترسل ما يشبه الخراج إلى روما عن طريق الإسكندرية كل عام . 

و اللافت للنظر أن من سماه العرب بالمقوقس كان بطريركا ً لكنيسة الإسكندرية و التي كانت واحدةً من أربع كنائس تؤسس للإيمان المسيحي في العالم و أن هذا المقوقس لم يكن مصريا ً و كان اسمه قيرس و تم انتدابه بمعرفة الرومان من كنيسة أفسوس في بلاد الأكراد و تم تعيينه في الإسكندرية بدلا ً من كاهنها بنيامين الذي تم عزله , و أن هذا المقوقس لم يكن يرغب في قتال العرب و أنه كان يفضل الاستسلام و الاتفاق معهم بدلا من القتال و ذلك ضد مشيئة الإمبراطور الروماني قسطنطين الذي أرسل جيشا ً و استرد الإسكندرية من جيش العرب .. و أن المقوقس كان على علاقة وطيدة للغاية بقائد الغزو عمرو بن العاص و الدليل ما ينقله البلاذري عن يزيد بن أبي حبيب من أن المقوقس صالح عمرو بن العاص على أن يسير من الروم من أراد و يقر من أراد الإقامة من الروم على أمر سماه و أن يفرض على القبط – المصريين – دينارين فبلغ ذلك ملك الروم فتسخطه و بعث الجيوش فأغلقوا باب الإسكندرية و آذنوا عمرو بن العاص بالحرب و خرج إليه المقوقس فقال لعمرو : أسألك ثلاثا ً أن لا تبذل للروم مثل الذي بذلت لي فإنهم قد استغشوني و ألا تنقض بالقبط فإن النقض لم يأت من قبلهم و إن مت فمر بدفني في كنيسة بالإسكندرية ذكرها له , فقال عمرو : هذه أهونهن عليّ ... " 

و من البديهي أن لا يكون للمصريين في ذلك العهد جيش وطني و لا حكومة وطنية لأنهم و بلادهم واقعون تحت الاحتلال الروماني و أن الأمر بالنسبة لمعظمهم كان مجرد استبدال لمستعمر بآخر و أن خيرات بلادهم من أموال و محاصيل ستأخذ طريقها إلى مدينة الرسول في الشرق العربي بدلا ً من عاصمة الروم في الغرب المسيحي .

و من الملاحظ أن المصريين ارتضوا دفع الجزية و البقاء على دينهم ضمن البلاد التي غزاها العرب في الشرق بينما هرع الناس في فارس إلى الدين الجديد هروبا ً من الجزية و الخراج ثم تربصوا بالعرب و تحالفوا مع أحد جناحي قبيلة قريش – بني هاشم – و انقضوا على دولة العرب – الأمويين - و استبدلوا عاصمتها دمشق ببغداد التي كانت عاصمة الفرس القديمة بجوارها في " المدائن " قبل أقل من مئة وخمسين سنة و حاولوا استعادة دياناتهم القديمة من خلال صياغة مبادئ الإسلام بما يتفق و معتقداتهم السابقة على الفتح العربي لبلادهم . و ذلك يعني أن المصرين قد دفعوا ثمن تمسكهم بعقيدتهم حسب أقوال المؤرخين و منهم ابن اسحق و البلاذري " فوضعت الجزية على كل حالم و ألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة و قسطي زيت و قسطي عسل و قسطي خل رزقا ً للمسلمين تُجمع في دار الرزق و تقسم فيهم , و أحصى المسلمون الناس فألزم جميع أهل مصر لكل رجل منهم جبة صوف و برنسا ً أو عمامة و سراويل و خفين في كل عام أو عدل – مقابل – الجبة الصوف ثوبا ً قبطيا ً .

و من أعجب ما يدعيه المروجون لمسألة التسامح أن الرسائل المتبادلة في ذلك العصر تظهر كما ً كبيرا ً من المودة التي جمعت بين أشخاص كثيرين متنوعين .. فهذا عربي مسلم يستأجر بيتا ً من مصري مسيحي و كأنهم لم يقرؤوا في مراجع التاريخ كافة أقوال عمرو بن العاص و منها خطابه لجنوده " سيروا على بركة الله فمن ركز منكم رمحا ً في دار فهي له و لبني أبيه , فكان الرجل يدخل الدار فيركز رمحا ً في بعض بيوتها و يأتي الآخر فيركز رمحه كذلك فكانت الدار بين النفسين و الثلاثة فكانوا يسكنونها " .. و متى كان العربي يدفع ثمن شئ يستطيع اغتصابه و سلبه !!

و على الرغم من كل ما سلبه عمرو بن العاص من المصريين فإن عثمان بن عفان قد استقله و غمز في ذمته و ذلك حسب سياق يزيد بن أبي حبيب عندما قال : جبى عمرو خراج مصر و جزيتها ألفي ألف دينار – مليونين – و جباها عبدالله بن سعد بن أبي سرح أربعة آلاف ألف – أربعة ملايين – فقال عثمان لعمرو : إن اللقاح بمصر بعدك قد درث ألبانها فرد عليه عمرو : ذلك لأنكم أعجفتم أولادها .. 

اللقاح تعني البهائم الحلوب , درث ألبانها بمعنى زاد حليبها , أعجفتم أولادها يعني منعتموها عن لبن أمهاتها قبل موعد الفطام .. و هذا يذكرني ببيت شوقي :

يا بنة اليم ما أبوك بخيل ماله مولع بمنع و حبـس
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس!؟

نعم حرام لبن الأمهات على أطفالهن ليعلو رصيد الخراج و الجزية !! وهذه هي الموادعة و المودة التي يتحدث عنها المروجون لسماحة الغزاة !!

وكان الأجدر بمن يزعمون هذه الموادعة والسماحة إلى التأمل و الإنصات إلى هذا الحوار الذي ساقه البلاذري عن أبو الحسن المدائني عن عبدالله بن المبارك قال : كان عمر بن الخطاب يكتب أموال عماله إذا ولاهم ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك و ربما أخذه منهم فكتب إلى عمرو بن العاص أنه قد فشت لك فاشية من متاع و رقيق و آنية و حيوان لم يكن حين و ليت مصر , فكتب إليه عمرو : إن أرضنا أرض مزدرع و متجر فنحن نصيب فضلا ً عما نحتاج إليه فكتب إليه : إني قد خبرت من عمال السوء ما كفى و كتابك إلى ّ كتاب من قد أقلقه الأخذ بالحق و قد سؤت بك ظنا ً و قد وجهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك فأطلعه طلعه و أخرج إليه ما يطالبك به و اعفه من الغلظة عليك ... و لما قاسمه محمد ماله قال عمرو : إن زمانا ً يعاملنا فيه ابن حنتمة هذه المعاملة لزمان سوء , لقد كان العاص يلبس الخز بكفاف الديباج فقال محمد : مه – اخرس – لولا زمان ابن حنتمة هذا الذي تكرهه ألفيت معتقلا ً عنزا ً بفناء بيتك يسرك غزرها و يسؤك بكاؤها , قال عمرو : أنشدك الله أن لا تخبر عمر بقولي فإن المجالس بالأمانة فقال : لا أذكر شيئا ًمما جرى بيننا و عمر حي .

و هل يعلم هؤلاء شيئا ً عن حق الارتباع ذلك الذي فرضه العرب المسلمون على فلاحي مصر إضافة إلى الجزية و الخراج و إن كان لا يعلم فالارتباع حق قرره العرب لأنفسهم بأن ترعى أغنامهم و إبلهم و خيلهم في حقول المصريين طوال فترة الربيع مجانا ً .. فكل قبيلة منهم تتخير أرضا ً على ضفاف النيل تستبيح مرعاها كل ربيع و ليسأل قرى أطفيح و الجيزة و غيرهما غرب النيل .

و فيما يخص منطقة النوبة في سياق الغزو العربي الإسلامي لمصر فيكفي أن نذكر ما دار بشأن معاهدة البقط , فهذا الاسم " المصطلح " و الذي يعني في اللغة متاع البيت أو الفِرقة من الناس قد مضى على صكه أكثر من ألف و ثلثمائة عام على الأقل حيث أورد البلاذري في فتوح البلدان في سياق أحداث جرت أيام الخليفة المهدي " و كان المهدي أمير المؤمنين أمر بإلزام النوبة كل سنة بثلاثمائة وستين رأسا ً و زرافة على أن يُعطوا قمحا ً و خل خمر و ثيابا ً و فرشا ً أو قيمته و قد ادعوا حديثا ً أنه ليس يجب عليهم البقط لكل سنة و إنهم كانوا طولبوا بذلك في خلافة المهدي و رفعو إليه أن هذا البقط مما يأخذون من رقيق أعدائهم ... " 

و علاقة العرب الغزاة بالنوبيين يلخصها أفضل ما يكون محمد بن سعد عن الواقدي عن ابراهيم بن جعفر عن عمرو بن الحارس عن أبي هاني المعافري عن شيخ من حمير حسب رواية البلاذري قال : شهدت النوبة مرتين في ولاية عمر بن الخطاب فلم أر قوما ً أحد َّ في حرب منهم لقد رأيت أحدهم يقول للمسلم : أين تحب أن أضع سهمي منك !؟ و ربما عبث الفتى منه فقال في مكان كذا فلا يخطئه , و كانوا يكثرون الرمي بالنبل فما يكاد يُرى من نبالهم في الأرض شيء , فخرجوا إلينا ذات يوم فصافونا و نحن نريد أن نجعلها حملة واحدة بالسيوف فما قدرنا على معالجتهم , رمونا حتى ذهبت الأعين فعدت مائة و خمسين عينا ً مفقودة , فقلنا : ما لها ولاءٌ خيرٌ من الصلح , إن سلبهم لقليل و إن نكايتهم لشديدة , فلم يصالحهم عمرو و لم يزل يكالبهم حتى نزع و ولي عبدالله بن سعد بن أبي السرح فصالحهم , قال الوافدي : و بالنوبة ذهبت عين معاوية بن حديج الكندي و كان أعور .. و يضيف البلاذري عن ابن أبي حبيب : ليس بيننا و بين الأساود " النوبيين " عهد و لا ميثاق إنما هي هدنة بيننا و بينهم على أن نعطيهم شيئا ً من قمح و عدس و يعطونا رقيقا ً فلا بأس بشراء رقيقهم منهم أو من غيرهم .

و من هذا السياق يتضح كيفية العلاقة شبه التجارية و التي يجيدها العرب حيث يأخذون المحاصيل نهبا ً خراجا ً من البلاد المستعمرة و يقايضونها بالعبيد مع النوبيين و هذا يدحض كل قول على أن الإسلام حرم تجارة العبيد فضلا ً عن اتضاح الأهداف الحقيقية للفتوحات الإسلامية حيث ارتضى العرب المسلمون أخذ الأموال و العبيد و المحاصيل و لا بأس أن يظل الناس على دينهم - دين الكفر و الشرك – حسب المنظور الإسلامي و يصدق فيهم قول أبي العلاء المعري :

المال يسكت عن حق و ينطق في بطل و تجمع إكراما ً له الشيـعُ
و جـزية القوم صدت عنهم فـغدت مساجد القوم مقرونا ً بها البيعُ

و عليه فقد ظلت مصر متمسكة بدينها و لغتها لأكثر من قرنين من الزمان مقابل دفع الأموال للغزاة الفاتحين الجدد , و لم تنقلب الأحوال إلا مع مجيء القرن الثالث الهجري في زمان الخليفة العباسي المأمون الذي جاء إلى مصر ليباشر القضاء على فتنة ابن العمري الذي ثار على العباسيين بتحريض من فلول الأمويين المدعومين بالقبائل العربية و بعد القضاء على هذه الثورة قرر الخليفة الذي تقول مصادر التاريخ أنه اصطحب معه إلى مصر في عام 217 للهجرة ترجمانا ً لينقل له الحوار مع المصريين .. قرر المأمون أن يشطب العرب من ديواني العطاء و الجند , و معنى ذلك أن الأموال و الرواتب التي كان يتحصل عليها العرب الأحفاد حسب قانون العطاء الذي أقره عمر بن الخطاب في الجابية قرب بيت المقدس في العام السادس عشر للهجرة قد ألغاه المأمون فترك العرب الحصون و الرباطات و مدن الجنود و زاحموا المصريين في العمل و التملك و المصاهرة و من هنا بدأ استعراب مصر , و تعرف المصريون على ديانة العرب عن قرب و بدأ التأثير و التواصل بين الثقافتين مما أنتج دينا ً و لغة ً فيها الكثير من شرائع المصريين و لغتهم في أمور الزواج و المعاملات و حتى في مسألة العقيدة و مركزية الأولياء و العارفين كواسطة بين السماء و الأرض.
الفصل الثالث
عقائد المصريين في مرمى البدو
حسب مفهوم بعض جماعات الإسلام تُعتبر الأضرحة التي تضم أو تشير إلى بعض رجال الله الصالحين، تعتبر من رموز الشرك بالله وإضعاف العقيدة الإسلامية ، وأن احترام هؤلاء الأولياء والتقرب من خلالهم إلى الإله الواحد الذي عرشه في السماء من قبيل الشرك الصريح وفساد المعتقد، وعليه يقوم هؤلاء – وكلما سنحت لهم الفرصة - بهدم هذه الأضرحة باعتباره عملاً جهادياً من أعمال التوحيد وتصحيح العقيدة الفاسدة والعودة بالإسلام إلى منابعه التوحيدية الخالصة ،كل ذلك حسب مزاعمهم ومفاهيمهم الخاصة لرسالة الإسلام.
ألا يعلم هؤلاء أن هذه الأضرحة التي يهدمونها كانت قائمة بمصر قبل بعثة النبي إبراهيم ونسله النبوي المقدس ، وإن إبراهيم نفسه عندما جاء إلى مصر ومن بعده حفيده يعقوب وأبناؤه الأسباط وصولاً إلى موسى ثم عيسى وأمه مريم ومن بعيده تلميذه مرقص في القرن الأول الميلادي، كل هؤلاء عندما أتوا إلى مصر كانت بها أضرحة لأولياء الله الصالحين من أتباع الديانة المصرية القديمة، وعليهم أن يعودوا إلى مصر ومعالمها الأثرية وخصوصاً الجبَّانات ومعابد إيزيس المقدسة بامتداد وادي النيل عبر أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل ميلاد المسيح الذي أتى من نسل إبراهيم النبي.

وعندما جاءت المسيحية فارضة نفسها بالقوة في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي وجدت الأضرحة ومعابد إيزيس، وعندما جاءت جيوش الإسلام بقيادة عمرو بن العاص كانت هناك الأضرحة موجودة، وقد أضيف إليها المزيد لقديسين مسيحيين، وما النزعة المصرية لإقامة الأديرة (التي هي إنجازمصري خالص ومنها انتقل إلي بقية أصقاع المسيحية)إلا استجابة لروح التصوف المصري الذي اعترض على نشر المسيحية بقوة السيف الروماني في القرن الثالث الميلادي.

وبعد قرون من استيطان العرب المسلمين لأرض مصر قامت أضرحة جديدة لأولياء الله من المسلمين في كل أنحاء مصر من سيدي براني في أقصى الغرب وحتى سانت كاترين في أقصى الشرق، ومن سيدي أبي الحسن الشاذلي في أقصى الجنوب وحتى سيدي المرسي أبي العباس في أقصى الشمال، وكل ذلك قد تم وفقاً للخضوع الطبيعي لسلطة المكان والشعب الذي يختار دينه ويحترم تعاليمه وأخلاقياته عبر العصور، وما زالت الأضرحة تُشاد عبر الحقب وحتى القرن الحادي والعشرين في أرجاء المعمور المصري وفقاً لمشيئة التدين المصري.

ذلك لأن التدين في مصر هو جوهر الهوية، والشخصية المصرية يقوم أساسها وعمودها الرئيسي على الدين الذي اكتشفه الشعب عبر آلاف الحقب، فكيف لا يصغي مثل هؤلاء النفر المتسرعين والمتسلحين بروح البدو والصحراء ممن يطلقون على أنفسهم لقب " السلف" .. كيف يجرؤون على تدنيس المعتقد وفرض روح الله حسب مفهومهم بالقوة والبطش والهدم والصدام ؟ والأولى لهم أن يتعلموا ويصغوا إلى روح المكان وأشواقه الحقيقية في التدين ومعرفة الله الحق.

لقد بدأ الإسلام في جزيرة العرب وشاد الكثير من تشريعاته وعباداته على عادات وأعراف كانت للبدو قبل مجيء النبي محمد، ومنها شعيرة الحج ذاتها وما تتضمنه من طواف حول حجر أسود في جدار ضمن غرفة مصمتة اسمها الكعبة، أليس ذلك من وثنية العرب وقد أقرها الإسلام ؟!، وكلكم يعلم مكانة الحجر الأسود وتقبيله ومقولة عمر بن الخطاب في ذلك، أليس ذلك من الوثنية المحضة؟ فهل عندما جاء الوحي لنبي الإسلام بإقرار الطواف وتقبيل الحجر الأسود على شرائع بدو العرب ؛ هل كان الوحي تكريساً لوثنية العرب أم أنه الرمز ومسالكه ودروبه في الوصول إلى رب الأكوان ، وغير ذلك الكثير من تفاصيل ديانة الإسلام وما تحمله من أعراف وتقاليد بدو العرب في الزواج والطلاق والصلاة والصوم والجهاد وحتى تربية الأولاد ورعاية الدواب والمعاملات التجارية والملبس والمأكل والمشرب .
إن في مصر أضرحةُ ومزارات للعارفين والكهنة في عصرها القديم ، وفيها كذلك أضرحة ومزارات للعارفين من رجال المسيحية واليهودية والإسلام وكل ذلك في عباءة التدين المصري الذي نرى تجلياته وتجسيداته في تبني اللقطاء (ومنهم نبي الله موسى الذي كان في نظر من انتشلوه من اليم مجرد لقيط) وعلاقات النسب والمصاهرة والمساهمة في تجهيز حياة الأزواج الجدد وكثرة الذهاب للحج والعمرة للقادرين من أهل مصر وتعاملهم مع مسألة الزكاة والصدقات والغنائم والخُمس والفيء وانصرافهم عن التثاقف والمعرفة في مثل هذه الأمور بينما نلمس شغفهم وحرصهم على متابعة سير الصالحين من الصحابة والعارفين بالله وأوليائه الصالحين، بل إن جموع الحاضرين والمشاركين في الليالي الكبرى لموالد أقطاب العارفين تفوق في أعدادها من يحتشدون في يوم الحج الأكبر على صعيد عرفات والمشاعر المقدسة في جزيرة العرب !!.

وقد كان الأجدر بمثل هؤلاء الذين يدَّعون السلفية أن يساهموا في علاج جراح الشعب الذي ظل مقموعاً ومهملاً تحت سنابك خيل الحكام قبل ان ينخرطوا في التنفيس عن ذواتهم ودولتهم الخاصة ، إنهم بسلوكياتهم هذه ينضمون إلى جلاديهم في مطاردة الشعب واستغلاله وتضخيم ذواتهم ومكاسبهم الخاصة كأفراد وجماعات على حساب الشعب الذي ألقت به المقادير في قبضة التعاسة والرجال المراوغين والطرق المتعرجة للوصول إلى الدولة المدنية.

أما آن لهم أن ينصتوا إلى روح المكان وصوت التاريخ ويقرؤوا سنن من كان قبلهم من المتشددين الذين ابتُليت بهم مصر عبر العصور ،فمنهم من حرَّم خروج النساء لسبع سنوات، ومنهم من حرَّم الجرجير والملوخية والترمس وهدَمَ المعابد والكنائس بدعوى التوحيد الخالص، ومنهم من قتل المتصوفة والزهاد ،كل هؤلاء بادوا وذهبوا إلى النسيان وبقيت سير الصالحين والعارفين من نقباء الشعب وما زالت كراماتهم وبركاتهم تنمو وسط هذا الشعب المتدين والمخلص في إيمانه العميق بخالق الحياة والموت وراحم العباد من بشر وعجم وحجر .


ملحق
النص الكامل لمحاضرة بنديكتوس السادس عشر عن العلاقة بين العقل والعنف في الإسلام
ألقى بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر محاضرة في جامعة ريجينسبورغ بولاية بافاريا الألمانية الثلاثاء 12-9-2006 كان عنوانها: "الإيمان والعقل والجامعة ذكريات وانعكاسات"، ودار مضمونها حول الخلاف التاريخي والفلسفي بين الإسلام والمسيحية في العلاقة التي يقيمها كل منهما بين الإيمان والعقل· بدأ البابا المحاضرة باجترار للذكريات التي عايشها أثناء مرحلة الدراسة والعمل بالجامعات الألمانية ومن بينها جامعة ريجنزبورج، مشيرا إلى أن هذه الجامعة كانت وما زالت فخورة بكليتي اللاهوت التابعتين لها، لما لهما من دور في تعميق مفهوم الإيمان، وكيف أن جميع من في الجامعة من أساتذة وطلاب كانوا يلتقون للحوار على اختلاف التوجهات والآراء· وقال: "هذا التماسك الداخلي للإيمان داخل هذا الكون لم يتأثر عندما قال أحد الزملاء بجامعتنا إنه من المثير للدهشة أن هناك كليتين تنشغلان بأمر غير موجود في الواقع، ألا وهو الرب"· ثم انتقل للحديث عن العلاقة بين العقل والعنف في الديانة الإسلامية والخلاف في هذا الصدد بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، واستشهد بهذه المناسبة بكتاب يفترض أنه للإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني (1350-1425) وفي هذا الكتاب الذي يحمل عنوان "حوارات مع مسلم المناظرة السابعة"، وقدمه ونشره في الستينيات عالم اللاهوت الألماني اللبناني الأصل تيودور خوري من جامعة مونستر، يعرض الإمبراطور الحوار الذي أجراه بين 1394 و1402 على الأرجح مع علامة فارسي مسلم مفترض· وفي ما يلي ترجمة عربية من "إسلام أون لاين·نت" للنص الكامل لحديث البابا خلال المحاضرة عن هذا المحور (العلاقة بين العقل والعنف في الإسلام والمسيحية) نقلا عن موقع الفاتيكان الإلكتروني باللغة الألمانية: "تداعت هذه الذكريات إلى ذهني عندما قرأت منذ فترة وجيزة جزءا من حوار نشره البروفيسير تيودور خوري، من جامعة مونستر، جرى بين الإمبراطور البيزنطي العالم مانويل الثاني ومثقف فارسي حول المسيحية والإسلام وحقيقة كل منهما خلال إقامته بالمعسكر الشتوي بالقرب من أنقره عام 1391"· - "يبدو أن هذا الإمبراطور قد سجل هذا الحوار إبان حصار القسطنطينية بين عامي 1394 و1402، ويدل على ذلك أن مناظرته كانت أكثر توسعا من مناظرة محاوره الفارسي"· - "الحوار تناول كل ما يتعلق بشرح بنيان العقيدة حسبما ورد بالكتاب المقدس والقرآن، وركز الحوار بصفة خاصة على صورة الرب وصورة الإنسان، أو على العلاقة بين ما نسميه الشرائع الثلاثة أو نظم الحياة الثلاثة، ألا وهي العهد القديم والعهد الجديد والقرآن"· - "في هذه المحاضرة لا أريد أن أناقش هذه القضية، ولكن أريد التطرق لنقطة واحدة فقط هامشية نسبيا وشغلتني في كل هذا الحوار وتتعلق بموضوع الإيمان والعقل، وهذه النقطة تمثل نقطة الانطلاق لتأملاتي حول هذا الموضوع"· - "ففي جولة الحوار السابعة كما أوردها البروفيسير خوري تناول الإمبراطور موضوع الجهاد، أي الحرب المقدسة· من المؤكد أن الإمبراطور كان على علم بأن الآية 256 من السورة الثانية بالقرآن (سورة البقرة) تقول: لا إكراه في الدين·· إنها من أوائل السور، كما يقول لنا العارفون، وتعود للحقبة التي لم يكن لمحمد فيها سلطة ويخضع لتهديدات· ولكن الإمبراطور من المؤكد أيضا أنه كان على دراية بما ورد، في مرحلة لاحقة، في القرآن حول الحرب المقدسة"· - "وبدون أن يتوقف عن التفاصيل، مثل الفرق في معاملة (الإسلام) للمؤمنين وأهل الكتاب والكفار، طرح الإمبراطور على نحو مفاجئ على محاروه (···) السؤال المركزي بالنسبة لنا عن العلاقة بين الدين والعنف بصورة عامة· فقال: أرني شيئا جديدا أتى به محمد، فلن تجد إلا ما هو شرير ولا إنساني، مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف"· "الإمبراطور يفسر بعد ذلك بالتفصيل لماذا يعتبر نشر الدين عن طريق العنف أمرا منافيا للعقل· فعنف كهذا يتعارض مع طبيعة الله وطبيعة الروح· فالرب لا يحب الدم والعمل بشكل غير عقلاني مخالف لطبيعة الله، والإيمان هو ثمرة الروح وليس الجسد؛ لذا من يريد حمل أحد على الإيمان يجب أن يكون قادرا على التحدث بشكل جيد والتفكير بشكل سليم وليس على العنف والتهديد·· لإقناع روح عاقلة لا نحتاج إلى ذراع أو سلاح ولا أي وسيلة يمكن أن تهدد أحدا بالقتل"· - "الجملة الفاصلة في هذه المحاججة ضد نشر الدين بالعنف هي: العمل بشكل مناف للعقل مناف لطبيعة الرب، وقد علق المحرر تيودور خوري على هذه الجملة بالقول: بالنسبة للإمبراطور وهو بيزنطي تعلم من الفلسفة الإغريقية، هذه المقولة واضحة· في المقابل، بالنسبة للعقيدة الإسلامية، الرب ليست مشيئته مطلقة وإرادته ليست مرتبطة بأي من مقولاتنا ولا حتى بالعقل"· "ويستشهد (تيودور) خوري في هذا الشأن بكتاب للعالم الفرنسي المتخصص في الدراسات الإسلامية (روجيه) ارنالديز (توفي في إبريل الماضي) الذي قال إن ابن حزم (الفقيه الذي عاش في القرنين العاشر والحادي عشر) ذهب في تفسيره إلى حد القول إن الله ليس لزاما عليه أن يتمسك حتى بكلمته، ولا شيء يلزمه على أن يطلعنا على الحقيقة· ويمكن للإنسان إذا رغب أن يعبد الأوثان"· - "من هذه النقطة يكون الطريق الفاصل بين فهم طبيعة الله وبين التحقيق المتعمق للدين الذي يتحدانا اليوم· فهل من الفكر اليوناني فقط أن نعتقد أنه أمر مناف للعقل مخالفة طبيعة الله أم أن هذا أمر مفهوم من تلقائه وبصورة دائمة؟ أعتقد أنه، من هذه الوجهة، هناك تناغم عميق ملحوظ بين ما هو إغريقي وبين ما ورد في الكتاب المقدس من تأسيس للإيمان بالرب· أول آية في سفر التكوين، وهي أول آية في الكتاب المقدس ككل استخدمها يوحنا في بداية إنجيله قائلا: في البدء كانت الكلمة· هذه هي الكلمة التي كان الإمبراطور يحتاجها: الرب يتحاور بالكلمة، والكلمة هي عقل وكلمة في نفس الوقت· العقل القابل للخلق ويمكن تناقله، شريطة أن يظل رشدا· يوحنا أهدانا بذلك الكلمة الخاتمة لمفهوم الرب في الكتاب المقدس· ففي البدء كانت الكلمة والكلمة هي الرب· الالتقاء بين الرسالة التي نقلها الكتاب المقدس وبين الفكر الإغريقي لم يكن وليد صدفة· فرؤيا بولس المقدس (···) الذي نظر في وجه مقدونياً وسمعه يدعوه: تعال وساعدنا - هذه الرؤية يجب أن تفسر على أنها تكثيف للتلاقي بين العقيدة التي يشتمل عليها الكتاب المقدس وبين السؤال اليوناني"· - "اليوم نعرف أن الترجمة اليونانية للعهد القديم بالإسكندرية (المعروفة باسم السبتواجنتا) أي الترجمة السبعينية، لم تكن مجرد ترجمة للنص العبري فقط بل إنها خطوة هامة في تاريخ الوحي الإلهي، التي أدت إلى انتشار المسيحية"· - "كان هناك تلاق بين الإيمان والعقل، بين التنوير الحقيقي والدين· مانويل الثاني كان يمكنه القول، من خلال الإحساس بطبيعة الإيمان المسيحي، وفي الوقت نفسه بطبيعة الفكر اليوناني الذي اختلط بالعقيدة وامتزج بها، من لا يتحاور بالكلمة فإنه يعارض طبيعة الرب"· - "هنا يمكن ملاحظة أنه في نهايات العصر الوسيط ظهرت اتجاهات في التفسير الديني تجاوزت التركيبة اليونانية والمسيحية· فتميزت مواقف تقترب مما قاله ابن حزم وتتأسس على صورة تعسف الرب الذي لا يرتبط بحقيقة أو بخير· - "الاستعلاء، الذي هو الطبيعة المخالفة للرب، تجاوزت المدى لدرجة أن رشدنا وفهمنا للحقيقة والخير لم يعد المرآة الحقيقية للرب، وتظل إمكانياتها غير المحدودة مخفية وغير متاحة لنا إلى الأبد· في مقابل ذلك تمسك الاعتقاد الكنسي بحقيقة أنه يوجد بيننا وبين الرب وبين روح الخلق الأبدية وبين عقلنا تطابق· - "وختاماً فرغم كل السرور الذي نرى به الإمكانيات الجديدة التي أدخلها الإنسان، نرى أيضاً التهديدات التي تتنامى من هذه الإمكانيات· ويجب أن نسأل أنفسنا كيف يمكن أن نسيطر عليها· ولن يمكننا ذلك إلا إذا تلاقى العقل والإيمان بصورة جديدة· ومن خلال ذلك فقط يمكننا أن نكون مؤهلين لحوار حقيقي بين الحضارات والأديان الذي نحن في أمس الحاجة إليه"· "العقل الذي يكون فيه الجانب الرباني أصم والدين ينتمي إلى الثقافات الثانوية هو عقل غير صالح لحوار الحضارات· وقد قال مانويل الثاني إنه ليس من العقل أن ألا يكون التحاور بالكلمة؛ لأن ذلك سيكون معارضا لطبيعة الرب، قال ذلك من خلال منظوره لصورة الرب المسيحية، لمحاوره الفارسي·· بهذه الكلمات وبهذا البعد من العقل ندعو لحوار الحضارات



#عباس_منصور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأملات في الغريزة والتاريخ
- الحرف بين الأصل والتاريخ
- تأملات في الغريزة و التاريخ
- من مشاهد البعث و الحساب في العقيدة المصرية
- لصوص العالم يختبئون فى البحر الميت
- هل كان للناس دولة تطبق شريعة الإسلام ؟
- قلب الوجود
- ما ذا تعني المصرية ؟ ومن هم المصريون
- أسلمة الثورة المصرية . . وإحباط محاولات التغيير في المنطقة
- من كتاب الحب والحكمة
- هدم الأضرحة .. وعقائد البدو
- أما آن لهذه النخاسة أن تتوقف !؟
- نموذجان من الانتهازية وفقه النفط - شنوده والقرضاوي
- فقه النفط وفتاوى الضرورة
- جسد المظاهرة
- شجرة الحياة
- قراءة في -مثلث العشق- لشريف صالح
- أيّكم يغرس رمحاً في دارٍ فهي له !!
- ما كل هذه الدماء أيها العرب المسلمون ! ؟
- إنعام .. وكلب العائلة


المزيد.....




- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...
- اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع ...
- إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش ...
- مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار ...
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
- أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عباس منصور - مستقبل الأديان والفكر اللاهوتي