أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ميثم الجنابي - شخصيات الخوارج الكبرى(2)















المزيد.....

شخصيات الخوارج الكبرى(2)


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 6473 - 2020 / 1 / 26 - 12:39
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


مرداس بن جدير: مهمة الإخلاص الدائم


إن الشخصيات الكبرى مجهولة! وذلك لأن حياتها بسيطة شأن الحقيقة. وليس مصادفة ألا يبقي التاريخ الملموس عن مرداس بن جدير سوى معلومات وتقييم يمكن حصره بعبارات وجيزة وهي: مرداس بن جدير ويكنى بأبي بلال، وانه "كان عابدا مجتهدا عظيم القدر" . وتحتوي هذه العبارة المكثفة في أعماقها على عظمة القدر التاريخي في شخصيته، وعظم قدرته الفردية والحياتية التي جعلت عمران ابن حطان يرثيه في احد أجمل وأعمق الأبيات الشعرية الصادقة:
يا عيـن ابـكي لمـرداس ومصـرعه
يا رب مــرداس اجـعـلـي كــمـرداس
أنكرت بعـدك ما قد كنت اعرفه
فالناس بعدك يا مرداس ليس بالناس!
وهي صيحة من الأعماق يتناغم فيها صدق العبارة والتعبير، وإخلاص العقل والوجدان، وتأسي الروح والجسد، وسمو الأنا واعتزازها به. فعندما تتحول الشخصية إلى مثال أعلى، ويكف الناس بعده أن يكونوا بشرا، فان ذلك يعني ارتقاءها إلى مصاف القيمة المتسامية والمرجعية الروحية المجردة. وجسّد مرداس هذا الارتقاء في شخصنة القدر المجهول عبر رميه في ميدان المواجهة الحية باسم القيم الخالدة للحقيقة الإنسانية وحقوقها. وحالما تناثرت شخصيته، بعد الغدر به ومقتله عام 61 للهجرة، في فضاء الروح الباحث عن معنى يجعل من القعود والخروج (السلم والحرب) رحى الدورة الدائمة للانا في مواجهة ذاتها أولا وقبل كل شيء، فإنها أخذت ترجع إلى أصولها الأولى، وتتلاشى في القاع التاريخي للثقافة وضمير الأمة الأخلاقي. وليس مصادفة أن تعمل الفرق الإسلامية اللاحقة على إدراجه في شجرة أنسابها الأولى وأقطاب مرجعياتها وأصولها. وقد التقط هذه الظاهرة قبل قرون عديدة ابن أبي الحديد، عندما أشار إلى أن كثير من الفرق تنتحله لتقشفه وتصرمه وعبادته وصلابته. فالمعتزلة تنتحله وتقول انه خرج منكرا على جور السلطان داعيا إلى الحق، وانه من أهل العدل. وأما الشيعة فتنتحله وتزعم انه كتب إلى الحسين بن علي، على انه ليس من الخوارج وانه لا يدين بآرائهم، وانه على دين أبيه .
لقد وجد كل من تعتمل في أعماقه وحدة العدل والإحسان والحق والحقيقة والاستعداد للتضحية من اجلها قدرا يمكن إدراجه فيه بوصفه جزء من تاريخ متسام. ولا يعقل هذا التاريخ دون معاناة الأفراد المتسامية، التي تجعل من قدرهم الكبير في التاريخ جزء من مصير الروح المتسامي. وبالتالي تلاشي واضمحلال ملامح الحياة العادية من سيرتهم الشخصية. وهو سر المجهول فيهم، وذلك بأثر اختفائهم في وجود الثقافة بسبب جلائهم في صيرورتها وكينونتها. وقبل أن تبلغ الشخصية رونقها المتسامي، ينبغي أن تحترق في أتون التاريخ الفعلي. بمعنى أنها قبل أن تصل إلى هذه الحالة ينبغي لها أن تحترق في أتون الإخلاص للحق في مواجهة الرذيلة المتراكمة في مجرى بناء الدولة والأمة. وبما أن الخوارج كانوا القوة التي احترقت مكوناتها في مجرى بناء الدولة والأمة الإمبراطوريتين، من هنا يمكن توقع طبيعة وحجم المعاناة الملتهبة في أعماق رجالها. مما جعل من وجودهم وجدا متناثرا في فضاء التاريخ الحقيقي لصيرورة الثقافة العربية الإسلامية. وذلك لان كل احتكاك لرجالها بالواقع كان فعلا اقرب إلى مبرد الحديد الجديد في تعامله مع الأشياء الطرية. من هنا تناثره في فضاء الروح والجسد، وبالتالي إمكانية تغلغله في رئات القوى القادرة على التنفس من تاريخها الفعلي.
فقد كانت الخوارج تمثل طراوة الروح الفروسي العربي المتسامي في بداية تغلغله في ارض السواد. من هنا نموه السريع وإثارته المدهشة ومفارقاته الغريبة. لكنها في وحدتها كانت تتمثل مبدأ الإخلاص. من هنا نرى مرداس يجيب مرة على تطفل فتى كان ينظر إليه وهو على فرسه:
- إن فرسك حروري!
- يا فتى! إذا كنت في مجلس فأحسن حملان رأسك! .
بينما كان يرجع إلى السجن، بعد أن يخرجه السجان يوميا، رغم معرفته بأنه سيقتل. وعندما قيل له بذلك، أجاب "ما كنت لألقى الله غادرا". وما بينهما ترامت وتراكمت شخصيته وقدرها العظيم في الثقافة والتاريخ الإسلامي. فقد شهد معركة صفين مع الإمام علي هو وأخوه عروة. وافترقا عنه بعد التحكيم، وقاتلاه في النهروان، ونجا مع نفر قليل لكي يستقر في البصرة، بوصفها موطن العقل والوجدان العربي ومصدر القيم الإسلامية الثقافية ورؤيتها الكونية. وجسد كل منهما بطريقته الخاصة ما أسميته بتوأم الفروسية المتسامية. وليس مصادفة أن يقول مرة بعد أن واجه قوات الأموية في إحدى معاركه الكبرى معها عندما كان يواجه بقواته القليلة جيش يزيد بن معاوية بقيادة زرعة بن مسلم العامري في ألفي مقاتل. وكان زرعة يميل إلى رأي الخوارج، لكنه كان يفضل الخضوع للسلطة مقابل المال. فقد قال له زرعة قبل المعركة:
- يا أبا بلال! إني أعلم أنك على الحق ولكنا لو لم نقاتلك يحبس عبيد الله بن زياد عطاءنا عنا!
- ليتني فعلت كما أمرني به أخي عروة! فانه أمرني أن استعرض الناس بالسيف فاقتل كل من استقبلني!
وتحتوي هذه الإشارة بقدر واحد على اثر تقاليد العائلة الفروسية التي تعرضت أراء شخصياتها إلى اختلاف سياسي عقائدي كان يحز في أعماق مرداس بعد معارك النهروان واستمرارها اللاحق. مما أدى إلى تلازم ثلاث مكونات في شخصيته بلورت مواقفه من الخروج (التمرد والانتفاضة) والقعود (السلم والموادعة) والاستعراض(امتحان واختبار مواقف المخالفين والحكم بما يناسبها).
فقد عرضته معركة النهروان ونتائجها المأساوية إلى هزة روحية، شأن كل أولئك الذين كانت غايتهم نصرة الحق بين صفوف الإمام علي، بينما تحول معسكرهم إلى رماح وسيوف قاتلة لا تعرف الرحمة. وهي حادثة ما كان بإمكانها المرور دون أن تترك أثرا بليغا وعميقا في الذاكرة والوجدان. وذلك لما في هذه المعارك من اثر هائل بالنسبة لخلخلة القيم والشخصية، وقادرة في الوقت نفسه على صنع نقائض الرؤية والمواقف. والأخطر من ذلك مرافقتها للباطن والظاهر مدى الحياة ما لم يكسرها الموت وتبقي عليها الذاكرة في تقاليد حية أو تقليد متزمت.
وقد لازمت مرداس كل هذه المكونات التي وجدت مرحلة مخاضها الأولى في البصرة بعد رجوعه إليها من النهروان. فقد كانت الصعقة الأولى من هول الرؤية الإسلامية الورعة بمشاهدة القتلى بين الصحابة والتابعين، أي بين أولئك الذين شكلوا قوام الدعوة الإسلامية ومكونها الأخلاقي. أما نتيجتها الأولى فهي الانزواء النسبي في البصرة. لكنه انزواء الروح الأخلاقي والجسد الفردي لا الاجتماعي. وهي مظاهر أعطت للبعض أمكانية اتهامه بالقعود، أي الاستسلام للواقع والهوان من مواجهته كما هو. أما في الواقع فان "قعود" مرداس بن جدير لم يكن شيئا غير استراحة الروح الهائجة من اجل ارتقاءها إلى مصاف العقل الأخلاقي الفعال. وهي مرحلة الرجوع إلى النفس وتأمل ما فيها من خلال موشور التجربة الفردية والتاريخية للأمة. من هنا ليس "القعود" سوى الجلوس بين العقل والوجدان وتداول الحوار بينهما بالشكل الذي يجعل من الخروج والقعود كفتا الميزان السياسية للسانه الروحي - الأخلاقي. وقد أخذت ملامح هذه الحالة بالبروز في مجرى عقد الخمسينيات من القرن الهجري الأول، أي ذروة نشاطه السياسي والفكري.
فقد كانت مرحلة ما بعد النهروان زمن الدعاية السياسية لنشر الأفكار الجديدة. بحيث تحول جهاد مرداس إلى اجتهاد فكري مهمته نشر آراءه وأفكاره عبر الجدل والتدليل. بحيث نراه يعقد المجالس والمناظرات للتدليل بآرائه. واستطاع أن يكسب أعدادا من الناس بحيث استطاعوا لاحقا بناء مسجد خاص بهم. وقد دفه هذا الأسلوب فكرة الخروج إلى الباطن وأبقى عليها بوصفها إمكانية واحتمال تتوقف نوعيته على حدود التمادي أو الانكفاء في مواقف السلطة من الأمة والجماعة والأفراد. وتراكمت هذه الحدود فيما يمكن دعوته بمنظومة الاعتدال الفعلية لتيارات الخوارج التي ساهم مرداس في وضع عناصرها الأولية. من هنا دعوة أتباعه بالكف عن تجريد السلاح والقتال إلا إذا تعرضوا للعدوان . وقد أرست هذه المقدمة العقلية والأخلاقية أسس معارضة الاستعراض، مع ما ترتب عليه من إنكاره للغلو السياسي الذي ميز سلوك ومواقف وأفكار بعض الخوارج في مواقفهم من الأمة عموما والمخالفين خصوصا. بمعنى إنكار قتل المخالفين واستعراض الناس على طريقة الغلاة من الخوارج.
بعبارة أخرى، لقد تحول تراكم وتأمل التجربة الفردية والتاريخية للخوارج إلى بلورة أربع مبادئ كبرى عند مرداس بن جدير في موقفه من السلطة وهي: الخروج والقعود كل بشروطه ومسبباته، الدعوة المبدئية للخروج وقتال الفجار والظالمين، قتال من يقاتله، رفض فكرة الاستعراض . وحقق هذه المبادئ في مجرى حياته حتى مواجهته الأخيرة مع الأموية ومقتله غدرا عام 61. بعبارة أخرى، إن الكف عن التمرد لم يكن يعني بالنسبة له القعود عن قتال السلطة الجائرة، بقدر ما يعني مواجهتها بمختلف السبل بما في ذلك القتال حالما تتعدى حدود المعقول والمقبول. وتوصل مثقفو الخوارج الكبار إلى هذه القاعدة، وبالأخص جابر بن زيد وعبد الله بن أباض. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار المعطيات التي تشير إلى طبيعة تعلق مرداس بجابر بن زيد وعلاقته الخاصة به، فمن الممكن توقع المقدمات النظرية لتأسيس مواقفه السياسية. إذ تنقل لنا كتب الخوارج الموثقة، بان مرداس كان يلازم جابر بن زيد حتى قيل أنه ما كان يصبر على فراقه. بل تنقل عنه النادر التالية، وهي انه عادة ما كان يخرج من عند جابر بعد العشاء ويأتيه قبل صلاة الصبح فيقول له جابر:
- لقد شَقَقْتَ على نفسك!
- والله لقد طال ما همت نفسي بلقاك شوقا إليك حتى أتيتك.
بحيث أعطى ذلك للبعض منهم إمكانية القول، بان كل ما كان يفعله مرداس لم يكن بمعزل عما كان يفكر به جابر بن زيد، أو انه لم يفعل شيئا كبيرا إلا بمشورته. ومهما يكن من أمر هذه القضية، فان ما لا شك فيه هو تكامل شخصية مرداس الذاتية في مجرى الصراع العنيف والدامي والدرامي، وتبلور معالم قيمها ومبادئها وقواعد فعلها السياسي، التي جعلت من القعود والخروج كفتان يحكمها لسان الحق والحقيقة الناطق في أعماقه. وفي هذا يكمن سبب خروجه مرات عديدة على السلطة الأموية، لعل أكثرها شهرة هو خروجه الأول على زياد بن أبيه، ولاحقا على ابنه عبيد الله بن زياد. وقد كان هذا الخروج محكوما بنمو الفكرة السياسية والعقائدية القائمة في أن الخروج والقعود محكوم بأسباب ومقدمات تتوقف على ما أسميته بحدود التمادي أو الانكفاء في مواقف السلطة من الأمة والجماعة والأفراد. إذ ينقل لنا الدرجيني صيغة الحدث بالشكل التالي: أن مرداس بن جدير كان في المسجد الجامع فسمع زيادا يقول على المنبر: والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء والحاضر بالغائب والصحيح بالسقيم. فقام مرداس وقال: قد سمعنا ما قلت، وإنك تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي وما هكذا ذكر الله إذ يقول (ولا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى) . في حين يورد ابن أبي الحديد موقف وعبارة مرداس في معرض اعتراضه ورده على زياد بن أبيه بالشكل التالي: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان! وما هكذا قال الله إذ يقول (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
إننا نقف أمام اختلاف في الصيغة ووحدة في المضمون تعكس أولا وقبل كل شيء شخصية مرداس بن جدير ومبادئه السياسية العملية. فهو لم يقر لابن زياد بالولاية والإمارة وتمثيل الدولة والأمة، بل خاطبه بعبارة "انك" و"أيها الإنسان". لقد أراد القول، بأنك لست إلها. وإلهك يقول عكس ما تقول! ففي هذه الصيغة تتجسد وحدة المبدأ السياسي والأخلاقي العقائدي وجوهرية الحق والحقوق المجردة عن رغبات السلطة وإرادتها. وبالتالي، فان خروج السلطة عليها يفترض الخروج عليها. ووجد هذا الاستنباط المنطقي انعكاسه في منطق الرفض الخارجي وفكرة الخروج التي بلور مرداس بن جدير معالمها الأولية وطبقها بحذافيرها في مجرى صراعه ضد ولاة الأمويين، بدأ من زياد بن أبيه وانتهاء بابنه عبيد الله بن زياد.
فإذا كان زياد بن أبيه سليل التربية السياسية والدهاء الأموي، فان ابنه هو سليل تقاليد الإكراه والتجبر. مما جعل من ولايته زمن الاضطهاد والتنكيل والمطاردة والسجن والنفي والقتل للمعارضة أيا كان شكلها وحجمها ومستواها. فقد اتبع منذ أن تولى إمارة العراق سنة 55 سياسة القسوة والشدة والإرهاب بما في ذلك "قعدة" الخوارج. وجعل من قمع مخالفيه أسلوب وجود الإمارة. لهذا نراه يتتبع المعارضة بالتجسس ويلاحقهم بشرطته ويحبسهم بسجونه وقتلهم بقواته ومرتزقته. وقد اضطرت هذه الحالة بمرداس وأصحابه إلى ممارسة التخفي. فكانوا يعقدون اجتماعاتهم سرا للنظر في أمورهم. ومن الممكن العثور على مختلف مظاهر وأشكال وأساليب التخفي كما تنقلها لنا كتب التاريخ، بحيث كانوا يتلبسون بزي النساء أحيانا ويتجولون بهيئة الباعة أحيانا أخرى وما إلى ذلك من مظاهر وهيئات للتمويه. غير أن منظومة الاضطهاد الشاملة التي ميزت تقاليد الأموية في شخصية عبيد الله بن زياد اضطرت مرداس بن جدير في نهاية المطاف إلى فكرة الخروج الجسدي والروحي والسياسي. بمعنى الخروج من البصرة والتمرد على عبيد الله بن زياد والانتفاض ضد الأموية. ووضع هذا الحل في عبارة خاطب بها أصحابه تعكس مضمون مبادئه السياسية الكبرى، حيث نسمعه يخاطب إتباعه قبيل الخرج قائلا: "إنه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين تجري علينا أحكامهم مجانبين للفضل مفارقين للعدل. والله إن الصبر على هذا لعظيم! وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم! ولكننا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفا ولا نقاتل إلا من قاتلنا!". والنتيجة هي خروجه بأربعين رجلا من أتباعه حتى نزلوا بآسك (من نواحي الأهواز). حيث أعلن فيها، بأنه لن يرهبوا أحدا ولا يجردوا سيفا ولا يقاتلوا إلا من بدأهم بالقتال. وهو موقف أثار عبيد الله بن زياد لأنه وجد فيه خروجا من ربقة العبودية للسلطة بوصفها عبودية لله! فبعث بجيش مؤلف من ألفي رجل على رأسهم ابن حصن التميمي، فهزمهم مرداس وهو في أربعين رجلا! وفي ذلك يقول الشاعر:
أألفا مؤمن فيـما زعـــمتم ويقـتلهم بآسك اربعونا
كذبـتم ليـس كما زعمـتم ولكن الخوارج مؤمنونا
عندها بعث عبيد الله بن زياد من جديد للقتال ضد مرداس القائد عباد بن أخضر التميمي في أربعة آلاف. غير أن مرداس وقواته نزحوا بعيدا في أرض فارس. وعندما التقيا ناداه مرداس:
- اخرج يا عباد! فاني أريد أن أحاورك! وعندما خرج إليه، قال له: ما الذي تبغي؟
- أن آخذ بأقفيتكم فأردكم إلى الأمير عبيد الله بن زياد.
وحالما قال احد رجال الخوارج (حريث بن حجل): أيحاول أن يرد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد؟! أجاب عباد بن اخضر: أنتم أولى بالضلال منه. وما من ذاك من بد!
إننا نقف أمام حالة تتصف بقدر هائل من النموذجية فيما يتعلق بموقف الأموية من المعارضة، والمثقفين من السلطة. إذ جسدت هذه الحالة بطريقة مذهلة طبيعة القوى المتصارعة وقيمها. فقد حسمت المعركة العسكرية في نهاية المطاف لصالح الجسد الأموي، بينما فازت الخوارج وشخصية مرداس بكأس الروح الأبدي. إذ وضعت كل منها على طرفي معادلة ما زالت تقلق العقل والضمير بقدر واحد. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار مجرى المعركة وطابعها الدرامي وعنفها الباطني الذي كشف عنها بوصفها معركة بين فروسية وإخلاص وجبن وخديعة. إذ تنقل لنا كتب التاريخ كيف أن الخوارج طلبوا من الجيش الأموي الموادعة من اجل إقامة صلاة الجمعة، حيث ناداهم مرداس بن جدير:
- هذا وقت الصلاة فوادعونا حتى نصلي وتصلوا!
- لك ذلك!
وعندما رمى القوم أجمعون بأسلحتهم وعمدوا للصلاة، أسرع عباد بن أخضر وجيشه في قضاء الصلاة، بينما كان الخوارج يقيمونها كما تفترض عبادة الروح. لهذا "أبطئوا" ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد في الصلاة حتى هجم عليهم عباد بن اخضر بجيشه فقتلوهم جميعا! وأتى برأس أبي بلال مرداس بن جدير إلى عبيد الله بن زياد! ومن الممكن توقع حجم المواجهة الهائلة في هذه الحالة بين الفضيلة والرذيلة، والروح والجسد، بوصفها مضمون المعادلة التي حكمت تاريخ الخوارج وزمن الأموية في مجرى بناء الإمبراطورية. وقد يكون هذا هو السر الذي جعل عمران بن حطان يصرخ بدموع هادرة لا تطلب غير الاحتجاب عن "ناس" لم يعودا ناسا. بمعنى استغرابه معنى كلمات "الإنسان" و"الناس" عندما كان ينظر حوله بأثر الأحداث التي رافقت مقتل مرداس بن جدير. كما نراها في أبياته القائلة:
يا عـين ابـكي لمـرداس ومـصـرعه
يا رب مـــرداس اجـعـلني كــمرداس
أنكرت بعدك ما قد كنت اعـرفه
فالناس بعـدك يا مـرداس ليـس بالـناس
لكنها الحالة التي حالما تهدأ، ويأخذ الوجدان طريقه إلى النفس والإرادة، عندها يعود التحدي والإخلاص الأبدي من جديد ليصبح شعار الحياة والمعركة. من هنا نرى عمران بن حطان نفسه يقول:
لقد زاد الحياة إلي بغضا وحب للخروج أبو بلال
فقد حقق مرداس بن جدير معادلة كره حياة الذل وحب الحرية. إذ ليس الخروج في الواقع سوى الصيغة الأشد تطرفا للحرية، أي لحب الحياة. وهي صفة الروح المخلص، الذي حققه مرداس في حياته ومماته، شأن كل المثقفين الكبار. أما فردانيته المغرية فإنها تقوم في كونه احد الأقطاب التي تمثلت حركة الارتقاء الضرورية الأولية للثقافة وانتقالها من أفعال الجسد إلى حركات الروح. وهو انتقال لم يكن بالإمكان تأسيسه وتحقيقه إلا بالإخلاص التام للمبادئ والقيم المعلنة.



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شخصيات الخوارج الكبرى(1)
- حقيقة الخوارج وإرادة التحدي الإنساني(3)
- حقيقة الخوارج وإرادة التحدي الإنساني(2)
- حقيقة الخوارج وإرادة التحدي الإنساني(1)
- النبوة في تقاليد الإسلام والكلام(3)
- النبوة في تقاليد الإسلام والكلام(2)
- النبوة في تقاليد الإسلام والكلام(1)
- وحدة العقل والنقل في فلسفة الغزالي(2-2)
- وحدة العقل والنقل في فلسفة الغزالي
- صيرورة الاعتدال الفكري في الثقافة الفلسفية الإسلامية(3)
- صيرورة الاعتدال الفكري في الثقافة الفلسفية الإسلامية(2)
- صيرورة الاعتدال الفكري في الثقافة الفلسفية الإسلامية(1)
- البحث عن الروح الإنساني في الثقافة الإسلامية(2-2)
- البحث عن الروح الإنساني في الثقافة الإسلامية(1-2)
- العراق : من الاحتجاج إلى ثورة المستقبل
- تقييم النفس في الثقافة الإسلامية (2-2)
- تقييم النفس في الثقافة الإسلامية (1-2)
- أسرار العبادات الإسلامية عند الغزالي
- المعنى الروحي للعبادات الإسلامية عند الغزالي(1-2)
- التفسير والتأويل في فلسفة الغزالي(2-2)


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ميثم الجنابي - شخصيات الخوارج الكبرى(2)