عيبان محمد السامعي
الحوار المتمدن-العدد: 6468 - 2020 / 1 / 18 - 20:49
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من هو ابن خلدون؟
هو أبو زيد ولي الدين عبدالرحمن بن محمد بن خلدون, ولد بتونس في غرة رمضان سنة 732هـ (27 مايو 1332م), وتوفي بمصر في 25 رمضان 808هـ (18 مارس 1406م). يعود نسبه إلى أصل حضرمي, وبالتحديد ينتسب إلى قبيلة كندة الشهيرة وهو سليل لأميرها وائل بن حجر.
نشأ ابن خلدون في بيئة أسرية واجتماعية ارستقراطية, فقد تمتعت أسرته بمكانة اجتماعية مرموقة, وتميزت برسوخها في العلم وبصلاتها الوثيقة بالسياسة. وقد أثرت هذه البيئة على ابن خلدون وشكلت شخصيته, وقد ساعده هذا التكوين على تقلد المناصب الرسمية المهمة كدبلوماسي ووزير في بلاط الأمراء والسلاطين.
تعلم ابن خلدون مختلف العلوم الدينية والعقلية السائدة في عصره من تفسير وحديث وفقه ولغة وعلوم المنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضية. وهذا ما خلق لديه تراكم معرفي هائل ساعده في تأليف مؤلفاته, أبرزها على الإطلاق كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر", وهو كتاب في التاريخ يتألف من ثلاثة أجزاء, الجزء الأول فيه هو المقدمة, والتي اشتهرت بمقدمة ابن خلدون.
شخصية مثيرة للجدل:
شخصية ابن خلدون ليست شخصية عادية, فقد أثارت ولا تزال تثير جدلاً واسعاً بين الباحثين والمؤرخين والمفكرين حتى يومنا. هذا الجدل يظهر لدى فريقين منحىً غير موضوعي , فالفريق الأول عمد إلى أسطرته ورسم هالة من القداسة حوله, بل ومنحه ملكات وقدرات وألقاباً لم تكن متحققة في عصره, كالقول مثلاً بأنه مؤسس علم الاجتماع, وبأنه بالتالي مؤسس لمعظم فروع علم الاجتماع كما هي قائمة اليوم.
وأما الفريق الثاني فقد ذهب إلى الضد من ذلك, أي إلى التقليل من ابن خلدون وقيمة ما أنتجه من فكر ومن مؤلفات, بل ونصبوا له محكمة, وشرعوا في إصدار أحكام في حقه دون تسويغ موضوعي.
ولعل أكثر تهمة رائجة اتهم بها ابن خلدون, تهمة الانتهازية, وسعيه وراء المناصب بأي وسيلة, وهذا ما أدى بالبعض لعقد مقارنة بينه وبين ميكافيللي كما فعل عبدالله العروي [1], مثلاً, أو محمد عبدالله عنان, الذي نجده يقول: " كان ابن خلدون ينطق في خططه وأعماله عن احتقار عميق للعاطفة, والأخلاق المرعية؛ وكان يسيّره مثل ذلك الروح القوي الذي أعجب به ميكافيللي فيما بعد, وتصوره في أميره الأمثل؛ ذلك الروح الجريء الثابت الذي يقتحم كل ضعف إنساني, ويحمل توّاً إلى الغاية المرغوبة بأي الوسائل والخطط." [2]
أما طه حسين فقد ذهب أبعد من ذلك, إذ أرجع سبب "انتهازية ابن خلدون", و"دسائسه" ــ على حد وصفه ــ إلى أصل عائلته المتحدرة من قبيلة كندة, المشهورة بمثل هكذا سجايا!! [3]
وكأن "السلوك الانتهازي" أو "صناعة الدسائس" ــ فيما إذا افترضنا صحة ذلك عن سلوك ابن خلدون ــ سمة لنسل من البشر, طُبعوا عليها منذ سلفهم الأقدم وظلوا يتوارثونها كحتمية بيولوجية خلال الأجيال المتعاقبة!
إن تفسير السلوك الإنساني بموشور البيولوجيا, إنما هو ترديد صدى لمنطق استشراقي, ثبت بالتجربة بأنه منطق معطوب وبعيد تماماً عن الموضوعية.
والموضوعية تفترض تفسير السلوك الإنساني استناداً إلى العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة, وهذا ما نجده عند د. محمد عابد الجابري.
يعطينا الجابري صورة شاملة عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي سادت فترة حياة ابن خلدون[4], فالقرن الثامن الهجري كان عصر أفول الحضارة العربية الإسلامية, وبات الانحطاط حقيقة عيانية يلمسها الخاصة والعامة.
فقد توالت كوارث عديدة على العالم الإسلامي: هجمات التتر شرقاً, تقلص حكم المسلمين في الأندلس غرباً, ضعف الأسر الحاكمة وتنافسها ودخول بعضها مع بعض في مؤامرات وحروب لا غاية ولا نهاية لها, الطاعون الجارف الذي خلّف الخراب والدمار, انتشار التفكير الخرافي, وسيطرة الجمود الفكري. كل ذلك خلق أوضاعاً مرتبكة تسودها الفوضى من كل ناحية ويعمّها الاضطراب من كل جانب.
كان هذا القرن ــ أي القرن الثامن الهجري ــ قرناً تفككت فيه جملة الوحدات السياسية الكبرى التي حملت مشعل الحضارة العربية الاسلامية في المغرب والمشرق. فالدولة العباسية أصبحت أثراً بعد عين, والامبراطورية الموحدية بدورها تلاشت واضمحلت, وهجمات البدو تزداد حدة وضغطاً على الأطراف, والحروب بين الدويلات والامارات لا تهدأ إلا لتشتد, والضغط المسيحي في الأندلس.
لقد كان مجتمع المغرب العربي آنذاك مجتمعاً قبلياً, عبارة عن مجموعات من القبائل المتحالفة حيناً, المتطاحنة حيناً آخر. وكانت القبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي قد تكبر, بالتحالف أو غيره, حتى تغطي منطقة بكاملها, وتصبح قوة عسكرية ــ سياسية يحسب لها حسابها.
لقد قُدِّر لابن خلدون أن يعيش في مثل هذا الواقع القلق والمضطرب وفي خضم هذه الأحداث والمؤامرات.
وهو واقع تغيرت فيه الكثير من المفاهيم والقيم, حتى أن مبدأ الولاء لهذا الحاكم أو ذاك كان بمثابة ضرورة وقتية فقط. من هذه الزاوية يجب أن ننظر ــ والحديث للجابري ــ إلى موقف ابن خلدون الذي لم يتردد كثير من الباحثين في وصفه بـ"الانتهازية" لكون ولائه لم يستقر لأحد الجوانب التي عمل معها. ذلك لأن الانتقال من تأييد هذا الحاكم إلى تأييد آخر, لم يكن يُنظر إليه على أنه انتهازية أو ما شابه ذلك من عبارات عصرنا, بل كان عملاً عادياً تقبله الظروف ولا ترفضه المفاهيم الأخلاقية السائدة. فكما أنه كان بوسع المسلم أن ينتقل من مكان إلى آخر في دار الإسلام بدون "جواز سفر", كذلك كان ولاؤه غير مقيد بالانتماء لوطن أو عرق. إن الولاء الوحيد المطلوب منه شرعاً هو الولاء للإسلام, ولخليفة المسلمين. وما دام هذا الخليفة ليس واحداً بعينه, فلا فرق بين أن يناصر المسلم هذا المُطالِب أو ذاك, ما دام أيّ منهما لم يثبت عملياً أنه وحده الخليفة المطلوب.
يبدو لي أن هذا التحليل الذي جاء به الجابري أقرب إلى الموضوعية, غير أنه ــ برأيي ــ ينقصه جزئية مهمة ليصبح أكثر اكتمالاً وشمولاً.
واقع الحال أن ابن خلدون يجسد في زاوية ما من زوايا تجربته الغنية والملفتة للنظر, محنة المثقف مع السلطة السياسية, فالمثقف يظل مهموماً بتحقيق ذاته المفكرة, منصرفاً إلى تحقيق إنجازات فكرية وتأليف الكتب والاغتراف من معين المعرفة, لكن الواقع وملابساته لا تساعده على ذلك, فتنتصب أمامه عدة معيقات ذاتية وأسرية وسياسية واجتماعية ...إلخ, وابن خلدون لم يكن استثناءً من ذلك.
ونحسب أن ابن خلدون كان يتخذ من التقرب من ذوي السلطان وسيلة لتأمين الجانب المادي الذي يكفل له ولأسرته حياة مستقرة لا تنغصها أي منغصات, وليأمن أيضاً على حياته حتى يتمكن من الانصراف إلى المطالعة والتأليف.
إذن.. كان الهاجس الأكبر الذي يؤرق ابن خلدون يتمثل في الانصراف إلى التأليف, وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق له إلا من خلال تأمين بيئة مستقرة من جميع النواحي ولاسيما الجانب المادي والسلامة الشخصية. ولذلك كان ابن خلدون يلجأ إلى التملق والمدح حيناً والمداهنة أحايين أخرى كوسيلة لتأمين حياته وتجنب قمع السلطة السياسية وتفادي المصير الفادح الذي وقع فيه من سبقه من علماء وفلاسفة كابن رشد الذي اتهم بالإلحاد وأحرقت مؤلفاته وحكم عليه بالنفي حتى مات كمداً, بعيداً عن موطنه وأهله سنة 1198م. وكذلك مصير زميله ابن الخطيب الذي اتهم أيضاً بالإلحاد والزندقة واغتيل خنقاً سنة 776هــ.
مارست السلطة السياسية قمعاً وحشياً للعقل على مدى قرون من الزمن ولا تزال تفعل كذلك حتى عصرنا الراهن, ورسمت حدوداً معينة للمفكرين والمثقفين والعلماء, الذين ينبغي عليهم عدم تجاوزها, ومن تجرأ على اجتيازها فسيلقى مصيراً مماثلاً لمصير ابن رشد أو ابن الخطيب وغيرهما.
لعل الجابري يشير إلى هذه الحقيقة, وإن كانت إشارة مضمرة, إذ يقول: "هذه الفئة القليلة [يقصد العلماء والمفكرين المعاصرين لابن خلدون] التي كانت تعيش في الغالب في بلاط الملوك والأمراء لم تكن تستطيع الجهر بآرائها أو التأثير في الأوضاع الفكرية السائدة. إن الاشتغال بالعلوم العقلية لم يكن ممكنا إلا في الظلام و"تحت رقبة من علماء السنة" كما يقول ابن خلدون."[5]
وفي موضع آخر يبين الجابري سبب قلة اهتمام ابن خلدون بالفلسفة: "استقر في الأذهان, منذ حملة الغزالي على الفلاسفة وما تبعها من فتاوى الفقهاء المتزمتين, أن الفلسفة "علم" غير مرغوب فيه من الوجهة الدينية. بل إن تهمة الاشتغال بالفلسفة, وبالتالي "الكفر والإلحاد", كانت سيفاً مصلتاً يهدد الرقاب باستمرار, خصوصاً رقاب أولئك الذين كانوا يتمتعون بمراكز سياسية تجعلهم دوماً هدفاً لسعايات المنافسين ولطعن الطاعنين. ولما كان ابن خلدون من أصحاب الوظائف والنفوذ, فقد كان عليه, إذا ما أراد الاحتفاظ بمركزه السياسي, وتجنب التعرض لمثل تلك التهم الخطيرة, أن يساير الركب فينقطع عن العقليات جملة, والفلسفة منها خاصة, وينصرف إلى العلوم الدينية وفي مقدمتها الفقه."[6]
مما تقدم يمكننا الاستنتاج أن ابن خلدون لم يكن رجلاً "انتهازياً" بطبعه, أو أن "ميكافيلليته" ناتجة عن عامل جيني وراثي ــ كما زعم البعض! بل كان مهجوساً بدافع اتقاء شر السلطة السياسية, والحؤول دون الوقوع في المصير المأساوي الذي وقع فيه من سبقه من فلاسفة ومفكرين وعلماء, وهذا ما يفسر تنقلاته بين الأمصار وتغيير ولاءاته بصورة مستمرة. لقد كان "قدومه إلى مصر بهدف الاستقرار والدّعة وخوفاً من البطش والمحنة بعد أن جرّب الإقامة في مختلف بلاد المغرب من أدنى وأوسط وأقصى, والأندلس أيضاً." هكذا يلخص الجابري الدافع وراء ارتحالات ابن خلدون الكثيرة والكاثرة..!
ورغم كل شيء يظل ابن خلدون شخصية عبقرية ومفكر استثنائي قدم للفكر الإنساني أفكاراً عميقة وفي مجالات مختلفة, وتكمن قيمته الاستثنائية بكونه قد مزج الجانب النظري والجانب العملي في وحدة جدلية غنية, وفي عصر كان الانحطاط قد شمل كل شيء, وبات العقل فيه منغمساً في دياجير الظلام.
جسّد ابن خلدون ثورة معرفية وفكرية, ثورة مثلت في مستوى ما تعبيراً احتجاجياً على حالة الانحطاط السائدة في عصره.
ويمكن القول مع مهدي عامل: "إن ثورة ابن خلدون الفكرية تكمن, بالضبط, في أنه حرر الفكر التاريخي من هيمنة الفكر الديني, بأن اكتشف في واقعات التاريخ عقلها المادي فأحلَّ ضرورة العمران محل [اللاهوت] ــ أو ما يشبهه ــ في تفسير الظاهرات جميعاً, فاستبدل التأويل بالتفسير, فكان التفسير, بالضرورة, مادياً, وكان علمياً من حيث هو مادي, دون أن يعني هذا رفضاً للدين, أو الشرع, ومبادئه. فالشرع شيء, والتاريخ ــ أو العمران ــ شيء آخر."[7]
بتعبير آخر: تتجلى الإضافة الفكرية النوعية لابن خلدون في أنه أولاً: خلق منهجاً جديداً في دراسة التاريخ, فالتاريخ عند سابقيه ومعاصريه "لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول, والسوابق من القرون الأول", أما عنده يصبح التاريخ "نظر وتحقيق, وتعليل للكائنات ومباديها دقيق, وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق".
وثانياً: أنه لم يرَ الأحداث كوقائع تجريدية منبتة الصلة بالسياق الاجتماعي, بل رآها مرتبطة أوثق الارتباط بمجمل الأحوال السائدة في زمان ومكان محددين وبفكرة التغيير والتبدل, "فمن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال والأجيال بتبدل العصور ومرور الأيام."
وثالثاً: أنه ارتكز في دراسته للتاريخ وللعمران البشري على مسألة الدولة, فـ "المدار العام لتأليف ابن خلدون هو مدار التاريخ كواقع وكمعرفة. والعنصر الرئيسي في هذا المدار هو الدولة كظاهرة اجتماعية بامتياز." [31]
القيمة الراهنية لابن خلدون:
إن جزءاً لا يستهان به من فكر ابن خلدون لايزال يحتفظ بقيمة نظرية وفكرية مهمة. نظراً لأن المسألة الأساسية التي يدور حولها مجمل الفكر الخلدوني هي مسألة الدولة, وهذه المسألة لا تزال إلى اليوم في جدول أعمال الشعوب العربية, أو بتعبير آخر: لا تزال من بين المسائل التي لم تحسم بعد في واقعنا السياسي والاجتماعي العربي. والمراقب النبيه لهذا الواقع ومجرياته وحركيته, سيدرك بدون عناء كبير أن من بين الأسباب الرئيسية في تعثر مسار التقدم في واقعنا العربي يكمن في "عدم وجود نظرية عامة في الدولة والمواطن, مبلورة ومقبولة بوضوح" [8], وعلى الرغم من الفارق الكبير بين عصرنا الراهن وعصر ابن خلدون من الناحية الزمنية, إلا أنه من الناحية الكيفية لا يزال واقعنا يحتفظ بسمات القرون الوسطى.
"إن التطور الاجتماعي الاقتصادي والاجتماعي السياسي والاجتماعي الثقافي للعالم العربي تعوقه بنى مادية وذهنية لم تتغير تغيراً عميقاً منذ العصور الوسطى. ولذلك فإن فكر ابن خلدون يهم مباشرة الفكر العربي في هذا العصر بقدر ما هو فكر مطابق لواقع اجتماعي تاريخي لا يزال حاضراً." [9]
الهوامش:
[1] راجع: عبدالله العروي, ابن خلدون وميكافيللي, ت: د. خليل أحمد خليل, دار الساقي, بيروت, ط1/ 1990م.
[2] محمد عبدالله عنان, ابن خلدون.. حياته وتراثه الفكري, دار الكتب المصرية, القاهرة, ط1/ 1933م, ص45.
[3] د. طه حسين, فلسفة ابن خلدون الاجتماعية.. تحليل ونقد, ت: محمد عبدالله عنان, مكتبة الأسرة, القاهرة, 2006م, ص26.
[4] بتصرف عن: د. محمد عابد الجابري, فكر ابن خلدون: العصبية والدولة, معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي, مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت ــ لبنان, ط6/ 1994م., ص19 وما بعدها.
[5] نفسه, ص33.
[6] نفسه, ص50.
[7] مهدي عامل, في علمية الفكر الخلدوني, دار الفارابي, بيروت ــ لبنان, 1985م, ص78 – 79.
[8] ناصيف نصار, الفكر الواقعي عند ابن خلدون.. تفسير تحليلي وجدلي لفكر ابن خلدون في بنيته ومعناه, دار الطليعة, بيروت, ط1/ 1981م, ص6.
[9] نفسه, ص7.
#عيبان_محمد_السامعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟