|
مرفأ الجحيم
هبة فارس
الحوار المتمدن-العدد: 6467 - 2020 / 1 / 17 - 00:04
المحور:
الادب والفن
حينما ضاقت بحياتها التي تحياها مستعبدة ومنتهكة قررت إنهاءها بيديها... بعد أن ودعت أبنائها دخلت لغرفة نومها مصطحبة سكين حامية. استلقت على سريرها وطلبت من ربها المغفرة وهي ممسكة بالسكين بيمينها، وبهدوء وروية نزلت بها على معصمها الأيسر مقطعة شرايينه. ثم تهاوت في فراشها ودموعها تغرق وسادتها. وظلت تستغفر ربها إلى أن ذهبت في غيبوبة الاحتضار. صعدت روحها إلى بارئها دون أن يشعر بها أحد. في الصباح فوجئ الزوج بأن الساعة تجاوزت الثامنة صباحاً دون أن توقظه زوجته... فقام من سرير ابنته والذي كان ينام عليه منذ عدة ايام بسبب الخصام الحادث بينه وبين زوجته. نهض متجها إليها مباشرة كي يبكتها على تركها له نائما حتى تأخر على موعد عمله.. دخل إلى غرفتها لإيقاظها فإذا هي لا تستيقظ.. هزها بقوة فخارت يدها التي تصفى منها دمها.. كتم صرخته وتحرك يمنة ويسرة لا يدري ماذا يفعل ثم امسك هاتفه المحمول للاتصال بأخيه حتى يأخذوها لأقرب مشفى ربما يستطيعون انقاذها.. كانت تراقب كل هذا عن بعد ولكنها لا تستطيع التدخل وكأنها داخل غرفة زجاجية ترى وتسمع منها كل شيء لكنها معزولة عن جميع الناس والأحداث. كانت تبغي إبلاغه ألا يزعج أطفالها حتى لا يتأذون نفسيا من منظر أمهم المسجاة مفارقة الحياة.. لكنها لم تستطع التحدث ولا إيصال رغبتها هذه له. فكر للحظات أن يلجأ للجيران ولكنه خشي الفضيحة.. فآثر انتظار أخيه ليحملوها لأقرب مشفى... جاء أخوه ومعه ابنه البكر وحملوها للسيارة متجهين إلى استقبال أقرب مستشفى ولكن المستشفى رفضت استقبالها لأنها كانت قد فارقت الحياة بالفعل. حاولوا مع مشفى آخر ثم آخر نفس النتيجة ... هي مسجاة جسدا تحاول اخبارهم أنه لم يعد كل هذا مجديا ولكن الغرفة الزجاجية المغلقة التي تقبع بها غير منفذة للصوت ولا توصل حركاتها إليهم ... فزجاجها ينفذ الصوت والصورة من الخارج للداخل فقط ولا يسمح بالعكس ... هي تريد الاطمئنان على أولادها فحسب ... فلا الزوج ولا أي إنسان أخر يعنيها البتة ... ليتها تستطيع محادثة أطفالها المساكين الذين سيبقون دون أم مع اب متسلط لا يرى سوى نفسه فقط. عادوا بها للمنزل تبعا لنصيحة أحد موظفي الاستقبال في المشفى الأخير ... لأنه افهمهم أنها حادثة انتحار ولابد من الابلاغ عنها وترك كل شيء على ما هو عليه حتى معاينة النيابة. هاتف الزوج شقيقته واخبرها بالفاجعة وطلب منها أن تذهب لبيته مسرعة لأخذ الأولاد خارجاً قبل عودته بأمهم الميتة ... صرخت العمة من هول الصدمة إلا أنه لم يكن لديها وقت لتضيّعه. وبسرعة نفذت ما طلبه أخوها منها ... وأخرجت الأطفال إلى بيتها ... عادت الجثة مرتاحة إلى سريرها مستقبلة كل من سمع بالخبر ... وجاء لوداعها والبكاء عليها وهي داخل عزلها الزجاجي بفرحة شديدة في ألمهم وفاجعتهم لخبر موتها أو لرؤيتها مسجاة مصفاة الدم ... وكانت فرحتها لا توصف في ألم أبيها وأمها والذين طالما لجأت لهما لتخليصها من ذاك الزواج التسع إلا أنهم دائما كانا يرغماها على العودة لذاك البيت وذاك الزوج الكريه ... كانت تضحك بقهقهة أشبه بالهيستيريا من نحيب أمها وبكاء أبيها ... تمنت لهم المزيد من العذاب والقهر والأسى. انتهى التحقيق وتم التصريح بالدفن ... جهزوها للدفن في ثياب بيضاء بعد تغسيلها على يد سيدة صلبة جامدة لم يرمش لها جفن لرؤيتها شابة جميلة مصفاة الدماء ... تم حملها للمسجد للصلاة عليها كان الجميع يبكون ولم تعبأ لبكائهم ... بل على العكس كانت تتمنى لهم جميعاً المزيد من الحزن والشقاء والفضيحة. لكنها رقت لبكاء جارتها التي كانت تحبها وتشكو معها كل أساها ... وخارج المسجد تواجدت صديقتاها المسيحيتان واللتان كانتا الأقرب إليها... كانتا تنوحان نواحاً غير مسبوق ويتمتمن بصلوات لم تفهمها ولكنها احستها جدا ... وكانت صديقتاها وجارتها مع أولادها هم فقط من أرادت احتضانهم والتخفيف عنهم ... حملوها إلى مثواها الأخير ... وكانت تخطوا بهم خطوات سريعة كي تخلص نهائياً من هذا العالم الخرب الحقير ... كانت تسمع جيداً دعوات الكل ... كل من يدعوا لها وكل من يدعوا عليها بوصفها كافرة منتحرة ... كانت ممتنة لمن يدعوا لها إلا أباها وأمها وكانت تضحك ممن يدعون عليها. كانت سعيدة جدا حد الإنتشاء لرؤية وجه زوجها الكريه وقد زاد اسوداداً وخجلا وكراهية ... كانت تضحك منه وتتوعده بالمزيد من الاذلال والفضح. دخلت قبرها واغلق عليها.. ولأول مرة تشعر بالأمان التام والراحة والسكينة ... هدوء تام لا ينغصه إلا بعض الزائرين المتطفلين والذين تعلو ضجة أصواتهم خارجاً ... متى سيرحلون ويتركونها للهدوء والسكينة لأول مرة بحياتها كلها ... هدوء وسكينة!!! ولكن كيف؟ وهي المنتحرة المغضبة لربها والكافرة به حين قررت الانتحار. انتظرت ضمة القبر الرهيبة التي كانت تخشاها ويتوعدها بها كل من سمعت من مشايخ ورجال دين ... إلا أنه على العكس فقد كان القبر رطبا باردا هادئا ساكنا ... انتظرت ناكر ونكير لكي يوسعها أسئلة تليها العذابات المختلفة فلم تجدهما ... فقط شعرت بالخوف من ظلام القبر الدامس ... فلطالما كرهت الظلام وارتعبت منه ... والذي كان زوجها يجبرها عليه ... فقد كان يراه هدوءًا وراحة وكانت تراه هي تعثر وكآبة... فقط أرادت ان تخرج من ذاك القبر المظلم الا انها اعتادت الظلام مع الوقت لدرجة إنها شعرت بأنها ترى داخل الظلمة ... رأت ملاكا ذا أجنحة بيضاء يدنوا من مرقدها ومنبها إياها إلى موعد انتقالها إلى مقرها الأخير بالجحيم بوصفها قد انتحرت وانتهت حياتها بيديها ... فتوسلت له إن يتركها في القبر وكفاها بالظلمة عذاب فهي حقاً تكره الظلام ... إلا أنه أخبرها انه لا مناص من الخلود في الجحيم ... لكنه يمكن أن يأخذها في جولة فوق جناحيه لتمر على كل احبابها في الدنيا وترسل لهم بعض رسائل الحب والمودة... وقال لها حددي خمسة أشخاص يمكنك زيارتهم ... فاختارت ابنتها وابنها وجارتها وصديقتيها ... فوافق الملاك الطيب وصعدت فوق جناحيه الوثيران الناعمان وبدأت الجولة المحببة ... زارت ابنتها في البداية مقبلة جبينها ضامة إياها إلى حضنها مربتةً على ظهرها وكتفيها ... فاستيقظت البنت قائلة: ماما كنت متأكدة انك لن تتركيني وتذهبي كما اشاعوا... كنت واثقة من عودتك ... فابتسمت لها مطمئنة إياها بالعكس يا حبيبتي أنا الآن سأرعاك أكثر واكون إلى جوارك اكثر ولن يفصلني عنك حدود ولا مسافات ولا ظروف... سكنت الابنة في حضن أمها وقبل إن تتركها اعلمتها إنها ستكون رهن اشارتها وقت الحاجة.. فقط ناديني وقولي ماما احتاجك ... قبلتها مودعة ثم فعلت الشيء نفسه مع ابنها ثم جارتها فصديقتيها ... شكرت الملاك على نبل أخلاقه واوصته ان يظهر لأحبابها الخمسة وقت حاجتهم لها... وألا يتأخر على أحد منهم أبدأً ومهما كانت الظروف. فقبل مرحباً بذلك شارحاً أن تلك هي مهمته في غيابها عن هذا العالم ... أن يحل محلها ويفعل مالم تكن لتفعله هي حتى. وأكمل معها المسير إلى أن اوصلها إلى موضعها في الجحيم. جاب بها ارجاء الجحيم فكانت ترى أناس يعذبون بشتى ألوان العذابات ... فمنهم من يجلس شاردا أمام بحيرة النار والكبريت ... ومنهم من ينام عاريا في صحراء قاحلة رملها متوهج كالجمر ومنهم من يعيش عارياً على جزيرة من الثلوج منعزلة ولا يوجد بها أي مصدر للتدفئة وآخرون تنمو شعيرات حادة على أجسادهم ومنهم من يصعد لقمة لا يبلغها أبدا ومنهم من يجلس بجوار ساعة كبيرة جدا وكلما تحرك عقربها الحاد كالنصل البتار تسبب له ذلك في الم يصرخ بسببه صراخاً يملأ المكان ... ومن يمشي حافي القدمين في أرض شوكية ومن لا يكف عن الطعام ثم التقيؤ ومن طال لسانه حتى وصل لقدميه ومن يمتطي حصانا كلما ركبه سقط أرضا فيعود ويركبه ثانية وهكذا... ومن يجلس على أسنان مدببة ...... الخ. سألت الملاك كيف سيكون عذابي ... قال لها أنت منتحرة ستكونين في الدرك الأسفل عند بحيرة النار والكبريت ... ستكونين مهددة دائما بالوقوع فيها انت ومن معك ممن ينالون نفس العذاب... نزلت بالقرب من البحيرة واتخذت مكانا بعيدا عن الابخرة نوعا ما. نظرت بجانبها فإذا أناس كثيرون يقضون أوقاتا روتينية بحتة هناك ... منهم من يقرأ او يكتب او يرسم او ينحت او يقطع اشجارا او يصنع اثاث او يطهو او يخبز.... الخ. تقدمت على استحياء من أحد المقيمين بالمكان وسألته: كيف اقضي وقتي هاهنا؟ فأجاب كما يحلوا لك.. هل أنت نزيلة جديدة هنا؟ _نعم _ لماذا أتيت؟ _ لأني انتحرت _يبدوا أن هذا المكان محجوز للمنتحرين فقط.. قالها ضاحكا ضحكة ساخرة. _ افهم من ذلك انكم جميعكم منتحرون؟ _ ليس جميعنا ولكن معظمنا تقريبا. _ لماذا انتحرت؟ _ لا أحد يسأل الأخر هنا عن شيء حدث في دنياه.. ببساطة لأننا لا نحتاج لتذكر أيامنا على الأرض.. فقد كانت سيئة بما يكفي لنسيانها. وأنت أيضا انسي كل ما حدث لك هناك.. فهاهنا ستعيشين كما يحلو لك ولن ينغص صفوك سوى الملل والرتابة فقط. _ كيف أنسى أبنائي؟ هل لديك أبناء على الأرض؟ _ ألم توصي بهم ملاكك الحارس حتى يرعاهم في غيابك؟ _ بلى _ فاطمئني إذن.. فهو كفيل بهم.. وهو لا يكل ولا يمل.. وسيتمثل لهم في صورتك ويساعدهم دائما. _ حقاً سيحدث ذلك؟ _ نعم، لا تقلقي البتة من تلك الناحية. ماذا تحبين ان تصنعي هنا؟ _ لا أعرف فأنا لا أجيد أي شيء. _ الطهو مثلا.. الحياكة.. التطريز... التشكيل... النجارة... الحدادة... الرسم..... أي شيء تحبين عمله. _ مع الأسف لا أجيد شيء البتة _ لابد وأنك تحبين شيئا ما.. تجيدين مهنة او هواية ليس من المعقول إنك عشت حياتك على الارض دونما شيء تحبين أدائه _ بالفعل لم أفعل شيئا أحبه طيلة حياتي الأرضية.... لم أحب شيء في حياتي سوى ابنائي وأصدقائي وفقط. _ ولكنك بالتأكيد تمنيت ان تقومي بأحد الأعمال يوما ما؟ _ بالفعل كم تمنيت أن اركب دراجة اجوب بها كل الأماكن.. ولكني كنت أُمنع من ذلك حيث رآه أبي غير لائق بفتاة مهذبة.. ثم رآه زوجي عيب وقلة قيمة وحياء. _ مرحى مرحى صديقتي.. ها أنت قد عرفتي ماذا ستفعلين خلال خلودك هنا.
القاهرة فبراير 2019م.
ِِ
#هبة_فارس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حينما نقرر اقتحام الطريق
-
الحضارة المصرية والعربية
-
ملائكة اللعن
-
الملابس المبعثرة
-
افروديت حياة
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|