|
من موت الإله إلى موت المؤلف
عماد الحسناوي
الحوار المتمدن-العدد: 6459 - 2020 / 1 / 8 - 05:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
افتُتِح القرن العشرون بوفاة نيتشه في العشرين 1900م بعد أن صاغ أطروحته الشهيرة «موت الإله» وقدَّمها في كتابه «العلم المرح». والواقع أن تلك الأطروحة لم تُؤثِّر فقط على المجال الميتافيزيقي، بل كان لها تأثير مماثل على مفهوم المركزية ومنطق الهُوية اللذَين سادا الفكر الغربي ردحًا طويلًا من الزمن. فمفهوم المركز يعني أن ثمَّة أصلًا أو نموذجًا رئيسًا تدور حوله المعارف والنشاطات الإنسانية المختلفة. وهذا المركز أو النواة يختلف باختلاف العصور والأزمنة. وقد ظلَّ تصوُّر الإله أو الكائن المفارق مسيطرًا على الذهن البشري ومَرْكزًا تدور أفكاره حوله. حتى الفلسفات الحديثة التي اتَّخذت موقفًا مناهضًا أو ناقدًا لهذا التصوُّر، ظلَّ معظمها يدور حوله بطريقة لا واعية؛ إذ إنها كانت تُقدِّم ذاتها كبديل لهذا التصوُّر من خلال نقده، ما يجعله حاضرًا باستمرار كنموذج يتمُّ معارضته بنموذج آخر، إنها تلك الثنائية التي يُعَد أحدها شرطًا لوجود الآخر. لقد حاول نيتشه الخروج من تلك الثنائية من خلال إعلانه موت الإله، والنتيجة أن المركز ذاته قد تلاشى، أما نتائج ذلك فهي جد عظيمة، وربما استطاع نيتشه أن يُعبِّر عن ذلك أفضل تعبير في كتابه العلم المرح عندما صوَّر الأمر على شكل حدث كالتالي: يدخل رجل مجنون إلى ساحة السوق بحثًا عن الإله، ويَسخر منه كل أولئك الذين لا يؤمنون بوجود إله. «أين هو الإله؟ يبكي … سوف أُخبرك، لقد قتلناه، أنا وأنت، كلٌّ منَّا قاتِله.» ويَستمر في تأكيده على الآثار الكارثية لهذه الفاجعة: «لقد مَحَونا الأفق كله»، «لقد حرَّرنا هذه الأرض من شمسها»، «لقد أرسلناها باستمرار إلى القاع … وإلى الوراء … إلى الجنب وإلى الأمام، في كل الاتجاهات … ألا زال هناك أي شروق أو غروب؟» لقد أصبحَ عالَمُنا أكثر برودة، ونحن أناس «قتَلة كل القتلة»، تُركنا دون أية طريقة لتطهير أنفسنا. وعندما يُنهي الرجل المجنون حكمته، تحدق فيه الجماهير وتتملَّكهم الدهشة، يُصرح قائلًا: «لقد جئت مُبكِّرًا … لم يَحن وقتي بعد … هذا الفعل لا يزال بعيدًا عنهم أكثر ما تبعد أقاصي النجوم، ومع ذلك فإنكم قد فعلتُموه بأيديكم ما قام به نيتشه هنا هو أنه قتل الإله من أجل إحياء العالم «لقد فصَلْنا حقيقة هذا العالم عن فكرة أن الإله قد خلقه»، ونتيجة ذلك انفتاح العالم على الإنسان، لكن هذا الانفتاح ما زال يَفتقد البوصلة الموجِّهة له، بحسب نيتشه؛ لأنه يحتاج إلى نسق قيَمي جديد يحلُّ محل النسق القديم المؤسَّس على فكرة الإله. وقد حاول نيتشه عبْر مؤلفاته اكتشاف هذا النسق الجديد من أجل ترسيخه، وهو نسق يستمدُّ معاييره من عالم الحياة لا من عالَم مُفارق. هل ثمة علاقة بين ما قام به نيتشه في مجال الميتافيزيقا وبين ما قام به بارت في مجال النَّص؟ لم يَفصل نيتشه بين حضور الميتافيزيقا ومقولاتها وبين اللغة المُستعمَلة؛ فقد وجد نيتشه أن هناك قوًى تقف وراء عملية إنتاج المعاني، هذه القوى تهدف إلى الإخضاع والسيطرة. وما تفعله الميتافيزيقا هو اختزال تلك القوى، وحصر المعنى في الألفاظ اللُّغوية التي تحد المعنى وتختزله في إطار معيَّن؛ لهذا فقد رأى نيتشه أن اللغة هي معقل الميتافيزيقا. ففي اللغة فقط تجد مفاهيمُ الوجود والجوهر والهوية إمكانيةَ دوامها وخلودها. إنَّ الميتافيزيقا تنظر إلى الألفاظ اللغوية كوعاء يحفظ للمعاني أزليتَها ويُبقي على تطابقها؛ فبدلًا من أن ترى في العلامة مكانًا للاختلاف والتعدُّد والتأويل، ترى فيها على العكس من ذلك مناسبةً لحضور المعنى. من هنا تُصبح اللغة ذاتها فعلَ سلطة، صادرًا عمن بيده الهيمنة وقد سعى نيتشه من وراء التاريخ الذي يُقيمه للميتافيزيقا، إلى التوصُّل إلى منظومة القيم التي حكمت هذا التاريخ، والبِنية التي وضعت المعاني وأطلقت الأسماء وأوَّلت العالم ولوَّنته. من هنا تُصبح استراتيجية التسمية استراتيجيةَ هيمنةٍ وتسلُّطٍ. في الواقع لم يَفعل بارت سوى استكمال ما قام به نيتشه ودعا إليه، فموت المؤلِّف هو ذاته موت الآلهة، والنتائج التي ترتَّبت على أطروحة بارت في مجال النقد الأدبي ونظرية التلقي الجمالي تتشابه مع تلك النتائج التي ترتَّبت على أطروحة نيتشه في مجال الميتافيزيقا ونظرية الوجود. أما النسق القيَمي الذي حاول نيتشه التأسيس له وإحلاله محلَّ النسق القِيَمي القديم، فهو ما قام به بارت من خلال التأسيس لقواعد جديدة للتعامل مع النَّص الأدبي محلَّ القواعد التي كان معمولًا بها من قبلُ في حقل النقد الأدبي، وقد كتب بارت في العام 1967 ما يلي: «نعرف الآن أن النَّص ليس مجرَّد مجموعة من الكلمات التي تُحرِّر معنًى «لاهوتيًّا» وحيدًا (إله – رسالة – نبي). بل هو حيز متعدِّد الأبعاد تَمتزج فيه وتتصادم تنويعات من الكتابة، ليس منها ما كُتب في الأصل.» إن نسبة النَّص إلى مؤلفه، بحسب بارت، معناه إيقاف النَّص وحصره وإعطاؤه مدلولًا نهائيًّا، إنه إغلاق للكتابة، يقول: «عندما يأبى الفنُّ النظرَ إلى العمل الفني كما لو كان ينطوي على سر؛ أي على معنًى نهائي، فإنَّ ذلك يولد فعالية يُمكن أن نصفها بأنها ضد اللاهوت، وأنها ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وذلك أن الامتناع عن حصر المعنى وإيقافه معناه في النهاية رفض الإله ودعائم وجوده إنَّ هذا الرفض لمركزية الإله لا يَنبغي التعامل معه على المستوى اللفظي؛ فهو في الأصل تعبير مجازي عن رفض فكرة المركز الذي يدور المعنى حوله؛ تحرير للنص من أي هَيمنة فُرضت عليه تسعى لاختزاله في اتجاه ذي بُعد واحد. أما فيما يتعلَّق بمسألة السلطة وكيف تمارس تأثيرها عبْر اللغة، فقد ذهب بارت إلى أن مفهوم السُّلطة لا يُمكن اختزاله في المعنى السياسي له؛ لأن السلطة حاضرة في كل شيء داخل المجتمع وهي تُمارس تأثيرها بصورة خفية مخادعة. إنها توجد في الدولة، وعند الطبقات والجماعات، وفي أشكال الموضة، والآراء الشائعة، والمهرجانات، والألعاب، والمحافل الرياضية، والأخبار والعلاقات الأسرية، وحتى داخل حركات المعارضة والتحرُّر الوطني. ودور المثقف هنا، بحسب بارت، ليس العمل المباشر ضد السلطة بالمعنى السياسي لها «فمعركتنا تدور خارج هذا الميدان، إنها تقوم ضد السلطة في أشكالها المتعدِّدة. وليست هذه بالمعركة اليسيرة؛ ذلك أنه إن كانت السلطة متعددة في الفضاء الاجتماعي، فهي بالمقابل ممتدَّة في الزمان التاريخي. وعندما نتصدَّى لها ونَدفعُها هنا سرعان ما تظهر هناك؛ وهي لا تزول البتَّة. قم ضدها بثورة بُغية القضاء عليها، وسرعان ما تنبعث وتنبت في حالة جديدة. ومردُّ ذلك هو أن السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده. هذا الشيء الذي ترتسم فيه السلطة، منذ الأزل، هو اللغة.» والواقع أن هذا الفهم البارتي لمفهوم السلطة يجعله عصيًّا على التحديد أو التعريف؛ إذ لا ينبغي وفقًا لهذا الفهم البحث عن السلطة عند نقطة مركزية تكون هي الأصل، عند بؤرة وحيدة للسيادة تكون مصدر إشعاع لباقي الأشكال الثانوية التي تتولَّد عنها، وإنما ينبغي رصدها عند القاعدة المتحركة لعلائق القوى التي تولد أشكالًا للسلطة، لكنها حالات غير مستقرة ذات مستويات مُتعدِّدة وأشكال خفية كامنة خلف كل خطاب من الخطابات التي تحيط بنا. والنتيجة أن العالم سلطة، والخطاب سلطة، والحقيقة سلطة، والتاريخ سلطة، والفيلسوف هو أيضًا سلطة، بل إن السلطة تمتد لتشمل اللغة التي يتمُّ التعبير بها، فعملية التعبير ذاتها تكون أسيرة للحروف والألفاظ والمعاني المتداولة. يَنحو إذًا بارت منحى فلاسفة ما بعد الحداثة في نقدهم لمفهوم السلطة. وهو يتَّفق مع نيتشه في أن اللغة هي بيت السلطة، وقد ذهب إلى القول بأن «نيتشه قد حاول خلخلة ذلك الاستعباد الذي تُمارسه السلطة.» وعلى المُفكِّر إذا أراد مقاربة السلطة ومقاومتها بغية الكشف عن مظاهر تموضعها أن يبدأ باللغة. هذا النقد البارتي لمفهوم السلطة يُضمر نقدًا داخليًّا لعملية التلقِّي الجمالي التي تختزل العمل الفني في معنًى واحد؛ فهذا ضرب من ضروب السلطة التي يمارسها المتلقِّي على العمل الفني. لهذا السبب يَرفض بارت عملية تقييم العمل الفني، ويرى أنها لا تدخل في صميم عمله، فمُهمَّته الكشف عن مستويات مختلفة للقراءة، أما عملية التقييم فهي نوع من ممارسة السلطة «إنني لا أستطيع أن أسمح لنفسي بالقول إن هذا لجيد، وإن هذا لرديء؛ إذ ليس ثمَّة قائمة للجوائز، كما أنه ليس ثمة نقد. فالنقد يتطلب دائمًا هدفًا تكتيكيًّا، واستخدامًا اجتماعيًّا، كما يتطلب دائمًا نمطًا خياليًّا، وأنا ليس في مقدوري توقُّع أو تصوُّر النَّص كاملًا، حتى يتسنى له الدخول في لعبة الإسناد المعياري.» ربما بدا هذا الرأي لبارت مُتناقضًا مع موقعه في تاريخ النقد الأدبي، وهو موقع متقدِّم بطبيعة الحال. لكن هذا التناقض سيزول عندما نعلم أن هذا الرفض لعملية التقييم الجمالي هو في الأساس رفض لاختزال العمل الفني وحصره داخل قالب محدَّد، أو رفض لممارسة وصاية على النَّص تجعل من الناقد سلطة تفسيرية مهيمنة عليه. والواقع أن هذا النوع من النقد الذي رفضه بارت كان نتاجًا للمنطق الذي ساد تاريخ الفكر عمومًا، والذي انتقل منه إلى مجالي النقد الفني والأدبي؛ منطق الهوية. ختاما يمكن القول أن موت الله عند نيتشه هو موت صورة معينة عن الله وصورة معينة عن اللاهوت.
#عماد_الحسناوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد العقل الإسلامي عند -محمد أركون-
-
سيكولوجية الطفل
-
نظرية العدالة عند جون رولز
-
هل يمكن للمرء أن يكون سعيدا
-
قراءة في كتاب ابن مسكويه -تهذيب الأخلاق و تطهير الأعراق-
-
الحق عند حنة أرندت
-
التعليم الفلسفي عند كانط
-
الفلسفة كحل لتحرر من الوعي الشقي
-
تفكيك مفهوم الحب (عند ألان باديو)
-
لدولة تجليات و لحراك الريف تداعيات
-
نادي الفكر والثقافة (بومية)
-
نادي الفكر والثقافة
-
لا شيء أكثر رداءة من تسليع الثقافة والفن
-
و يستمر الاستهتار يا حماة اليسار
-
المسيحية كشكل من أشكال الإنحطاط عند نيتشه
-
خلاصة المشروع النيتشوي
-
فلسفة التاريخ عند هيجل
-
حقيقة العذاب
-
الكتابة الجينالوجيا كبديل للكتابة الميتافيزيقيا
-
قلب الأفلاطونية عند نيتشه
المزيد.....
-
صور سريالية لأغرب -فنادق الحب- في اليابان
-
-حزب الله-: اشتبك مقاتلونا صباحا مع قوة إسرائيلية من مسافة ق
...
-
-كتائب القسام- تعلن استهداف قوة مشاة إسرائيلية وناقلة جند جن
...
-
الجزائر والجماعات المتشددة.. هاجس أمني في الداخل وتهديد إقلي
...
-
كييف تكشف عن تعرضها لهجمات بصواريخ باليستية روسية ثلثها أسلح
...
-
جمال كريمي بنشقرون : ظاهرة غياب البرلمانيين مسيئة لصورة المؤ
...
-
-تدمير ميركافا واشتباك وإيقاع قتلى وجرحى-..-حزب الله- ينفذ 1
...
-
مصدر: مقتل 3 مقاتلين في القوات الرديفة للجيش السوري بضربات أ
...
-
مصر تكشف تطورات أعمال الربط الكهربائي مع السعودية
-
أطعمة ومشروبات خطيرة على تلاميذ المدارس
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|