أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم عرفان - دراسة نقدية للموقف المقالى -قرناء السوء- للأديبة والناقدة السورية الدكتورة/ عبير خالد يحيى .















المزيد.....


دراسة نقدية للموقف المقالى -قرناء السوء- للأديبة والناقدة السورية الدكتورة/ عبير خالد يحيى .


كريم عرفان

الحوار المتمدن-العدد: 6458 - 2020 / 1 / 7 - 01:15
المحور: الادب والفن
    


هذا العمل الأدبى الذى نتناوله بالقراءة والتحليل له خصوصيته وتفرده ليس من الناحية الفنية فحسب بل من خلال الشجرة الأدبية التي ينتمى إليها ؛ فهو من الإبتكارات والإبداعات التي تفخر النظرية "الذرائعية " بتقديمها إلى المكتبة النقدية والأدبية العربية فهو جنس بينى جديد تم ابتكاره حديثا وهو أحد إبداعات النظرية العربية النقدية الحديثة ؛ والتي قام بوضعها العلامة والمنظر العراقى / عبد الرزاق عودة الغالبى ويعرف هذا النوع الادبى الجديد "بالموقف المقالى " ؛ لذلك فهو اختيارجديد و جرىء بلاشك من الاديبة والناقدة الدكتورة / عبير خالد يحيى؛ التي اختارت هذا الفن المدمج والجامع.. فهو فن يجمع بين القصة القصيرة والمقال الادبى ؛ وتكمن الجرأة في الإختيار أن الدكتورة عبير قد عدلت في تعمد واضح عن القصة القصيرة ولم تشأ أن تكتب وفقا لمظلتها وفرائضها وفضلت أن تذهب إلى مجال فنى آخر ينتمى إلى جنس أدبى "بينى " جديد هو "الموقف المقالى "كما ذكرنا ؛ وهذا العدول والإختيار لا يصدر إلاعن أديب يمتاز بحس نقدى عال المستوى مما يتيح له أن يتحرك بحرية وفقا للفنون الأدبية وأجناسها المختلفة جيئة وذهابا دون خوف أو قلق ؛ وهو ما تمتلكه الاديبة والناقدة الدكتورة / عبير خالد يحيى.. فهى بجانب نبوغها الإبداعى في المجالات الأدبية المختلفة من قصة وشعر وغيرهما ؛تعد ناقدة من طراز خاص تنتمى إلى نظرية نقدية حديثة هي الأولى من وعها في الوطن العربى وقد كانت الأديبة والناقدة الدكتورة / عبير هي أول من قام بالتطبيق النقدى العملى لذلك التنظير العربى الحديث وجسده مرئيا من خلال دراساتها النقدية على الإبداعات العربية ذلك التنظير الحديث الذى عرف بالذرائعية في التطبيق (PRAGMATIC IN ACTION ) ؛ وقد اتخذت من هذا التنظير منهجا ومعتمدا تنطلق منه نحو الأدب والنقد وما تفرع منهما من علوم وفنون ؛ لاسيما وهو التنظير الوحيد المتكامل الذى تقدم به العرب إلى الآن في مجال النقد الادبى .
والآن نقوم بعرض الموقف المقالى للأديبة ثم نقوم بالتعليق عليه وتناوله بشكل نقدى وتحليلى
النص : قرناء السوء
" كيف يمكن للتيه إلّا أن يكون هكذا؟ سراديبَ ضيقة حالكة الظلّام، نلهث فيها باحثين عن شقّ دقيق، تنزلق عبرَه شعرة شيبٍ تسقط من جديلة الشمس، أو شال القمر؟

إن كان التيه هكذا، فهناك أمل يختبئ وراء كلّ درب مسدود، متواريًا يضحك من تخبّطنا، يتلذّذ بمرآنا نرتطم بجدران صلبة تصارعنا وتنتصر... نعم تنتصر لأنها أدركت قواعد اللعبة التي جهلناها، والحيطان لا تناطحها إلا الثيران الهائجة...

أمّا إن كان التيه فراغًا من سواد فقط, دون جُدُر مشروخة، فتلك طامة كبرى ...
من داخل تلك العتمة، تخرج روحُها لتبصر نورًا أبيضَ، تحجبه عشرات الخيالات التي تزاحمت، أبعدتهم قليلًا، حتى استقرّت فوقهم تنظر إلى ذلك الجسد المسجّى على سرير مفرشُه أخضرٌ بلون الكفن.

"- لم يحنْ الأجل بعدُ يا سجني، ولي معك بقية عمر وشقاء، لكن دعني أتأمّلك هنيهة، تلك متعة لا يعرفها إلا المعتقل الذي غادر سجنه، ليرى ضوء الشمس منهمرًا بغزارة على أسواره الخارجية".

هكذا تحدّثتْ الرُّوحُ، قبل أن تعاود الدخول بأمر ربها إلى ذلك الجسد الذي انتفض نفضات متتالية، قبل أن يفتح عينًا واحدة، لسعها لهيب الضوء فأغمضتها ثانية، لكنّ صفعات قليلة على وجهها جعلتها تعاود المحاولة بتأنٍ وممانعة، وأمام محاولاتهم العنيدة فتحت عينيها الاثنتين بالكامل، وتحشرجت أحرف مبعثرة في عمق حنجرتها، تغالب الاختناق، لتنطلق عبر أسوار فمها :

-"أين أنا ؟".

تأتيها أصوات كثيرة، لا تصلها إلّا كهمهمات مخيفة في كهف عتيق، وصوت يعلو، يطلب من الجميع السكوت، يقترب من أذنها ويهمس:

-"لا تخافي، أنت بخير، أنت في المشفى، وقد أنقذناك بعون الله من غرق مُقدَّر".
صمت قليلًا ثم استأنف كلامه :
-"أنا دكتور أحمد، ما الذي اضطّركم إلى الإبحار في هذا الجو العاصف؟".
وكأنّ سؤاله سوط هوى على ظهر ذاكرتها الغائبة، فانتفضت وانتفض معها جسدها الخريفي الناحل، لكن يد الطبيب ثبّتته طالبًا منها الهدوء، هو نفس السؤال الذي انطلق من فم ابنتها باستنكار وخوف:


-"أمّي، ما الذي يضطرّنا لزيارة خالتي في مثل هذا الجو العاصف؟ وهل تتوقعين أن نجد مركبًا يقلّنا إلى الجزيرة حيث تسكن ؟".
وهنا صرخت ملتاعة :
"- أين ابنتي؟".
عاجلها الطبيب بالإجابة :
-"اهدئي، هي في الغرفة المجاورة، ستكون بخير، فقط اهدئي، سأذهب لأرى ما آل إليه وضعها وأعود لأطمئنك عليها، فقط ابقي هادئة ".
وأشار إلى ممرضتين طالبًا منهما البقاء للاعتناء بها .
غابت المرأة في أرجوحة المركب، الذي اضطرت – سرًّا- إلى إغراء صاحبه بمبلغ كبير، حتى رضخ لرغبتها في نقلها مع ابنتها الشابة إلى الجزيرة المقابلة، رغم أن هيئة الأرصاد كانت قد حذّرت من رداءة الطقس، لكنّ هذا الجو بالذات هو ما كانت تنتظره طويلًا، بحر هائج متلاطم الأمواج أهوج، لا يجرؤ على خوض غماره إلّا أمًّا أرادت أن تخرج القرين القابع في جسد ابنتها...!
هذا ما قاله لها الشيخ حسن، الذي لجأت إليه بعد أن ضاق صدرها من شكوى زوج ابنتها، يريد أن يصبح أبًا، وقد مضى على زواجه بابنتها حوالي السنتين ولم تحمل...!

حاولت أن ترافق ابنتها إلى طبيب مختص، لكن الابنة كانت تتهرّب بحجج كثيرة، تخبرها أنها تراجع طبيبها الخاص بمرافقة زوجها.
وزوج ابنتها يأتيها خفية، ليهدّد ويتوعّد بأنه سيتزوّج بأخرى، فقد ضاق ذرعًا بهذا الوضع، ولن يطيق الصّبر طويلًا ...!
اقترحت عليها إحدى الجارات الذهاب إلى الشيخ حسن، واحتارت هي، إذ كيف لها أن تقنع ابنتها المتعلّمة، و التي ترفض حتى الذهاب معها إلى طبيب، فكيف ستقبل أن ترافقها إلى من حقيقته دجّال ؟!
كان الجواب أن لا مشكلة، الشيخ حسن يمكنه التشخيص غيابيًّا, فهو يطلب من الأسياد أن يرسلوا العفاريت ليرصدوا القرين الساكن فيها، وبناء على ذلك يصف العلاج ...!
و أخبرَها الشيخ حسن أن ابنتها يتلبّسها عفريت، يحول بين رحمها والحمل، لا مجال لإخراجه منها إلى بعبور بحر هائج متلاطم الأمواج، في يوم ماطر عاصف جدًّا، سيخشاه العفريت ويولّي من جسدها هاربًا ...!

ادّعت الأمّ أن أختها المقيمة في الجزيرة المقابلة مريضة جدًّا، وأنها تطلبهما لأمر هام لا يقبل التأجيل ...!
-"هل تدرك خالتي حجم المخاطرة التي نحن مقدمون عليها ؟ أمّي أنا خائفة جدًّا، حتى (المراكبي) خاف عندما طلبتِ منه الإبحار، وهذا قارب، لا أدري أمّي، أشعر أنه قارب صيد، لا قارب نقل ركاب ".

تنظر الأمّ إليها نظرة حنوّ وإشفاق، كيف لمثل هذه الشابة المؤمنة الصالحة المتديّنة أن يسكنها عفريت؟ هي زينتها الوحيدة التي منّ الله بها عليها في الدنيا، ثمرة زواج انتهى سريعًا بموت الأب وهي في عمر الجهّال، كبّرتها مع الصلاح والتقوى والعلم والأدب، حتى جاء من ارتأته مناسبًا لقرّة عينها، فأرسلتها إلى داره.
استفاقت الأمّ من شرودها، ردّت عليها بسرعة تحتضنها :
- "لا تخافي، هذه (النوّة) ستنتهي سريعًا، خلال دقائق سنصل إلى الجزيرة بأمان، هذا (المراكبي) صياد ماهر معروف، وهو أدرى بأحوال البحر، ويعرف كيف يتصرّف، لذا لا تخافي، تعالي سنتسلّى بالحديث حتى لا نشعر بطوّل الوقت، هل أنت على خلاف مع زوجك؟"
تنظر الشابة إلى أمّها متشكّكة :
" لا، نحن بخير حال، لماذا تسألين هذا السؤال أمّي ؟ ".
تشرد الأمّ وبنبرة حائرة تقول :
-"زوجك يتردّد عليّ منذ فترة، يشتكي من تمنّعك عليه، يقول أن أمرالإنجاب لا يعنيك، بينما هو يتحرّق شوقًا ليحضن طفله".
يتغيّر تشكيل وجه الشابة ليغدو علامة تعجّب كبيرة، سرعان ما حاولت محوها، ردّت بهدوء:
-"نعم أمّي هذا حقه، وبإذن الله يتحقّق حلمه، لا تقلقي، كلّه بأمر الله ".

تقاطعها الأمّ :

-"لكنه يهدّد بالزواج بثانية، بنيّتي، يقول أنّ المانع منك، وأن فحولته كاملة، لكن أنت ....".
وفِي تلك اللحظة مال المركب ميلة كبيرة، لم يستطع المراكبي أن يسيطر على الدفّة، فاختل التوازن لتأتي الريح كأمّ غاضبة تصفع وجه ابنها )البحر( الذي تلفّظ بلفظة بذيئة، فتكوّر بموجة كبيرة انسحبت إلى الأسفل تجرّ معها المركب، ثم تدحرجت متضخّمة حتى تعملقت، فتحت فمًا كبيرًا ابتلع المركب بمن عليه ...

كان آخر ما تناهى إلى سمع الأمّ صوت ابنتها يتردّد مع زعيق الريح الغاضبة وبكاء البحر الحانق :

-"أمّاه، أنا ما زلت عذرااااااء ".
وصوت الطبيب الذي دخل توًّا، في ذات اللحظة :

-"البقية بحياتك، لم نتمكّن من إنقاذها".

والآن نأتى لذكر التحليل ورؤيتنا النقدية للنص الادبى
- أولا تصنيف العمل الأدبى :
تعد الذرائعية رؤية عربية مستقلة ونظرية حديثة النشأة قام بابتكارها العلامة والمنظر العراقى/ عبد الرزاق عودة الغالبى ..الذى وضع أسس وقواعد تعصم العقلية النقدية العربية من الشطط والغلو وأطلق على هذا التنظير غير المسبوق اسم "النظرية الذرائعية " ؛ وهذه النظرية لها أسس ودعائم تقوم عليها يأتي في مقدمتها .. الإهتمام بالتجنيس الأدبى فهو " مرحلة أولية في النقد الادبى وهو البوابة التي ينفذ من خلالها الجنس الادبى الخاضع للتحليل وبدونها لا نستطيع التعامل مع أي جنس بشكل من الأشكال .." (1)..فالتجنيس " أساس مهم يحدد هوية العمل الأدبى ويعطيه الخصوصية الأدبية المتأصلة بالتأثير الداخلى والخارجى " (2)..
والعمل الذى نتناوله الآن والذى يحمل عنوان " قرناء السوء " ينتمى إلى جنس أدبى بينى جديد هو أحد إضافات النظرية الذرائعية للأدب العربى ويعرف "بالموقف المقالى " وهو فن مزيج بين القصة القصيرة والمقال الأدبى؛ فلم تهتم النظرية الذرائعية فقط بالتجنيس الأدبى واعتبرته الركيزة الأساسية لفهم النصوص والمقدمة التي لابد منها قبل الولوج إلى عالم النص ؛ بل قامت الذرائعية باستحداث واكتشاف أنواع بينية جديدة كهذا النوع البينى الجديد الذى بين أيدينا والذى أسماه العلامة الغالبى ب"الموقف المقالى "
و " يمتاز هذا الجنس الأدبى الرصين بمعالجة القضايا الإنسانية والأجتماعية والنفسية والإقتصادية والسياسية وكل النواحى الأخرى التي تخص الفرد العربى ومعالجتها بشكل إنسانى ووضعها تحت طاولة التحليل ؛ يجمع هذا الجنس بين القص والمقالة وينضوى تحت نظرية الفن للفن ( الادب للأدب ) والفن للمجتمع بعمق أدبى وبانزياح نحو الرمز والخيال بدرجات عالية ؛ ومستوحى من (الأتشيرك ) الروسى الذى لم يظهر للعيان في الادب العربى إلا من ذكر عارض في موسوعة النظريات الأدبية للدكتور نبيل راغب .." (3) .وقد اكتسب هذا النوع الجديد شرعيته وأصبح جنسا مستقلا له خصائصه وسماته التي تميزه عن الفنون الإبداعية الأخرى ؛ ولهذا الفن خصائص وأبعاد جنسية قد قام العلامة عبد الرزاق عودة الغالبى بوضعها فهو فن
" 1- يجمع بين المقالة والقص وعناصر المقالة ثلاثة (المقدمة / الموضوع / الخاتمة ) ، يدخل هذا النوع بالمقدمة للموضوع الذى سيكون بشكل قصة قصيرة أو موقف يومى أو مثل شعبى ؛ تكون نهايته حلا للموضوع الذى احتل الوسط.
2- ومادام هذا الجنس الموسوم ب(الموقف المقالى ) يقع بين المقالة والقص فهو يأخذ الشكل الفني للجنسين بشكل متداخل ؛ فيحتوى على مقدمة مقالية من فقرة أو فقرتين يلمح بها للمشكلة التي ستطرح في الوسط بشكل قصة تحتوى على (صراع درامى وعقدة وانفراج أوحل ونهاية )
3- يحتوى هذا الجنس على شخصية أو عدد من الشخصيات أحيانا حقيقية وأخرى افتراضية ويكون مرتكز الموضوع يعرف باتجاه الإنسان العربى داخل المجتمع .
4- كثيرا ما يعتمد هذا الجنس على جريان المونولوج الداخلى وتشخصن محتويات العقل من ضمير ونفس وروح وتلعب دور الشخصيات الأساسية في الموقف المقالى وأحيانا يعطى دور افتراضى مهم للقلم .
5- البناء الجمالي : يكون البناء الجمالي لأى جنس أدبى من العناصر التالية فهل يمتلك هذا الجنس الجديد منها :
أ‌- السرد : يتحمل هذا النموذج جميع أنواع السرد الأدبى بجهاته المتعددة المتكلم والمخاطب والحاضر والغائب ويأخذ الحوارية والحوار الداخلى (stream of consciousness) .
ب‌- الأسلوب : يتحمل هذا الجنس الأسلوب الرومانسي وهو أرقى أنواع الأساليب الأدبية لأن درجة انزياحه تبلغ الكمال أحيانان ؛ كذلك الأسلوب الأدبى العميق بجميع أنواعه .
ج – الحوار :يعتمد هذا الجنس الحوار المدروس وأحيانا يكون موضوعه وتيمته من حوارية مدروسة .
د – الصور : المرسومة بدقة أدبية بالكلمات وخصوصا الوصف وهذا الجنس يعتمد على رسم الصور بفرشاة الكلمات
ه – الجماليات اللغوية : يحمل هذا الجنس الجماليات البلاغية من طباق وجناس وتورية وتشابه واختلاف وتشخيص وما زال يتحمل عناصر بلاغية أخرى .
و – الشخصيات : يمتاز هذا الجنس بعجائبية الشخصيات بالإضافة للشخصيات الإعتيادية هنالك شخصنة للقلم والنفس والضمير وأجزاء الجسد الأخرى . "(4) .
وهذه الشروط والخصائص والأركان قد توافرت جميعها بشكل كبير في النص "قرناء السوء" مما جعل هذا النص هو تطبيق نموذجى لذلك الجنس البينى الجديد فكل ما ذكر في التنظير وجدناه قد تحقق بشكل جلى في هذا النص المسبوك والمتماسك .وكأن القارىء يقرأ متن النظرية ثم ينظر إلى التطبيق كتمرين عملى عليها وهى مرحلة متقدمة لا يجيدها إلا أديب قد تبحر وتمكن بشكل قوى من النظرية وتعمق فيها وكذلك قد امتلك أدواته الأدبية التي تؤهله أن يكتب نصا يحتذى به .

هذا وقد تحدثنا عن تصنيف العمل الادبى (الموقف المقالى) وبينا نوعه وجنسه وخصائصه وألقينا بعض الضوء على النظرية التي ابتكرته ؛ بقى .. التساؤل الأولى والهام الذى نود طرحه في بداية قراءتنا النقدية لهذا العمل الأدبى "قرناء السوء " وهو لماذا لجأت الأديبة و المبدعة د/ عبير خالد يحيى إلى "الموقف المقالى" ؟ وفضلت أن تكتب وفقا لآلياته وقوانينه واختارت العدول عن القصة القصيرة ؟
والإجابة ..هى أن الأديب أو المبدع يلجأ فى الغالب إلى" الموقف المقالى "عندما يريد أن يقوم بعمل إصلاحى أو أن يقدم عظة وعبرة أخلاقية يفيد بها الناس أو أن يستنهض قراءه وجمهوره نحو هدف به قدر من السمو والنبل أو يتقدم بنقد لاذع لسلبيات خطيرة تكاد تفتك بمجتمعه ؛ وفى هذه الحالة يكون الموضوع الذى يعتمل داخله قويا إلى درجة أنه يريد أن يصرخ فى وجه مجتمعه بوضوح وبصوت عال وهو مانراه جليا هنا في الموقف المقالى المعنون ب "قرناء السوء" .. فالأديبة برؤيتها النقدية رأت أن فن "الموقف المقالي" سيتيح لها أن تنتقد بشكل لاذع وقوى العنف والظلم الذى تتعرض له المراة فى المجتمع وهو أمر يحتاج إلى هجوم مباشر لا تقوى عليه القصة القصيرة لذلك استعانت المبدعة بهذا الفن المدمج والمزدوج الذى منحها كثيرا من الحرية ووفر لها مجالا واسعا لتقول ما تريد .وتنتقد ما تراه سلبيا في واقعنا العربى .
فهذا الفن يهاجم بشكل واضح ومباشر الأمراض الأخلاقية فى المجتمع ويتخفف كثيرا من بعض الإعتبارات التى تنتمى للقصة القصيرة والتى من شأنها أن تمنع الأديب من تحقيق ما يتمناه من أهداف ورؤى إصلاحية .
كما أن هناك شيئا هاما يجب إلقاء الضوء عليه ومعرفته مما يمنحنا نظرة أعمق وأشمل للنص الذى نتناوله فالنظرية الذرائعية "نظرية أخلاقية "في المقام الأول تعتد بالأخلاق والمبادئ القويمة وهو مبدأ أساسى تقوم عليه النظرية فالأديب الحقيقى في نظر الذرائعية هو من يلتزم بالمبادىء والمثل العليا ويبتعد عما يخدش الحياء أو يثير الفتن ويشيع الفرقة بين الناس ؛ وهو ما يعرف بمبدأ "الإلتزام الأدبى الأخلاقى" وفيه لا يجوز للأديب الحقيقى التعدى على الاخلاق واختراق القوانين والأعراف ؛ وعدم التدخل بالمذاهب والاجناس الطائفية بغرض إثارة الفرقة بين الناس ..
إذن فالأخلاقية لها حضور طاغى في النظرية التي تنتمى لها المبدعة وتحرص على اتباع تعاليمها والعمل وفقا لمقتضياتها وآلياتها مما يجعل القارىء يعى حرص الأديبة على الأخلاقيات والمثل لهذه الدرجة الكبيرة والتي نحترمها جميعا وذلك الحضور القوى للأخلاق فى هذا الموقف المقالى.
ثانيا العنوان : إذا جئنا إلى العنوان الذى استخدمته الاديبة في هذا العمل الادبى سنجده للوهلة الأولى يحمل الكثير من المباشرة المتعمدة والمقصودة وهو السمت الذى يميز هذا الفن وما يتميز به من مخاطبة مباشرة للقراء ؛ فهو يبدو كعنوان أخلاقى وعظى يخاطب المجتمع ويحذره من قرناء السوء..أولئك الذى يلتصقون بالشخص ويلقون به إلى ما فيه الشر وسوء العاقبة ؛ ولكن لحظة ..فالذى يدرس العالم الإبداعى للأديبة سيجد أنها تحرص على تضمين معانى معمقة وباطنية ؛وتتحرى مرامى كثيرة من المفردة الواحدة فلا ينبغي للقارىء أن يقف عند المعنى الظاهرى المتبادر وإنما يسعى نحو المعانى الخفية والباطنة في المفردة الواحدة ..
فمفردة "قرناء" تنتمى إلى العالم الواقعى الذى يحوى أصدقاء ومعارف يلازمون الشخص ويقترنون به حتى يطلق عليهم "قرناء" ؛ ولكنها أيضا مفردة تنتمى إلى ذلك العالم الغيبى المفارق وتستدعيه فهى مفردة "تقترن " بعالمين مختلفين العالم الواقعى والعالم الغيبى ؛فتلك المفردة الواحدة قد ربطت بين عالمين مختلفين عالم واقعى معاش وعالم غيبى مفارق .
ثالثا الشخصيات والأحداث :
ظهرت معظم شخصيات "الموقف المقالى " بشكل سلبى واتصفوا بصفات "سيئة" للغاية ؛ واستحقوا أن يوصفوا بقرناء السوء ؛وهناك مؤامرة دارت حول تلك الفتاة الطاهرة النقية أطرافها هم الشخصيات "المحورية " في هذا العمل فكلهم قد تآمروا على تلك الفتاة ؛ (الزوج )السبب الرئيسى في تلك المؤامرة ؛ (الجارة) التي أشارت على الام بتلك المشورة المهلكة ؛ ثم (الأم) التي انصاعت لتلك الضغوط ودفعت ابنتها نحو الهلاك دون أن تدرى ..كلهم اشتركوا في هذه المؤامرة عن عمد أو عن طريق الجهل أو لوقوعهم في براثن التخلف .
وجدير بالذكر ان الأديبة قد أشارت إلى الأب إشارة عابرة لكنها تحمل الكثير فقد ذكرت الكاتبة وفاته وهو ما يجعل القارىء يستدعى حياته ويفكر كيف كان الحال سيكون لو كان هذا الاب على قيد الحياة ؛ وفى هذا تقدير ضمنى للسلطة الأبوية ودورها في حياة المراة ؛أيضا الشخصيات النسائية كان لها دورا سلبيا للغاية بدءا من الأم التى كانت السبب فى هلاك ابنتها وقد كانت محور الاحداث فهى التي استسلمت لضغوط المجتمع وضغوط الزوج ومشورة الجارة فدفعت ابنتها إلى الهلاك ؛ ثم الجارة التي كانت من "قرناء السوء " والتى أشارت على الام بتلك المشورة ونصحتها تلك النصيحة المغرقة .
أما الفتاة التي ظلت عذراء فقد "أيقنتها " الكاتبة وجعلت منها أيقونة و رمزا "عذريا "طاهرا وألبستها الكثير من الصفات الحسنة فهى التى تتصف بالإيمان والصلاح والتقوى والادب وكأن الاديبة جعلت منها مرآة نقية تكشف للمجتمع عيوبه وسوآته ؛ وقد أرادت الأديبة أن تجسد مقدار الظلم والإضطهاد التى تعانيه ( الفتاة ) فى صيحتها الأخيرة التى تكشف عن عذريتها ( الفيزيقية ) وعن مدى جهل المجتمع وتخلفه .
كما أن هناك ملاحظة جديرة بالإعتبار فالأديبة قد جردت الشخصيات النسائية من الأسماء فكانت ..الأم - الجارة - الإبنة أو الفتاة وحتى الأب لم تذكر اسمه أبدا ..ولم تذكر أسماء في هذا العمل إلا أسماء الشخصيات الطرفية فقط وهى (ذكورية)..وهذا فيه دلالة على أن هذه القصة تحدث فى كل زمان ومكان فليست مقيدة بفترة زمنية أو مشهد مكانى .
وقد أجادت الاديبة التكثيف والإيجاز فبدا العمل وكانه لقطة فنية مكثفة وموجزة تم التقاطها ببراعة وتم إظهار الشخصيات بشكل فنى ؛ كذلك عملت الأديبة على إبراز الحدث الرئيس " حدث الغرق " بصورة قوية تهز الوجدان .كل ذلك تم صياغته وفقا للغة تخاطب المشاعر والجدان إلى جانب العقل ؛ فالمقدمة جاءت بشكل شاعرى متدفق يحسبها القارىء للوهلة الأولى قصيدة نثرية من فرط شاعريتها ؛ كما أتى الحدث "الرئيس" فى القصة وهو مشهد الغرق الذى صورته الكاتبة ببراعة شديدة أعانها على ذلك شاعريتها ومقدرتها اللغوية والبلاغية فقد استحالت الموجة على يد أديبتنا وحشا يلتهم ويبتلع المركب بمن عليه فى صورة حية وكأننا نرى ذلك المشهد ماثلا أمام أعيننا.
خامسا الحضور ( الذكورى - الأنثوى ) : لدينا هنا فى هذا العمل الإبداعى صيغتان أنثويتان ..الصيغة الأولى ( أمومية -----أنثوية ) قامت بين الام وابنتها تلك الأم التى تتصف بالجهل المطبق والإنصياع لعادات مجتمعها ومعتقداته ..وعلاقتها بابنتها المتعلمة المهذبة التى تتحلى بالأخلاق والأدب فهى تجسيد للعفة والطهر أو المرأة كما ينبغي أن تكون .
وهنا تلقى الأديبة الضوء على ظاهرة لها حضورها الطاغى في المجتمع وهى ظاهرة " الظلم المزدوج "ذلك الظلم الذى يقع من المرأة على المرأة كما حدث فى حالة الام عندما ألقت بابنتها إلى الغرق تنفيذا لمعتقدات مجتمعها وما أشارت عليها به جارتها والتي هي أيضا امراة؛ وهذه الصيغة هى الأساس فى هذا العمل الإبداعى .
ولكن هناك صيغة أخرى باطنية قد أشارت إليها الاديبة عرضا وهى صيغة أخرى ولكن هذه المرة ( أمومية ----ذكورية ) وهى العلاقة التى قامت بشكل لحظى بين الريح كأم والبحر كابن ..وهنا قد استدعت الأديبة الطبيعة وجعلت منها عالما موازيا للعالم الواقعى .. ولم تكتف بذلك فقد أنثت الأديبة عناصر الطبيعة وذكرتها فأصبح هناك عالم واقعى تقوم فيه العلاقة ( أمومية أنثوية ) ؛ وعالم طبيعى تقوم فيه علاقة ( أمومية -ذكورية ) .
سادسا السلطة : ناقشت الكاتبة هنا عدة شخصيات مارست دورا "سلطويا" على تلك الفتاة المظلومة و المضطهدة تلك الفتاة الأيقونة..
السلطة الاولى تمثلت فى الزوج الذى ظلم (الفتاة ) مرتين حينما تباهى بفحولته المزيفة ومارس عليها قهرا بشكل مباشر ولم يكتف بذلك بل قام بدفعها إلى الغرق بشكل غير مباشر ؛ ثم الشخصية الثانية (الام) التى مارست ظلما وقهرا على ابنتها وألقت بها إلى الهلاك ..وهناك السلطة (الغائبة ) الأب ..التى ذكرتها الكاتبة بشكل عرضى لكنه ملفت ويدعو إلى التساؤل كما ذكرنا ماذا سيكون موقفه لو كان حيا ؟ ..هناك أيضا السلطة المجتمعية التى مارست ضغطا على الام وعلى الإبنة فالام لم تجد مفرا من أن تطيع عادات مجتمعها وما تفرضه معتقداته فوجدت نفسها مستسلمة تماما امام ما يفرضه.
الدافع : ونرى أن الدافع وراء كتابة هذا العمل الادبى هو إلقاء الضوء وتسليطه على الظلم والإضطهاد الذى تتعرض له المرأة وبيان "مظلومية المرأة " بأوضح صورة ممكنة وبلغة مباشرة صريحة ممزوجة بأسلوب شعرى رقيق يهز القلوب والوجدان وكذلك صور تخاطب العقل والعاطفة معا ؛ وهو أمر وجدت الاديبة أنه لا تحتمله القصة القصيرة فاستعانت بهذا الفن الجديد ( الموقف المقالى ) الذى أتاح لها الكثير من الحرية لتقول ما تريد ولكن أيضا في قالب فنى يثير الإعجاب.
هامش --------------------------------------------------

(1) الذرائعية في التطبيق في تحليل النص الادبى العربى –تأليف : عبد ارزاق عودة الغالبى – نظرية نقدية تحليلية علمية تعتمد على مداخل ونظريات نفسية وفلسفية في تحليل النصوص الأدبية مرفقة بدراسات تطبيقية في ذرائعية النقد للاديبة الناقدة السورية الدكتورة / عبير خالد يحيى . إصدار مؤسسة الكرمة للتنمية الثقافية والإجتماعية .ص 18
(2) المرجع السابق ص 17
(3) بحث بعنوان الحوارية ابتكار وتجنيس للدكتورة / عبير خالد يحيى –مجلة سرديات مجلة علمية فصلية محكمة – تصدرها الجمعية المصرية للدراسات السردية .
(4) بحث في الاجناس البينية الجديدة مع تحليلات نقدية ذرائعية مستقطعة لكل واحد منها – بقلم الناقدة الباحثة الدكتورة / عبير خالد يحيى .



#كريم_عرفان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذرائعيون وجماعة فيثاغورس
- النظرية العربية الحديثة
- شفرة أرسانى (1)
- -تمرد خافت -رؤية نقدية للمجموعة القصصية -شعر مستعار- للأديبة ...
- اليمين الأدبى
- إبداع المرأة ..وفقا لهيزنبرج
- أدب المرأة ..بين اليمين واليسار
- الدراماتورج
- هالة ..-عندما تتحول الأنثى إلى هالة نور
- الإسلام -الأصولى-هو الحل
- الشافعى..فيلسوف العرب
- الأرأيتيون
- قصيدة النثر..نهاية التاريخ
- شكسبير المعاصر
- النوبيون أول من اهتم بالتراث المسرحى
- متى خلق العالم ؟
- راية العروبة
- مشروع بروك الثقافى
- استقلال الفلسفة العربية
- فصل السياسة عن الأخلاق


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم عرفان - دراسة نقدية للموقف المقالى -قرناء السوء- للأديبة والناقدة السورية الدكتورة/ عبير خالد يحيى .