|
قصة قصيرة : بائعو الهوى
عبدالله بير
الحوار المتمدن-العدد: 6457 - 2020 / 1 / 6 - 10:24
المحور:
الادب والفن
كان الدكتور يتفصد عرقاً وهو يحاول ايقاظ كريم، حاول معه بشتى الطرق، وفي النهاية، تدخل رئيس المؤسسة بنفسه، فقدان حياة شخص او بقاءه في حالة الغيبوبة يسيء إلى سمعة مؤسسته. تحدث إلى الدكتور عبر شاشة ضوئية متلفزة: - دكتور ، كيف تجري الامور؟ وهل فكرت في شيء يحافظ على سمعة الشركة؟ ارجو اعطائي تقريراً كاملاً عن الحالة في النهاية . - نحن نحاول، نحن نحاول، ولكن الحالة معقدة بعض الشيء و لم تحصل من قبل، لدينا وقت كافي، فبقي عشر ساعات حسب ما هو مسجل في قاعدة البيانات. اُغلق الشاشة و مازال الدكتور منهمكاً في فحص الكابلات الموصلة إلى المقصورة التي فيها كريم، فقال احد مساعدي الدكتور : - يا دكتور، كل شيء طبيعي ولكن دماغه لا يستجيب للترددات الكهرومغناطيسية، نخشى ان تؤثر على وظائف اخرى في جسمه. كان كريم غارقا في تفكير عميق وهو متمدد على ارض عشبية ، تفوح منها رائحه العشب الطازج، وضع راسه على احدى فخذي بشرى، ينظر إلى السماء، و نتف السحاب تتحرك وكأنها سفن بيضاء تمخر عباب البحر الهادئ، كانت غابة كبيرة متنوعة الاشجار من بلوط و صنوبر و سنديان ولوز وجوز، لا يُسمع فيها سوى خرير جداول ماء صغيرة، و زقزقة العصافير، كانت اشعة الشمس تخترق الغابة بين الاشجار وكأنها سيوف ذهبية لماعة و حادة. تجلس بشرى ذات السبع و العشرين سنة، رشيقة القوام و بيضاء البشرة وذات وجه مليح و شعرها ينساب على كتفيها و كأنه نهر تنعكس فيه الشمس الآيلة إلى الغروب، ممددة ساقيها الرشيقتين على العشب، يفكر كريم، كيف قضى حياته في المؤسسة، ينفذ أوامر المدير و كيف كان سخرية لزملائه في انضباطه و تنفذيه للأوامر. - بشرى، هل تعلمين؟ إنك اول حب في حياتي، و إني لم اذق طعم الحب من قبل، حتى امي لا اكاد اتذكرها، و لا اعرف شيئاً عن ابي، يقولون بانني نتيجة لتجربة علمية، عندما كانت امي طالبة تدرس الطب، اجرت على نفسها تجربة تلقيح صناعي، باستخدام مواد كيماوية دون مواد عضوية، حبلت بي، ولو أن امي لم تترك شيء من ذكرياتها سوى تسجيل صوتي في دار الذكريات، في كل مرة لما ازورها تقول نفس الشيء . - كريم، حبيبي، انتبه حين تعبر الشارع، ولا تخالط الاشرار، وحافظ على صحتك، وليكن سوارك الالكتروني معك اينما كنت فهو هويتك، وكل جيدا، ولا تنام في البرد. تنهدت بشرى، رفعت راسها، كانت صدرها مثل سفح جبل مغطى بالثلوج، شعرها منسدل على كتفيها كأنه شلال من الذهب، قالت: - كم احبك يا كريم، دعنا من الذكريات المريرة، تذكر ما نحن فيه، كل هذا الجمال، دعني اضمك إلى صدري. دعنا نتلذذ بالحياة في هذه اللحظة، كي لا تفوتنا أي دقيقة جميلة، قم و امسك بيدي و خذني إلى ذاك المرج و لنمارس الحب. قال كريم و قد غطت وجهه ابتسامة غريبة: - ابقي كما انت، الآن احس بجمال الحياة، لو عرفت هذا قبل ان اُقدّم لهذه الاجازة، لكنت جعلتها شهراً . - استيقظ يا غبي، استيقظ يا ابن الكلب، أي ورطة اوقعتني فيها؟ قالها الدكتور وهو يزيد من ترددات الطاقة لجهاز التحسس العصبي الموصل إلى المقصورة التي فيها كريم. - دكتور، هناك اشارات الاستجابة على جهاز الاستشعار، يبدو انه يستجيب يا دكتور. قالها احد المساعدين وهو ينظر إلى شاشة المقصورة. استيقظ كريم وخرج من المقصورة الموصلة بالحاسوب المركزي للمؤسسة ، وقال الدكتور: - اخفتنا يا استاذ، الف مبروك و المؤسسة تأمل أن تقضي وقتا ممتعا معنا، و نتمنى منك تكرار الزيارة. لم ينبس كريم بكلمة و كان هائما و يبدو عليه علامات الارهاق و التعب، ساعداه اثنان من منتسبي المؤسسة في الخروج من المقصورة و جلس على كرسي بالقرب من باب الغرفة و قدم احدهم كاسا من عصير البرتقال الطازج. تمتم كريم بكلمات لم يفهمها احد، وظل يتحدث مع نفسه و وضع كلتا يديه على فخذيه و أحنى راسه متأففا، فلاحظ الدكتور حالته و بإيماءة منه حاول احد المساعدين اخراجه من الغرفة ولكن كريم لم يذعن للأمر و بدا يردد: - بشرى، بشرى، اين بشرى، اين هي؟ رفع راسه و نظر إلى الدكتور و كانت عيناه محمرتان و يرتجف وكأن به حمى و قال بصوت هادئ رتيب: - دكتور، اعد إلي بشرى و سأعطيك ما تريد، ما تريد كررها مراراً. فالتفت إليه الدكتور الذي كان منشغلا بتفقد المقصورة محاولاً معرفة اسباب عدم استجابة عقل كريم للترددات الكهرومغناطيسية التي أخرته في الإيقاظ، قال بصوت رخيم : - يا سيدي, بشرى غير موجودة في الواقع وانما هي محض خيال وانت اعطيتنا المواصفات ونحن خلقنا لك بشرى في فضاء افتراضي عشت فيه لمدة اسبوع واحد. ظل كريم يردد نفس الكلمة وبدت عليه علامات التوتر و العصبية ، وتصرف بجنون صارخا: - بشرى، اين هي؟ اريد ان ارى بشرى. ادى الامر إلى تدخل رجال امن المؤسسة، واخذوا معهم كريم، الذي لم تصدر منه أية ردة فعل تدل على رفضه للخروج من المؤسسة، ولكن كان مهموماً و منشغل البال، يسير على غير هدى. وصل إلى البيت و هو يفكر في بشرى، وبشعور لا إرادي جلس على حافة سريره صامتاً و لم يغير ملابسه و لم يدخل الحمام للاستحمام كعادته حينما يرجع من العمل، وفي وقت ما من الليل شعر بالبرد فتمدد على السرير و غطى نفسه بحافة لحاف، لم يكن يصدر منه سوى انين و تمتمة لا تُفهم . اصدر منبه الساعة موسيقى صاخبة، ثم صوت انثوي ناعم يقول: - قم إلى العمل سيد كريم، انت متأخرٌ بربع ساعةٍ، قم إلى العمل سيد كريم، انت متأخرٌ بربع ساعةٍ. ظلت الساعة الناطقة الموجودة على طرف السرير تردد هذه العبارة، ولكن لم يتحرك كريم من مكانه كما كان يفعل من قبل، وفي حوالي الساعة العاشرة صباحاً دخل شعاع الشمس غرفته من خلال النافذة، استيقظ كريم، و سار إلى الحمام و اغتسل، ثم نظر إلى نفسه في المرآة، و خرج من البيت و توجه مباشرة إلى مؤسسة بيع الهوى، سال السكرتيرة: - اريد ان ارى بشرى لدقيقة واحدة لا اكثر. لم تفهم السكرتيرة شيء ، واجابت : - من هي بشرى ، و في أي قسم تعمل؟ قال كريم وهو منخفض الراس ، رث الهيئة: - لا اعرف، ولكنها كانت معي في الاجازة، احبتني و احببتها، و اريد ان اراها. ضحكت السكرتيرة و قالت: - يا سيد تلك السيدات غير موجودات في الواقع ، إنها من بنات خيالكم، الرجال، بشرى موجودة في خيالك و ليس لها وجود حقيقي، هل من سؤال اخر؟ ولكن اصرار كريم على رؤية بشرى او التحدث إليها، كانت بداية المشكلة، فصاح بأعلى صوته على السكرتيرة : - اذا لم ارى بشرى سأقتلك و سأقتل كل من في المؤسسة، سأرفع عليكم دعوى قضائية بإخفاء حبيبتي، سأقتل نفسي. ما أن سمع جهاز الانذار كلمة القتل، اصدر صوتاً غريباً، ووصل رجال الامن، و حاولوا ابعاد كريم عن المؤسسة ولكن كريم قاومهم، وظل ينادى بأعلى صوته: - بشرى اين انت؟ بشرى اخرجي انا كريم، بشرى انا احبك و سأظل احبك، انتظرني، سأحررك من هذه العبودية. بدأت الفوضى تعم كل المؤسسة، وتدخل رئيس المؤسسة و استفسر عن الامر، وتدخل الطبيب الذي اشرف على اجازة كريم، واخيراً تمكن رجال الامن من طرد كريم خارج المؤسسة، وإخبار مؤسسته بالتجاوز الذي حصل من قبل كريم على مؤسستهم و طلبوا تعويضات عن الاضرار التي حصلت، فتدخلت مؤسسته بأخذ تعهد خطي منه بعدم الاقتراب من أي مؤسسات بيع الهوى، فظل كريم يفكر في بشرى و في كيفية الوصول إليها، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل، فغاب عن المؤسسة لمدة اسبوع بدون ترخيص، تحرت المؤسسة عنه، واخبرت الشرطة عن غياب كريم، تحققت الشرطة من الموضوع مع جيران كريم و زملائه في العمل لأنه لم يكن له اصدقاء، فَعَلِمت اخيراً بان كريم لم يخرج من شقته منذ اسبوع، حصلت الشرطة على امر من المحكمة بكسر باب شقته، ولما دخلوا الشقة، وجدوا كريم ممدد على الارض و حوله بركة دم جافة و في يده صورة امرأة شقراء الشعر و بيضاء البشرة و مكتوب اسفل الصورة "إلى صغيري كريم مع حناني " امك بشرى.
#عبدالله_بير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
توظيف السيرة و الاسطورة في القصة القصيرة قصص -باندورا - للكا
...
-
التيه بين اغتراب الواقع و ماض مغترب قراءة في مجموعة قصائد (
...
-
قراءة في كتاب - تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق -
-
عودة إلى السماء
-
المحاكاة
-
ذكريات سرور
-
صديقي لم يكن ارهابيا
-
قراءة في كتاب السيميولوجيا و التواصل
-
فتاة من طينة الذهب
-
ندم اللقاء
-
قد لا يأتي الأمل أبداً
-
الذي لي ليس لي دائماً
-
الخير يأتي اولاَ
-
العباءة
-
افتح قلبك لتسمع روحك
-
الظل
-
لا تدع الديدان تقترب
-
قراءة في رواية - الخيميائي - لباولو كويلو Paulo Coelho -.
-
قراءة في قصيدة (كلما أنَّ الجسدُ من أسره رَفرَفت الروح) للشا
...
-
ملائكة في طريق الجحيم
المزيد.....
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|