|
لهاة مكتوم
محمد الدرقاوي
كاتب وباحث
(Derkaoui Mohamed)
الحوار المتمدن-العدد: 6446 - 2019 / 12 / 24 - 16:44
المحور:
الادب والفن
بقطعة فحم ، خطت على الأرض مربعات ثلاث متتالية ، ثم مربعين ملتصقين ، رمت شقفة من فخار في المربع الأول ، وبدأت تنط برجل واحدة ، كانت بين حين وآخر تتلفت يمنة ويسرة ،كأنها تترقب وصول صديقاتها ليشاركنها اللعبة .. تتوقف قليلا ، ترفع وجهها الى السماء ، وكأنها تستعذب نسائم مابعد العصر المنعشة التي كانت تجتاز الدرب ،حيث الربيع شرع يودع القرية بعد سنة شبه جافة .. بعيدا عنها وعند مدخل الدرب ، وقف شاب في عقده الثاني يتابعها وهي تقفز كفراشة جذلى فوق التربيعات ، وكلما ارتفعت تنورتها ظهرت ركبتاها القمحيتين وفخداها البضتين . لم تكن تحفل بذلك، فقد كانت رحابة حرية في لفيف براءة هي طفلة في العاشرة من عمرها ، لم تكن أجمل بنات القرية لكنها كانت دقيقة التقاطيع ، في عينيها الواسعتين حوَر ، يضيف على لونها القمحي وشعرها الرطب المسدول على كتفيها ملاحة جذابة ؛ كان وجود الشاب مألوفا لديها ، فهو من اقربائها ،لهذا لم يثر في نفسها أي خوف أو رهبة لتحتاط من وجوده ،ومن متابعتها وهي تمارس لعبتها اليومية ،كما أنه ابن الحي ، الذي تعود ان يغيب شهورا كطالب في بلاد الهجرة ، ثم يظهر في عطلة صيفية او عيد ديني .. كانت بين قفزة وأخرى تسارق اليه النظر ، وبسمة رضا وثقة تتربع على وجهها فقد كانت تمنى النفس أن يجود عليها بقطعة شوكولاطة ، كما تعود ان يوزعها على أطفال الحي كلما حل بالقرية .. سمعت نداء آتيا من داخل البيت ، تركت شقفة الفخار على التربيعة ، ثم ولجت باب البيت لتعود وفي يدها قطعة نقدية ، ركضت تقصد دكان الحي .. توقفت حيث وقف الشاب العشريني ، تبسم في وجهها ،سألها عن وجهتها، ثم همس لها بكلمات ، انتظرت بباب بيته قليلا قبل أن تلحق به ... خرج الشاب بعد برهة وفي يده حقيبة سفر .. ظلت الصغيرة قلب البيت لا تدري ما حل بها ،فهي لا تذكر الا صوت الشاب وهو يناديها : سناء ادخلي !!! ... ناولها كاسا به عصير ،ثم لم تعد تذكر شيئا .. حين صحت وجدت تبانها بين ركبتيها ، ومادة لزجة كقطرات الشمع على فخديها ..اصفر وجهها ، بلغ قلبها حلقها ، ارتعدت من خوف يغتالها ،فحولها الى فأر مذعور لايدري له وجهة، بكت،:كيف تواجه أمها وأباها ؟، كيف تواجه أخوتها الكبار ؟ كيف ترفع راسها بين صديقاتها في الحي والمدرسة ؟؛ وحدها قطعة النقود النحاسية ظلت حبيسة كفها ، لكن كل ماعداها قد ضاع ،حلم صباها اعلن انتحاره في لحظة ثقة ، لحظة طمع منها في قطعة شوكولاطة .. أعادت تبانها ، تلمست من بين دموعها القطعة النقدية مبللة عرقا قلب كفها، كما تبلل تبانها بما لا تعرف ماهو ، وكما تبلل عمرها خزيا وعارا ،خرجت تجر قدميها الصغيرتين تقصد الدكان ، استعادت كلمات أمها كما تسعيد فرحتها المغتالة : "نصف كيلو سنيدة وصابونة صغيرة " ،تسلمت ماطلبت من صاحب الدكان ، وقد أحست بعيونه تمسحها ..عادت الى البيت ، وضعت السكر والصابونة في غرفة أمها ،ثم هرولت الى مرحاض البيت وشرعت تغسل فخديها، وتمسح ما علق بتبانها .. ركبها صراع نفسي حاد؛ هل تتكلم ؟، هل تصمت ؟ في كلامها فضيحة مدوية قد تتجاوز القرية وفي صمتها نهاية عمرها ، آمالها واحلامها ..عاودت غسل وجهها ، صبت قليلا من الماء على قفاها ، حاولت ان تهدأ ، أن تبترد ، أن تخفي كل مابها ، أن تتغلب على صراعها النفسي الى أن يمر اليوم بسلام قبل أن تقرر ما تفعل. تركنت في زاوية من غرفة الضيوف كما تفعل كلما ارادت ان تخلو لدروسها ،فهو الحل لتواري خوفها عن وجه أمها وكل من يدب في البيت ، رغم الذعر الذي يعوي في باطنها والشحوب الذي يركبها .. وحلقها الذي صار جافا كحزمة شوك، عسير ان يبتلع ريقها ... تذكرت احدى صديقاتها حين اختلى بها أحد رعاة القرية وفض بكارتها ، كيف هاجت البيوت ، وماجت ، كيف صار اللغط حديث الصغار والكبار حول الحرب التي اشتعلت بين العائلتين الى أن انتهى الامر بانتحار الصديقة ، وتدخل الدرك بقوة ردع والقاء القبض على بعض من يستغلون الوضع بالوشايات والنميمة .. بلاعشاء نامت .. كم هذت خلال نومها المتقطع : ـ أكره أن اصير كصديقتي ، مضغة على كل لسان ، عارا على ابي المريض ،خزيا لإخوتي ، لن يتفتت لي صخر ، فأصير وبالا على كل أهلي ،لن استسلم لانهياري ، ساحاول أن أنساه ، المصيبة ستعتقل حريتي ، لكن اعتقال حرية أهون من فضيحة مدوية قد تنتهي بانتحاري أو بقتلي من قبل أحد اخوتي الكبار .. لا .. لن أنتحر ، ولن أتكلم .. سيكون الصمت ظلي ، ينتصب بيني وبين غيري .. من ليلتها فقدت الطفلة بشاشتها ومرحها ، بعد أن انهار كيانها النفسي ،كما انهار لسانها عن الكلام ، تغيرت حالها ، تغريداتها الطليقة صارت تمتمات كلام، وبريق عينيها المضيء صار انكسارا ، يستغرقها تفكير شغلها عن دراستها فحول اجتهادها الى خمول تبدى لكل العيون ؛كثيرا ما سألتها أمها عن سبب هذا التغير المفاجئ ،فيأتي الرد بعيون مكسورة وكلمات قليلات : تعب وعياء .. ثم جاء الفرج عن طريق طبيب أعلن بعد فحصها : بداية التهاب كبدي هو ما حول نظارة الوجه الى شحوب وعياء بدني .. بدأت تقاوم حالتها ،مقاومتها لتراخيها في مراجعة الدروس وإنجاز الواجبات ،صار تقدمها الطفيف تقادما لحالتها ، وفتورا في المراقبة من قبل أهلها الذين سلموا بقولة الطبيب وأضافوا للأدوية التي نصح بها ، عقاقير شعبية أخرى ،لم تستطع إعادة اشراقة وجهها ،اما اعماقها فهي كتلة دموية وحدها تدري ما بها ..يغسلها النسيان لحظات ثم لا تلبث المصيبة أن تكفنها من جديد كم مرة حاولت أن تبوح لاحدى صديقاتها وتفجر اللغم عساها ترتاح من كوابيس لياليها الطويلة .. لكنها سرعان ما تتراجع .. فماعاد اليوم انسان يكتم سرا . ان تعتقل مصيبتها في اعماقها خير من ان تصير أنثى متهمة بثرثرة القوالين .. ربع قرن وهي تحمل سرها ،تتقادفها السنوات بين نهار وليل ، وليل و نهار ، تقضي الشهور والاعوام بالأماني الكواذب ،الى أن نالت شواهدها ثم اشتغلت .. دفنت عمرها في مهنتها ، تناست متع الحياة ، مات في صدرها الأمل موت جسدها الذي تخشب ، وصار يتلقى بلا ردة فعل ، لهاة مكتوم ينبعث كلما لفها ظلام ، أنثى تجر جثتها خلفها في صمت ،لا ينعكس أحيانا الا بكلمات تخالها من رجل خشن بلا خبرة ، وبمفردات ماتت لها أحلام ، تحسها وهي تتكلم وَهْنا من راس بلا جسد ، تدحرجت من قمة الى أسفل وانسابت في انحدار ، تغسلها دموع لا تفتر، حتى في عملها فهي تقاوم واقعا وحده يعيش مدفونا في صمتها ؛ ترى الغير من حولها كشخصيات درامية تؤدي دورا مسرحيا في حياة لا تنصف أحدا .. لحظة الجرم تعيش واضحة في ذهنها ، لا تفارقها ،تستعيدها بكل تفاصيلها من لحظة شرب العصير الى ان وجدت تبانها بين ركبتيها بقطرات كالشمع السائل .. كلما جحظت عيناها تمثلت كل رجل كقريبها الذئب الذي لم يحترم قرابته ولا طفولتها ، والذي رغم تعلمه وارتداء بذلة من خارج حضارته ظل شبه رجل متخلف لا يعي ما تساويه حياة طفلة يغتصبها وهي لا تشاركه رغبة ولا إحساسا أو فهما لما اقبل عليه ، ذنبها أنها وثقت في قناعه المزيف ..سيظل شرفها كما عفتها وبراءتها بل ستظل كل حياتها تصرخ عاليا في وجه كل مغتصب براءة أيا كانت الطريقة التي سلكها لينقض على فريسة بريئة .. المجرم الآتم البغيض ماعاد له في القرية ظهور ، ولا عاد يذكره أبناء القرية الا بافتخار ، شاب من العدم استطاع ان يحوز شهادة علمية ، يحصل على وظيفة في بلاد الغربة ويتزوج نصرانية ..لكن لا احد يعرف أنه مجرم ، يجر وراءه جثة قلب جسده المدنس، وضميره الميت عبر ثنائية حياة تعلن الدين وبه لا تؤمن ، نهش طفلة بريئة ، وضع حبلا ابديا لمشنقة طاعنة ابدا لن يغيب لها اثر ...
#محمد_الدرقاوي (هاشتاغ)
Derkaoui_Mohamed#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المعنى هو الانسان
-
معلقات الزمن
-
احلام يانيس
-
رفقا بالقوارير
-
على صدرك ينتهي الركب
-
النرجس على ذاتك مات
-
الحاضر مات في ذكرياتنا
-
حبيبتي غجرية
-
اليك ماعادت تعربد رغبة
-
صورة
-
حب، هوى وانصهار
-
فاس
-
تحرش
-
من القاتل ؟
-
أنثى تعيد للنهر الجريان
-
القطاف غربة
-
حر الظمأ
-
هل حقا ماتت ؟
-
صغيرة مقتولة بعشق
-
غياب
المزيد.....
-
في قطر.. -متى تتزوجين-؟
-
المنظمات الممثلة للعمال الاتحاديين في أمريكا ترفع دعوى قضائي
...
-
مشاركة عربية في مسابقة ثقافة الشارع والرياضة الشعبية في روسي
...
-
شاهد.. -موسى كليم الله- يتألق في مهرجان فجر السينمائي الـ43
...
-
اكتشاف جديد تحت لوحة الرسام الإيطالي تيتسيان!
-
ميل غيبسون صانع الأفلام المثير للجدل يعود بـ-مخاطر الطيران-
...
-
80 ساعة من السرد المتواصل.. مهرجان الحكاية بمراكش يدخل موسوع
...
-
بعد إثارته الجدل في حفل الغرامي.. كاني ويست يكشف عن إصابته ب
...
-
مهندس تونسي يهجر التدريس الأكاديمي لإحياء صناعة البلاط الأند
...
-
كواليس -مدهشة- لأداء عبلة كامل ومحمد هنيدي بفيلم الرسوم المت
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|