|
مسرحية -كلمات القرد الأبيض الأخيرة- وجدلية العلاقة بين الشمال والجنوب
خالد سالم
أستاذ جامعي
(Khaled Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 6445 - 2019 / 12 / 23 - 23:46
المحور:
الادب والفن
كلمات القرد الأبيض الأخيرة
خوان مايورغا ترجمة وتقديم د. خالد سالم
النص الأصلي بالإسبانية Ultimas palabras de Copito de Nieve للكاتب الإسباني Juan Mayorga دار نشر Naque editora
Ciudad Real. Espana 2004
مسرحية "كلمات القرد الأبيض الأخيرة" وجدلية العلاقة بين الشمال والجنوب د. خالد سالم
هل لا تزال هناك حاجة لشجب الوفرة، التخمة التي يعيش فيها الشمال، والعوز، التضور الذي يعيشه فيه الجنوب؟ يبدو أن هذا الكاتب المسرحي الإسباني لا يزال يصر على فضح علاقة الشمال بالجنوب، ما تسببه سياسة الأول للثاني، أي الغرب للعالم الثالث. وهو ما يكشف عنه الكاتب الإسباني في مسرحيته "كلمات القرد الأبيض الأخيرة". بداية أود أن أشير إلى أن عنوان المسرحية هو " كلمات القرد الأبيض الأخيرة " وأن هذه التسمية للقرد، ،Copito de Nieve تعني بالإسبانية ندفة الثلج. وقد آثرت أن أترجمها إلى القرد الأبيض لتقريب المعنى إلى قارئ العربية. وهذا القرد الفريد في لونه كانت قد جلبته غاليّا إدارة حديقة الحيوان في مدينة برشلونة، ما جعل منها مزارّا يقصده أطفال إسبانيا واشتهر ليمثل ظاهرة في إسبانيا كلها طوال الثمانينات والتسعينات إلى أن مات. ومعروفة هي الحساسية السياسية التاريخية بين العاصمة، مدريد، وثاني أكبر مدينة إسبانية وعاصمة إقليم قطالونيا، برشلونة، تتمثل في مظاهر عدة، أبرزها فريقي كرة القدم ريال مدريد وبرشلونة، ووصلت ذروتها في السنوات الأخيرة إلى رغبة إقليم قطالونيا في الإنفصال عن إسبانيا. وقد أثرى الحساسية بين العاصمة والإقليم، برشلونة، ظاهرة هذا القرد ومنافس له هو الدب تشو لين Chu Lin، من فصيلة الدب باندا Oso Panda، في حديقة حيوان مدريد، وانقسم سكان المدينتين إلى فريقين حول قرديهما، ما يدخل في عالم الوفرة والفراغ، إفراز النزعة الاستهلاكية في العالم الأول. والمسرحية استعارة للكثير من قضايا العالم المعاصر اليوم، وعلى وجه الخصوص الوضع الحالي. إنها مجاز للكثير من الخيوط التي تتلاقى في رسالة هوية واحدة، الغير، معرفة واكتشاف الآخر. فإشارة البداية التي يقدمها القرد الأبيض بخصوص القرد الأسود ووضعه بالنسبة للحارس وموقف هذا من القرد نفسه تتحدث عن الإنسان المعاصر، عن عزلته ووحدانيته. ومن ناحية أخرى فإن القرد الأبيض يتمتع بشخصية ملفتة فهو إفريقي ومثقف، إذ يعرف الفلسفة ويقتبس من الفلاسفة، يتأمل في مسألة الموت ومعناه، أمام حارس بلا طموحات وبلا قيم كبيرة، وكلها أمور تلغي القرد الأسود، القابع في حديقة حيوان العاصمة. فالقرد الأبيض يفكر، يقرأ، يفلسف، في حين أن القرد الأسود تقتصر حياته كلها على البحث عن الطعام، بل إنه يضطر إلى أن يأكل بقايا طعام خصمه الأبيض. إن ما يطرحه خوان مايورغا يمثل جزءًا من الحقيقة، وهو طرح سهل وصحيح سياسيًا في عالم اليوم. ويجد المتلقي قراءة للواقع، للإنسان، تكشف النقاب عن التعقيد القائم. هذا دون أن يحملنا هذا الوضع على التفكير في أن المسرحية كتاب حول الإنسان المعاصر، وهو ما طرحه المؤلف بحصافة. إننا أمام كوميديا حول الموت، عمل مسرحي موضوعه مأسوي لكن مسحة من السخرية تعلوه، استنطق فيه المؤلف القرد وهو في اللحظات الأخيرة قبل الرحيل عن الدنيا، فنجده يتكلم عن حياته، عن حارسه، عن زميله "كونغ الصغير"، الغوريلا الصغير الذي صاحبه طوال حياته منذ أن أُدخلا حديقة الحيوان في مدينة برشلونة. ونحن أمام كلمات غوريلا-فيلسوف، كلمات ذات مغزى عميق يلقي بها على أمل أن يتعلم منها الإنسان. وربما كلماته التالية تساند ما أطرحه هنا: " اقتراب الموت يجعلنا نشعر بالحرية. فالمحتضر ليس عليه أن يخدم أحدًا، ولا يخيفه أحد. ولم تعد هناك أصفاد تكبله ولا أقنعة. لا يوجد في العالم مخلوق أكثر حرية من الذي يواجه يموت.." وبالإضافة إلى كون هذا القدر، ندفة الثلج، فيلسوفًا فهو ممثل، ممثل محترف، وهو ما تؤكده كلماته هو نفسه. إنه نجم الحيوانات المقيمة في حديقة الحيوان، ولهذا يعرض مهاراته في التمثيل والأداء، دوره في الملهاة والمأساة. ومع هذا فإنه يلح على أنه غوريلا بسيط، سيموت كما يموت البشر، ويلح على أنه يشبه الإنسان في هذا، والربط بين هويته وهوية البشر يمثل أقصى درجات إهتمامه والنقطة التي تحرك العمل المسرحي كله. لاشك أن مسألة اللون هنا، القرد الأبيض والقرد الأسود، تكتسب أهمية وإن كانت ثانوية، فالأبيض بين البشر كانت له دائمًا الأفضلية على الأسود، لكن ما يهم الكاتب هو تشبيهه بالإنسان، فالمسرحية بعروضها التي كسرت حاجز النجاح الإعتيادي لتسجل أرقامًا فلكية في الليالي والأمكنة التي عرضت فيها تجعل هذا القرد، الغوريلا الأبيض، يكتسب طابعًا إنسانيًا، إذ يتكلم و"يتفلسف" كما لو أنه كان يقوم بهذه المهمة طوال حياته. وإذا حاولنا سبر أغوار المؤلف – الذي أعرفه شخصيًا والتقيت به في أكثر من مناسبة في جامعة مدريد وأليكانتي- فإننا ندرك في الحال أننا أمام استعارة مؤلمة وحزينة للمجتمع الذي نعيش فيه. لقد حاول خوان مايورغا أن يربط هويتنا بهوية القرد، فكلنا سواسية، حيوانات، عاقلة أو غير عاقلة. والمسرحية في مجملها تعيد صياغة لوحة حول مسار تطور القرد إلى إنسان والعكس. وبعد ذلك نجد الحيوان، القرد، يذكرنا بأنه يفكر فينا. وعملًا بمبدئه فإن المؤلف يرى أن أفضل الأعمال هي تلك التي "تعرف كيف تنتهي" ولهذا فإنه أنهى مسرحيته بموت الغوريلا الأبيض "ندفة الثلج". بقي أن نقول إن خوان مايورغا، كاتب مسرحي إسباني، ولد في عام 1964، وينتمي إلى ما يعرف بجيل برادومين " Generacion Bradomin"، ومعروف بمنهجيته التي اكتسبها من دراسة وتدريس الفلسفة والرياضيات إلى جانب عمله أستاذًا لفن كتابة المسرح في المدرسة الملكية للمسرح في العاصمة الإسبانية وعضو مجمع اللغة الإسبانية. تخطت أعماله الحدود الإسبانية لتُترجم أعماله إلى لغات وعده وتُمثل في الكثير من المسارح الأوروبية والأميركية اللاتينية، وكانت لي محاولات لاشراكه في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي لكن ثورة 25 يناير 2011 جمدت المهرجان ثم بدأ مرحلة أخرى لا صلة لي بها.
د.خالد سالم
مقدمة المؤلف أنا والقرد الأبيض (كوبيتو دي نيبي
لقد وصل بي الأمر إلى أن تعرفت إليه شخصيًا. وعندما أقول "شخصيًا" فإنني لا أقصد نفسي، بل أقصده هو. لم يحملوني قط لمشاهدته. ولم يخطر ببالي أن أطلب هذا من أبوي. كنت على قناعة بأن رؤيته مقصورة على أطفال برشلونة فقط. وبالتالي فإن طفلاً من مدريد كان عليه أن يكتفي بمشاهدته في التلفزيون. أول شيء ثابت في ذاكرتي عن "القرد الأبيض"، Copito de Nieve كوبيتو دي نيبي، كان عبارة عن صورة حية له في الخلفية وأحد مسؤولي حديقة الحيوان. وفي لحظة من اللقاء قال المسؤول: "القرد الأبيض أكثر أهمية من الدب باندا الموجود في حديقة حيوان مدريد". أتذكر أنني تساءلت –ولا أزال أتساءل حتى اليوم-: لماذا يتكلم عن مدريد؟ ما علاقة مدريد بهذا الأمر؟ حينئذٍ لم أكن أدري أن القرد الأبيض ليس أكثر من قرد. منذ عدة أشهر علمت أن المدينة كلها اصطفت في طابور أمام جثته كي تودعه وخطر في بالي، في هذه اللحظة، أن القرد الضخم يمكن أن يكسر صمته. أخيرًا تمكن المختار، المفضل للأطفال، المواطن المثالي –من وجهة نظر عمدة مدينة برشلونة- من أن يقول ما كان يفكر فيه، عن الحارس الذي يحرسه وعن القرد الأسود الذي معه في القفص، عن هذه المخلوقات البشرية الذين ينظرون إليه وهم يبكون، الذين يعرفهم أحسن من أي شخص، بعد مراقبتهم خلال سنوات طويلة، عن الحياة وعن الموت. عن الحياة والموت، لم لا؟ عند الموت يصهل الحصان، ويغني البجع ويتفلسف القرد. عن الموت وعن الحياة. أو عن ما يريد، فهو أقل ما يمكنك أن تمنحه لشخص في هذه اللحظة، أن يقول ما يريد. رغم أنه قد يقول لك شيئًا غير لائق، وإن أشار إليك بإصبعه: "أنت لا تعجبني". لم أذهب لرؤيته، وعليه كنت مدينًا له بزيارة. حتى وإن أشار إليّ بإصبعه وقال لي: "ماذا تفعل هنا أيها الصبي؟ من الذي أعطاك شمعة في هذه الجنازة؟ اذهب مع الدب باندا في مدينتك". إنني أتذكر الآن أنني لم أزر الدب باندا. كيف كان يسمى؟ لين تشو؟ تشين لو؟ تشولين؟ لا أحد يتذكر اسمه. ومع ذلك وصل إلى أن يصبح موضع مقارنة مع القرد الأبيض الذي لا مقارن له.
نص مسرحية كلمات القرد الأبيض الأخيرة خوان مايورغا الشخوص القرد الأبيض الحارس القرد الأسود
* عرضت هذه المسرحية لأول مرة في 22 سبتمبر 2004، في مسرح تياترو نويبو، مدريد.
(في مكان يلفه سور، الأكثر أهمية في حديقة الحيوان. يجلس القرد الأبيض في حالة نعاس في شيء يشبه العرش البابوي. وعلى مقربة منه يوجد الحارس، تصرفه ومظهره خاصان بحارس رجل مهم. يراقب الحركات المشبوهة للجمهور. إذا ألقى أحدهم طعامًا للقرد الأبيض فإنه يذوقه قبله. يطعم القرد الأبيض، يغسله، وينظفه من الحشرات. يسجل ما يقوله وما يفعله القرد الأبيض. القرد الأسود يركز على مهمة واحدة: صف أشياء على شكل كومة لتسمح له بالاقتراب من الموز المعلق الذي لا يستطيع أن يصل إليه قط. يتغذى على فضلات طعام القرد الأبيض ويتحرك في الفضاء الذي يتركه له. علاقة الحارس به تتوقف على كلمتين فقط: "نيكرو" و"روميك". يحاول القرد الأسود أن يكون مطيعًا، لكنه لا يحقق هدفه لأن كل واحدة من هاتين الكلمتين تبدو ذات معانٍ مختلفة ومتناقضة أيضًا. سكون القرد الأبيض وصل إلى درجة أن الحارس يقترب منه ليقيس له النبض. بعد أن تيقن من أنه لا يزال حيًا، يعود إلى مكانه. عندما أشار القرد الأبيض بحركة إلى الحارس اقترب منه. وشوشه شيئًا، فتوجه الحارس إلى الجمهور.)
الحارس: القرد الأبيض يريد أن يتكلم. إنه يريد أن يدلي بثلاثة تصريحات قبل أن يموت، التصريح الأول يشير إلى المرحوم تشو لين. الثاني رسالة إلى أطفال برشلونة. والثالث عبارة عن رد نهائي على سؤال: "هل الرب موجود؟" (ينهض القرد الأبيض بمساعدة الحارس. ويسير نحو الجمهور. بعد أن تأكد من أنه يستطيع أن يقف على قدميه، يشير إلى الحارس كي يبتعد. وأخيرًا يتحدث إلى الجمهور، أحيانًا بطريقة قد لا تسمع وأحيانًا أخرى بحيوية متجددة.) القرد الأبيض: ....Mai. Mai he tingut res contra أبدًا. لم يكن في نفسي شيء قط ضد ... (يقاطعه الحارس بوشوشته شيء في أذنه. القرد الأبيض يبدأ من جديد.) القرد الأبيض: أبدًا. لم يكن في نفسي شيء قط ضد الدب باندا، دب حديقة مدريد. إنه أول ما أريد أن أوضحه في هذه اللحظة الخطيرة. لقد حاولوا دائمًا مواجهتنا ببعض. فكم مرةً سمعت هذا؟ "غوريلا حديقة حيوان برشلونة الأمهق أهم بكثير من دب حديقة حيوان مدريد الباندا". قد يكون الأمر هكذا ولكنني أريد أن أعلن، بما للحظة من وقار، أنني لم أشجع هذا الجدل. فقد احترمت المرحوم تشو لين دائمًا. لقد أعددته محترفًا جيدًا، وكان بودي أن أحضر جنازته. إلا أنني لم أقم بذلك نظرًا لأنني لا أخرج من هذا المكان المسور إطلاقًا. ولا أقول "المكان المسور" بلهجة تحقير: إنه أحسن مكان في الحديقة. هناك ناس يصيحون عند رؤيتي: "يعيش أحسن من الكثير من الأشخاص في هذه المدينة". من المؤكد أن عندهم حقًا. فهذه المدينة عاملتني معاملة فاخرة، خاصة منذ أن وصلت سمعتي إلى الرأي العام. منذ أن عُرف أن القرد الأبيض كان مصابًا بمرض عضال التفت المدينة حولي. هذه الطابور، الطابور الطويل من الناس... يمثل أقصى علامات حب أبدته أي مدينة نحو حيوانها المفضل. كلكم، كلكم جئتم لتودعوني. حتى عمدة المدينة نفسه كان هنا هذا الصباح وألقى خطابًا. الجميع من الشحاذين حتى العمدة، كلكم قلتم: "علينا عيادة القرد الأبيض في هذه المرحلة الصعبة". وقد قرأت كثيرًا حول هذا الأمر في مؤخرًا، حول الانتقال من الحياة إلى الموت. سقراط، سينيكا، كيركغارد... وحسب مونتين، "الموت مرعب بالنسبة لسيشرون، ومرغوب فيه حسب كاتون، غير مبالٍ فيه بالنسبة لسُقر...". (يتوقف على أثر سقوط القرد الأسود. القرد الأبيض ينظر إليه. القرد الأسود يستأنف مهمته المملة.) القرد الأبيض: عندما أحضروني كان القرد الأسود هنا من فترة. دخلت المكان وكان هنا يفعل ما يفعله الآن بالضبط. لم يتغير شيئًا. أحيانًا ينظر إلي كما لو كان على وشك أن يفهم شيئًا. إنه لا يفهم شيئًا. لا يعرف لماذا هو هنا. هل تعرفون أنتم لماذا هو هنا؟ إنه يفيد كمرجعية للمقارنة. يُستخدم كي تأخذوا في الحسبان أنني فوق العادة. إن لم يكن هنا لم أدركتم أهمية حالتي. وإذا لم يكن هنا لما أدركتم أنني أبيض. إذا لم يكن هنا لما أخذتم في الحسبان ابتسامتي. إذا لم يكن هنا لما أذهلكم ذكاء نظرتي. أليس حقيقيًا أن بمقارنتي به أشبه الإنسان تقريبًا؟ من حين لآخر أتعارك معه من أجل حبة فول سوداني أو من أجل ركن، ليس لأن حبة الفول السوداني أو الركن يهمانني، بل لأنني أعلم أنه يريحكم في داخلكم التيقن من أنني لا أزال قردًا. مُفرنس، لكن قرد. ومع ذلك فإنني مختلف تمامًا عنه... كما أنني أشعر بأنني قريب من هذا الآخر. إنهم يدفعون له كي ينظفني ويطعمني خمس مرات يوميًا. غير أنني وضعت له مهمة أكثر أهمية. فمن المؤكد أنكم تساءلتم: "كيف يحصل القرد على الكتب؟ الجواب عنده. كتاب كل يوم. كل ليلة أكتب له العنوان، وفي الصباح يأتي بالمجلد. ذات مرة خلط مونتين بمونتسكي، لكنه بصفة عامة يحضر لي ما أطلبه منه. لماذا يفعل هذا؟ ماذا يحصل في المقابل؟ الحارس: أؤدي واجبي. القرد الأبيض: كي يشبع رغباتي، أهدده بأنني سأؤذي نفسي. إذا حدث لي مكروه فإنه سيتحمل المسؤولية. إنه المسئول عني. الحارس: في البداية لم أبلع الأمر. كنت أعمل بلا رغبة، ولا يوجد شيء أسوأ من العمل دون رغبة. لم تكن الوظيفة التي حلمت بها. لم يكن إعدادي لهذه المهمة. تأخرت سنة في الاعتراف لزوجي بهذه الوظيفة: "أنا حارس لقرد". كنت أشعر بأنني فاشل. كانت هي التي رأت الجانب الجيد للأمر. جعلتني أرى أنه لا يوجد أحد بهذه القيمة مثله. أعني هنا القيمة الرمزية. هل ركزتم على الخريطة الموجودة أمامكم؟ النقاط الحمراء هي الأمكنة التي فيها غوريلا أمهق في العالم. انظروا إلى مدريد. لا توجد نقطة حمراء في مدريد! لا يزال تنظيفه لا يعجبني، لكن: إلى من يمكن تكليفه بهذه المهمة دون تعريض القرد الأبيض للخطر؟ لا يأكل حبة فول سوداني واحدة دون أن أذوقها، فقد يحاولون تسميمه. في الواقع لم يعد يهم ما يأكله، فالنهاية أصبحت قريبة. هل ستكون نهايتي أيضًا، كما يتنبأ أصدقائي؟ لا، ستكون البداية بالنسبة لي، حسب زوجي. فقد خطر لها مسألة السيرة: "لا أحد يعرفه مثلك. من مثلك يمكنه أن يشرح رؤيته السياسية، عاداته الجنسية، تفاصيل التشريح ...؟ سجل ملاحظاتك، وأنا سأكتبها بشكل منظم". هذا بالإضافة إلى أنني حفظت أشياء تبدو الآن هراءً، لكنها، في رأيها، سيزيد ثمنها عندما يلفظ نفسه الأخير. (يُظهر بعض هذه الأشياء.) كما أحتفظ بمخطوطات يمكننا خطيًا مقارنة مراحل تطوره. (يعرض ورقة فيها علامة خطية كبيرة.) توقيع القرد الأبيض وهو في الربعة عشر من عمره حيث يلاحظ عدم استقرار المراهقة. (يعرض ورقة أخرى فيها علامة خطية كبيرة.) في السبعينات عاش القرد الأبيض مرحلة مضطربة عاطفيًا، تحت تأثير حرب فيتنام. وأخيرًا القرد الأبيض في مرحلة الشيخوخة. (يعرض ورقة أخرى فيها علامة خطية كبيرة.) القرد الأبيض: لقد طلبت منه مونتين وأحضر لي مونتسكي، لكنني عاقبته ولم يعد يخطئ. سبعة، سبعة أخطاء مطبعية وجدتها في مونتين، غير أنه لا ذنب له في هذه الأخطاء، ولا حتى مونتين. كل يوم هناك مزيد من الأخطاء في الكتب. يجب أن يعدم من يرتكبون هذه الأخطاء في الكتب. خطأ مطبعي أسوأ من جريمة ترتكب ضد الروح. ومع ذلك فإن مونتين بالأخطاء المطبعية أحسن من مونتسكي دونها. لم يشرح أحد مسألة الموت مثل مونتين. وحسب مونتين فإن التفلسف يعني تعلم الموت. ولهذا فإن مونتين تعود على أن مصاحبة الموت في كل لحظة في المخيلة وعلى لسانه. لم يكن هناك شيء يُعلَن عنه أكثر من موت بشر آخرين: يا له من تصرف، يا لها من كلمات، يا له من وجه كانت لديهم عند الموت. كان يفكر، أنه من أجل حرمان الموت من ميزة المفاجأة، يجب التردد عليه وتخيله بكل أوجهه. تخيل الحياة مسبقًا يجعلنا نتفوق عليه، حسب تفكير مونتين، وهكذا تحول إلى... تحول إلى... (الاجهاد لا يجعله يواصل. الجميع في حالة ترقب، ويتأهب الحارس لإسعافه والقرد الأسود يوقف نشاطه الممل.) القرد الأبيض: لقد تحول إلى أمين محفوظات للموت. ووصل إلى نتيجة أنه لا يوجد سبب للخوف منه. (الحارس يعود إلى موقعه والقرد الأسود إلى مهمته.) القرد الأبيض: وأكثر من هذا: الموت يثير الخوف أقل من أي شيء آخر. “Multo mortem minus ad nos esse putandum / si minus esse potest quam quod nihil esse videmus” (يجب أن نفكر أن الموت أقل مما نرى، إذا كان هذا ممكنًا، فهو عدم). أي أن: "الموت أقل من الحلم، إذا كان للعدم درجات". "فلا غناء الطيور ولا دوي الحرب يمكن لهما أن يوقظاني"، حسب مونتين، ويقول: "فليلقاني الموت وأنا أزرع زهورًا..." (يتوقف ليزأر للقرد الأسود الذي كان قد دخل في منطقته، يحيط به، ويضرب صدره، مستعرضًا قوته القديمة.) الحارس: إفريقيا. قوة ما هو أولي. أصوات بدائية، سماوات حمراء، آفاق لا نهاية لها. حسن، أنا لم أكن هناك. زوجي تفضل أوروبا في الإجازات. وفي حالة الخوف من المرض، فإسبانيا أفضل، كي يمكن التفاهم مع الطبيب. القرد الأبيض: مونتين: "فليلقاني الموت وأنا أزرع زهورًا، غير مبالٍ به وبمشاكل حديقتي". وحسب مونتين هناك ثلاثة عشر سببًا تجعلنا لا نخشى الموت: الأول: لا مفر منه. “Ille licet ferro cantus se condat aere / mors tamen inclusum protrahet inde caput” ( حتى وإذا اختفى ذلك الحجر في السيف فإنه من هناك سيكشف عن رأسه المختفي) مهما تختفي فإنه سيخرجك من مخبئك. أخيل لم يمت في معركة سالامين (1) ، لكنه توفي على إثر سقوط ترس سلحفاة من نسر في الهواء. إنه يعرف كيف يباغتنا. لهذا فإن مونتين يؤكد: "لا نعرف أين ينتظرنا، فلننتظره في أي مكان". الثاني: لأننا لا نعرفه. كيف ندين شيئًا لم نجربه؟ وعلى العكس فإن الخلود لا يمكن تحمله. الحارس: حسنًا، مع احترامي، هذا يعتمد. يعتمد على وضعك. التمتع بالصحة، وبعمل تشعر أنك فيه ذو فائدة وأن هناك من يساندك في الحياة... من يفهمك وتفهمه تمامًا. من يتقاسم معك الأيام الطيبة والأيام السيئة، وهذه الأخيرة موجودة. إنها الأيام الغبية، الأيام التي تقوم فيها بواجباتك لكنك لا تعرف لماذا تقوم بها، لا تجد معنى لها، وتقرر التخلص من كل شيء لأنك لا تجد معنى لأي شيء، هذه الأيام التي لا تريد أن تنهض فيها من السرير وتتساءل: "يوم آخر. لماذا يوم آخر؟". لكنك تتماسك وتنهض: "هيا يا رجل لقد اقترب يوم السبت". ورغم وصول السبت فالواقع أنك لا تعرف ماذا تفعل به، وكل ما يخطر في بالك يبدو لها غير مناسب، يبدو لها فكرة رديئة، حتى وإن لم تعرف هي ماذا يمكن فعله، فقط تخطر ببالها أفكار عبثية بينما تدور في المنزل كحيوان في قفص، ونظرًا لأنها لا تعرف ماذا تفعل تتفنن في إخراجك من طورك، وتفقدك أعصابك، تجعلك تمرض، ولا تتوقف حتى تشعر تمامًا بأنك مريض، وعليه فإنك ظهر السبت تتمنى أن يصل الاثنين الملعون. (يلقي ما في متناول يده على القرد الأسود.) القرد الأبيض: السبب الثالث: لأننا كنا هناك. فالبكاء أمر غبي لأنه في مائة عام لن نعيش إذ لم نكن أحياء منذ مائة عام. يقول مونتين: "الخطوة نفسها التي أقدمتم عليها من الموت إلى الحياة، أقدموا عليها دون فزع من الحياة إلى الموت. موتكم جزء من النظام الكوني، جزء من حياة العالم". الرابع: لأنه حسب ما اكتشف الرواقيون... (صوته أخذ في الانطفاء. لم نسمع ما اكتشفه الرواقيون، ورغم أن القرد الأبيض لا يعي فإن صوته يسترد قوته تدريجيًا فيما بعد.) القرد الأبيض: ...، وهو ما تؤكده وجهة النظر الرواقية. الخامس: لأن الحياة لم تكن قصيرة قط، كما أنها ليست طويلة. ماذا يعني قصير وطويل؟ لاحظوا هذا الحشرات في مسقاي. تعيش يومًا واحدًا. التي تموت في الصباح تموت شابة، والتي تموت في المساء تموت عجوزًا. كما أن طول حياتنا سخيف مقارنةً بطول حياة النجوم. البرهان السادس يكمل السابق: إذا عشت يومًا، فقد رأيت كل شيء. ويقول مونتين: "يوم مثل آخر". "لا يوجد ضوء آخر وظلام آخر. هذا العالم هو نفسه الذي تمتع به أجدادك ونفسه الذي سوف يعيش فيه أحفادك". السبب السابع هو: إذا كنت قد استفدت من الحياة، فاذهب راضيًا، إذا لم تكن قد عرفت كيف تستخدمها، فلم تريد تمديدًا؟ لا أحد يموت قبل ساعته. مهما تكن الساعة التي تنتهي فيها حياتك فإنها ستكون مكتملة. “Cur non ut plenus vitae conviva recedis?” (لماذا لا تنسحب وأنت مليئًا بالحياة كما لو كنت مدعوًا؟) في حين أنه، على العكس: “cur amplius, addere quaeris / rursum quod pereat male, et ingratum occidat...?”. (لماذا تبحث عن إضافة ما يُستهلك للأسف وموته لا رجعة فيه؟) (يقاطعه سقوط القرد الأسود. القرد الأبيض ينظر إليه.) القرد الأبيض: إننا مختلفان جدًا... هذا الفم الكبير الذي تفتحه بتثاؤبك، والغضب الذي يعلوك وأنت تهرش نفسك، همهمتك... ألا تستطيع أن تبقى هادئًا لثانية واحدة؟ انظر إلي عينيَ. إنك هنا دائمًا، لكنك دائمًا بعيد جدًا... إنك تجعلني أشعر بأنني وحيد جدًا... الحارس: ليست لديه أوراق ثبوتية. إنه بلا أوراق. ليس مثلنا (2). (يعود القرد الأسود إلى شؤونه.) الحارس: في البداية أبدى لا مبالاة محبطة أمام الموز. جذبته البرتقالة وثمرة الكيوي، لكنه ليس الشيء نفسه، فالأطفال يريدون أن يأكل القرد الموز. وعليه كان ضروريًا تليينه عملاً بكتاب تعليمات. ففي حالات من هذا النوع، وفي حالات الذين يرفضون التعاون، لدينا كتاب (يظهره.) “The Guantanamo Bible. Techniques for progress of western democracy”. "توراة غوانتانامو. تقنيات تقدم الديمقراطية الغربية". في الليل كانوا يشعلون مصباحًا كبيرًا كي لا يغلق عينيه، يضعون له أغاني فرانك سيناترا بأعلى صوت... إلا أن بدأ يعقل. حينئذٍ تحولنا إلى الجزء المحدد من الطريقة: سلم وفي أعلاه إصبع موز. إذا لم يصعد على السلم، توضع قلنسوة على رأسه ويلقى به إلى كلاب الدوبرمان. أسبوع كان كافيًا للعلاج. وبهذه الطريقة جعلنا منه قردًا عاديًا. قرد حسب الأصول. القرد الأبيض: السبب الثامن كي لا نخشى الموت، حسب مونتين: لماذا نخاف منه إذا كان داخلنا منذ الأبد؟ وينصح مونتين بقوله "لا تهرب من نفسك". "الموت جزء منك. حياتك كانت بناء موتك. الأيام كلها تسير نحو الموت؛ الأخير يلحق به". السبب التاسع عبارة عن لعب بالكلمات: “Respice enim quam nil ad nos ante acta vetustas / temorpis aeterni fuerit”. (أنظر إلى أي درجة تسبب الشيخوخة خوفًا أبديًا فينا). أي أنه: "إذا كنت حيًا، فالموت ليس حيًا؛ وعندما يكون موجودًا، فأنت الذي لا تكون". السبب العاشر ليس مقنعًا أيضًا: "يجب إفساح مكان لآخرين". في حين أن السبب الحادي عشر لا نقاش فيه. الحادي عشر يقول... الحادي عشر... (لا يتمكن من تذكره.) الثاني عشر يؤكد أنه: "مهما تعش، فإنك لن تقلص الوقت الذي ستكون فيه ميتًا". إذا لم تكن هذه الأسباب كافية، فهناك سبب ثالث عشر، وهو الحاسم. ويقول: “In manicis et / compedibus, saevo te sub custode tenebo. / Ipse Deus...”. (سأبعث بك مكبلاً بأصفاد وسلاسل تحت إشراف عليك حارس قارسٍ...) (ألم يحول دون استكماله للخطاب. يشير إلى الحارس كي يقترب، يظهر له كتابًا. يفتحه الحارس ويقرأ حيث يشير له القرد الأبيض.) “In manicis et compedibus, saevo te sub custode tenebo. Ipse Deus simul atque volam, me solvet: opinor, hoc sentit moriar. Mors ultima linea rerum est”. هذا الأخير يعني، إن لم يكن قد فهمه أحد، ما يلي: "حتى وإن كبلتني بالأصفاد، أيها السجان القاسي، فإن الله نفسه سيحررني عندما أريد. الموت نهاية الأشياء".
القرد الأبيض: السبب الثالث عشر والحاسم: لكون الموت آخر خط... (يزداد الألم. في لغته الأصلية، الإفريقية، يقول القرد الأبيض لنفسه: "عليَّ أن أواصل". لكنه لا يستطيع. الحارس يعد له كوكتيل مسكنات ويعطيه له.) الحارس: آخر كلمات من العنصر KSZ581 المعروف شعبيًا بـ "ندفة الثلج". أولاً، التعبير عن احترام المرحوم تشو لين. ثانيًا، رسالة إلى الأطفال. ثالثًا، تصريح عن وجود الرب. نظرًا لأن الموت يمكن أن يحدث في أية لحظة فإن كلمات القرد الأبيض هذه تشكل وصية روحانية، التراث الذي سيخلفه للأجيال القادِ... القرد الأبيض: السبب الثالث عشر: اقتراب الموت يجعلنا نشعر بالحرية. فالمحتضر ليس عليه أن يخدم أحدًا، ولا يخيفه أحد. ولم تعد هناك أصفاد تكبله ولا أقنعة. لا يوجد في العالم مخلوق أكثر حرية من الذي يواجه يموت. (القرد الأبيض ينظر إلى الجمهور. صمت مطبق.) القرد الأبيض: أشعر بأنني وحيد. مونتين يصاحبني فقط. لكنني لقراءته أحتاج سلامًا، ومن الصعب لقاؤه في هذه الظروف، وسط هذه العاطفة الجياشة. مدارس كاملة، فرق كرة يد، جمعيات دينية، جمعيات مسكوكات، كلكم تريدون إلقاء نظرة الوداع الأخيرة. أسر، عائلات لا تتذكر في أي ملجأ عجائز تركت الأجداد. المدينة كلها جاءت لتبكي عليَّ. المدينة كلها استعدت للحداد. هل سألتموني ما إذا كنت أريد كل هذا الضجيج؟ عندما زهق سقراط من ولولة طلب أن يطروها من الزنزانة. قال سقراط: "فلتذهب مع أناتها" ثم جلس يفلسف مع تلامذته. حتى سقراط استطاع أن يختار الذين كان يريد أن يموت بينهم. وحسب مونتين فإن أسوأ طريقة للموت هي وأنت محاطًا بكثيري البكاء. طموحه الأكبر كان يتمثل في موت هادئ وبمطلق الحرية. ويقول: "الموت السعيد هو للذي يودع بلا أبهة". لماذا لا تذهبون إلى البيت وتقرؤونه؟ اقرؤوا مونتين واتركوني في هدوء. الحارس: اعذروه. الأدوية أثرت عليه. وضربة الشمس. والحنين إلى الغابة. وقد حدث هذا للزرافة، إذ شعرت بسوداوية وبدأت في الحديث شعرًا. إننا نضع لها مهدئًا في الأعشاب. القرد الأبيض: حتى العمدة كان عليه أن يمر بهذا المكان. لم أتخيل موتًا متعبًا بهذا الشكل. كل شيء ثقيل ما يجعلني أشعر برغبة في استعجال النهاية. أشعر برغبة في الإلقاء بنفسي في الحفرة. قفزة واحد وخلاص! هل أنتم مستعدون لرؤية شيء من هذا القبيل؟ إنه لكرب عظيم، أليس كذلك؟ كيف يمكنكم شرحه للأطفال؟ (يستعد كما لو كان سيلقي بنفسه في الحفرة.) الحارس: لقد فقد صوابه. هذا يحدث للمحتضرين كلهم. اقتراب النهاية تجعلهم خياليين. الخرتيت المسكين مات مقتنعًا بأنه كان ملكة إسبانيا. القرد الأبيض: ما كان لمونتين أن يعترض.“Invitum qui servat idem facit occidenti”. لا، مونتين لا يوقفني. (قتل إنسان يعني فكه من غمه.) (يبتعد عن الحفرة.) القرد الأبيض: لا، لا يوقفني مونتين، لكن يمكنكم أن تظلوا هادئين، فلن أفسد الحفل لكم. فحتى اللحظة الأخيرة سأتصرف كمحترف. لم أكن قط أكثر من هذا: محترف. أي: ممثل. ميزتي الكبرى ليس شعري الأبيض، فلا قيمة له إذا لم يكن القدر قادرًا على التصنع. لقد اتبعت تلقائية كي أرضي الجميع. الحارس: "تلقائية" هي الكلمة اللغز. ليست موضة بسبب علماء النفس التربويين. التلقائية، الإبداعية، أي عدم تعلم الأشياء بالحفظ... علم النفس التربوي. هذا ما جنيناه على أنفسنا. القرد الأبيض: هناك جدة تنظر إليَّ. الحارس: تعبير لجدة. القرد الأبيض: ينظر إليَّ شخص سمين. الحارس: تعبير لشخص سمين. (القرد الأبيض يؤدي هذا التعبير.) الحارس: يؤدي لكل واحد ما يريد أليًا. القرد الأبيض: سنوات طويلة من الانضباط. سنوات وسنوات وأنا أضبط تصرفاتي، أقيس كل حركة كي أحول دون خروج الحقيقة. الحقيقة هي: أنني لم أحبكم قط. (يقوم بحركة كما لو كان يخلع قناعًا، ويعبر للجمهور عن عدوانيته، بعد سنوات من إخفائها.) الحارس: ارحلوا أيها السادة من هنا. لا أريد أن تتذكروه بهذا الشكل وهو يقول ترهات. القرد الأبيض: لم أحببكم قط. لقد خدعتكم جميعًا. بما في ذلك العمدة، هو أكثر من أي واحد آخر. هذا الصباح ألقى خطابًا على شرفي. قال فيه: "القرد الأبيض كان أحسن مواطن في مدينة برشلونة". أنا أفضل مواطن؟ لكن، أي فكرة عن المواطنة يتحدث هذا الرجل؟ ما هي مدينته المثالية؟ أ هي حديقة حيوان؟ الحارس: الحياة في الأَسر سمعتها سيئة، غير أن الناس يتكلمون عن سماع. حدائق الحيوانات تغيرت كثيرًا. لم تعد هناك سياج. وهي معزولة بحفر، وهو أمر غير مهين مثل هذه. وكل شيء منظم جدًا: الوجبات الجاهزة، الحلاق، طبيب الأسنان، القس... ليس على الحيوانات أن تشغل نفسها بأي شيء. عند جلبهم إلى الحديقة يعطونهم حقنة تجعلهم وديعين. ألم تلاحظون أن كلهم كما لو كانت تغفو؟ القرد الأبيض: العمدة لا يحبكم. كما أنه لم يحببكم قط! الحارس: (يحاول أن يغلق فمه) ارحلوا من فضلكم. اسحبوا الأطفال على الأقل. عرض الدلافين على وشك البداية. القرد الأبيض: أيها الأطفال أنتم المذنبون. إنكم اخترتموني. مدينة يرمز لها بحيوان. لقد جعلتم من القرد رمزًا، لأنه كان أبيضَ، لأنه كان يشبه البشر. يروق للناس التعرف على عواطف إنسانية في حيوان. لقد أصبحت اخصائيًا في هذا، في تقليد العواطف البشرية. سعادة. (تعبير عن السعادة.) كراهية. (تعبير عن الكراهية.) خوف. (تعبير عن الخوف.) هناك إحدى وعشرين حالة، ولا حالة أكثر ولا أخرى أقل. لقد تعلمت هذا في لو برون. شارل لو برون (1619-1690) la Académie Royale de Peinture مدير الأكاديمية الملكية للرسم في باريس في زمن لويس الرابع عشر. كتب “Conférences sur l’expression des passions” ، محاضرات عن التعبير عن العواطف عام 1668. أثبت أن عواطف الروح تقتصر على أحد وعشرين تعبيرًا أساسيًا يظهر على الوجه: ولادة، بكاء، ضحك، سعادة، حزن، دهشة، إعجاب، احتقار، حب، كره، غيرة، رغبة، لذة، طرب، ألم جسدي، ألم روحي، أمل، يأس، احتضار، خوف وموت. أي ما يعني: (يعبر على التوالي عن تعبيرات الوجه الأساسية. القرد الأسود يكررها، مقلدًا إياها بسخرية، إلى أن يدرك هذا القرد الأبيض.) القرد الأبيض: كم كان يروق لي أن أكون مثلك. كم حسدتك على تلقائيتك القذرة، على صراحتك الفجة. فبينما كنت أعبر بوجهي، كنت أنت تتبع غرائزك. لم يكن عليك أن تتصنع. القرد الأسود: أليس كذلك؟ الموز لا يعجبني. كل صباح إصبع موز هناك وعلي أن أصطاده. الناس يروق لهم القرد وهو يبحث عن الموز. يسقط القرد ويضحك الناس. وكلما كان الموز مرتفعًا كلما كانت الضحكة عالية. لا شيء بالنسبة لموزي. قد يكون من البلاستيك. أنا أتصنع، نعم أنا أيضًا. أنا محترف أيضًا. الثانوي. الثاني. الآخر. القرد الأبيض: (إلى الجمهور.) إننا لم نحببكم قط. لم يكن حبًا، بل خوف. لكنني لم يعد هناك ما يخيفني. يقول مونتين: "اليوم الأخير هو يوم الحقيقة. تنتهي الكوميديا وتبدأ الحقيقة. ينزع الممثل القناع ويبقى الإنسان". أخيرًا أستطيع أن أقول لكم ما أفكر فيه بخصوصكم. كان لدي متسع من الوقت لمراقبتكم. لقد وضعتموني هنا لمشاهدتي، لكنني كنت أنا الذي أراقبكم. إنني أعرفكم جيدًا، وسأقدم لكم نصيحةً. (إلى القرد الأسود.) وهي لك أيضًا.(إلى الحارس.) نصيحتي هي: غيروا حياتكم، عيشوا كما لو كنتم ستموتون اليوم. من يعرف كيف يموت، يعرف كيف يعيش. من يتعلم كيف يموت، يتعلم ألا يفيد. الموت هو الحرية الحقيقية، إذ يسمح بالسخرية من الأصفاد كلها. لا يوجد رجل أكثر حريةً من الذي يزدري حياته. الحرية الحقيقية هي... (الحارس يضع له حقنة توقف خطابة....) الحارس: يوتناسيا، الموت الرحيم، جاءت من اليونانية ‘’ " جيد" و ‘’ "موت". موت جيد. مونتسكي يبرره. لقد وجدته في ذلك الكتاب الذي أحضرته عن طريق الخطأ، في حاشية سفلية “” (الموت أجمل من ). لا، لن أسمح في اليوم الأخير أن يضيع هذه السنوات كلها من المسيرة الناصعة. القرد الأبيض: منافقون! وعندما أقول: منافقون!، كل واحد يعرف لماذا أسميه منافقًا. انتهت الأقنعة! دعوكم من التصنع! لا تتصرفوا كمحترفـ...! (الحارس يضع له جرعة ثانية.) الحارس: سنهب أعضاءه لمتحف العلوم، لتكون آخر خدمة يسديها للمدينة. والجزء الخارجي سنحنطه مثل لينين. انسوا هذه النهاية القبيحة. تذكروه على أنه ندفة الثلج، القرد الأبيض، الذي لم يبخل بابتسامة قط، قردنا الأبيض. كما قال العمدة: الخسارة الفادحة، الفراغ الكبير، الفضاء الذي لا يحتمل، الأثر الكبير في ذاكرتنا... القرد الأبيض: غدًا سيحضرون لكم آخر. تمساح أزرق، أو فيل قزم. سيدفعون أي مبلغ من أجله. ستنسونني في الحال. من المؤكد أن تشو لين المسكين عاش موقفًا مشابهًا. لم أقل شيئًا ضده قط. ولا كلمة واحدة. كان يروق لي الذهاب إلى جنازته، حتى لو كنت قد وصلت متأخرًا. الأخبار تتأخر في الوصول إلينا. تشو لين مات في عام ستة وتسعين وتسعمائة وألف وأنا علمت بالخبر بعد ثلاث سنوات. وعن مايو عام ثمانية وستين (3) علمت في سبتمبر عام ثلاثة وثمانين. وعن موت فرانكو لم أعلم به سوى بالأمس (4) . لم أرَ الناس يتغيرون. كان يعجبني أن أمشي في جنازته. أعني جنازة تشو لين، وليست جنازة فرانكو. لم أذهب إلى مدريد قط. يا للعجب، فحياتي كلها قضيتها في برشلونة، حياتي كلها وأنا أفكر في مدريد. (يسير نحو الكرسي.) القرد الأبيض: ولكن الآن عليَّ أن أتكلم عن الرب. لا يمكنني أن أرحل دون أن ... (يموت. وقفة. الحارس يقفل له عينيه. القرد الأسود أخيرًا، باستخدام الكرسي الذي يذكرنا بالكرسي البابوي، يمسك بإصبع الموز. غير أن الحارس ينزعه منه ويأكله. صراخ حيوانات يملأ الظلام.) الهوامش: 2- Sin papeles : أي بلا أوراق ثبوتية، بلا إقامة أو جواز سفر، تعبير يطلق في إسبانيا على المهاجرين غير الشرعيين، أولئك الذين يعبرون مضيق جبل طارق في مراكب صغيرة، وغالبًا ما يبتلعهم البحر أو تقبض عليهم الشرطة وتعيدهم إلى بلد المنشأ، أي المغرب أو موريتانيا، ما شكل ظاهرة اجتماعية أبطالها أفارقة وعرب من شمال إفريقيا في غالبيتهم. وكانت قد بدأت في منتصف تسعينات القرن العشرين. والتعبير في هذا السياق لا يخلو من مسحة عنصرية، فالذي ليس لدين أوراق هو القرد الأسود، وليس الأبيض، وإن كان المؤلف قد أنكر هذا في لقاء معه على هامش مهرجان كتاب المسرح الإسبان المعاصرين في نوفمبر 2005 الذي يعقد سنويًا في هذا الموعد في مدينة أليكانتي الساحلية. وقد يكون ساقها لدغدغة مشاعر القارئ أو المشاهد العادي إذ تروق له مثل هذه اللقطات، وهو ما لاحظته في عرض المسرحية ضمن هذا المهرجان (خالد سالم.) 3- هذه إشارة إلى الثورة الطلابية في فرنسا في شهر مايو عام 1968 (المترجم.) 4- إشارة إلى الجنرال فرانثيسكو فرانكو الديكتاتور الذي حكم إسبانيا في الفترة من عام 1939 إلى أن توفي في نوفمبر 1975، على إثر انقلاب قاده ضد الجمهورية الإسبانية الثانية وليدة صناديق الاقتراع (المترجم.)
#خالد_سالم (هاشتاغ)
Khaled_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل هي لعنة الأندلس؟
-
إلراسترو معلم سياحي وتجاري فى مدريد يعود إلى الحقبة الأندلسي
...
-
شباب إسبانيا قلدوا شباب مصر ليصحوا قوة سياسية فاعلة في البرل
...
-
في ذكرى سقوط غرناطة
-
ربط ضفتي بحر الروم بين الواقع والخيال
-
امتهان اللغة العربية على أيدي أبنائها في يوم الاحتفال بها عا
...
-
هل الأندلس كانت عربية أم بربرية؟
-
الأندلس التي أضعناها والتي يضيعونها منا
-
الإرث العربي في حضارة زمن العولمة
-
على المنوفي: وداعًا أيها الفارس النبيل
-
خذلان وتأملات أمام المشهد البشري في أرض الكنانة
-
يوميات صعلوك، قصة من الأدب الإسباني
-
رسالة حول مسرح خوسيه مورينو أيناس
-
مسرح الهجرة في إسبانيا نموذجًا للمثاقفة ومخاطر ترجمة التابوه
...
-
صورتنا لدى الآخر وطابورنا الخامس المفقود
-
المنطقة العربية والطغاة والشعبوية في أميركا اللاتينية
-
المجد لكرة القدم وفلسطين
-
البيت العربي في إسبانيا وجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم
-
ثمانون عامًا تمر دون حل لغز مقتل الشاعر الأسطورة غارثيا لورك
...
-
مهرجان طنطا الدولي للشعر دعوة للتنوع والمثاقفة
المزيد.....
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
-
الفيلم الفلسطيني -خطوات-.. عن دور الفن في العلاج النفسي لضحا
...
-
روى النضال الفلسطيني في -أزواد-.. أحمد أبو سليم: أدب المقاوم
...
-
كازاخستان.. الحكومة تأمر بإجراء تحقيق وتشدد الرقابة على الحا
...
-
مركز -بريماكوف- يشدد على ضرورة توسيع علاقات روسيا الثقافية م
...
-
“نزلها حالا بدون تشويش” تحديث تردد قناة ماجد للأطفال 2025 Ma
...
-
مسلسل ليلى الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
فنانة مصرية تصدم الجمهور بعد عمليات تجميل غيرت ملامحها
-
شاهد.. جولة في منزل شارلي شابلن في ذكرى وفاة عبقري السينما ا
...
-
منعها الاحتلال من السفر لليبيا.. فلسطينية تتوّج بجائزة صحفية
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|