|
من الداخل الضغط كبير لأنّ الخلاصَ قريب
حسيب شحادة
الحوار المتمدن-العدد: 6435 - 2019 / 12 / 12 - 00:06
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
The Pressure from Inside is Great because Salvation is Near ترجمة ب. حسيب شحادة جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها الكاهن الأكبر عبد المعين بن صدقة بن إسحق الحفتاوي (إلعزر بن تسدكه بن يتسحاك هحفتئي، ١٩٢٧٢٠١٠، شاعر، معلّم دين، متقن لتلاوة التوراة، كاهن أكبر ٢٠٠٤٢٠١٠. عنه أنظر: حسيب شحادة، عبد المعين صدقة، الكاهن الأكبر، في ذمّة الله، http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=206356&r=0) بالعربية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤ )، الذي بدوره نقلها إلى العبرية، نقّحها، اعتنى بأُسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٤١٢٤٥، ١ آب ٢٠١٧، ص. ٦٦٦٩. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الراهن؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستين في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”الكاهن خضر (فنحاس) بن إبراهيم - أب ابن سبعةَ عشرَ ربيعا
”تقول إنّني قد حرّكتُ كلّ مسامات جسمك، عندما أنشدت أنشودةَ وَداع المرحوم الكاهن خضر بن إبراهيم المحمول في التابوت إلى لحده؟ حقًّا، لم أتمالك نفسي. وداعه كان قاسيًا جدّا عليّ، إنّي قدّرته وبجّلت قدرته على التعلّم وأحببت الجلوس معه والتحدّث معه عن التقليد والتفسير.
إرادة الله أقوى من كلينا. خُطف الكاهن من هذه الفانية على حين غِرّة، وروحه تائهة الآن في عالم النفوس حتّى مجيء عاقبة الأيّام. موته كان ثقيلًا على روحي وكياني. رافقت الكاهن بكلّ ما كان منذ أن فتح الله عينيّ لأفهم بشكل صائب. تيتّم وهو فتى. بِكر يتيم عمره سبعة عشر ربيعًا ومعه شقيقاه وشقيقتاه. يتيم يعتني بأرملة وأسرة كثيرة الأنفار. مع هذا صان شرفه الشخصي، وزاول كلّ صنعة كيلا يحتاج لعطية إنسان. في أحيان كثيرة كان خضر وإخوته يذهبون للنوم وهم جياع، ولكنّهم مفعمون بأمل الحصول على قوتهم في اليوم التالي بالرغم من أنّ وضع الطائفة الاقتصادي ما كان أفضل. على كلّ حال، قيام ابن السبعة عشر ربيعًا بدور ”الأب“ مهمّة لا يقدر عليها سوى ذي الإرادة القوية والقدرة على المثابرة.
بالرغم من المصاعب اليومية فإنّ الرزق شيء والتقليد شيء آخر. إنّه لم يهجُر الدراسة، استمرّ في دراسة التوراة، الصلاة والشِّعر على أيدي المثقّفين السامريين. وكان أبي الكاهن صدقة بن إسحق، رحمة الله عليه، يوقّر فضائل الكاهن الشاب. عيّنه أبي معلّمًا لأبناء السامريين في قراءة التوراة، وما تقاضاه من أجرٍ لم يكن كبيرًا ولكنّه كان كافيًا لإطعام الكاهن خضر وإخوته. ساعتا ذهب
عانى معظم أبناء الطائفة من المجاعة والقلّة في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. لا تختزن في ذهنك ما تراه عيناك. اليوم لا شيءَ ينقُص أيّ سامري ولكن في صباي عشنا المجاعة والحرمان. اليوم لا أحدَ يُصدّق أنّ والدي وعمّي الكاهن الأكبر عمران (عمرم) عايشا مذلّة الجوع. وبودّي أن أقصّ عن إحدى هذه الحالات.
حصل ذلك في فترة الثورة العربية الكبرى ضد الإنجليز في السنوات ١٩٣٦١٩٣٩. آونتها كان الوضع عصيبًا جدًّا، دماء سُفكت كالماء من كلا الطرفين. آنذاك لا أحد ظنّ أنّه يستطيع الحصول على الرزق. كان من المحبّذ الاختباء في البيوت ريثما يأتي الفرَج. وخطر الموت من رصاصة طائشة كان حاضرًا بشدّة، ولذلك إيجاد الرزق كان سلعة نادرة جدّا.
وأذكر بالرغم من ذلك أنّ عمّي وأبي لم ييئسا، توسّلا للخالق أن يرحَم عباده ويُحسّن حياتهم. في هذه المرحلة، كلّ ما خزّنّا من زيت وطحين وزيتون وملح لتلك الفترة قد نفِد كليّا. وهكذا في أحد أيّام الجمعة قُبيل السبت أعلمتْ أمّي أبي أنّ حُجرة المؤن خاويةٌ ولا بدّ من إيجاد حلّ سريعًا وإلا فمن المحتمل تمضية يوم السبت بدون أيّة لقمة طعام.
وبالتأكيد، لم يكن هناك أيّ مجال للحديث عن أيّ نقد في الجيبة، فجيوب أبي وعمّي خاوية خالية (بترطّ). وبسبب الوضع العام الكئيب البائس لا أحدَ كان يؤمّهما طلبًا للنصيحة مقابل دفع مبلغ معيّن. مرّت شهور كثيرة ولم تدخل جيوبَهما تعريفة. ذلك النزر الذي وفّراه نفِد خلال أشهر اضطرابات السامرة الكثيرة.
تُعتبر أحداث أيّامنا هذه بمثابة ”ألعاب أطفال“ مقارنة بما كان آنذاك. قلائل تجاسروا على الخروج من مداخل بيوتهم. إلى سوق نابلس العتيقة التركية فقط، كان من الممكن الذهاب لهنيهة ومغادرته بدون تمهّل، هذا إذا توفّر القرش في الجيب.
نظر أبي إلى أخيه وردّه الثاني بنظرة لا تقلّ حزنا. كان مدى تفاهمهما الصامت مطلقا. عرفا بالضبط ما توجّب عليهما أن يفعلا إذا أرادا عدم تمضية السبت بالصوم. لم تعد المخطوطات الكثيرة في مكتبتهما المشتركة موضوع مقايضة بلقمة العيش، كما كان الوضع في عهد آبائهما. أيقنا أنّه حتّى لو كان ذلك المخرَج الأخير فلن يبيعا أيّ مخطوط قديم من أجل الطعام. حتّى إذا ألقيتَ على الربّ همّك فعليك بادىء ذي بدء الاعتناء بنفسك والقيام بعمل ما لأهل بيتك إلى أن يأتي عون الله.
افتخر أبي وعمّي بساعتي ذهب حصلا عليهما بالكثير من العمل والكدّ في وقت من الأوقات. ومن مُتع والدي الكبيرة استلال تلك الساعة الصغيرة المستديرة من جيب بشت قبائه/جبّة أفوده [أنظر سفر الخروج ٢٨: ٣١، ٢٩:٥، ٣٩: ٢٢] والضغط بخفّة على الزنبرك لفتح الغطاء الذهبي المغطي للوحة الأرقام المذهّبة على خلفية بيضاء، والنظر مليًا إلى لوحة الساعة متمتّعًا أكثر من معرفة ما الساعة حينئذٍ. عرف أبي وعمّي في تلك اللحظة بدون النظر إلى ساعتيهما أنّ ساعتهما قد أزفت.
الرزق من السماء
بلا رغبة وببطىء شديد استلّ عمّي ساعته من جيبه وهكذا فعل أبي. أشار أبي لسلّوم ابن أخيه عمران أن يأتي إليه. ناوله الساعتين وأمره بالذهاب حالًا إلى الصائغ في السوق لبيعهما بعد مساومة (مفاصلة) متشدّدة ومن ثمّ شراء حاجيات السبت. أراد سلوم ابن عمّي أن يعرف إلى أيّ صائغ يتوجّه. وقبل أن يجاوبه أبي سُمعت طرقة مترددة على بوّابة بيتنا. أسرع أبي، على غير عادته، لفتح الباب. وقف هناك زوج من العرب الشباب، تزوجا على ما يبدو مؤخّرا. أرادا أن يعرفا أين يمكن إيجاد الكاهن صدقة.
هبّ أبي بلا تأخير وعرّف بنفسه ودعاهما للدخول مُرّحبًا بالتحية، مائة ألف أهلًا وسهلًا. أدخلهما إلى الغرفة الداخلية وبعد دقيقتين خرج إلينا وأمر سلوم ابن عمّي بالانتظار ريثما يخبره عن مكان الصائغ بالضبط. بعد نصف ساعة خرج الاثنان من الغرفة وينظر الواحد إلى الأخرى بعينين مفعمتين بالحبّ المشع. نصيحة أبي قد حسّنت جدًّا مزاجهما. ودّعهم أبي عند المدخل وعاد إلينا.
أمر أبي سلوم بحضور أمّي التي كانت تنظر بعينين منذهلتين، إعادة الساعتين له ولأخيه، وفي الوقت ذاته استلّ من جيبه فئتين من النقود وطلب منه الإسراع لشراء الطحين ومستلزمات السبت. ”من أيّة سماء نزل عليك كلّ هذا المال فجأة“؟ طلبت أمّي أن تعرف بشكل قاطع. ”من سماء الله تبارك“، أجاب الله مبتسمًا وعندها كان نور. ”الله سمع صلاتنا فأرسل لنا هذا الزوج اللطيف كملاك يسير أمامه“.
نطق عمّي عمران بالكلمة الأخيرة: عندما قرّرنا بيع الساعتين من أجل الطحين، كُتبت التعويذة التي جلبت بركة الله علينا جميعًا“.
#حسيب_شحادة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرة على استعمال ومعنى -بيث- مضافًا في السريانية
-
وديعة مثالية لدى رئيس، راعٍ ومحبّ
-
تجنيد شبابنا في الحرب العالمية الأولى
-
الكاهن قتلني
-
ماذا يكتب أبو العبّاس القلقشندي عن السامرة؟
-
حول أسماء السامريين الشخصية
-
كتاب مفتوح لرؤساء البلديات والمجالس المحلية العربية في البلا
...
-
نافذة على السريان واللغة السريانية
-
بعد الهزّة الأرضية عام ١٩٢٧
-
مطر في بداية الصيف
-
بابا هرتصل يبعث بقبلات رقيقة لابنته
-
ملاحظات حول سامريي منتصف القرن التاسع عشر
-
نصّ خاصّ لقصّة جرّة الزيت
-
خبز الشاودار/الجاودار الفنلندي ذو القيمة الغذائية العالية
-
نار جهنّم
-
حُكم الساقط بين الكراسي
-
كلمة عن الكاهن الأكبر يعقوب بن عزّي
-
السرّاق والرجُل البارّ
-
بعرق جبينك تأكل خبزا
-
غيرة الكتّاب التي لا تُكثر من الحكمة
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|