|
الفلسفة بين السياسية والعلم
خيري محمد زهير
الحوار المتمدن-العدد: 1562 - 2006 / 5 / 26 - 10:45
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"إن الفلسفة هي العنصر المركزي للمشروع اليوناني الغربي الهادف للأوتونوميا أو الإستقلال الذاتي الفردي والجماعي. فنهاية الفلسفة لا تعني سوى نهاية الحرية"(1).
لقد ظهرت الفلسفة بارتباط وثيق بالآغورا (الميدان العمومي أو الساحة العمومية) وهو ميدان للنقاش والتحاور حول الحياة اليومية ومشاغل الناس الفكرية والعملية وكان ذلك في اليونان القديم. إن نشأة الفلسفة ارتبطت بالديمقراطية. رغم أن الفلسفة لم تكن قوة دفع للتغيير الإجتماعي- التاريخي ولم تساهم مباشرة في ذلك إلا أنها لم تنفصل عن التساؤل المتواصل والدائم حول المجتمع والمؤسسات. الفلسفة ليست جديرة بهذا الإسم إذا لم تعبر عن فكر مستقل أوتونومي و"أوتونوموس" باليوناني يعني من يضع "ناموسه" وقوانينه بنفسه دون الرجوع إلى سلطة متعالية أو مرجعية مستقلة و منفصلة عن المجتمع.
"فلقد ناقش الفلاسفة العظام أمثال كنط، فيختة، شيلنغ، علنا ونقدوا ودحضوا أو اعتقدوا أنهم دحضوا المفكرين الذين سبقوهم، كانوا يرون (وهم على حق في ذلك) أنهم ينتمون إلى ذلك المجال الإجتماعي- التاريخي العمومي الما بين زماني، الآغورا، والما بين تاريخي للفكر والتفكير، وأن نقدهم العمومي للفلاسفة الآخرين هو عامل أساسي للحفاظ على مجال الحرية وتوسيعه حيث لا سلطات ولا نبوات ولا وحي ولا كتاب عامين للأحزاب ولا فهرر Fuhrer ولا قدر الكائن ولهذا بالذات فبالنسبة للفيلسوف فإن تاريخ الفلسفة لا يمكن أن يكون سوى نقديا"(2).
وبدون أن نسقط في التبسيطات والسذاجات التي تحيل تطور الفكر إلى درجة تطور ونمو القوى المنتجة وتربط كل ذلك بقوانين موضوعية للتاريخ فإنه لا يمكن لنا أن نفصل تاريخ الفلسفة عن التاريخ بصفة عامة. فالفلسفة كانت بطريقة أو أخرى وجها من وجوه نقد ومراجعة المجتمع المنغلق والمكبل وذلك بطرحها لقضايا تتعلق بالعدالة والسياسة والمجتمع والحرية....
لكن لقائل أن يقول: أغلب الفلاسفة أسسوا أنظمة فكر وأنساق خاصة بهم ومغلقة (سبينوزا- هيقل- أفلاطون وحتى أرسطو...) بحيث أن التساؤل والنقد كان يقع من وجهة نظر ذلك النسق الفكري الذي يحتمي به كل فيلسوف وينطوي في داخله.
للتاريخ نقول أن "النشاط الحيوي للفلسفة في علاقتها بالمجتمع توقف مع أفلاطون ومع ظهور المدارس الشبيهة بتلك التي ارتبطت بدين معين كالكنفوسيوسية مثلا وبالذات بسقوط الديمقراطية الأثينية حيث لم يعد الفيلسوف ذلك المواطن الذي يساهم بفكره ونشاطه في الساحة العمومية"(3).
فلم يقع استرجاع النشاط الفلسفي في الغرب إلا مع النهضة ومع بروز الديمقراطية المعاصرة ولم يكن ذلك بمعزل عن النشاط الإجتماعي الموجه ضد سلطة الكنيسة ومن أجل تحرير الإنسان ومع بروز العلوم المعاصرة.
لكن "الموقف الغالب ظل، وفي أوجه متعددة، ذلك الذي يؤدي إلى بناء أنساق وأنظمة مغلقة وإلى تقديس الواقع والنظر إلى المجموعة (من طرف الفلاسفة) من موقع متعالي وفوقي... وكان ذلك بارزا مثلا بالنسبة لمفكرين "نقديين" كماركس ونيتشه الذين تقاسما عقلية Sancta Realitas أي قوانين التاريخ لدى ماركس وبراءة المصير Innocence du devenir مع نيتشه. فخلال هذه الحقبة لم يتجسد النشاط الهادف للإنعتاق والتحرر بالخصوص في محتوى هذه الفلسفات وإنما في الإبقاء على حوار مفتوح ونقدي. فبالرغم أن هذه الفلسفات تنفي مبدأ الآغورا الفلسفية والساحة العمومية المفتوحة للنقاش إلا أنها تعيد إنشاء وبناء هذه الآغورا وتستعيدها من حيث لا تدري"(4).
هذه حالة الفلسفة اليونانية الغربية في علاقتها بالمجتمع والديمقراطية فكيف هي حالة فلسفتنا العربية الإسلامية. ما هي ظروف نشأتها وتأثيرها على الواقع؟
I- الفلسفة العربية الإسلامية:
لقد ارتبطت نشأة الفلسفة العربية الإسلامية بتوسع دولة الخلافة واحتكاكها بشعوب وأمم أخرى تختص بديانات وثقافات ومطلعة على المنطق الأرسطي ومتسلحة بأدوات تمكنها من "الذود" عن خصوصياتها. "لقد كان على رجال الإعلام في معاركهم الإيديولوجية لهذه الأديان والثقافات أن يدحضوا الخطاب بالخطاب... وأن يدافعوا منطقيا عن العقيدة الإسلامية وأن يبحثوا في مشاكل فلسفية كالعدل والحرية والكون وغيرها وهذا الاتجاه الفكري الجديد هو الذي صبغ فكر المعتزلة إذ أرادت هذه الجماعة أن تطوع العقل لمبادئ العقيدة الدينية"(5).
إذن يمكن القول أن الدوافع والظروف والشروط التي أدت إلى ظهور فلسفة عربية إسلامية مغايرة تماما لظهورها في حالة اليونان القديم. فإذا كانت في الحالة الأخيرة مرتبطة بنشأة المجتمع الديمقراطي في أثينا وبالتالي ببروز مجال ديمقراطي للنقاش (الاغورا) فإنه في حالة الفلسفة العربية الإسلامية ارتبطت هذه النشأة بحاجة السلطة المركزية لمواجهة حضارات وثقافات متقدمة عليها في عديد المجالات ومن هنا جاء مجهود الترجمة والنقل للفلسفة اليونانية فـ"وقع استبطان الفلسفة في الدين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة... فجاء التفكير فلسفيا والميدان دينيا"(6). حسن حنفي يصف هؤلاء الفلاسفة بـ"أنهم كانوا حراس حدود أو وزراء خارجية (وذلك مقارنة) بعلماء الكلام بصفتهم وزراء داخلية (مهمتهم) المحافظة على النظام العقلي الداخلي للحضارة الناشئة. فلقد ظهر الفلاسفة كوزراء للخارجية مهمتهم التعامل مع حضارات أخرى غازية (في الحقيقة فإن الحضارة المتوسعة آنذاك هي الحضارة العربية الإسلامية وليس العكس) وفي مقدمتها الحضارة اليونانية وكحماة للحدود الحضارية المتاخمة ويعيدون بناء دائرتهم الفكرية الأولى التي ورثوها عن علماء الكلام على أساس من المفاهيم الجديدة من الحضارات الغازية (!؟) مستعملين نفس أسلحتهم التصورية"(7) لكن ذلك لم يكن دون أن يجلب معه مخاطر على البنية الفكرية المهيمنة. فلقد تسربت عدوى الفلسفة إلى المجال العربي الإسلامي وشيئا فشيئا تحول الخطاب الفلسفي من خطاب خارجي يعقل المفاهيم الدينية ويدافع عن العقيدة بمنطق أرسطي وأدوات فلسفية إلى "خطاب داخلي" (حسب تعبير فتحي التريكي) فأصبح الفلاسفة يستعملون مصطلحات ومفاهيم غريبة عن المجتمع الإسلامي. هذا ما أثار ثائرة الفقهاء والمتكلمين الذين عابوا على الفلاسفة استعمال مصطلحات في غير مجالها (بالرغم من أن الفلاسفة جميعهم تقريبا بدءا بالفارابي والكندي وابن سينا ووصولا إلى ابن رشد قد وفقوا بين الدين والفلسفة وذلك كل بأسلوبه الخاص). هذا التصرف المناهظ يفسر على سبيل المثال محنة ابن رشد وتعرض كتاباته إلى الحرق والإتلاف فضلا عن الفلاسفة والمفكرين الذين لم يصلنا من كتاباتهم إلا القليل النادر. "الفلسفة تؤدي إلى الكفر والزندقة" هذا ما عابه رجال الدين على الفلاسفة. إذا اعتبرنا صعوبة تفهم العامة للغة الفلاسفة نظرا لآنفصال الفلاسفة عن المجتمع وعدم ارتباط فكرهم بحركة اجتماعية وبمجال عمومي مفتوح كحالة اليونان القديم) فإنه من اليسير جدا توجيه تهمة الزندقة والكفر من طرف رجال الدين إلى الفلاسفة وتأليب الجمهور الواسع من الناس ضد هؤلاء إلى حد أنه وفي أغلب الحالات أصبح الفيلسوف يتجنب ما استطاع من جهد الحديث عن الفلسفة. إن الفلسفة العربية الإسلامية رغم التصاقها الشديد بالدين وعملها على التوفيق بينهما وارتباطها المتين بجهاز السلطة القائم (بالخصوص بالنسبة للمعتزلة) وبغاياته فإنها وبصفة عامة لم تلاقي الترحيب فكان الإنتصار لرجال الفقه والدين ولعل ذلك تدعم مع بروز فكر الغزالي الملقب بـ"حجة الإسلام" هذا الأشعري والقائل بالمعرفة الصوفية. فمع أن الفلسفة حامت حول الدين فإنه يمكن القول مع محمد أركون أن "روح الأرثودكسية الصارمة" فقد انتصرت لدى كل الكتاب والمؤلفين بينما احتقن الموقف الفلسفي كليا فالنصر كان للفقيه والشيخ والمرابط.
II-الفلسفة العربية الإسلامية بين العلم والسياسة:
عرفت العشريتين الماضيتين ظهور عديد الدراسات وانعقاد عديد المؤتمرات والملتقيات لتقييم واقع الفلسفة العربية الإسلامية واختلفت الاستنتاجات من مفكر لآخر وتراوحت بين مدافع مستميت عن الإرث الفلسفي العربي الإسلامي وناقد يجهد في انتقاء الجانب الإيجابي في هذا الإرث سواء أطلق عليه "بالفكر المادي" أو "النزعة المادية" أو "العقل البرهاني" وهذا كنقيض "للفكر المثالي" أو "للعقل المستقيل" و"النظام العرفاني". المجال لا يسع للتعرض لمختلف التقييمات ولكننا سنعتني بجانب من هذه البحوث ألا وهي علاقة الفلسفة بالسياسة. وبالذات موقف محمد عابد الجابري من المسألة. يرى الجابري أن ما يميز الفلسفة اليونانية عن الفلسفة العربية أن الأولى ارتبطت بالعلم بينما ارتبطت الفلسفة الإسلامية بالسياسة"(8) ولعله يريد أن ينبهنا أن الإفراط في السياسة من شأنه أن يجعل الفلسفة قاصرة ومكبلة وهذا من أحد أسباب تخلف الفكر الفلسفي العربي الإسلامي. لكن قبل أن نخوض في نقد هذا الحكم المسبق يجدر بنا أن نلاحظ أن ما يصرح به محمد عابد الجابري ليس سوى تزييفا للتاريخ ومغالطة كبيرة فالحقيقة هي عكس ما يدعيه الجابري. هذا Jean Pierre Vernant أحد المختصين في دراسة التاريخ اليوناني يصرح: "هذا العقل اليوناني ليس العقل التجريبي للعلوم المعاصرة الموجهة نحو استكشاف الوسط الفيزيائي والتي أعدت مناهجها وأدواتها الفكرية وأطرها العقلية خلال القرون الأخيرة في جهد نشيط ومتواصل للتعرف على الطبيعة والسيطرة عليها. فعندما عرف أرسطو الإنسان بالحيوان السياسي فقد أشار إلى ما يفصل العقل اليوناني عن العقل الحالي... لأن العقل نفسه هو في جوهره سياسي. في الواقع فإن العقل في اليونان عبر عن نفسه وتشكل وتكون على الصعيد السياسي أولا... لقد تم استخراج وتعريف فكر سياسي بعيدا عن الدين في مصطلحاته ومفاهيمه وميادينه وآرائه النظرية... فبالنسبة لليوناني لا ينفصل الإنسان عن المواطن والتفكير هو امتياز للأناس الأحرار الذين يمارسون بالترابط عملهم العقلي وحقوقهم المدنية كما أن الفكر السياسي عبر تقديمه للمواطنين الإطار الذي يدركون فيه علاقاتهم المتبادلة قام في الوقت نفسه بتوجيه ووضع تدابير فكرهم في ميادين أخرى"(9). (التشديد من وضعنا).
لقد طرح الفلاسفة العرب والمسلمون قضايا هامة كالوجود والمادة والنفس والأخلاق والعقل والمخيال وقد رافق ازدهار الفلسفة ازدهارا مماثلا للعلوم والفنون واقتحم الفلاسفة مجالات أعدها الفقهاء من المحرمات. تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية مازال يحفظ لنا أسماء مضيئة كالنظام وابن الراوندي والجاحظ والفارابي والكندي وابن سينا وابن رشد وغيرهم. لكن وعكس ما يروج له الجابري من أن تأخر الفلسفة العربية الإسلامية ناتج عن التصاقها الشديد بالسياسة وبعدها عن العلم (مع أن الفلاسفة العربي والمسلمين كان لهم باع في البحوث العلمية كالرياضيات والعلوم الطبية وغيرها) فإن السمة الطاغية هي أن هذه الفلسفة ارتبطت بالدين وأرادت أن توفق بينهما. لقد أراد الفلاسفة العرب والمسلمون أن يكون فكرهم شاملا مطلقا. الفيلسوف العربي المسلم هو أبعد من أن يكون مواطنا عاديا (كالفيلسوف اليوناني). فبينما "كانت قوة الفكر اليوناني في السياسة نظرا وعملا وضعفه في الدين (لاحظ سخرية مولعي الكوميديات من الآلهة وما انبثق عنه من الإلاهيات في الفلسفة) كانت قوة الحضارة الإسلامية في الدين وضعفها في السياسة نظرا وعملا... فعلى مستوى الفكر يفوق ما كتبه أرسطو في السياسة كل ما كتبه فقهاء المسلمين ومفكريهم فيما سموه بالإمامة"(10).
فنشأة الفلسفة في اليونان مرتبطة ارتباطا وثوقيا وعضويا بظهور المدينة والديمقراطية وفي تضامن مع البنى الاجتماعية والعقلية الخاصة بالمدينة اليونانية عكس الفلسفة العربية الإسلامية. فكل الأشياء والمسائل التي تهم حياة الناس هي موضع نقاش حر بين كل الأفراد المكونين للمجموعة... ويقع ذلك في ساحة عمومية الآغورا وفي واضحة النهار.
فالفلسفة اليونانية هي شاهدة على الحياة السياسية اليونانية بينما ما كتبه ابن رشد الفيلسوف لا يمكن أن يشهد على مغرب القرن السادس"(11). فأن تقرأ ما كتبه هذا الفيلسوف العربي المسلم أو ذاك فذلك لا يمكنك من الحصول على فكرة أو صورة عن المجتمع الذي عايشه هذا الفيلسوف.
"فلقد أعرض فلاسفة الإسلام عن السياسة إلى الميتافيزيقيا فكانوا كناقل التمر إلى هجر، أعرضوا عما كان ينبغي أن يفيدوا به حضارتهم... فلم ينفتح فكرهم على دساتير اليونان وأنظمة الحكم في مدنها"(12).
ومحمد أركون يعترف بـ"أنه حتى الفلاسفة أنفسهم، أولئك الذين احتلوا الموقع العقلاني الأكثر تطرفا قد ظلوا يتحركون في إطار ميتافيزيقيا ذات ماهية دينية"(13).
لقد كانوا يعتقدون أن الفلاسفة بامتلاكهم المنطق وقدرتهم الواسعة على الفكر وذلك بما تحصلوا عليه من معارف واطلاع على الفلسفة اليونانية هم عقل الأمة النابض وهم أولى وأحق بتأويل النصوص القرآنية. فإخوان الصفاء يصنفون الناس إلى نوعين: فلاسفة راسخون في العلم وناقصين (رسائل إخوان الصفاء) وكان المعتزلة مقربين للسلطة بل أصبحت فلسفتهم الفكر الرسمي للخلافة والفيلسوف الفارابي كان يرى أن "البرهانيات موكولة إلى أصحاب الأذهان الصافية والعقول المستقيمة"(14). ابن رشد الذي يمكن اعتبار فلسفته قمة العقلانية في الفكر العربي الإسلامي كان يرى أن الحكماء والعلماء (أي الفلاسفة) ورثة الأنبياء خصهم الله بالتأويل (فصل المقال).
"فالفلسفة الإسلامية هي على الدوام فلسفة انتخابية (Ekletizimus). فلقد كان هم الجهد الفلسفي في الإسلام موجها إلى الناحية النظرية العقلية ولم يهتم الفلاسفة بأن يعالجوا المسائل التي عرضتها لهم الحياة الواقعية من اجتماعية وسياسية"(15).
فلاسفتنا ترفعوا على العامة واعتبروا أن نشاطهم حكر على أصحاب البراهين وهم قلة خصهم الله بمقدرة لا يطالها أي كان.
"لقد استكثروا على العامة حق التساؤل والتفلسف فابن رشد الفيلسوف العقلاني وعد والغزالي الفقيه كان صريحا في تحريمه النظر العلمي على غير الخاصة بل وفي تكفيره لكل من أذاع القضايا النظرية في الكتب الموجهة للجمهور وهكذا أمست سعادة نيل المعرفة العليا، أي الإتصال بالعقل حكرا على تلك القلة الموهوبة فقط وليست في متناول أي كان"(16) ابن رشد يحذر من إذاعة الحجج والبراهين على العامة الذين يجب أن يقتصروا على ظاهر اللفظ ولا يتعمقوا في دراسة المسائل التي لا يقدر على خوضها إلا الراسخين في علوم الفلسفة. يقول ابن رشد في كتابه فصل المقال: "أما من كان من غير أهل العلم فالواجب في حقه عملها (النصوص) على الظاهر، و تأويلها في حقه كفر لأنه يؤدي إلى الكفر ولذلك يجب أن لا نثبت التأويلات إلا في كتب البراهين لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا ما هو أهل البرهان"(17). ابن رشد يخاف من تملك العامة القدرة على البرهان. علي الوردي يوضح هذه المسألة بأكثر جلاء فهو يرى أن ابن رشد كان يعتقد "أن العامة كمثل المرضى فليس من مصلحة المريض أن يعطى له عين الغذاء الذي يعطى للسليم، إذ هو يصبح بمثابة السم القاتل له. إن العامة في رأي ابن رشد لا ينفعهم سوى الدين (التشديد من وضعنا) والأنبياء عرفوا طبيعة العامة فأتوا لهم بالشرائع التي تلائمها. فالفيلسوف الذي يريد إصلاح العامة ينبغي أن يتبع معهم طريقة الأنبياء. أما الأفكار الفلسفية فيجب أن يحتفظ بها لنفسه ولا يبديها إلا للفلاسفة أمثاله"(18). الغريب أنه رغم تعارض أفكار ابن رشد مع فقه الغزالي فإن هذا الأخير يذهب نفس المذهب في موقفه من العامة إذ يرى "أنهم يجب أن يتلقوا الحقيقة من مصادرها ويصدقوا بها من غير جدل وبذلك تنصلح أمور دينهم ودنياهم"(19) (التشديد من وضعنا) .
III- بين الفلسفة والفنون:
لقد واكب ظهور الديمقراطية الأثينية والفلسفة ازدهار للفنون (الأشعار- لمسرح-الميثولوجيات- ...). فلو تطرقنا على سبيل المثال إلى المسرح للاحظنا أن التراجيديا تحتل مكانة خاصة ومرموقة.
التراجيديا تعني أنه لا وجود لضمان حتى وإن تسلحنا بالعقل وأن الميدان السياسي محفوف بالمخاطر والعثرات والكوارث والأخطاء كما أنها تطرح قضايا تتعلق بحياة الناس في المدينة وعلاقاتهم بعضهم ببعض.
ففي "أنتيقون" يقع إبراز القدرة على بناء المؤسسات وخلق المدن ونسج علاقات تعاون بين متساكينها وتنقد نزعة الغرور والاستفراد بالرأي. حدوث الكارثة من أسبابها الاستفراد بالرأي والاعتقاد بامتلاك "الحكمة المطلقة" والتراجيديا تشير أيضا إلى أن الحرية هي أيضا تحديد ذاتي ومسؤولية. التراجيديا لها أبعاد سياسية هامة وكلها ترتبط بالمجتمع الديمقراطي الأثيني ودلالاته(20). لسنا هنا بصدد تقييم التجربة الديمقراطية الأثينية وارتباط ازدهار الفنون بذلك ولكننا أردنا الإشارة إلى أن العرب قد نقلوا أساسا تراث اليونان العلمي والفلسفي ولم يعتنوا بالفنون والكتابات السياسية والشعرية إلا ما ندر (هوميروس). "فالعرب لم يعرفوا الإلياذة والأوديسة كما أنهم لم يعرفوا الأعمال المسرحية اليونانية"(21).
أبو القاسم الشابي نبه لهذه الحقيقة في مقاله المعروف "الخيال الشعري عند العرب" (وقد كان رد التراثيين والمتعصبين على هذا المقال عنيفا). فلقد رأى الشابي أن الخيال الفني "هذا الخيال الذي تتطبع فيه النظرة الفنية التي يلقيها الإنسان على العالم الكبير... ويضرب بجذوره إلى أبعد غور في صميم الشعور... والذي تلتقي فيه الروح الفنية والفلسفة في آن ونفهم منه نفسية الأمة وندرك ما الذي لآفاقها الروحية من عمق وسعة ضياء... تتجاوز الصناعة البلاغية... والخيال الصناعي (غائب) في الشعر العربي"(22). يتساءل شاعرنا العظيم عن أسباب غياب هذا الخيال الشعري (كما يعرفه) وعن العوائق التي جعلت من آدابنا القديمة على ما فيها من جمال وسحر بيان وما اكتسبته من ثروة فنية في الصور والأخيلة والأساليب خالية من نظرة للكون والحياة؟ "فحتى المذاهب التي تغلب عليها النزعة الروحانية لم تعرف سبيلا إلى نفوس العرب. فمذهب وحدة الوجود الذي هو أعمق نظريات المتصوفة لم يشتهر به من متصوفة الأمة العربية إلا من كانوا أغرابا عن العرب كالسهروردي والحلاج والشمس التبريزي وجلال الدين الرومي"(23).
أبو القاسم يعاين "أن الدين حرم النحت والتصوير والغناء ومحاكاة كل ما له روح... (لكن) مهما اشتدت سيطرة الدين وبلغت في الصولة والبأس والسلطان فهي لا تستطيع أن تسكت روح الشعب أو تقضي على منازعه و ميولاته"(24).
إذن الشابي يعاين من ناحية الإطار المخيالي العام الذي كبل الفكر والمخيال الجذري ولكنه يقر من ناحية أخرى أن هذا المخيال الجذري يتجاوز الأطر التي وضعت له.
يرى الشابي "أن العرب وإن ترجموا فلسفة اليونان وعلومها... فإنهم لم يترجموا من آداب اليونان شيئا وذلك لتشبع آداب اليونان بالنزعة الوثنية التي جاء الإسلام لمحاربتها ولاعتداد العرب بأدبهم الأول وإيمانهم أنه هو المثل الأعلى الذي لا يحتذى غيره... فالعرب لم يتصلوا بفلسفة اليونان وعلومهم إلا عن طريق تراجمه "النساطرة" و"اليعاقبة" (رجال دين) وهؤلاء عنوا بما يتصل اتصالا وثيقا بصفتهم الدينية اللاهوتية"(25)... "كما أنهم لم يدرسوا تاريخ الفن بأوسع معانيه لا عند اليونان ولا عند الرومان إلا قليلا من أساطيرهم لا تكفي لشرح نظرتهم الفنية لهذا العالم"(26). لقد كان الفلاسفة العرب والمسلمون أقرب لأفلاطون منهم لأرسطو أو حاولوا التوفيق بين رأييهما والمعلوم أن أفلاطون بنى نظامه الفكري والفلسفي على قاعدة استحالة تطبيق الديمقراطية وضرورة اعتماد المدينة الفاضلة على قائد أو عالم يوجه الشعب إلى محاسن الأخلاق يؤسس للمجتمع وجمهورية العدل. الفلاسفة العربي لم يجدوا فروقا بين كتاب السياسة لأرسطو الذي لم يصلهم منه إلا القليل وكتابي الجمهورية والنواميس لأفلاطون. فالفلسفة الأفلاطونية هي أقرب لمبادئ الخلافة لذلك تركزت البحوث الفلسفية "السياسية" إن جاز القول على تفسير وتأويل "المدينة الفاضلة" وذلك تماشيا مع "مبادئ العقيدة" وضرورة الخلافة كإحدى الأعمدة الأساسية للسلطة الدينية.
خلاصة: ليست السياسة هي التي عطلت الفلسفة العربية الإسلامية. فالسياسة بمفهومها المعاصر أو بمفهومها اليوناني القديم وكما طبقت في أثينا لا علاقة لها بالنظام السياسي للخلافة. الفلسفة اليونانية تشكلت على قاعدة سياسية وبارتباط بالديمقراطية (بصفتها نظاما سياسيا خاصا). محمد عابد الجابري كغيره من المفكرين المعاصرين يعتقد أن ارتباط فكر ما (أو فلسفة ما) بالعلم يضفي عليه طابع الموضوعية والعقلانية لأنه يعتقد أنه ما من علم (ومعرفة علمية) إلا وكان شفافا صافيا خاليا من المسبقات والمعتقدات والأفكار والمثالية أو التصورات الخاصة. فليس العلم هو منقذ الفلسفة ولا هو حاميها.
اليوم نرى عديد العلماء يتحولون كل بأسلوبه الخاص إلى أشباه فلاسفة محاولين فرض نسق فكري مغلق يستمد جذوره من المجال العلمي الذي نشط فيه هذا الباحث (نظرية الكوارث- نظرية الضبط الذاتي...) فإذا بالإنسان يختزل في برنامج أو كائن حي مغلق إلخ.... بطبيعة الحال كل ذلك مرتبط بهيمنة عقلية وضعانية تؤله التكنو-علوم وتنزهها من كل خطئ أو شائبة وتقدس الخبراء وتعصمهم.
إن كل تقييم تاريخي يستند إلى رؤية معاصرة ويكشف عن مسلمات ومواقف خاصة بالمؤول. فإذا كان الجابري يريد أن ينبهنا إلى خطر "تسييس" الفلسفة من ناحية وضرورة إضفاء طابع "العلمية" عليها حتى يستقيم فكرنا ونتخلص من أنظمة الفكر البالية ("النظام البياني" المبني على اللغة القاصرة و"النظام العرفاني الغنوصي المتسرب من الغنوص الفارسي والهندي) ونتمسك بالنظام البرهاني (وهو مغربي الأصل أندلسي) فإننا نقول له: لقد سبقك كثيرون في هذا المجال: "جاك مونو" الذي نفى وجود فكر فلسفي مستقل واعتبر أن الأخلاق تستمد قواعدها من العلوم التي لا تعترف إلا بقوانيننا الخاصة، وفوكوياما الذي أعلن نهاية الفلسفة.
فإذا كان فهمنا للتاريخ أنه يسير حسب منطق (كما يقول الجابري) وقوانين موضوعية مستقلة عن فعل البشر الذي (حتى وإن وقع) يأتي ليبرهن على صحة القوانين فإن مفهومنا للفلسفة سيكون مطابقا لرؤيتنا للتحولات الإجتماعية- لتاريخية
#خيري_محمد_زهير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بدولار واحد فقط.. قرية إيطالية تُغري الأمريكيين المستائين من
...
-
عوامل مغرية شجعت هؤلاء الأمريكيين على الانتقال إلى أوروبا بش
...
-
فُقد بالإمارات.. إسرائيل تعلن العثور على جثة المواطن الإسرائ
...
-
واتسآب يطلق خاصية تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل إسرائيلي في الإمارا
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام المختفي في الإمارات
-
هكذا يحوّل الاحتلال القدس إلى بيئة طاردة للفلسطينيين
-
هآرتس: كاهانا مسيحهم ونتنياهو حماره
-
-مخدرات-.. تفاصيل جديدة بشأن مهاجم السفارة الإسرائيلية في ال
...
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|