|
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية....12..
خالد الصلعي
الحوار المتمدن-العدد: 6418 - 2019 / 11 / 24 - 03:11
المحور:
الادب والفن
كل ذلك وأكثر . الانسان حين تهجم عليه المشاكل وتحاصره جدران الحياة ، يتحول الى مرجل من الاسقاطات . ينهار ، يحاول أن يرمي بأثقاله كلها في جهة ما . لكنها تأبى أن تفارقه . نادى عليها حميدو : - ألن تأتي ؟ لأول مرة يحدث ان ينسى مدمن ، وهنا مدمنة ، لحظة الذروة . سمية نسيت قضية البورصا . ربما لأنها ساهمت بنخوتها رغم ظروفها القاهرة والصعبة ، ووضعها القاهر والمزري في تلبية رغبة حميدو الذي وقف معها ، ولو بكلمات عابرة ، لا تأثير لها الا على نفسيتها المنهارة . تقبلها في وضعها الحرج ، وطلب أن ترتب فراشها الى جانب فراشه ، وتعاطف معها ، وتمنى لو يمتلك سلاحا يفرغه في أجساد اولئك الأجلاف الذين طردوها من حجرتها ، رغم أنها كانت تؤدي واجباتها الشهرية . اقتربت اليه ، جلست بمحاذاته تماما . غطى كليهما بغطاء من قماش مهترئ ، واستسلما لعادتهما السيئة . بعد انتهائهما من استنشاق تلك المادة الملعونة ، نزع حميدو عنهما ذلك الوشاح المتسخ . قالت له سمية :"علي البحث عن سكن ، لا أستطيع أن أتدبر أمري والطفل معي " . نظر اليها حميدو وابتسم ابتسامة خبيثة ، وكأن الجواب كان معدا عنده مسبقا . -لماذا لاتتسولين به ؟، انه كنز بالنسبة اليك . لم تصدق اذنيها . ماذا يقول حميدو ؟ ، هذا الملعون يحرضها على ابنها لتجعله أداة للتسول ، لايزال جسدها يدر عليها بعض المال . لم تتقبل الفكرة . كان الطفل في عينها أغلى من ان تعرضه كأداة للتسول . رفضت الفكرة ، وانكرت عليه التتفكير بهذه الطريقة : -كيف تصورت اني سأرضى بعرضك السخيف هذا ؟ ، أخي حميدو ، نعم أنا مدمنة وجانكية وعاهرة ، لكني لن أتسول بابني . ثم دخلت في نوبة بكاء شديد . اخذ حميدو يربت على ظهرها ويستسمحها ، وهو مقتنع أنها في النهاية ، في يوم من الأيام ستقوم بنفس ما أشار عليها به . الناس هنا أصبحوا يتسولون بآبائهم وأمهاتهم . عيسى مثلا ، ذلك الصياد القديم الطراز ، الذي كان يعتمد في صيده على الاطار الداخلي لعجلة التراكتور ، أخذ في يوم من الأيام صينية ،وراح يجول بها في السوق المركزي ، يجمع المال بحجة توفير مصاريف جنازة أبيه الذي كان لا يزال حيا يرزق . شاب في الثلاثينيات من عمره قادم من نواحي المغرب العميق ابتكر طريقة مخزية للتسول ، حيث يحرق ساقه اليمنى بالماء الدافء ويملأه بالبيتادين ، ثم يعرضه في الشارع العام على المارة . بل أصبح كل من له عاهة يخرج بها الى الفضاء العام ليتسول بها . عادت به الذكريات الى الأيام الأولى لانحرافه . ماكان لهذين الشابين أن يتجرآ عليه . لم يكن يعرف التراجع أو الهروب . قبل خمسة عشر سنة فقط ، كان حميدو بامكانه أن يصارعهما هما الاثنين في آن واحد . كان منبسط الجسد ، قوي العضلات ، شجاع لا يخاف أحدا . تذكر تلك الأيام الخوالي بحسرة شديدة . شيئا ما وخزه في صدره . سقطت دمعتان من عينيه . وكأنه ندم على ما آل اليه . ربما يكون الندم . ربما يكون وضعه الذي هو عليه الآن . او تلك الحالة البئيسة التي كان عليها والشاب القوي يسبه ويهدده . ويكاد يلطمه أو يلكمه . ظهرت سمية التي ذهبت التي عادة ما ترتاد شارع الرباط ، حيث تقف عند نقط اشارات المرور ، تطلب من السائقين و الراكبين مساعدتها كأنثى خانتها الحياة . . ظهرت وهي تجر ابنها الذي عادة ما تتركها عند السعدية التي تعتاش من بيع السجائر بالتقسيط . نظرت الى البتول التى توكأت على حائط الخزينة العامة ، وهي في حالة بئيسة ، واضعة يديها على وجهها ، ترتعش قليلا . التفتت الى جهة حميدو ، وحين رأته في تلك الحالة أحست أن شيئا خطيرا قد حدث للتو في المكان . بعض المدمنين منتشرين في محيط المكان ، وكأن الطير على رؤوسهم . اقتربت من حميدو وسألته : -ماذا هناك ؟؟ -لا شيئ ، لاشيئ . رد عليها حميدو بنوع من اللامبالاة ، وكأنه لا يريد أن يتحدث . ابتعدت عنه وتقدمت نحو البتول سألتها هي أيضا : -ماذا بك أختي البتول ؟ رفعت البتول عينيها ، نظرت الى الطفل الصغير ، تأملته جيدا ، ثم انهارت بكاء مرة أخرى . دق قلب سمية ، بينما الطفل الصغير يتابع باستغراب ما يقع . -أخبريني ، ما بك أختي البتول ؟ -لقد أمسكوا بي أختي سمية بالجرم المشهود . هنا ، خلت أنني نجوت بالهاتف ، لكنهم تبعوني الى هنا . ولكمني أحدهم في وجهي ، ألا تنظرين انتفاخ وجهي ؟ -أنت منحوسة ومسخوطة ، قلت لك أكثر من مرة أتركي عنك السرقة ، لكنك لا تستمعين . -وماذا اصنع أختي سمية ؟ ، من اين آتي بثمن البلية ؟ ، حتى الجسد خانني ، لم يعد يغري أحدا . ضعت أختي سمية ، لقد ضعت . لن اسامح عبد السلام أبدا ، هو السبب ، هو السبب . سمية تعرف قصة البتول ، وكيف وقغت ضحية معاقرة الكوكايين . فقد تم اغواؤها عبر زوجها عبد السلام . وبعد أن أصبحت مدمنة ، لفظها كما يلفظ البحر زبده . الآن فقط أدرك حميدو حقيقة وضعه . وعلم انه لم يعد يساوي شيئا غير هذا الجسد الضعيف ، وهذا المكان الموبوء ، وهؤلاء الأصدقاء والصديقات الضائعين مثله . تذكر صراخاته في المدمنين ، فعلم انهم يهابونه لعلو صوته ، ولسيرته القديمة التي أنفق كثيرا من سنينها في السجون ، أيضا لأنه ابن المنطقة . وتأكد ان الناس الذين يصرخ في وجههم ، منهم من يتجنب التورط في أشياء تافهة ، فهو حقيقة ، مجرد تفاهة ، وهو يعي تفاهته جيدا ، ولا يحتاج أحدا ليذكره أو يخبره بها . أو لأنهم يحترمون أمه . أحس بكآبة شديدة تخنقه ، ضيق تنفس ، حرارة جسده ، دقات قلبه المتسارعة .استسلامه لحقيقته . تمنى لو انشقت الأرض وابتلعته ، لكن هيهات ان تنشق الأرض . تمنى لو تحدث معجزة وتعود اليه صحته وعنفوانه . لكن هيهات ، ثم هيهات . تمنى لو يجد نفسه في أرض غير الأرض وفي مكان غير المكان . لكن قدرك يا حميدو ان تمضي ما تبقى لك في نفس المنطقة . لم تتصور يوما مصيرك هذا ، لكنك تعلم علم اليقين أنه لم يبق لك غير هذا المصير . رضوان كأول مدمن في أرض الدولة ، غيرت أمه دمه أربع مرات ، ثم انتفخ ، ومات . هو صديق حميدو، ابن حيه . الشريف كان من امهر تجار المنطقة ، وصار اليوم مجرد بائع صغير . ابن الملياردير "استيتو" ، نفسه لم تنقذه اموال أبيه الهائلة ، ومات هنا في بني مكادة في أحد الأحياء المهمشة .
#خالد_الصلعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية-10-
-
موسم انتفاضة الشعوب
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية...10
-
دراسة سوسيولوجية لأغنية -عاش الشعب-
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية....9
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية...8
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية....7
-
أبي أحمد علي ، شخصية السلام العالمية . من هو ؟
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية....6
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية ...5
-
ايران تنتصر مرة أخرى ، متى يتعلم العرب فن الانتصار ؟
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية...4
-
مواطن مع وقف التنفيذ ....رواية -3-
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية -2-
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية
-
انما الامم الاخلاق....قصة
-
حوار مع زيغموند باومان حول دور وأهمية المواقع الاجتماعية
-
يخت الملك الفاخر وفقر المغاربة المذقع
-
الربيع الايراني
-
انتحار في عيد الأضحى ....قصة قصيرة
المزيد.....
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
-
دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
-
مالية الإقليم تقول إنها تقترب من حل المشاكل الفنية مع المالي
...
-
ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك
...
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
-
مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب
...
-
انتحار موظف الأوبرا بمصر.. خبراء يحذرون من -التعذيب المهني-
...
-
الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج
...
-
-شاهد إثبات- لأغاثا كريستي.. 100 عام من الإثارة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|