|
عزلة صاخبة جدًا
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 6413 - 2019 / 11 / 19 - 19:50
المحور:
الادب والفن
رواية «عزلة صاخبة جدًا» للكاتب التشيكي بوهوميل هرابال مثيرة جدًا، ولوج في عالم الأدب. حيث عالم الحرية والجمال والحقيقة. للرواية قدرة هائلة على تعرية القباحة القابعة في ثنايا الواقع، تعرية العالم، ينزع عنه ثيابه ويبقيه مكشوفًا أمام انكشافه: الآن أنا في غرفتي، أقوم بضغط الكتب وتوصيفها. أضع عملًا فلسفيًا كلاسيكيًا في كل كومة. إن استخدام البعد الثالث يمنح الرواية قدرة على الانكشاف على ذاتها، ويمنحها الحرية والديمومة على ملامسة الواقع، فيها تبتعد عن السرد الروتيني والرتيب: رأيت المسيح يصدر الأوامر بثقة، يدع الجبال تندفع، بينما لاوتزه يخيط شبكة من العقل لا توصف. رأيت المسيح في لولبية متفائلة ولاوتزه في حلقة مغلقة، المسيح منتفش في حالة دراماتيكية، أما لاوتزه، فكان ضائعًا في فكرة حول الانحلال إلى صراع داخلي. هذا النص جزء من أسئلة وجودية عميقة يطلق العنان للعقل والتبحر في الغايات والأهداف، في التناقضات والتقاطعات التي نراها في سماء حياتنا. على الرغم من أن الرواية صغيرة الحجم، مقسمة إلى فصول، بيد أن كل سطر فيها يحتاج إلى تفكيك وقراءة لفرادة العمل. إن ربط الأسماء الفنية والأدبية والفلسفية بمقصلة الكتب، جنبًا إلى جنب مع القوارض والحشرات الممزوجة باللحم البشري، فيه شيء من السيريالية والذهان، وكأن بوهوميل يأخذنا إلى عالم الإنسان في توهانه الذاهب إلى العوالم المختلفة: إن جمالية الحياة تتمثل في عظمة القاذورات الممزوقة بالدم. حرب شاملة وإنسانية بين فئران بيضاء وأخرى بنية تنتهي بنصر مطلق للفئران البيضاء. فالثقافة هي مقياس وعي الإنسان لذاته، هي النقلة النوعية لمسير البشرية الطويل. وهي الدافع إلى الأمام أو العودة القهقري أو الإرتقاء. لولا الأدب ماذا يتبقى من الثقافة. أليس هذا الأدب هو الممر الأقدر على ولوج الحياة وتفكيك الرموز الغامضة فيها؟ ألا يشعر المرء بالذهول من الكلمات لما فيها من طاقات إبداعية هائلة عندما يقرأ العزلة الصاخبة: جنرالات الجرذان ينبحون مطلقين أوامرهم حول الموضع الذي تركيزه أعلى، بيد أنني أكملت المشي منصتًا إلى صوت حاد لفئران تداس تحت قدمي، مفكرًا في كآبة العالم الأبدية وسط هذا الكم الكبير من الدمار. لا الجنة إنسانية ولا الحياة التي فوقنا ولا التي تحتنا، لا إنسانية في داخلي يا غوغان. تتجلى قدرة الأدب على تعرية هذا العالم، ينزع عنه ثيابه، ويكشفه. يكشف العيب الإنساني والدوافع التي تجبره على تغيير مسار حياته. كتبت الرواية بلغة بسيطة ، بيد أن الحمولات الثقافية فيها كثيفة وعميقة للغاية، حيث تكثر الحكمة، وتحيلنا إلى البحث في مضمونها. ما يجعل المرء يحتار وهو يخضع لقدرة الكلمة على هز الوجع الإنساني. فالأعمال الإبداعية لديها قدرة على فهم أبعاد الواقع لهذا العالم السياسي الشديد القسوة، الذي يقضم فيه الإنسان أخيه من أجل بقاءه وتأكيد وجوده: هناك كتب، لوحات فنية، نصوص أوراق، تلال فوق تلال تنتظر دورها خلف الآلة الطاحنة، يكبس الزر الأخضر وهو يشرب البيرة تحت ضوء شموع الليل المنار في الساحات والشوارع التي تبدد الوحشة، ليرى وجوه النساء وعيونهن تتراقص بحثًا عن ونيس، عن حلم لم يولد ولم يلد. إنها إشارات إلى موت الكتب في المكبس، وضياع الأعمال الفكرية الخالدة في المكنة الحضارية الناكرة للثقافة. يعاب على الرواية أن ترجمتها ليست بمستوى عمق العمل. عمل كهذا يحتاج إلى مترجمين يعلمون إلى أين يذهب النص وكيف يمكن تأويله التأويل الأقرب لروح النص الأصلي. اتساءل مرات كثيرة عندما أقرأ روايات عالمية مثل هذه الرواية التي بين أيدينا، لماذا لا نملك الذائقة الأدبية كالآخرين، كدول أمريكا اللاتينية أو دول أوروبا الشرقية أو الغربية أو الصين أو اليابان وتركيا. ألسنا جزءًا من الثقافة العالمية ومنفتحين عليها، وأغلب دراساتنا وأعمالنا الفنية والأدبية متأثرة بهذا العالم؟ لماذا نحن فقراء في هذا المجال؟ وكل ثقافتنا تنحو نحو الآخر لمعرفته، ومحاولة تفكيك ما ينتج ومع هذا ما زلنا في آخر السلم. هل هو لعدم جدية الشغل الأدبي ؟ أم أن الواقع الاجتماعي لا ينتج إلا نفسه؟ يعلم من يشتغل في الثقافة أن أي جهة في العالم لا يمكنها تعرية هذا العالم السياسي مثل الأدب. فهذا الأخير لديه قدرة هائلة في الدخول إلى اللوحات الخلفية السوداء للحياة. أعطت الحداثة الروائي مساحة واسعة من الحرية أن ينقل شخصياته من موضع إلى آخر بسهولة وأن يحول العمل الفني إلى فضاء ذهني وعقلي يرفد القارئ بطاقة متواترة وقلقة ويأخذه إلى أماكن ومساحات متنوعة لا تقارب أو تناقض بينهما، لأن النص يعيش قلقه في ذاته وينقله إلى الخارج. إن النصوص الروائية تتحرك بدون ضوابط قيدية، بل فيها سلاسة تمنح النص حركته بأريحية، لهذا نستطيع القول إن مثل هذه الرواية هي شكل من أشكال الشبكة العنبكوتية المتناسقة المتباعدة المتقاربة.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مذكرات نعيم أفندي
-
الراقدة على الصليب
-
في البادية السورية
-
التمرد 5
-
التمرد 4
-
ذكريات من القامشلي 2
-
التمرد 3
-
لماذا الغرب متسامح مع الإسلام؟
-
التمرد 2
-
من ذاكرتي في القامشلي
-
إعادة هيكلة الدولة
-
التمرد
-
استانبول
-
من ذاكرة الجزيرة السورية 3
-
الخروج من الذاكرة 2
-
الحسكة
-
أمي
-
سعرت باتمان والسلطنة
-
السفينة والبطيخ
-
ثانوية ابن خلدون
المزيد.....
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|