|
ثورة تشرين و إعادة تأسيس الهوية الوطنية العراقية
فراس ناجي
باحث و ناشط مدني
(Firas Naji)
الحوار المتمدن-العدد: 6411 - 2019 / 11 / 17 - 17:44
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
غالبا ما إرتبطت الهوية الوطنية العراقية بالبنية الفكرية لمشاريع القوى السياسية منذ تأسيس الدولة العراقية . فالهوية العربية كانت جزء اساسي من شرعية النظام الملكي التي فرضها الإنتداب البريطاني عبر إختيار الأمير الحجازي فيصل بن الحسين ليكون ملكا على العراق مما أدّى الى نشوء صراع سياسي هوياتي نتيجة لإعتبار الكرد و باقي القوميات الأخرى في العراق كأقليات ذات حقوق ثقافية محدودة. ففي عقد الثلاثينات من القرن الماضي ساند العراقويون (المتبنين للنزعة الوطنية العراقية) من جماعة الأهالي و الحزب الشيوعي العراقي و كذلك بعض الكرد إنقلاب بكر صدقي في 1936 فيما عارضه القوميون العرب الذين إغتالوا بكر صدقي في 1937 لينتهي الحال بعدها الى سيطرة العقداء الأربعة العروبيون على السلطة في العراق حتى هزيمتهم على يد بريطانيا في 1941. غير أن هذا الصراع الهوياتي الأيديولوجي المحتدم بين القوى السياسية العراقية تحول الى تلاقي سياسي ثم الى تعاون بين هذه القوى عندما وجدت نفسها في نفس معسكر المعارضة ضد نظام النخبة الحاكمة الملكية و الذي إعتبرته هذه القوى إلعوبة بيد الإستعمار البريطاني و واجهة لخدمة المصالح الغربية في الشرق الأوسط. و بنفس الوقت و على الرغم من قمع السلطة ، بدأت ملامح هوية وطنية عراقية جديدة بالتشكل خرجت من رحم حركة الإحتجاج الشبابية و الفضاء العام للمجتمع المدني العراقي في الخمسينيات و خاصة في العاصمة بغداد. حيث أنتج التفاعل السياسي و التلاقح الأيديولوجي بين القوى السياسية العروبية و العراقوية و القومية الكردية ملامح هوية عراقية متحررة من سيطرة القوى الأجنبية و من تلاعب السلطة الحاكمة على أساس التآخي العربي الكردي و الإعتراف المتبادل بالحقوق القومية لكلا الشريكين في الوطن الواحد. هوية عراقية جامعة لوطن العرب و الكرد و باقي القوميات المتآخية. و قد تبنت ثورة 14 تموز التي قام بها الجيش العراقي بإسناد شعبي و سياسي من المعارضة للحكم الملكي لهذه الهوية الوطنية الجامعة عبر الدستور المؤقت للجمهورية العراقية الأولى ، و كذلك إنعكست في شعارات تلك المرحلة مثل "تحيا الوحدة العراقية الصادقة" و "لتزدهر ثقافة القوميات المتآخية في عراقنا الحبيب". غير ان الحكومات الجمهورية المتعاقبة نزعت الى الإستبداد السياسي منذ 1961 حتى سقوط نظام صدام حسين في 2003 (بإعتبار ان حكومة عبد الكريم قاسم في حينها كانت قد قمعت كل الأحزاب السياسية في العراق و بضمنها القوميين العرب و الشيوعيين و القوميين الكرد و الإسلاميين). حيث تمّ التلاعب بهذه الهوية الوطنية الجامعة و تفريغها من محتواها عبر إعادة كتابة التاريخ العراقي و العربي بصورة مؤدلجة – خاصة في عهد البعث العربي – مع قمع شديد لحرية التعبير الثقافية. بحيث اضحت الهوية الوطنية العراقية في نهاية المطاف مرتبطة بالحاكم المستبد الذي إعتمد على الولاء العشائري و الطائفي للسلطة مع ممارسة الإضطهاد الممنهج ضد الكرد و الشيعة و القمع لحرية معظم العراقيين في التعبير عن هويتهم القومية أو الدينية مما أدى الى تصدّع الهوية الوطنية العراقية و سيادة الهويات الفرعية عليها. فما إن إنهار نظام صدّام القمعي على يد الإحتلال الأمريكي حتى تكرّس نظام المكونات عبر العملية السياسية على أساس المحاصصة القومية و الطائفية. حينها سادت الهويات الطائفية و القومية على حساب الهوية الوطنية الجامعة و سقط مفهوم المواطنة المبني على الأنتماء لدولة واحدة و التساوي في الحقوق و الواجبات. الا ان جماهير الشعب العراقي لم تغفر للقوى السياسية المكوناتية التي فشلت فشلا ذريعا في بناء الدولة و تقديم الخدمات الأساسية و قادت العراق الى الخراب خاصة بعد إنهيار نظام ما بعد 2003 في حزيران 2014 عندما إحتل داعش ثلث مساحة العراق و تقسّم العراق عمليا الى ثلاث دويلات متحاربة ذات أجهزة أمنية و جيش و مؤسسات دولة و برامج تعليمية مختلفة عن بعضها. بل بدأت حركات إحتجاج شعبية منذ 2011 تنادي بالإصلاح و محاربة الفاسدين كما بدأت بتكوين ملامح هوية وطنية عراقية جامعة عابرة للطوائف و القوميات و معارضة للطائفية و الفساد. و من رحم هذه الحركات الإحتجاجية الشعبية بدأت الحركات الإحتجاجية الشبابية بالظهور مثل تظاهرات البصرة في 2018 و التي تميزت بكونها أكثر راديكالية من الإحتجاجات الأم بعنفيتها و معاداتها الصريحة لإحزاب السلطة الطائفية و لتدخل إيران في الشؤون العراقية بالإضافة الى خروج هذه التظاهرات عن سيطرة القوى السياسية المعارضة التقليدية مثل التيار الصدري. أمّا في تظاهرات تشرين الحالية فلم يزداد زخم دور الشباب القيادي فيها فحسب بل تأصلت فيها مطالب الشباب في إنهاء دور أحزاب الإسلام الشيعي المتحكمة في المشهد السياسي العراقي منذ 2003 بالإضافة الى توسع قاعدة الإحتجاجات الشعبية لتشمل العاصمة بغداد و مدن جنوب العراق الأخرى و شرائح أخرى من المجتمع العراقي لم تشترك في حركات الإحتجاج السابقة. و يبدو من خلال رصد الإنتاج الثقافي للشباب العراقي خلال العام المنصرم – على سبيل المثال فيديو "أنت القائد" للشاعر سجاد الغريب و أعمال فنانين و شعراء متعددين في مهرجان "نستطيع" الثالث في النجف – أن الشباب العراقي خاصة في مناطق جنوب العراق و بغداد أسسوا مخيالهم الخاص لهويتهم الوطنية و رؤيتهم لشرعية النظام السياسي المطلوب لإخراج العراق من محنته و إعادة كرامته. حيث تتمحور سردية الهوية الوطنية العراقية الجديدة عند الشباب حول وحدة الشعب العراقي و رفض المكوناتية و التقسيم الطائفي و رفض الطبقة السياسية الطائفية الحالية التي إستغلت الدين لمصالحهم الشخصية بالإضافة الى إعادة الإعتبار للعلم العراقي كرمز لكرامة الوطن المهدورة و للنشيد الوطني العراقي كأمل للمستقبل المنشود. و قد تردد صدى هذه الهوية العراقية الجديدة في شعارات تظاهرات تشرين الحالية فكان المتظاهرون يتوشحون بالعلم العراقي و يرددون نشيد موطني. بالإضافة الى ترديد الشعارات مثل "إخوان سنة و شيعة ، هذا الوطن ما نبيعه" و "إيران برة برة ، بغداد تبقى حرة". فيما شارك الكرد و المسيحيين و التركمان و الأنباريين بصورة فاعلة في تظاهرات ساحة التحرير و ألغى الصابئة المندائيين مراسيم إحتفالهم بعيدهم و إقتصروا على المراسيم الدينية تضامنا مع شهداء ساحة التحرير. كما ركّز المتظاهرون الشباب على مطالبتهم بحقوقهم الوطنية تحت شعار "نريد وطن" و "نازل اخذ حقي". من الواضح ان ملامح الهوية الوطنية العراقية الجامعة التي عكستها تظاهرات تشرين لم تحدث بصورة فجائية ، بل هي تحولات في الهوية الوطنية العراقية نتيجة عملية بناء ثقافية مستمرة ترادفت و تكاملت مع حركات الإحتجاج منذ 2011. كما أن الإمتداد الواسع لتظاهرات تشرين – بالمقارنة مع تظاهرات البصرة في 2018 – يؤكد إزدياد شعبيتها المطردة حتى خارج الأوساط الشبابية. و هذا يفسّر من جهة ديمومة إنتفاضة تشرين حتى اليوم الى أكثر من ستة أسابيع بدون وهن و كذلك يؤشر من جهة أخرى الى أرجحية تطور هذا التحول في الهوية الوطنية العراقية الى نزعة وطنية ذات رؤية و فكر سياسي خاص بها تسعى بثبات نحو الوصول الى هيمنة ثقافية جديدة على المجتمع العراقي و تأسيس مشروع دولة المواطنة في العراق.
#فراس_ناجي (هاشتاغ)
Firas_Naji#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صحيفة تركية: أنقرة ستسمح لحزب مؤيد للأكراد بزيارة أوجلان في
...
-
صحيفة: تركيا ستسمح لحزب مؤيد للأكراد بزيارة أوجلان في سجنه
-
ترامب يخاطب -اليساريين المجانين- ويريد ضم كندا وغرينلاند وقن
...
-
من الحوز إلى تازة: دخان مدونة الأسرة وانعكاسات تمرير قانون ا
...
-
الجبهة الديمقراطية تندد باعتقال السلطة أحد قادتها خلال مسيرة
...
-
الجبهة الديمقراطية تندد باعتقال السلطة أحد قادتها خلال مسيرة
...
-
الحزب الشيوعي ودكتاتورية الأسد
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 584
-
الحلم الجورجي يستيقظ على العنف
-
جيش الاحتلال يقر بإطلاقه النار على عدد من المتظاهرين السوريي
...
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|