أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ليلى والذئاب: بقية الفصل الثاني عشر















المزيد.....

ليلى والذئاب: بقية الفصل الثاني عشر


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6410 - 2019 / 11 / 16 - 21:14
المحور: الادب والفن
    


2
المرأة البدوية، واسمها " هدية "، كانت تصغر زوجها بنحو عشرين عاماً. وهيَ ذي تعشقُ غلاماً، كانت بعُمره حين جاءت عروساً إلى الشام، محمّلة على هودجٍ وسط موكبٍ من أقاربها وأفراد قبيلتها. منذ البداية، لم يكن قلبها قد مال إلى حمّوكي، بالأخص لأنها علمت بكون الزواج على سبيل الصفقة بينه وبين شقيقها حمّاد. إلى ذلك، كان الرجلُ قاسياً يعاقبها بالضرب على أيّ هفوةٍ ويصفها دائماً ب " الأعرابية القذرة ". كون صلته أضحت سيئة مع شقيقها، صار من المحال عليها أن تجد سنداً. مع اختيار حمّوكي السكن في الخلاء، بعيداً عن الناس، أطبقت العزلة بشكل شبه تام على امرأته. إنجابها للبنت تلو الأخرى، عقّد أيضاً علاقتها مع الزوج. لم يبق حياً منهن سوى ابنتان، إحداهما الكبرى والتي كانت سبباً في تعرّف الأم بمَن سيُضحي عشيقها. المرأة، المتسمة بالدهاء كأغلب البدو، فكّرت بالانتقام لكرامتها وذلك عن طريق النيل من شرف معذّبها: من ألعاب القدر، أنّ زواجها هيَ وشقيقها لم يكن أيضاً إلا بسبب رغبة حمّوكي في الانتقام لشخصه من محمّد آغا!
لكنّ هدية أعجبت حقاً بالفتى شبه المتشرد، مثلما أنها أشفقت على حاله. لم تكن علاقتهما السرية على شيء كبير من المخاطرة، طالما أنّ الزوجَ يمضي مع الغروب إلى عمله في البستان ولا يعود قبل صباح اليوم التالي. وكان هذا عادةً يرتمي في الفراش فورَ وصوله للمنزل ويغط في النوم، تاركاً جسدَ امرأته إلى جانبه يتأجج بالرغبة. مع شيخي، ستدخل إلى عالم اللذة بكل فنونه، المألوفة وخلافها. كانت بمثابة المعلّمة، وفي نفس الوقت، تمتحنُ بدنها في ألاعيب كانت مجهولة لها إلى أن صارت محظية للغلام المراهق. هذا الأخير، من ناحيته، غرقَ تماماً في جنّة الجسد، المشبوب والمتطلّب، وكان قد أصبح واعياً إلى حقيقة أنه السيّد والمستعبَد في آنٍ واحد. استمرت علاقته عامين متواصلين مع المرأة العاشقة، لحين أن فاجأته ذات ليلة باقتراح غريب ومستطير.

***
" حمّوكي كان يجلب أحياناً بعضَ الأعشاب الطبية من بيت قريبك، المرحوم أوسمان. يقال أنّ أرملته بارعة في هذا الشأن، وأنها بوسعها تحضير وصفاتٍ لا تخطر لعقل إنسان "، قالت للفتى وهما في الفراش. ثم أردفت، متمعنة في عينيه القاتمتين، " أعلمني ذات مرة بقصة وفاة امرأة أب ليلو، وكيفَ سُقيت مادة سامة تُدعى النفتالين. لو أنّ بمقدورك أن تجلب لي من بيتها حفنة منها، وهيَ عادةً ما توضع بين الملابس الشتوية لحفظها من العث والبق؟ "
" لمَ لا تطلبين من رجلك أن يفعل ذلك، ما دام يأتي بالوصفات من منزلهم؟ "، ردّ الفتى وقد دلّت ملامحه على ارتيابه بالأمر.
" إنك تفهم مرامي، فلا تدّعي الجهل! "، قالت له هذه المرة بشكل مكشوف. حدّقَ فيها بمزيد من الريبة، وكان ما انفك يأمل ببراءة مقصدها. فلما بادلته بنظرة باسمة، تقطر بالمكر والخبث وسوء النية، هز رأسه بحركة مَن أفاق على الحقيقة عاريةً.
" إذاً، أنت تبغين تسميمَ الرجل؟ "، سألها بصوت مرتعش وقد ارتعد باطنه مع كل حرف.
" وماذا سيكون غير ذلك، يا تيسي الفحل! بلى، سنتخلص منه ونعيش من ثم سويةً في هذه الدار. أنا أعرفُ أين يُخفي ماله، وسنتمتع به ولن نكون بحاجة إلى أيّ كان "، أجابت بلهجة من يسبح في حلمٍ هانئ لا يُرام.
" هذه فكرة مجنونة، وعليكِ أن ترميها من رأسكِ "، همسَ شيخي بصوتٍ مخنوق من الانفعال.
" كنتُ أظنّ أنك تملك قلباً جسوراً، بقدر قوتك البدنية. ولكنك جبانٌ "
" اخرسي..! "، صرخَ بها مغضباً مع صفعة دوّت في ليل الحجرة الآثمة. ظلت العشيقة هادئة، وكانت تتحسس مكان الصفعة على خدها الملتهب. ثم ما لبث صوتها أن تسلل إلى سمعه، أشبه بفحيح الأفعى: " أنا آسفة، يا حبيبي. لم أعرض تلك الفكرة إلا خوفاً من أن تنكشف علاقتنا، إن آجلاً أو عاجلاً. الموتُ أهون عليّ من فراقك ".
ليسَ في هذه الليلة، بل فيما بعد، فكّرَ شيخي بقطع علاقته نهائياً بالعشيقة. ذلك كان على أثر معرفته، مصادفةً، بأن رجل هدية قد وضعها تحت المراقبة.

3
في نهاية العام التالي لارتباط الفتى بالعلاقة الآثمة مع امرأة حمّوكي، حضرَ هذا الأخير ذات مساء إلى حجرة أعمال ابني السيد نيّو. اتفاقاً، كان شيخي في الحجرة المجاورة، يتهيأ للانصراف إلى بيته بعد يوم عمل استمر منذ ساعة مبكرة من الصباح. ولعل معلّمه، عليكي آغا الصغير، اعتقد عندئذٍ أن أجيره قد غادر منذ بعض الوقت عن طريق الباب الداخلي، المفتوح على البستان. هكذا قال للضيف، " تفضل، يا صاحبي. ما هوَ هذا الشيء المهم وراء حضورك، ونحن نهم بإقفال المحل؟ ".
من مكانه المعلوم، طفق شيخي يُصغي لرجل عشيقته. تناهت إليه كلمات الرجل، وكانت أحياناً نوعاً من غمغمة: " مهما جرى في قادم الأيام، عشنا أو متنا، سيبقى كلامي هذا بيننا ولن يخرج إلى شخص ثالث. تمام يا آغا؟ ". قالها ثم تنهد قبل أن يتابع، " الحق، إن شعور العار يعتور كياني كله. فأنا مضطر لكشف أمرٍ، كنتُ أود أن أموت على ألا أبوح به ". ثم حل صمتٌ، استمر للحظات. في الأثناء، كان قلب الفتى يخفق بقوة تحسّباً لما سيقوله حمّوكي. إلى أن خرقَ المعلّمُ الصمتَ، مستفهماً من ضيفه في نبرة نفاد صبر: " ماذا دهاك، يا صاحبي؟ هيا تكلم، وأفضِ لأخيك همومك علّني أتمكن من المساعدة بشكل من الأشكال "
" بلى سأتكلم، وإلا سينفجر كبدي كمداً وقهراً. إنها امرأتي، يا آغا.. تلك البدوية القذرة! أظنها تخونني مع شخصٍ ما. لكنني لم أستطع إثبات ذلك، وإلا لما كنتُ الآنَ أتكلم معك "
" ماذا تقول، يا رجل؟ إن بعضَ الظنّ إثمُ "، قاطعه عليكي آغا الصغير بصوتٍ حاد حفل بالإحراج والضيق. تابعَ حمّوكي الكلامَ، وكما لو أنه لم يسمع ما فاه به صديقه، " قلبي يحدثني أنها خائنة، وربما أتمكن من إثبات ذلك اليومَ أو غداً "
" المرأة المسكينة، تحملت طبعك الصعب وهيَ بعيدة عن ربعها. ألم يكفك هذا، لتأتي الآنَ وتتهمها لمجرد الظن؟ ولعلمك، القاضي يوجب وجود أربعة شهود كي يقطع بحصول الزنا؛ وإلا فإنه سيصدر حكماً بشنقك! "، قال له المضيفُ منذراً.
" آه، يا ربي، إنني أكاد أجن. أعترفُ بأنني فعلاً أتكلم بدافع الشك والريبة لا استناداً لشهود وبراهين. لكنه قلبي مَن يحدثني أنها ليست بريئة، برغم كل شيء "، هتفَ حمّوكي بنبرة أقرب للتضرع والنحيب.
" هيا، هيا يا صاحبي. سنخرج قليلاً إلى الهواء الطلق، ريثما نفسك تهدأ "، قالها تاجرُ الماشية وقد ظهرَ التأثر أيضاً في صوته. ثم أضاف بنبرة عتاب، " كان الأولى منذ البداية ألا تترك حجرتك في البستان، أو أن تعمر لك بيتاً في الزقاق. ولكنك أبيتَ إلا أن تأخذ ابنة الناس إلى ذلك الخلاء بين الوحوش والأشباح "
" يعلم الله أن المرأة شرٌّ من الوحوش والأشباح..! "، صرخَ الآخرُ ثم ما لبثت المسافة أن طمست بقية كلامه.
تنفس شيخي الهواء عميقاً، وما عتمَ أن خرجَ بدَوره، مستعملاً البابَ المفضي من الإسطبل إلى الدرب. تلك الليلة، تخلّف عن الذهاب إلى منزل العشيقة. وكان هذا، آخر عهده بها.
***
مغامرة مماثلة، جدّت مع شيخي وكان قد صار من نضج الملامح وتكتّل العضلات، أنّ من يراه يحسبه رجلاً. على ذلك، لم يكن غريباً أن يلفت نظرَ امرأة حسناء في الحارة العليا، المنعوتة باسم ساكنيها الدروز. حصل الأمرُ صيفاً، بعد أشهر قليلة من قطعه علاقته مع العشيقة البدوية. وكان آنذاك في سبيله إلى الجبل، لاصطياد طائر الحجل. مثلما كان الحالُ تقريباً مع هدية، رأى تلك المرأة واقفة قدّام باب بيتها الموارب. كانت في قميصٍ رقيق، ورديّ اللون، يكشف مع السروال الداخليّ، الطويل والأبيض، ملامحَ جسمها الرشيقة. شعرها العسليّ، كان قد تهدل بفوضى جميلة على كتفيها وجانبٍ من صدرها. بقيَ لحظة مثبتاً عينيه بعينيها، اللتين كأنما استمدتا لونهما من الخضرة الداكنة لألواح الصبّار، المنتشرة حواكيره في المنطقة. لكن المرأة، على ما لاحَ من إجفالها، انتبهت سريعاً إلى وقوفها مكشوفة أمام رجل غريب، فما لبثت أن اختفت خلف الباب.
الوقتُ كان ظهراً، تحسست في خلاله أنثى طائر الحجل، المحبوسة في القفص، من انعكاس أشعة الشمس على الصخور. الأنثى كان عليها جذب فحول أبناء جنسها، فيما الصيّاد أخفى نفسه خلف نفس الصخور. كان جالساً بمقابل مشهد الحاضرة الشامية، الممتدة تحت أنظاره مثل سجادة خضراء مزينة بنقوش ذهبية وفضية. تحته مباشرةً، كانت تقع المغارة السوداء، التي ستستقبله مع أسرته مستقبلاً ـ كما جرى القولُ في مكانٍ آخر من سيرتنا.
مضت الساعات ممضة بطيئة، دونما أن يقع أحد الفحول في المصيدة. محبطاً وحائراً، حمل شيخي القفصَ ثم بدأ في النزول وقد بدا له تغريد الحجل المحبوس كأنما هوَ أغنية شماتة. ما لم يدُر بخاطره قط، أنه سيعوّضُ بعد قليل خيبته باصطياد طائرٍ أكثر بهاء وأغلى قيمة.

4
في قادم الأيام، ولحين انتهاء علاقته بجارة المغارة السوداء، ما عاد يحمل قفصاً فيه أنثى مختالة باختلاف تكوينها وألوانها عن بقية الطيور، المختَلِفة إلى السفح؛ كالكركي والبشروش والسمان. سيحمل إذن طيّ سرواله ذلك الاحليل الأسمر، القاسي مثل الحجر، المختال بطرّته ذات العين السيكلوبية؛ مَن شهدت له أكثر من امرأة بقدرته العجيبة على الإمتاع، وصولاً للرعشة المنشودة. بقيَ الجسدان يتشابكان، يتبادلان أدوار الصعود والهبوط، لحين انقضاء أشهر الصيف. جزعاً أشد الجزع، سمع شيخي ذات ليلة قرارَ العشيقة، القاطع مثل حدّ مديته وكانت لا تفارق حزام وسطه قط: " زوجي اقترب حضوره من الجبل، بعد انتهاء موسم جني العنب. علينا الافتراق الآنَ، إلى حين أن نحظى بفرصة مناسبة "، قالتها بلهجة جبلها المميّزة. ثم أضافت محذرة، " وحتى بداية الصيف المقبل، لا أريدك أن تحوم حول الدار أبداً ".
بقيَ فترةً فريسةَ الحرمان الجنسي، لحين أن اصطاد أنثى أخرى كان لها تقريباً نفس أسباب المرأتين السابقتين لاقتراف الخيانة الزوجية؛ سواءً لأن رجلها قاسٍ ويكبرها كثيراً في السن أو لشكواها من الوحدة وتوقها لعاطفة الحب. من ناحيته، كان شيخي قد دخل عالماً جديداً نتيجة تلك العلاقات، وفّرَ له الشبع الجسديّ فضلاً عن الامتلاء النفسيّ بالثقة والاعتداد. المرأة الأخيرة، كانت من فئة الأغنياء وقد ذاق على مائدتها أشهى المأكولات وأغربها، علاوة على التنعم بالرقاد محاطاً بالرياش والديباج والحرير. هذه، كانت مدخله لإعمال الفكر بمستقبله ـ كشاب يفتقد للمكانة الاجتماعية وللمؤهلات العلمية والعملية.

***
" لِمَ لا أرتبط بفتاة من أسرة موسرة، تتيح لي ما أفتقده وتساعدني على النهوض بشخصي إلى مراتب الرجال القادرين مادياً والمحترمين وجاهةً ونفوذاً؟ "، كان يسرّ لنفسه بعيد كل مرةٍ يخرجُ فيها من عند تلك المرأة الغنية. كونه في هذه الآونة يعمل لدى قريبه، تاجر الماشية، فإنّ فكره الطموح حط تلقائياً عند عتبة ابنة الرجل، البكر؛ فتاة ألعاب الطفولة وشقوتها وطرائفها. نعم، إنها هيَ، نازو، مَن سترفعه إلى المرتبة المطلوبة ما لو أوقعها في شباكه؛ تماماً مثل دأبه مع طير الحجل، أيام الصيد في سفح قاسيون
واصل شيخي لقاءات النهار مع ابنة معلمه، وأضحى ذلك بمثابة طقسٍ يوميّ. كونه من أولاد العمومة، لم ينظر أهلُ الفتاة للشاب كأجير، بل ولقد سُمح له أيضاً أن يغشى المنزل كي يأتي بغداء الأب أو لأي شأن من هذا القبيل. بيد أنّ الأم أبدت عدم ارتياحها من تعلق ابنتها بأجير الأب، والمتجلي بحرص هذه على التكلم معه لدقائق في كل مرة يحضر فيها للدار. قالت يوماً لشملكان وهيَ تتنهد: " آخر شيء يخطر لي، أن يكون شيخي زوجاً لنازو "
" إنه مقبولٌ نوعاً ما، على رأيي، بالمقارنة مع بقية شبان العائلة "
" آه نعم.. هذا هو واقع الحال، مع الأسف. ولكنني أقول لنفسي، ماذا لو تقدم لابنتي أحد طالبي القرب من جسر النحّاس أو الحارة الجديدة؟ "
" لن تتكرر حالة عمتك فاتي، يا عزيزتي! "، علّقت الأخرى ضاحكةً. شاركتها ليلو شعورَ المرح، ثم ما لبثت أن عادت لتقول عابسةً، " بالعادة فالأقدار ساخرةٌ، فإما تجعل الشخص المطلوب صغيرَ السن أو كهلاً ". ضيّقت أرملة أوسمان عينيها، علامةً على عدم فهم مقصد القول. أوضحت ربيبتها قائلة: " على سبيل المثال، آكو؛ وكنتُ أتمناه لنازو لو أنه في سنّ مناسب للزواج "
" أو الحاج حسن، لو لم يكن كهلاً! "، أكملت شملكان مقهقهة هذه المرة. لكن ليلو اكفهرت سحنتها، وما عتمت أن عقبت بالقول، " لا أرضى شخصاً مثله لابنتي، ولو كان بمنصب الوالي لا زعيم الحي ".
كذلك كانت ليلو في ذلك الصباح من الخريف، تفترض وتأمل، دون أن يدور بخلدها أنّ ثمة مَن يقرر مستقبل ابنتها بالنيابة عنها: إنه الحاج حسن نفسه، وكان يومئذٍ يُفاتح امرأته بفكرة زواج ابنهما موسي من ابنة عليكي آغا الصغير.

5
بينما شيخي يغرق في نعيم الملذات يوماً بعد الآخر، كانت حبيبته المفترضة، نازو، قد انصاحَ زهرُ حُسنها وعبقَ على من حولها. حقاً إنهما لم يتصارحا بعدُ بمكنون قلبيهما، لكنهما كانا كما لو يعدان مستقبلهما المشترك أمراً مقضياً ومن النافل الإفشاء به على شكل كلماتِ وَلَهٍ مثلما يفعل عادةً العشاق المتيّمون. أبقيا على طقس اللقاء اليوميّ، يتبادلان في خلاله حديثاً مجرداً ولكنه مفعمٌ بالتلميح إلى ما ينتظرهما في الغد من الأماني المرجوة، المتحققة.
على المنقلب الآخر، اعتورَ القلقُ أم الفتاة، كما سبقَ هذه وأوضحت لأرملة عمها. لقد شاءت ليلو في أحد الأيام اختبارَ ردة فعل الابنة، وذلك حينَ صارا وحيدين على أثر مغادرة الفتيات لمشغل الخياطة في ساعتيّ الغداء والقيلولة. قالت لنازو وهيَ تنظر مباشرة في عينيها: " سننتظر قليلاً، لحين أن يفرغ أخواك من الطعام. لديّ ما أسألك عنه، وأتمنى أن تكون إجابتك صريحة واضحة "
" نعم أماه، تفضلي واسألي ما شئتِ "، قالت الابنة في نبرة إذعان وتوقير. هزت الأم رأسها، دلالة على الاستحسان، قبل أن توجه سؤالها: " أريدك أن تكلميني عن شيخي، أجير والدك، وماذا يعني بالنسبة إليك؟ ". كانت نازو واقفة عند ماكنة الخياطة، وإذا بها تهمد على الكرسيّ دونما شعور. ترددت قليلاً في الرد، مشيحة نظرها إلى ناحية باب الصالة المفتوح على أرض الديار، المكسوة بالأوراق المصفرّة لشجرة اللوز.
" أنتِ قلتها، أماه، أنه أجيرُ أبي. يأتي إلينا لأخذ ماعون الطعام، وفي الأثناء أتبادلُ الحديثَ معه "، ردت الابنة أخيراً في بعض البراءة المصطنعة.
" ألم يفاتحك مرةً بموضوع خاص؟ "، عادت الأم إلى استخدام لغة التحقيق.
" أي موضوع خاص، تقصدين؟ "، تساءلت نازو بدَورها وكانت على ما يلوح مصرّةً على إظهار براءتها. هنا، نفخت ليلو بنفاد صبر: " يعني، ألم يختبر مشاعرك؛ قلبك؟ "
" لا أفهم شيئاً، أماه "
" بل إنك تفهمين قصدي، ولكن يطيب لك التمادي في البلادة! "، قالتها الأم بصورة فجة وقد ظهرَ عليها الانفعال. ثم استدركت، مخففة من اندفاعها: " حسناً، في هذه الحالة يبدو واضحاً أن الشابَ رزينٌ عاقل.. ولو أنني أعتقدُ العكسَ؛ وأنه ماكرٌ أفّاق! فماذا عن شعورك أنت تجاهه، وهل تأملين أن يتشجّع يوماً فيصارحك بالحب؟ ". التزمت نازو الصمتَ مجدداً، مقلّبةً في رأسها أفكاراً متضاربة: إنها لم تكن أقل حيرةٍ، وتتمنى فعلاً أن يوضح لها شيخي حقيقة مشاعره.
إذا بالدموع تنهمر من عينيّ نازو، على حين فجأة، ولا يكون منها إلا مغادرة صالة الخياطة ركضاً كالمُطارَدة. ظلت نازو متسمرة بمكانها، وكانت ما تفتأ مباغتة بحركة الابنة: " رباه، إنها تعشق ذلك الشاب الحقير! ". لقد كانت تعلم بحقيقة مغامراته، والتي كان من الممكن أن يتورط فيها بفضيحة أو حتى بجريمة قتل. ولكنه بسبب غروره، كان يُسرّ لصديقه حاجي بعضَ تفاصيل تلك الغراميات. هذا الأخير، كان من السهل على والدته أن تستدرجه كي يبوحَ بما عرفه من ذلك الصديق المغامر.

***
لا يُعلم يقيناً، ما لو كان موسي هوَ مَن طلبَ من والده أن يفاتح عليكي آغا الصغير بشأن الزواج من نازو. ولكن نظراً لشخصية الحاج حسن، المحافظة والمتسلطة، يُرجح أنه المبادر بالأمر وربما بعد مشاورة عابرة مع الابن المعنيّ. الابنُ البكر هذا، كان قد حصَّلَ تعليماً دينياً في مسجد الكردان على أيدي مشايخٍ كانوا يعدون في زمنهم من كبار العلماء. بعد ذلك، حين نضجَ جسداً وفكراً وتجربة، أمكنه أن يصبحَ وكيل أعمال علي زلفو آغا؛ أحد كبار ملاكي الأراضي في الحي.
على الرغم من نشأته على يديّ الأب، ومن ثم دراسته الدينية، فإن موسي لم يكن يوحي بشخصية متحفظة ومستبدة. كذلك لم يكن يمانع في نهل الخمر، عندما كان يحضر إحدى سهرات الآغا. ولعل ميله للفكر القوميّ، المنطبع على مسلكه في وقتٍ لاحق، كان بتأثير من أحد أخلاف بدرخان الكبير: ذلك كان، حينَ سيستقبل منزلُ الآغا فوجاً من اللاجئين السياسيين الكرد، الهاربين من بطش أتاتورك، وكان أبرزهم الأمير جلادت بك.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليلى والذئاب: الفصل الثاني عشر/ 1
- ليلى والذئاب: الفصل الحادي عشر/ 5
- ليلى والذئاب: الفصل الحادي عشر/ 4
- ليلى والذئاب: الفصل الحادي عشر/ 3
- ليلى والذئاب: الفصل الحادي عشر/ 2
- ليلى والذئاب: الفصل الحادي عشر/ 1
- ليلى والذئاب: تتمة الفصل العاشر
- ليلى والذئاب: مستهل الفصل العاشر
- ليلى والذئاب: بقية الفصل التاسع
- ليلى والذئاب: الفصل التاسع/ 2
- ليلى والذئاب: الفصل التاسع/ 1
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 5
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 4
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 3
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 2
- ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 1
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 5
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 4
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 3
- ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 2


المزيد.....




- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ليلى والذئاب: بقية الفصل الثاني عشر