|
ليلى والذئاب: الفصل التاسع/ 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6399 - 2019 / 11 / 4 - 01:18
المحور:
الادب والفن
ليلو، كانت محقة في يقينها بأنّ العم أوسمان كان سيعطي رأياً مخالفاً للزعيم فيما يتعلق بعرض المسكينة سلمى على طبيب من المدينة. فإنه بنفسه سيتوجه إلى مستوصفٍ، أنشأته في جنوب الصالحية بعثةٌ كاثوليكية إيطالية، وكانت عمارته المهيبة والفخمة تذكّر المرء بكنائس الحي المسيحيّ في باب شرقي. ذلك، حصل قبل وفاة امرأة عليكي آغا الكبير ببضعة أشهر. وكان أوسمان آنذاك يعاني بصمت من وجعٍ مستمر في ناحية الكبد، لم تنفع في تخفيفه أعشابُ العطارة إلا قليلاً. بدلاً عن العطار، الذي أجلسه مرةً على كرسيّ واطئ ليسأله عما يشكو، إذا به يُمدد على سرير المعاينة في حجرة ناصعة البياض ـ كلون العَرَق، الذي تابَ عن شربه قبل سنوات. خرجَ من المستوصف، وكانت كلمات الطبيب النصرانيّ المشئومة، الراطنة في المقابل بعربية طريفة، تطنّ في أذنه مثل ذبابة مزعجة: " كبدك تالفٌ يا سيّد أوسمان، وهذا بتأثير أقداح الكحول، التي كنت تتناولها بغير حساب. حسنٌ فعلتَ بترك الخمر، لأن ذلك منحك عدة أعوام من نعمة العيش ". وكان الرجلُ صريحاً، حينَ أكّدَ لمريضه بأن الدواء الممنوح له إنما هوَ في سبيل تخفيف الأوجاع لا أكثر. طوال الطريق إلى الحارة، أمسك أوسمان بزجاجة الدواء بأصابع مرتعشة، بينما الأفكار تتلاطم في رأسه. إنه أجّل زيارة الطبيب كل ذلك الوقت، كيلا يسمع من فمه هذه الكلمات المخيفة. بلى، كان يخشى الموت كثيراً كأيّ شخصٍ عاشق للحياة ومسرّاتها. لم تكن توبةً لوجه الله، تَرْكُهُ عادة الشرب، بل كان ذلك أملاً بإبعاد شبح الموت بعدما شعرَ منذ فترة مبكرة بمرضه. ولكنه استغفر ربه مراراً، حينَ واتته فكرةٌ على شيءٍ وافر من التجديف: " كان أقل قسوة لي، لو أنني تابعتُ الشربَ حتى متّ وأنا في حالة سكرٍ غيرَ مبالٍ بما كان وسيكون! ".
*** كون أوسمان ارتبط بصداقة خاصّة مع زعيم الحي، شبيهة بتلك الموثقة بين المريد وشيخه، لم يجد بداً من المرور على المضافة ليلاً. بعدما خلى المكان من الحضور، بدأ الرجلُ الملول بقصّ تفاصيل المعاينة في مستوصف الطليان، منتهياً إلى القول: " بحَسَب ما فهمته من تلميح الطبيب، أنني في العام القادم لن أكون موجوداً في هذا العالم " " يجب أن تثق بقدرة الله، وليسَ بأقوال أولئك النصارى! "، هتفَ الزعيم من فوره وعيناه تلمعان تأثراً. بسبب معاشرته لقريبه يومياً، كان قد لاحظ أيضاً نحول بدن الرجل المضطرد واصفرار سحنته. لقد صب غضبه الآنَ على الآخرين، بغيَة إخفاء علامات حزنه وكربه. لم يعلّق أوسمان سوى بتمتمة المؤمن، الموقن بقدرة الرب. كيلا يرى علامات تأثر صديقه، أرسل البصرَ على الأثر إلى ناحية الزقاق، المنطبعة عتمته على زجاج باب المضافة مثل قطيفة سوداء. " هل أعلمتَ أحداً بموضوع مرضك؟ "، سأل الزعيمُ بعد وهلة صمت. هز أوسمان رأسه، مجيباً باقتضاب: " ولا حتى امرأتي ". عقّب الآخرُ متنهداً، " وهوَ عين الصواب، لأن الخبر لا ينتشر إلا على لسان النساء. ورأيي كأخٍ، ألا تفقد الأمل بالله وأن تداري صحتك بمزيد من العناية. كذلك ليسَ من الحكمة إهمال شأن الطب العربي، الذي كان فيه شفاء البشر على مدى القرون والأحقاب " " سأفعل كل ذلك، وإن كنتُ شاعراً حقاً بدنو الأجل وأن رحلة حياتي قاربت على الانتهاء. لستُ حزيناً على نفسي، بل على الأولاد وهم ما زالوا أطفالاً "، قالها أوسمان وقد اختنق صوته بنهاية الجملة. لم يكن من الزعيم سوى رسم ابتسامة مغتصبة، والتعليق بنبرة مشجّعة: " يا رجل، إن هيَ إلا وعكة طارئة وستزول بإذن الله. بكل الأحوال، فإن امرأتك وولديك يعيشون مع ربيبتك ورجلها. وثق أنهم لن ينقصهم شيئاً، طالما أننا ما نفتأ أحياءً على هذه الأرض " " محضُ خشيتي عليهم، كون المنزل يخصّ الآخرين حتى لو أنهم أقاربنا. لن أسامح نفسي أبداً، كوني ميسور الحال منذ فترة طويلة ولم أقم ببناء منزل لأسرتي " " لم يتأخر الوقتُ، يا ابن العم. إذا شئتَ، سأكلم عليكي آغا الصغيرَ كي تقتسما المنزل بعد أن تتفاهما على السعر المطلوب؟ "، اقترحَ الزعيمُ بنفس النبرة المتفائلة والمطمئنة. وكان جواب أوسمان، أنه مدّ يده عبرَ طاولة الأعمال كي يقبض بحركة ود على كف قريبه وصديقه. هذا ما تم فعلاً، إنما بعد أيام من تشييع جثمان امرأة عليكي آغا الكبير. ولكن كلتا المرأتين، شملكان وليلو، رفضتا تقسيم البيت إلا نظرياً على أوراق الطابو. وكان لهما ما أرادتا؛ فلم يتغير أي شيءٍ، في واقع الحال، إن كان على صعيد عمارة المنزل أو طريقة عيش أصحابه: ما لم يكن في حدس أحد من المعنيين بالأمر، أن المنزل سيؤول كله إلى ملكية أولاد السيّد أوسمان بعد أقل من عشر سنين. ذلك كانَ، على أثر خلاف عليكي آغا الصغير مع الزعيم بشأن خطبة ولديهما وترك الأول للشام إلى غير رجعة أبداً.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليلى والذئاب: الفصل التاسع/ 1
-
ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 5
-
ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 4
-
ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 3
-
ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 2
-
ليلى والذئاب: الفصل الثامن/ 1
-
ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 5
-
ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 4
-
ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 3
-
ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 2
-
ليلى والذئاب: الفصل السابع/ 1
-
ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 5
-
ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 4
-
ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 3
-
ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 2
-
ليلى والذئاب: الفصل السادس/ 1
-
ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 5
-
ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 4
-
ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 3
-
ليلى والذئاب: الفصل الخامس/ 2
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|