الأسعد بنرحومة
الحوار المتمدن-العدد: 6398 - 2019 / 11 / 3 - 11:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
خرج الرئيس بن علي بانقلاب اشترك فيها جنرالات الجيش والأمن الرئاسي وبضغط من الخارج، وجاءت بعده ثماني حكومات بالتمام والكمال، ومررنا بسبع انتخابات كاملة منذ 2011 حتى اليوم ، بين تشريعية ورئاسية وبلدية. وفي كلّ مرة تُرفع شعارات محاربة الفساد.
تمّ ازالة فساد بن علي حسب شعارات ما بعد جانفي 2014، ثم تمّ ازالة فساد حكومات ما بعد انتخابات أكتوبر2011 وحكومة الترويكا حسب أجندات الرباعي الراعي للحوار وحكومة التكنوقراط في 2014، وجاءت انتخابات 2014 وأزالت فساد التكنوقراطيين حسب نفس الزعم.واستمرت المسرحية فجاءت الانتخابات البلدية في 2018 وأزالت فساد النيابات الخصوصية، ثم الانتخابات الأخيرة التشريعية والرئاسية في 2019 لتعلن مرحلة جديدة من محاربة الفساد الذي كرّسه لوبيات الفساد بعد انتخابات 2014.
وبعد تكرّر المشهد نفسه ، والشعارات والعناوين نفسها ، فاسدون قدماء يسقط بعضهم ويستمر أكثرهم ، وفاسدون جدد يظهرون فينظمون للمشهد القديم المستمرّ ، هل يمكن محاربة الفساد ؟
بالعودة للمشهد نفسه ، ان تحدثنا عن الانتخابات البلدية ، والمفروض أنها جاءت بوجه مغاير عنوانه القطع مع الفساد وتشريك المواطن في اتخاذ القرار والمبادرة بالفعل ، وهو وجه قطع مع عهد النيابات الخصوصية ، والمفترض أنّ الجميع وفي مقدمتهم هؤلاء المنتخبون من الشعب على رأس البلديات ان يكون في مقدمة المتحمسين وان تظهر نتائج حماسهم في أعمال أولية تعطي دفعا ايجابيا للناس للمبادرة.
ولكن بعد قرابة السنتين عن هذه الانتخابات ، حصدت توالي سقوط رؤساء البلديات وتقديم استيقالاتهم وتجاوز العدد 23 رئيس بلدية ، وجمود كامل في باقي البلديات ، وبقاء لمشروع الجماعات المحلية في رفوف الخزائن وصقوط لجميع الوعود....
أما ان نظرنا في ما بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية ، فالحزب الفائز بقي متسمّرا عاجزا عن تشكيل حكومة ، ومن معه من الأحزاب الفائزة تتنافس وتتصارع على نصيب مجز من كعكة السلطة ، ومناورة من الرئيس للضغط باتجاه القفز على الدستور ولو أدى الامر للتأويل وحتى التحريف ، وحتى لو سميت الحكومة القادمة بحكومة الرئيس ...
برلمان يعود اليه رجال فاسدين او تتعلق بهم شبهات فساد في ظل شعار محاربة الفساد.
دولة متجمدة وفاسدون يعبثون وسياسيون أصبحوا في وفاق كامل مع الفساد والفاسدين لضمان استمرار تموقعهم ...
باستقراء سريع لما بعد 2011 الى اليوم ، لم نر من انجازات الا هذه التخمة من القوانين والهيئات ولجان المراقبة لكنها جميعا بقيت مجرد ألهيات وعناوين دكاكين مفتوحة بدون فعل ولا أثر ، في مقابل انتشار للفساد بشكل مطلق وغطى كل الميادين وجميع أجهزة الحكم ، وزارات وادارات وبرلمان ورئاسة ومؤسسات وغيرها ....
ملفات فساد في وزارة الداخلية
ملفات فساد في وزارة الدفاع
ملفات فساد في وزارة الخارجية
ملفات فساد في وزارة التجهيز
ملفات فساد في الديوان الرئاسي
ملفات فساد في الصحة .... في التعليم .... في الولايات ..في البلديات وعمد .. وفي الصفقات العمومية وفي النقابات والادارات وفي كل شيء ....
رجال أعمال فاسدون ، سياسيون فاسدون ، اعلاميون فاسدون ، ونقابيون وقضاء ومحامين ، وأينما تنظر لا تجد الّا الفساد ...
فساد عام وشامل ومتنوع ، المالي والاقتصادي والسياسي والأعمال وحتى في التجسس والتخابر والتطبيع والأمن الشامل .....
فهل جميع البشر فاسدون؟
لقد جُبل الانسان على فعل الخير ، وجُبل على القيم النبيلة والمثل العليا ، فليس من طبع الانسان أن يكون شرّيرا ولا فاسدا ، والذي يحدّد سلوك الانسان ويعيّن له كيفية معينة للاشباع سواء للغرائز أو الحاجات انما هو مفاهيمه التي يحملها وأفكاره التي يؤمن بها ، وبهذا تميّزنا على الماشية والبهائم.
والانسان كفرد ، يمكن أن يخالف ما يحمل من أفكار ومفاهيم ، ويخترق ما آمن به من قيم متى حاد عن مفاهيمه في لحظة غلبت عليه نزواته ورغبات غرائزه ، لكنّه سرعان ما يعود للأصل والمعدن وهو ما آمن به من أفكار .
لكن ليس من طبع الانسان كانسان ان يكون فاسدا ، وليس من الطبيعي أن يكون جميع الناس في مجتمع ما فاسدين ومنهم تونس .
فاذا تحوّل الفساد اذا ظاهرة مجتمعية عاملة وشاملة ، فحينها لا يجب اتباع الافراد ولا النظر الى الظاهرة من زاوية الأشخاص ، فلا يجب أن تنصبّ الجهود على محاربة فساد الأفراد والأشخاص سواء كانوا في السلطة أو خارجها ...
متى تحول الفساد الى ظاهرة منتشرة في المجتمع يجب الاعتناء وقتها بالأفكار والنظم ، وتناولها بالبحث والنظر ، فالأفكار السائدة في المجتمع اذا كانت سطحية وتقوم على الانانية والمصلحة الخاصة واللامبلاة ، والنظام الذي يسير البلاد ويحكم العباد وينظم الدولة اذا كان فاسدا مبني على الاستقواء بالخارج وعلى الترضيات والمساومات ، فاذا كان الدستور لا يراعي مصالح الشعب ولا يحفظ قضاياه وعاجزا عن وقف التدخلات والضغوطات ويحمي نهب الثروات ويشرع للنهب والفساد ، واذا كان القانون الذي يعالج الجريمة متسامحا معها متصالحا مع الفساد يخضع للتأويل المشط والتحوير حسب النزوات ، واذا كانت السلطة التي من المفروض أن تكون هي جهة الأمان والرعاية والحماية لانها الجهة التي ترعى شؤون الشعب ، اذا كانت هذه السلطة لا تحظى بدعم الشعب ولا بثقتها ، وقائمة بدل ذلك على الترضيات والنسبية وتخضع للابتزاز والارتشاء وتبحث عن دعم أجنبي للاستمرار ....
فاذا كان هذه حال الأفكار السائدة ، وكان هذا حال النظام السائد ، وهذه حال السلطة القائمة ، فانه حينها لا يمكن محاربة فساد الاشخاص حتى ولو كانوا حكاما .
واذا حاربت فاسدا واحدا وأزلته ، وهذا حال المجتمع ، فسيخرج لك ألف فاسد آخر كما حال ما نراه اليوم .. والسبب ان ما يصنع الفساد وينتج الفاسدين هو النظام نفسه بدستوره وقوانينه وسلطته ، وبالأفكار الفاسدة السائدة في المجتمع ...
لذلك والحال هذه ، فكل شعار لمحاربة الفساد فساد ، وكل جهود لوقف الفساد فساد ، وكل فاسد يقع الاطاحة به سينتج آلافا آخرين من الفاسدين .....
وهذا للأسف ما نجح فيه الغرب حتى الآن ، فدعم أميركا وأوروبا لجهود الحرب على الفساد ، وشروط المؤسسات المانحة المتعلقة بمحاربة الفساد كلها تضليل وخداع وهي استنزاف للطاقات والجهود والثروات ، حتى صارت المعونات والقروض والمنح هي نفسها طريقا للفساد ، هم يفعلون ذالك حماية لاستمرار مصالحهم وبقاء استعمارهم من خلال دفع الشعوب لدائرة لا تنتهي من التحركات والانتفاظات يكون آخرها الاستسلام والرضى والخنوع اما يأسا أو خوفا على سواء.
ومتى أردنا محاربة الفساد ، فيجب أن نعينه ونشير اليه والى مكمنه ، والفساد عندنا هو فساد أفكار وفساد نظم وفساد سلطة ، والجهود يجب أن تنصب على هذا ، محاربة الافكار الفاسدة السائدة في المجتمع ، ومحاربة النظم التي تحكمها والتي عينتها علينا وحمتها الافكار السائدة والقادمة من منطق الانانية والمصلحة الخاصة واللامبالاة والتواكل، وقلع للسلطة القائمة على نظم فاسدة وعلى استقواء بالاجنبي ومراضاة شخصية منفعية لا علاقة لها بالشعب ولا بمصالحه وقضاياه.
والمشهد التونسي هو نفسه اليوم في لبنان واليمن والعراق ومصر وغيرها ، يضللولنا من خلال ايهامنا بأن الفساد يكمن في الافراد ، فيوجهون جهود شعوب المنطقة للتحرك ضد حكامهم والسلطة دون الافكار والنظم ...لانهم يعلمون جيدا أن ازالة الاصنام فقط دون ازالة أوكارها ستنتج فينا أصناما أخرى لفترة وهكذا ..
فمتى أردنا تحطيم هذه الأصنام التي تحكمنا فيجب ازالة أوكارها ، واذا أردنا محاربة الفساد فيجب أن نحارب الافكار والنظم التي صنعته ، لان أوكار الأصنام هي الحاضنة الفاسدة من الأفكار والنظم ....
وكل جهد في محاربة الفساد لا يطال الفكر والنظام هو جهد محكومة عليه مسبقا بالفشل واليأس ، وكل دعوة لمحاربة الفساد لا تمس الافكار والنظم هي تضليل ودروشة ...
#الأسعد_بنرحومة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟