عادل صالح الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 6383 - 2019 / 10 / 18 - 15:23
المحور:
الادب والفن
الشعر البريطاني الحديث والعلم (4)
عادل صالح الزبيدي
تتناول الدراسة الحالية العلاقة بين الشعر البريطاني الحديث والعلم. في دراسة سابقة تناولنا هذه العلاقة على الصعيد النظري والفلسفي والجمالي، أما في هذه الدراسة فسوف نتناول الجانب التطبيقي منها من خلال تبيان مواضع تأثر الشاعر الحديث بنظريات ومكتشفات العلم الحديث وتطبيقاته التكنولوجية فيما يكتب من شعر وكيف انعكس ذلك على موضوعات الشعر وأساليبه وفنونه.
*************
وإذ نتقدم باتجاه ثلاثينيات القرن العشرين، فلا بد من القول إن الشعراء الذين ينتمون إلى ((مجموعة أودن)) كانوا الأشد حماسا حول العلم من بين غيرهم من الشعراء، ذلك لأنهم، شأنهم شأن جميع الفلاسفة المثاليين، كانوا يؤمنون بالوعود التي يقدمها العلم عن مستقبل البشرية وحلمها في إقامة فردوس ارضي، أو "المدينة العادلة" بعبارة أودن. إلا إن هؤلاء الشعراء، شأنهم شأن اليوت، لم يكونوا مهتمين بالعلم بقدر اهتمامهم بحالة العالم الحديث الذي هو نتاج العلم الحديث إلى حد كبير.
اظهر ابرز شعراء المجموعة الشاعر و. هـ. أودن (1907-1973) اهتماما مبكرا بالعلوم الطبيعية والهندسة وعلم النفس منذ أيامه الأولى في جامعة اوكسفورد وبقي محتفظا باهتمامه هذا طوال حياته. يقول الناقد مونرو ك. سبيرز بهذا الشأن: "في المزاج وفي نوعية المخيلة، فضلا عن الاهتمام، فان أودن في بعض الأوجه يشبه العالم أكثر مما يشبه الشاعر النموذجي الحديث." (1) يدل انشغال أودن بالعلم على عمق اهتمامه بأحوال وظروف الحضارة الحديثة ووضع الإنسان فيها، وبالمشهد الصناعي الحديث، "بالمدن المتربة المنتجة" للبلد الأسود، بالمساحات التي تنتشر فيها مناجم التعدين، بحزام القطن لمدينة لانكشير. وكما يعبر في قصيدة بعنوان "خطاب إلى لورد بايرون": "خطوط سير عربات المناجم وأكداس خبث المعادن، قطع المكائن/ تلك كانت ولازالت مشاهدي المثالية." (2) يمكن ان نجد اهتمام أودن المبكر بمشاهد الماكنة في موقفه الذي يمكن وصفه بالرومانتيكي إلى حد ما اتجاه عالم الماكنة اللا إنساني كما يتضح مثلا في إحدى قصائده المبكرة التي كتبها حوالي عام 1926 وهي بعنوان ((آلة السحب)). في هذه القصيدة يجد الشاعر عزاءه في الانصراف عما هو بشري لصالح ما هو آلي. في خاتمة القصيدة يقدم الشاعر وصفا لآلة صدئة يشوبه تعاطف وحنو كئيبان:
لا تشعر، لا تعير اهتماما؛ خيالات
لا تفسد المستقبل؛ لا ذكرى ماض مريضة تعلق،
مع ذلك تبدو إنها تستحق الحب الذي نكنه
للأشياء غير الحية. (3)
يعبر شعور التعاطف هذا الذي كتب به أودن عن الآلة عن موقف لا تزوقه الرومانسية كما هو الحال عند الشاعر رديارد كبلنغ. في مقارنة بين موقفي الشاعرين بهذا الخصوص تجد الناقدة بابيت دويتش انه بينما كان الشاعر الأقدم ينشد يحتفي بالكفاءة الجميلة للآلات، فان أودن كان ملزما بملاحظة "معدات تصدأ في ممرات لم تطهر من الأعشاب الضارة " في مصانع خربة ومهجورة. وتشير دويتش أيضا إلى إن أودن ومجموعته استقوا رموزهم من العلم والتكنولوجيا ليرسموا مشاهد البلاء الصناعي مثل المعامل المتروكة والحقول المدمرة. (4) في فصلها المعنون "العلم والشعر،" وهو فصل يتناول شعر أودن بالدرجة الأولى، تقول دويتش بالإشارة إلى قصيدته ((التماس)) ما يأتي: "بقدر ما تكرر قصائده المتأخرة "التماسه" بشكل أو بآخر، فإنها محاولات لفض النزاع بين العلم الذي سيغير العالم والشعر الذي هو مرآة قلب الإنسان." وبالإشارة إلى قصائد مثل ((معزوفة دينية لعيد الميلاد)) و((رسالة العام الجديد))، تقول إن إحالات أودن إلى العلم "تحقق نبوءة ويردزويرث عن تأثير الاكتشافات العلمية في مغزى الشعر." (5) في الأبيات الآتية من مجموعته الأولى المعنونة ((قصائد)) (1930) والتي نظمها بمهارة متميزة على البحر الشعري الذي نظم عليه الشاعر تنيسون قصيدته ((لوكسلي هول)) نجد تصويرا حيا للخراب والفوضى التي تسببت بهما الثورة الصناعية:
فانظر هناك إن استطعت لترى
الأرض التي كنت يوما تتباهى انك تملكها
ولو إن الطرق أوشكت على إن تختفي والقطارات لا تسير أبدا:
مداخن عديمة الدخان، جسور محطمة،
أرصفة موانئ متفسخة وقنوات مخنوقة،
خطوط ترام معوجة، عربات محطمة تستلقي
على جوانبها فوق قضبان السكك؛
محطات طاقة مغلقة، مهجورة، منذ إن أزاحوا
نيران المراجل،
أعمدة كهرباء متهاوية أو هابطة تجرجر
أسلاك ضغط عال خامدة...
تكمن علاقة أودن ومجموعته بالعلم في صلب اهتمامهم بالماركسية والفرويدية وبطريقة ربطهم بين هذه التيارين الفكريين وكذلك بوجودية كيركيجارد وانشغالاته الدينية المتأخرة، فضلا عن نظرية التطور الداروينية. يجد أودن تماثلا بين قوى التطور وبين الحب البشري وأحيانا بينها وبين مفهوم الرغبة في الموت الفرويدي:
يعتقد أودن إن الشخص أو النوع الذي لا يكون عرضة لمزيد من التطور يتعاون فعليا مع الرغبة في الموت التي يعرفها فرويد بكونها الرغبة في العودة إلى مرحلة مبكرة من مراحل النشوء والارتقاء. يلخص راندل جاريل بدقة تطورية قصائد أودن المبكرة بقوله:
يربط أودن العلم بالماركسية بطريقة غير متوقعة لكنها تقليدية تماما: يقول لينين في مكان ما الماركسية بمعناها الأعم هي نظرية تطورية. يعقد أودن هذه الصلة بوعي كامل تماما؛ فالتطورية بوصفها مصدرا لكل من التبصر والصورة دائما ما تكون في خلفية قصائده تماما... القصيدة (4) في ((قصائد)) ليست سوى عرض للنظرية التطورية... وبالأحرى امتدادا ماركسيا لها لتشمل تاريخ الإنسان والحياة اليومية. (6)
لنأخذ مثالا غير مثال جاريل. في قصيدة ((ستقول فينوس الآن بضع كلمات)) من المجموعة نفسها، تقدم فينوس التي تمثل قوى التطور في القصيدة شرحا تفصيليا لشخص غير خاضع للمزيد من التطور كيفية عمل النظام:
كي أصل إلى ذلك الشكل الذي سيتخذه وجهك،
مما يسر الكثيرين ويشعر البعض باليأس،
غيرت المديات، عشت حقبا معاقة
بفعل الطقس والحرب أو ما احتفظ به الشباب،
عدّلت النظريات حول أنواع الخبـَث،
غيرت الرغبة وتاريخ الملبس.
يظهر الإنسان في إشعار أودن بصورة كائن بيولوجي واجتماعي في آن معا، وفي آن معا كائنا حيا يخضع لقوانين الطبيعة وعضوا في مجتمع يخضع لقوانين التاريخ م. هنا يكمن سعي أودن المتواصل للتوفيق بين هذه الأفكار والجمع بين مختلف الأنواع من النظريات لغرض تقديم صورة متكاملة عن الإنسان وطبيعته. فطبيعة الإنسان المزدوجة كما تعبر عنها العلوم الحديثة كعلم الأحياء والفلك والفيزياء والسيكولوجيا تشكل الموضوعة الرئيسة لرسالة أودن الشعرية التي نظمها على شكل مزدوجات مغلقة المعنونة ((رسالة رأس السنة))— المنشورة في أميركا عام 1941 تحت عنوان ((الإنسان المزدوج))— تقوم مناسبة القصيدة على تصادف الأحداث الآتية: نهاية عام (1939-موضوع القسم الأول)، نهاية عقد (ثلاثينيات القرن العشرين-موضوع القسم الثاني: "الليلة ينقضي عقد شائك")، نهاية عصر تاريخي (عصر ما بعد النهضة بأسره: "جميع المهام الخاصة التي بدأوها/قد انتهت إبان النهضة")، وبداية الحرب العالمية الثانية. بهذا تنطلق القصيدة، ومن خلال عرض حيوي مفعم ببلاغة العصر الأغسطي، لتفحص الأزمة الحديثة ولتؤكد على حاجة الإنسان إلى معرفة مكانته في نظام أشياء. وهذه الحاجة هي كما يعبر عنها في بداية القسم الثاني:
إن نتعلم من نحن وأين وكيف،
أطفال نجم متواضع،
ضعفاء، متخلفون، متعلقون بحواش
من الصوان لكوكب قديم محسوس،
مربيتنا الهادئة القادمة من الضواحي
في كون ((سيتر)) المنتفخ.
المقصود هنا هو كيفية استعمال أودن لعلوم عصره من اجل إيصال أفكاره. وكما يوضح الناقد ريتشارد جونسن فان المصطلحات العلمية في هذه القصيدة ليست مجرد لغة تزويقية، بل بالأحرى تشكل الأساس لنسيج القصيدة وموضوعها العام فضلا عن الأفكار التي تعالجها. يؤكد جونسن إن احد هذه الأفكار تتجلى من خلال شكل أخذ من الفيزياء الحديثة:
كجزيء، عليّ إن لا استسلم
للجزيئات التي تحتل المجال،
ولا أثق بأحد الدهماء الذي يهتاج،
كمُّ يكلم الموجات.
تشير هذه المصطلحات العلمية المستعملة هنا إلى طبيعة وسلوك المادة، وتشير بالأخص إلى مسألة كون المادة تتألف أساسا من جزيئات وموجات. يوضح جونسن ذلك كالآتي: "من خلال ربط هذه المصطلحات مع بعضها، يخلق أودن معادلا لفظيا لمبدأ التتامـّية التي على وفقها لا يمكن تصور الضوء إلا على هيئة كموم (جمع كم) وموجات معا،" وبهذه الكيفية يعبر أودن عن وجهة نظره حول طبيعة الإنسان كما يراه بحسب طبيعة المادة كما تعرفها الفيزياء الحديثة. (6)
أطلقت على مجموعة أودن تسمية "شعراء برج الطاقة" بسبب استعمالهم الواعي هذا للمصطلحات والصور العلمية في قصائدهم، وهي تسمية اشتقت من قصيدة بعنوان "أبراج الطاقة" نشرها في العام 1933 عضو آخر من أعضاء المجموعة، وهو الشاعر ستيفن سبندر (1909 – 1998). إن استعمال سبندر المقصود للمفردات المستعارة من العلوم والصور المأخوذة من الآلات هو جزء من اعتقاده، وهو اعتقاد يشاركه فيه زملاؤه شعراء المجموعة، بأن على الشاعر الحديث الانغماس في الحياة المعاصرة والتعبير عن التغيرات والتطورات الحاصلة في الحياة التي يعيشها. بعبارة أخرى، إن للشاعر دورا عليه إن يؤديه ووظيفة يضطلع بها كي يستطيع من خلالهما الانتماء إلى واقعه والمشاركة في شؤون عصره.
------------------------
الهوامش:
Monroe K. Spears, ed., “Introduction” to Auden: A Collection of Critical Essays (Englewood cliff, N. J.: Prentice-Hall, Inc., 1964), p. 6. Allan Rodway also describes Auden as a “poetic scientist” in his A preface to Auden (London and New York: Longman, 1984), p. 13.
2 W. H. Auden, Collected Poems (London: Faber and Faber, 1945).
3Quoted in Richard Johnson, Man’s Place: An Essay on Auden (Ithaca and London: Cornell University Press, 1957), 32.
4Deutsch, Poetry in Our Time, pp. 32, 402.
5Randall Jarrell, “Changes of Attitude and Rhetoric in Auden’s Poetry,” Southern Review, 7(1941), 328-9.
6Richard Johnson, Man’s Place: An Essay on Auden, pp. 10-12.
#عادل_صالح_الزبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟