أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - تفاهة الشر: القمع البريطاني لثورة 1936 في فلسطين -1















المزيد.....



تفاهة الشر: القمع البريطاني لثورة 1936 في فلسطين -1


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 6382 - 2019 / 10 / 17 - 09:39
المحور: القضية الفلسطينية
    



القسم الأول
تضمنت فقرات وثائق عصبة الأمم المتحدة التي فوضت بريطانيا انتدابها على فلسطين سنة 1922 ما يشير صراحةً إلى تسهيل الهجرة اليهودية إلى البلاد. وكان لموقف الفلسطينيين المعادي للهجرة اليهودية و الاستيطان الدور الأبرز في تصاعد موجات متكررة من العنف في عشرينيات و بداية ثلاثينيات القرن الماضي حين قام العرب بشن عدة هجمات ضد المستوطنين اليهود والسلطات البريطانية بآن معاً. وفي غضون لك بلغت الهجرة اليهودية ذروتها في العام 1936, وهو العام الذي شهد أيضاً ثورة فلسطينية شاملة اندلعت شرارتها الأولى في متصف نيسان -أبريل إثر الهجوم على قافلة سيارات أجرة على طريق نابلس طولكرم نجم عنه مقتل اثنين من الركاب اليهود(1), وفي الوقت الذي وصفت فيه الصحافة الحدث باعتباره عمل لصوص وقطاع طرق عرب, فقد يعود السبب لاستهداف اليهود حصرا على يد" الوطنيين الإسلاميين" العرب أتباع الشيخ عز الدين القسام الذي قتلته الشرطة البريطانية في العام 1935 (2) .وتصاعدت أعمال الشغب عقب جنازة أحد القتلى اليهود في تل أبيب, وكرد فعل انتقامي, أطلق مسلحون[يهود] النار على اثنين من العمال العرب في أحد الأكواخ القريبة, مما أدى إلى قيام العرب بإضراب عام و ثورة استمرت حتى تشرين الأول/ أكتوبر1936, حين أدت الجهود الدبلوماسية البريطانية عبر حكام العراق والسعودية وشرق الأردن واليمن إلى وقف إطلاق النار بالتزامن مع وصول لجنة برئاسة اللورد بيل إلى فلسطين لتحديد مستقبل البلد. و تجددت الثورة في العام 1937 بعد رفض العرب مقترحات اللورد بيل الداعية إلى تقسيم فلسطين, وامتدت المرحلة الثانية من الثورة من أيلول -سبتمبر 1937 حتى أواخر العام 1939, حيث خفتت-بعدها- موجة العنف وحدّتها وبدأت تنحسر تدريجيا مع اقتراب نذر الحرب في أوروبا.
مع تقدم عمر الثورة , لاسيما في مرحلتها الثانية بعد العام 1937, كان البريطانيون يفقدون السيطرة على مساحات شاسعة من فلسطين بما في ذلك المدن الكبرى, و ليس أدل من ذلك تخليهم عن البلدة القديمة في القدس لمدة خمسة أيام في تشرين أول- أكتوبر 1938. وعلى الرغم من قيام الثوار بهجمات على المستوطنين اليهود, إلا أن هدفهم الرئيسي تمثل في استهداف الجنود البريطانيين و ضباط الشرطة و الفلسطينيين الذين يعملون لصالح حكومة الانتداب كمحاولة للتأثير على السلطات لتغيير سياساتها في فلسطين, و مع تصاعد الهجمات, أطلقت سلطات الانتداب عملية بوليسية مكثفة وواسعة لمساعدة السلطات المنية ولإخماد الثورة -أو كما نقول اليوم حملة مكافحة التمرد, وهو ما بات مصطلحا مألوفا بعد العام 1945- وازدادت الحملة العسكرية ضراوة حتى بلغت أوجها في العام1938 فبلغ تعداد القوات العسكرية المشاركة حوالي 25 الف جندي أو ما يعادل قوام فرقتين عسكريتين.
فهل تحلت السلطات البريطانية بقدر ما من الإنسانية في ردها على الثورة؟ و هل تصرف البريطانيون ضمن سلطة القانون؟ وهل تجنب الجنود ما يسمى اليوم بانتهاكات حقوق الإنسان؟ هل كان البريطانيون مستنيرين نسبيا في قمع الثورة مقارنة, على سبيل المثال, بما قامت به القوى الأوروبية الأخرى في ظروف مماثلة؟
تعدّ هذه الأسئلة وثيقة الصلة بموضوعنا ,ليس أقله, تأكيدات أدبيات التاريخ العسكري لمكافحة التمرد (3) الذي يبرز النجاح البريطاني في هذا المجال، أي جانب الاستحواذ على" القلوب والعقول" لتأييد حملة مكافحة التمرد و " النزعة الاستثنائية" البريطانية التي عملت من خلالها القوات المسلحة البريطانية(4)- " والتي كانت بوجه عام أكثر دقة من غيرها"- في إطار سيادة القانون، وتجنب الانتهاكات ضد المواطنين غير المحاربين, التي يفترض أنها-أي الانتهاكات- ميزت سلوك وممارسات القوى الكولونيالية و ما بعد الكولونيالية الأخرى". و يلخص الأمر جندي بريطاني بارز بقوله " لا يوجد بلد يعتمد على لائحة قوانينه السارية لتنظيم حياة مواطنيه يمكنه أن يتحمل رؤية انتهاك القانون من قبل حكومته، حتى في حالة التمرد. بعبارة أخرى كل ما تقوم به الحكومة ووكلائها في مكافحة التمرد يجب أن يكون قانونيا "، ويعبر هذا عن مثالية " الأسلوب" البريطاني في مكافحة التمرد، فضلاً عن أن هذه المسألة كانت موضوع نقاش تضمنته مذكرة السير روبرت تومسون الهامة عن" هزيمة التمرد الشيوعي"(1965) (5). وكانت كارولين إلكينز قد أشارت مؤخراً في سياق دراستها عن عملية قمع السلطات البريطانية لثورة الـ "ماو ماو" في كينيا في خمسينيات من القرن الماضي(6) بأن بريطانيا أنفقت عقوداً كاملةً عملت فيها على بناء صورة الإمبراطورية البريطانية كي تبدو مناقضة بشدة للسلوك الوحشي للإمبراطوريات الأوروبية الأخرى في أفريقيا مثل الدور الدموي للملك ليوبولد في الكونغو، و الإبادة الجماعية التي مارستها ألمانيا ضد قبائل الهيريرو في جنوب غرب أفريقيا، وعار فرنسا في الجزائر-[الهيريرو , ويعرفون أيضاً باسم أوفاهيريرو , عبارة عن مجموعة إثنية قبلية رعوية تعي في أجزاء متفرقة من جنوب غرب القارة الأفريقية. يعيش معظمهم في ناميبيا و الباقي في بوتسوانا و أنغولا و يقدر عددهم بناميبيا حوالي 250 الف نسمة ( الأرقام تعود للعام 2013). استولى المستوطنون الألمان على أراضي الهيريرو ابتداء من القرن التاسع عشر, وما بين 1893 و 1903 اكمل المستوطنون الألمان السيطرة شبه الكلية على مناطق الهيريرو الذين تم وضعهم في محميات خاصة مما دفعهم للقيا بتمرد عام استمر من 1904 حتى 1907 وانتهى بالقضاء عليهم تقريباً فانخفض عددهم من 80 ألف إلى حوالي 15 ألف خلال أقل من اربع سنوات-المترجم]. لقد تجنب البريطانيون كل هذه التجاوزات, لأنهم, ببساطة, كانوا يمارسونها. وهذا ما كان يراه أيضا كبار القادة العسكريين البريطانيين في فلسطين في ذلك الوقت، فيقول أحدهم على سبيل المثال:" لو كان الألمان من يحتلون حيفا لما كان لدينا اضطرابات دموية من طرف العرب" (7).
و تعد أدبيات الثورة- سواء تلك المكتوبة باللغة بالعربية(8) والإنجليزية(9) والعبرية(10) - هزيلة وغامضة وتتجاوز مسألة سلوك الجنود في الميدان، باستثناء بعض الكتابات العربية، التي تسجل الروايات التي تصف الأعمال الوحشية البريطانية خلال الثورة, و في حين أن المواد العربية هي الأكثر شمولا إلا أنها نادراً ما استخدمت مصادر بريطانية وهي غالبا مادة أولية مطبوعة. بينما ركزت الأدبيات العبرية على الديناميات الداخلية ضمن المجتمع الفلسطيني من جهة و التدريب العسكري الصهيوني أثناء تلك الفترة من جهة أخرى، بهدف التصدي لأي انتهاكات ترتكبها القوات البريطانية، وكان كل من يوفال أرنون أوحانا وهليل كوهين قد أظهرا أمثلة جيدة تتحرى العلاقات العربية البينية (11), كما لاحظ شمعون شول هذه الفجوة في دراسته الأخيرة عن الشرطة البريطانية التي أعدها باللغة الإنكليزية, فيقول " من الشائع القول بصورة عامة حتى الآن ..... أن البريطانيين استخدموا الحد الأدنى من القوة وهذا بحد ذاته مكسب, أما فيما يتعلق بزعم الأعمال الوحشية فثمة محاولات جزئية فقط لتحديد القوة المستخدمة.... ثمة فشل متواصل في البحث العميق في تجربة العديد من الناس" على الأرض"، وفي ذات الوقت الاعتماد المفرط على المصادر الرسمية"(12). و يبدو أن شول محقاً هنا, فالتحدي المنهجي عند فحص سلوك القوات المسلحة البريطانية في فلسطين يتمثل في العثور على أدلة تثبت سلوك ينم عن سوء معاملة قام به الجنود والمسؤولين الذين كانوا يمتنعون عن ترك سجلات تبين الانتهاكات بحق المواطنين غير المقاتلين. فالأمر بالنسبة لكل من الجاني والضحية، أشبه ما يكون في كثير من الأحيان بمقولة : "لا أحد يرغب في تذكر الأشياء السيئة", تلك الأمور المخفية أو المنسية (13).
والسؤال هنا, ما هي العلاقة القانونية الناظمة التي تربط و توجه سلوك الجنود البريطانيين في فلسطين بعد العام 1936 والذي كانت تشرع القيام بعمليات مكافحة التمرد؟
عمل الجنود البريطانيون الذين قاتلوا ضد المتمردين, من الناحية القانونية كعناصر مساعدة للسلطة المدنية، وهي مسألة أشار إليها في ذلك الوقت اللواء السير تشارلز غوين والعقيد ه. س. سيمسون، استنادا إلى العمل السابق الذي قام به الكابتن سي.إي كالويل(14) : " كان على الجنود من الرتب العسكرية كافة, الالتزام بقوانين الملك ودليل القانون العسكري للعام 1929, ويعد هذا الأخير سفراً ضخماً يتضمن تحديثات قانون الانضباط العسكري وقانون تنظيم الجيش للعام (1879) وللعام (1881)، والتي ظهرت نقاطه الرئيسية مختصرة في كتيبات صغيرة مثل المذكرة المطبوعة بعنوان" ملاحظات بخصوص الشرطة الإمبراطورية "سنة 1934 و كذلك " الواجبات المنوطة لمساعدة السلطة المدنية" 1937 وعلى الضباط اقتناء هذه المذكرات أثناء قيامهم بواجباتها التنفيذية (15). وكان دليل العام 1929 دقيقاً في عرضه لكيفية تصرف الجنود, فيحظر عليهم, على سبيل المثال، سرقة المدنيين وإساءة معاملتهم. وتنص لوائح هذا الدليل على أن الجندي هو أيضا مواطن ويخضع للقانونين المدني والعسكري، وأن "الفعل المرتكب الذي يُجرّم بموجبه شخص مدني, يعد جريمة أيضاً لو ارتكبه جندي"، ولكنه وفّر إطاراً قانونياً لإطلاق النار على المشاغبين وسمح" بالعقوبات الجماعية" و" الانتقام"، وهما مصطلحان فضفاضان في نسخة دليل القانون العسكري للعام 1929 و كلا السلوكين -أي العقوبات الجماعية و الانتقام- وثيقي الصلة بما حدث في فلسطين(16).
لم يقدم دليل العام 1929 ولا الكتيبات اللاحقة لعامي 1934 و 1937 أي تعريف ملموس لما يمكن أن يعدّ عقاباً جماعياً وأعمالاً انتقاميةً، مما يؤمن للقادة الميدانيين فسحة كبيرة عندما يتعلق الأمر بتأويل القواعد. لقد كان قانون الجنود واضحاً: ينبغي على الجنود استخدام العقاب الجماعي والأعمال الانتقامية كملجأ أخير، كما ينبغي لهم-كلما كان ذلك ممكناً- تجنب أي معاناة لا لزوم لها ضد المدنيين سواء تمثلت في الإساءة للدين أو الإثنية أو الشريحة الاجتماعية التي ينتمون إليها، ولكن قانون العام 1929 ينص بوضوح على أنه حيثما يكون القسر و الإجبار مطلوباً أو حيثما يتعين التحقق من الإرهاب فـ " لا غنى, كملاذ أخير عن هذا الإجبار[ أي العقاب الجماعي و الأعمال الانتقامية]" (17) الذي "سيلحق المعاناة بالأفراد الأبرياء", وكما ينص القانون" تبرر مواجهة التمرد المسلح استخدام أي درجة من القوة اللازمة بشكل فعال لمعالجته " (18). وقامت السلطات البريطانية في فلسطين، في الفترة ما بين 1924 -1925 بإضفاء الطابع الرسمي على مبدأ العقاب الجماعي في إقرار أحكام المسؤولية الجماعية و العقاب، استناداً إلى فكرة أن المعيش القروي الفلسطيني عبارة عن" نظام اجتماعي محلي قائم على الحماية المتبادلة بدلاً من العدالة[ القانونية]" وهو رأي تؤيده إلى حد ما مظاهر معينة للنظام الأمني الجماعي القروي كما هو الحال في عادات (الفزعة), حيث يمكن لقرى معينة أن تساعد قرى أخرى في وقت الأزمات (19).
وقام البريطانيون بتحديث هذه القوانين في العام 1936 بإضافة قانون الغرامات الجماعية، وهذه اللوائح المحلية متوافقة مع التعليمات الشخصية للجنود المفصلة أعلاه. و كانت القراءة الصارمة للقانون العسكري المعمول به مع قبوله الواسع للعقوبة الجماعية والإجراءات الانتقامية تعني أن العمل الصارم كان في نطاق القانون, على الرغم من أنه كان من الممكن النظر في الإجراءات المدنية ضد الجنود عن الجرائم الفردية أثناء أي عملية عسكرية من الناحية النظرية، و حيثما وقعت أعمال غير قانونية مثل السرقة والسلوك الوحشي والاعتداء، في إطار العنصر "المدني" من القانون الذي يحكم السلوك، فليس لدى الجنود ما يخشونه نسبياً من الإجراءات التأديبية حيث " كانت الشكاوى المتعلقة بالجيش متكررة، والدعاوى القضائية نادرة، ولم يسمع أحد تقريباً بدعاوى ناجحة..... كان الجيش في المستعمرات أكثر حرية منه من بريطانيا، وكان ضبط النفس هناك لجهة استخدام العنف المفرط أخف وطأة بكثير مما هو الحال في بريطانيا (20).
كان يمكن للضحايا قبل العام 1947 أن يرفعوا دعاوى مدنية, وفي قانون الإجراءات الملكية كان التاج البريطاني محصناً من الملاحقة القضائية، ولذلك كان على هذه الدعاوى المدنية أن تكون موجهة ضد جنود أفراد متورطين، ويجب على الضحية أن تثبت أن الجنود المعنيين كانوا يتصرفون خارج أطر و أوامر العمل القانونية, و هذا أمر غير قابل للتحقيق عملياً, لاسيما عندما لم يكن لدى الجنود رقم شخصي أو علامة شخصية, فعلى سبيل المثال, ادعى أحد العرب أن الجندي" رقم 65" ضربه، وهو لا يدرك أن جميع رجال تلك الوحدة, أي فوج يورك و لانكستر كان يسمى فوج المشاة 65، وهو الرقم الذي كان يضعه جميع جنود الفوج على الجانب الأيسر من خوذهم(21). وعلاوة على ذلك، كان من شبه المستحيل نجاح أي استئناف من هذا القبيل (22) بسبب إنشاء المحاكم واللوائح العسكرية في فلسطين بعد أيلول / سبتمبر 1936 بطريقة لا يمكن الطعن فيها بواسطة المحاكم المدنية العادية". وقد عثر المؤلف على محاكمة عسكرية واحدة ناجحة واحدة فقط في فلسطين لأربعة ضباط شرطة بريطانيين قاموا بإعدام سجين عربي على نحو صارخ في الشارع في تشرين أول-أكتوبر 1938، على مرأى عدد من الأوروبيين غير البريطانيين، وليس العرب الذين لم تؤد شكواهم إلى الملاحقة القانونية(23). وقد شعرت القوات البريطانية في فسطين أنها مقيّدة بالاتفاقيات الدولية التي وضعت قواعد الحرب، ولا سيما نصوص اتفاقيات جنيف (1864 و1906 و 1929؛ التي حلت محلها اتفاقيات جنيف لعام 1949) ولاهاي (1899 و 1907؛ وكذلك مشروع القواعد المتعلقة بالحرب الجوية لعام 1923). وفي حين أن الاتفاقية الرابعة لمعاهدة جنيف للعام 1949 تتناول على وجه التحديد حماية المدنيين، فإن القوانين الدولية المعمول بها في العام 1936 تناولت سير الحرب ومعاملة أسرى الحرب أكثر مما ناقشت إساءة معاملة المدنيين. وكانت السلطات البريطانية قد صنفت الثورة العربية في فلسطين على أنها تمرد داخلي وليست حرباً دولية، ومن ثم رفضت اعتبار المقاتلين العرب أسرى, فتعاملت معهم كمجرمين مدنين يخضعون للقانون المدني العادي القابل للتعديل بأي شرط من شروط الأحكام العرفية، مثل عقوبة الإعدام على حمل ذخيرة أو سلاح ناري، والذين لا ينطبق عليهم القانون الدولي. وسوف تطبق السلطات عقوبة الإعدام على كل شخص يثبت حيازته أسلحة أو ذخائر، باستثناء البنادق المرخص بها من قبل الحكومة والموجهة إلى مخاتير القرية المتواطئين، وهي حالة شاذة في بلد يقتني فيه سكان الريف السلاح سواء للصيد أو للحماية الشخصية. و قد حكم على رجل عجوز ليس لديه سجل جنائي بالسجن عشر سنوات ( خفضت إلى أربع) بسبب وجود ثلاث طلقات في إناء القهوة - وهو ما كان يمكن لرجال الشرطة أن يدسّوه بسهولة[ في أي مكان] أثناء قيامهم بالبحث و التفتيش -(24). وكان البريطانيون حريصين, أثناء الثورة, على محاكمة المقبوض عليهم و المشبوهين، لسجنهم أو شنقهم أو تبرأتهم. و مع تقدم الثورة سرعان ما عقدت المحاكم العسكرية- فعلى العدالة أن تأخذ مجراها، ونصبت المشانق للمدانين- لكن كان هناك دائما قشرة من الاحترام القانوني. و في الوقت الذي عملت فيه القوات البريطانية في فلسطين خلال الثورة كعنصر مساعد للسلطة المدنية، كانت ظروف البلاد تقربها أكثر من الأحكام العرفية بما يخفف عبء القيود المدنية على سلوك الجنود في ظل هذه الأحكام وبالتالي" عادةً ما كان يتم القيام بأفعال تعد في الحالة الطبيعية أفعال غير قانونية" (25) .
لم يشرع البريطانيون قط أحكامٌ عرفية كاملة (أو حقيقية) في فلسطين، بل تم ذلك عبر سلسلة أوامر المجلس ولوائح الطوارئ للأعوام 1936-1937،حين أصدروا الأحكام العرفية " القانونية"، وهي أحكام تقع في حيز ما بين الحكم شبه العسكري تحت أمرة السلطة المدنية والقانون العرفي الكامل في ظل القوى العسكرية، وبين الحالة التي تكون اليد العليا فيها للجيش وليس للمندوب السامي المدني(26). وكان البريطانيون قد استبعدوا في الثلاثينيات الأحكام العرفية الكاملة في حالات "الحروب الفرعية"، باستثناء الحالات الأكثر تطرفاً، وعادة ما تكون الإشارة هنا إلى "التمرد الهندي" 1857، ولكن بعد سيطرة العرب على المدينة القديمة في القدس في تشرين أول-أكتوبر 1938، استولى الجيش على القدس ومن ثم على كل فلسطين.
في الواقع، كان الجيش, منذ أواخر العام 1937 مسؤولا عن "السلطة الكاملة في البحث عن المشتبه بهم و اعتقالهم بطريقة مستقلة عن عمل الشرطة، كما كان له الحق في إطلاق النار على أي شخص يحاول الفرار أو يتجاهل طلب التوقف, كما كان بإمكان الجيش استخدام القنابل اليدوية أثناء عمليات البحث و المطاردة في الكهوف والآبار، وما إلى ذلك. ومنذ تشرين الثاني-نوفمبر[1937] قامت الطائرات العاملة بـ " القصف"، و وجه الطيارون مدافعهم الرشاشة و قذائفهم نحو "الأطراف المسلحة" (27). و منذ أواخر 1937 حتى بداية 1938 كان يحكم فلسطين قانون الأمر الواقع إن لم يكن القانون العسكري. ولكي نكون منصفين، لم يقم البريطانيون باستبعاد السلطة المدنية في فلسطين من عملية صنع القرار، ولكن بحلول العام 1938، خفف المندوب السامي أعمال القوات المسلحة البريطانية بدلا من توجيه تصرفاتها, وعندما قام السير آرثر واكهوب، المندوب السامي في المرحلة الأولى من الثورة في البحث عن حل سياسي للثورة و تحدى جهود الجيش لإقامة الأحكام العرفية، نظر له على أنه معادٍ للقوات المسلحة التي اعتقدت أنه متساهل جداً و أشير اليه على أنه شخص "فاشل " و "خرف"(28) , و في آذار-مارس 1938 استبدله مكتب المستعمرات بالسير هارولد مكمايكل الذي نظر له المكتب على أنه أكثر امتثالاً من السير واكهوب. و لكن, هل يمكننا التمييز فيما سوف يلي من أمثلة بين "الوحشية" و "التعذيب" و "الفظائع"، التي غالبا ما تستخدم تبادليا؟
لاشك أنها كلمات كبيرة, فعلى سبيل المثال، اعترض ضابط بريطاني رفيع في العام 1991 على استخدام هيئة الإذاعة البريطانية لمصطلح "الوحشية" في وصفها لأعمال الجيش البريطاني في فلسطين مقترحا : كلمة "الحزم" كمصطلح بديل في مقابل مقترح "القسوة" الذي طرحته البي بي سي(29). ويثير القاموس( البريطاني) في تعريفه لعبارة "فظائع" مسألة "المرجعية الأخلاقية" حين يشير إلى الفظائع باعتبارها " فعل وحشي عظيم, عمل شرير رهيب أو شنيع، عمل فظيع، فعل يمتاز بالقسوة الشديدة وعمل فظيع دون مرجعية أخلاقية "(30). أما بالنسبة للأمريكيين فهو يعبر عن فعل "شرير شنيع، جريمة، عمل خسيس أو قاس، رهيب" (31). ويمكن لهذه التعاريف أن تنطبق أيضا على التعذيب أو الوحشية الشديدة. فالاتفاقيات الدولية مثل المادة الخامسة من إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948 (32) والمادة الثالثة من اتفاقية حقوق الإنسان و الحريات الأساسية لدول مجلس أوروبا للعام 1950 (33) لا تعرف التعذيب طالما هو ممارسة تقع خارج الأطر القانونية: " لا يجوز أن يتعرض أحد للتعذيب أو للمعاملة أو العقوبة اللاإنسانية أو المهينة "(34)، وهي نفس الصيغة المستخدمة في الاتفاقية الأوروبية في العام 1987 لمنع التعذيب و العقوبة أو المعاملة اللاإنسانية أو المهينة (35). وقد حددت اتفاقية الأمم المتحدة للعام 1984 مناهضتها للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (الفقرة الأولى, المادة الأولى), إذن التعذيب (وليس الوحشية وهذه الأخيرة هامة عند الحديث عن فلسطين بعد العام 1936 (36)...) هو أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد لشخص عن قصد، جسدياً كان أم عقلياً، من أجل الاعتراف أو الحصول على معلومات منه أو من شخص ثالث, أو معاقبته بسبب فعل قام به هو أو شخص ثالث أو يشتبه في ارتكابه أو ترهيبه أو إرغامه عليه أو على شخص ثالث أو لأي سبب يستند على التمييز من أي نوع عندما يكون هذا الألم أو المعاناة قد ارتكب من قبل أو بتحريض أو بموافقة مسؤول عمومي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية. وهي لا تشمل الألم أو المعاناة الناشئة فقط عن الجزاءات القانونية أو الملازمة لها أو العرضية. وبالمثل، أثارت أيضاً المادة الثانية من اتفاقية حقوق الإنسان و الحريات الأساسية لدول مجلس أوروبا للعام 1950 مسألة الاستخدام القانوني للقوة: " لا يعتبر الحرمان من الحياة مخالفاً لهذه المادة [الحق في الحياة] عندما ينجم عن استخدام القوة التي لا تزيد عن الضرورة القصوى ... في أفعال تأخذ شكلها القانوني لغرض إخماد أعمال الشغب أو التمرد"(37). وكان الإطار القانوني للأفعال الانتقامية و العقوبات الجماعية هو الموجّه لعمل القوات البريطانية حين بدأت عملياتها بعد نيسان-أبريل 1936, و اتخذت عقوبة تدمير الممتلكات العربية في المناطق الحضرية و الريفية في البلاد شكلاً محورياً في سياسة القمع العسكري البريطاني بعد العام 1936, مما تسب بأضرار جسيمة في المناطق الريفية, برغم أن بعض عمليات الهدم الفظيعة شملت المناطق الحضرية أيضا. وأصبحت عمليات التدمير و التخريب جزءً منهجياً ونظامياً من عمليات مكافحة التمرد البريطانية خلال الثورة، وبررته التدابير القانونية المعمول بها آنذاك. و ترافقت عمليات نهب الجنود للممتلكات مع سياسات التدمير و الهدم و هو الأمر الذي لم يتخذ بحقه أي عقوبات من الناحية الرسمية؛ و في الواقع, حاول الضباط في كثير من الأحيان منع رجالهم من سرقة الممتلكات.
وإلى جانب تحطيم منازل الفلاحين العرب و تفجيرها-كان يتم استهداف أفضل بيوت القرية في معظم الأحيان-، كانت هناك "أعمال انتقامية" تأخذ شكل غرامات جماعية باهظة، وأعمال سخرة، وأعمال عقابية للقرية تقوم بها القوات الحكومية, وكان أحد المتمردين العرب قد أشار إلى هذا بقوله أن الجيش البريطاني لم يتمكن من "ضرب" المقاتلين، لذلك كان عليه أن يلجأ إلى "الانتقام" و "العقاب الجماعي" (38). وباستخدام الدعم الجوي والاتصالات اللاسلكية والاستخبارات والمتعاونين والأرتال المتنقلة، قام البريطانيون بتحسين تكتيكاتهم ضد العصابات المتمردة، ولكنهم لم يتمكنوا أبداً من هزيمة عدو بعيد المنال في معركة مفتوحة في أرض وعرة، فاعتمدوا نهجاً عسكرياً من شقين، استهداف مقاتلي العدو و المدنيين الذين اعتمدوا على دعمهم. و تفاوتت نسبة و مستوى الضرر باختلاف الزمان والمكان والفوج المعني، وهذا لا يمنع أنه قد يكون شديداً في بعض الحالات, و في العام 1940, أي بعد انتهاء الثورة, قال ضابط الشرطة جون بريانس, الذي أصبح رئيس إدارة الشرطة في فلسطين، بأن "ندوب الحرائق" التي خلفها فوج ويست يوركشير وراءه في قرية بيت ريما، غرب رام الله، إنما تمثل "وصمة عار على جبين البريطانيين "، وهو الحادث الذي أشار إليه أيضا طبيب بريطاني في فلسطين في ذلك الوقت (39), و بالنظر إلى المراقبة البريطانية الشديدة على الصحف الفلسطينية التي تصدر باللغة العربية, فلم تظهر التقارير عن هذه الانتهاكات, كما قام بعض القادة مثل اللواء برنارد مونتغمري في شمال فلسطين بإبعاد الصحفيين حتى يتمكن رجاله من مواصلة عملهم دون أية مشاكل قد تسببها وسائل الإعلام (40).
كان الجنود, أثناء عمليات تفتيش الجيش, يحيطون بالقرية و يفصلون الرجال عن النساء و يبعدوهم عن المنازل و ويوضعون غالبا ضمن " أقفاص" حجز مصنوعة الأسلاك المعدنية, وأثناء قيام الجنود ببحثهم كثيراً ما كان يتم تدمير وحرق الحبوب ودلق زيت الزيتون فوق الأدوات المنزلية و الأمتعة (41), وغالبا ما كانت عمليات المداهمة تحدث عند الفجر كي يتمكن الجنود من القبض على أي مشتبه به قبل أن تتاح له فرصة الهروب. و في الوقت ذاته يتم "فحص و فرز" رجال القرية عن طريق مخبرين مقنعين أو مخفيين يجولون بين الرجال للتعرف على "المشتبه به"، أو يقوم مسؤولين بريطانيين بتفقد أوراقهم الثبوتية ومقارنتها بقوائم المطلوبين و المشتبه بهم. وإذا لم يكن عمل الجيش يحمل طابعاً انتقامياً و كان مجرد متابعة روتينية لمعلومات استخباراتية و البحث عن أسلحة مشبوهة أو مخفية، فإن أي تدمير للممتلكات سيكون عرضيا بسبب وسائل البحث المتبعة- كما استخدمت القوات كواشف معدنية بدائية في هذه العمليات (42). ولكن هذا النوع من الأفعال والعمليات قد ينتج عنه سلوك وحشي ضد الفلاحين عندما يحاول الجيش انتزاع معلومات استخباراتية عن مخابئ الأسلحة أو السؤال عن الأشخاص المشتبه بهم، كما حدث في قرية حلحول في العام 1939. وفي بعض الحالات، سوف تتوسع هذه الوحشية لتشمل تخريب الممتلكات كوسيلة للحصول على المعلومات, و يتفاوت مستوى التدمير، وفي حال وجود شكاوى من سلوك الجيش فإن هذا الأخير سوف يستخدم ذريعة البحث عن الأسلحة لتبرير أي ضرر وقع. كما سيقوم مهندسو الجيش بهدم منازل أو مجموعة منازل. و كان تدمير الممتلكات سلوكاً غريباً على الجنود ولكنهم كان يؤدون عملهم بحماسة عندما يطلب منهم تنفيذ مثل هذه المهمة. فعلى سبيل المثال, قام أحد الضباط الموكلين بالتحقيق في عملية هدم في أحد القرى بتوبيخ عريف تحت أمرته لأنه ترك خزانة جميلة مليئة بالأواني الزجاجية سليمة دون تدميرها, فقام الضابط بالعبث بمحتوياتها وتحطيمها(43). اعتبر البريطانيون بعض عمليات البحث على أنها إجراء "عقابي"، كما يذكر ذلك أحدهم " آه , نعم، بخصوص العقاب, عليك تحطيم الخزائن المليئة بالصواني و الأدوات الزجاجية, تكسير المرايات و تخريب الأثاث, ينبغي تحطيم أي شيء يقع عليه نظرك"(44). وقد أخبر أحد المسؤولين المحليين في المنطقة العقيد جي. غراتون, الضابط في فوج همبشير، أن أعمال البحث التي كانت تقوم بها وحدته في صفد لم تكن سوى غارة عقابية، فبهذه الطريقة يمكنهم... توجيه ضربة عنيفة للمكان. ومن الغريب جداً على رجل مثلك أو مثلي أن يقوم بتكسير الكراسي و ركل جرار الزيت وخلطها بأغطية أسرة النوم وكسر كل النوافذ وكل شيء, لا يمكنك أن تحب القيام بهذا, ما زلت أذكر مجيء الضابط المعاون وهو يقول: " أنت لا تحطم هنا ممتلكاتك الشخصية, فممتلكات المنازل التي قمت بالبحث فيه مازالت سليمة, هذا هو ما عليك القيام به " ثم التقط معول و بدأ بتحطيم كل شيء, فقلت له, حسن, حسن, أنا موافق و التفت صوب الجنود و قلت لهم : "هذا ما عليكم القيام به،", كما ترون. و لا أظن أنهم أحبوا هذا العمل كثيرا, و لكن بمجرد أن بدأوا به لم يعد بإمكانك توقيفهم, لم أر مثل هذا الدمار قط " (45). وبعيداً عن رأي الضباط، يكون النهب أو أخذ "الهدايا التذكارية" في مثل هذه العمليات أمر لا مفر منه، كما أن عمليات التفتيش الشخصية الدورية بحثا عن الرجال المطلوبين من قبل ضباط الصف فشلت في وقف مشكلة اللصوص الصغيرة المزمنة.
لم يكن النهب سياسة رسمية، إذ كشفت الأوامر الخاصة الموجهة للكتيبتين الموكل لهما إعادة السيطرة على البلدة القديمة في القدس في تشرين الأول / أكتوبر 1938 بأنه" سوف تقمع بشدة أي محاولات مهما كانت ضئيلة لعمليات نهب أو فرز أو تحريض من جانب أفراد القوات أو الشرطة " (46).
حدثت أكبر عملية تدمير في السادس عشر من حزيران-يونيو في مدينة يافا العربية عندما فجّر البريطانيون ما بين 220 و 240 مبنى(47)، كان التبرير الظاهري هو تحسين الشروط و المرافق الصحية, وتم قطع الطرق المؤدية للبلدة القديمة بزرع عبوات ناسفة بوزن ما بين 100 إلى 150 كغ من المواد المتفجرة (48), الأمر الذي سمح للقوات العسكرية بدخولها والسيطرة عليها. ومن خلال هذا العمل- الذي عنونته جريدة الدفاع ( وداعاً يافا القديمة وداعاً لقد فجرك الجيش )- شرد البريطانيون نحو 6000 فلسطيني أصبحوا بلا مأوى و معظمهم ترك معدما في صباح ذلك اليوم عندما صدرت لهم الأوامر بإخلاء منازلهم بحلول الساعة التاسعة مساء في اليوم ذاته(49). لقد تركت بعض العائلات في العراء دون أي شيء يسترهم حتى أنه لم تتاح لهم فرصة تبديل ثيابهم(50). كان لهذا العمل التخريبي القاسي وقع الصدمة على رئيس المحكمة البريطانية في فلسطين السير مايكل مكدونيل الذي أدان هذا العمل صراحة مما تسبب بفصله من عمله, و طبع العرب بنوع من الحماسة نحو عشرة آلاف نسخة من الخلاصات النقدية للمحكمة و توزيعها على السكان (51). و بسبب من عدم تمكنها من التعبير عن معارضتها لتدمير يافا, لجأت الصحافة الفلسطينية إلى استخدام السخرية من العملية, فذكرت كيف يتم جعل مدينة يافا أكثر جمالا بواسطة صناديق الديناميت(52). و سوف يتم هدم القرى لا سيما المتمردة منها بالكامل للتقليل من "البناء المشوه" كما حدث في قرية ميعار شمال عكا في تشرين أول-أكتوبر 1938 (53). وفي مناسبات أخرى كانت ألغام البارجة الحربية مالايا أسلوباً من أساليب التدمير التي استخدمها البريطانيون (54). في بعض الأحيان كانت الشحنات الناسفة الموجهة كبيرة جداً لدرجة أن كانت تهبط جدران و أسقف المنازل المجاورة من شدة الانفجار أو كان الحطام المتطاير يصيب المارة الذين يقفون لمتابعة عملية التدمير. حتى أن القوات البريطانية جعلت الفلسطينيين يهدمون منازلهم الخاصة حجراً حجر(55). فبعد عملية تطويق مدينة صفد و عمليات البحث فيها من قبل فوج همبشير، أشار ضابط الشرطة السير تشارلز تيغارت، ببساطة وبطريقة مجازية إلى أن الجنود "قاموا بعملهم بدقة "، مضيفا أن القرويين المحليين لم يتحلوا بأي نوع من التعاطف يمكن ذكره، وأن سكان مدينة من صفد الآن "باتوا يعرفون الآن ماحلَّ بنا".(56).
وخلصت هيلدا ويلسون، وهي معلمة بريطانية في فلسطين، إلى أن سبب تدمير الجنود للمنازل يعود لـ"شعورهم بالملل"، ولعدم توفر مرافق ووسائل راحة اجتماعية لهم وهو ما تفاقم بسبب الاغتراب الذي شعروا به بسبب خدمتهم بعيدا عن الوطن(57): لا يكترث الجنود, في العادة, لممتلكات الآخرين...ولذلك ماذا يمكننا أن نتوقع منهم عندما يجدون أنفسهم في بلد بعيد و بين أناس قيل لهم أنهم "العدو", وأذكر, في إحدى المناسبات, عندما أقلتني القوات البريطانية من رام الله إلى عين سينيا, وعندما كنت في مقدمة الشاحنة انتظر في الشارع الرئيسي في رام الله, رأيت رقيباً يعطي تعليمات لرجاله لما يجب عليهم القيام به حين يصلون نحو وجهتهم, لقد كانوا في طريقهم إلى تطويق إحدى القرى وطرد سكانها من بيوتهم و دفعهم نحو التلال, لن أنسى أبدا العبارة التي قالها ذلك الرقيب "طرد".
وقع الفلاحون العرب فريسة مطرقة عمليات المتمردين وسندان الجيش البريطاني، فقد طالبوا بحماية الجيش من عمليات النهب التي كان يقوم بها المتمردون فضلاً عن شكواهم أيضاً من سلوك الجنود(58). وفي حزيران-يونيو 1936، كتب القادة الدينيون المسلمون إلى المندوب السامي بالتفصيل عن كيفية قيام ضباط الشرطة بعمليات “ختم" على الأشياء، وتدمير كل شيء،" تكسير الأبواب والمرايا والطاولات والكراسي وخزائن الزجاج والخزف والملابس النسائية وبياضات السرير. وكان الجنود يخلطون السمن بالنفط بالمواد الغذائية، ويدوسون على "الكتب المقدسة"، ويحطموا أواني المطبخ الخشبية، وكذلك النظارات والساعات وغلايين التدخين والأحواض(59) .وفي الشهر نفسه، قدم احتجاج آخر يشتكي من قيام الشرطة والجنود بضرب الأبرياء وإهانة كرامتهم وسرقة المواد وتدمير الأثاث والسلع و المؤن(60) . كما وصف أحد المتمردين، الجنود (61), بأنهم :يقومون في البحث في المنازل، كل واحد على حدة، بطريقة تهدف إلى التخريب, كما يقوموا بنهب المنازل وحرق بعضها الآخر، و إتلاف المؤن و السلع بخلط الدقيق والقمح والأرز والسكر وغيرهم ببعضهم البعض، كما كانوا يصبون عليهم زيت الزيتون أو البنزين إذا عثروا عليه. وفي كل عملية بحث كانوا يدمرون عدداً من منازل القرية وإلحاق الأضرار بمنازل أخرى. كما وضعوا لافتات على منازل أخرى لتدميرها في المستقبل في حال وقعت أي حوادث بالقرب من القرية، حتى لو كان هذا الحادث قطع أسلاك الهاتف فقط. وأدى هذا إلى الخروج عن القانون و الجوع و التفكك الاجتماعي وهي مسائل تعزى كذلك بطبيعة الحال إلى سياسة اليد الغليظة العسكرية البريطانية, بالتزامن مع مطالب المتمردين لإضعاف وربما لتحطيم مجتمع القرية الفلسطينية.
لقد مثلت صيغ العقاب الجماعي ممارسة غير عادلة بحق القرويين, فقد كانت الغرامات الجماعية المفروضة عليهم عبئاً ثقيلاً عليهم (على الفقراء منهم تحديداً)، لاسيما عندما كان ينتزع الجيش الماشية و يحطم الممتلكات و يفرض حظر التجوال لمدة زمنية طويلة, ويقوم رجال الشرطة بتفجير المنازل و احتجاز بعض أو كل الرجال في معسكرات اعتقال بعيدة. من ناحية أخرى كان المتمردون يقومون بتغريم (أو سرقة) القرى التي لم تمتثل للثورة، و كانت الغرامة تصل في بعض الأحيان إلى ألف جنيه[فلسطيني] وما بين عشر إلى مئة جنيه لكل بيت في حالات أخرى (62). و إذا لم يتمكن الفلاحون من دفع الغرامات الجماعية، كان عليهم دفع القيمة من إنتاجهم: " وكما هي العادة في مثل هذه الحالات يتم استدعاء رجال الشرطة للقيام بمثل هذه الأعمال القذرة، مثل جمع الدجاج والبيض والحبوب من كل عائلة ونقلها إلى حيفا للبيع".(63). وتجاوز نشاط الشرطة حيزاً أبعد من الاستيلاء القسري على المنتجات، كما هو الحال عندما ذهبت الشرطة إلى إحدى القرى بعد أن قتل المتمردون بعض " الملونين"، فقاموا باستخدام العنف العشوائي ضد القرويين وليس ضد المتمردين. و مع وصولنا كانوا [ يقصد لمتمردين] قد اختفوا في الغابات و الأحراش, ولكن كان لدينا أوامر لتدمير المكان كله وهذا ما فعلناه، تم إتلاف الحبوب المخزنة و المواد الغذائية وجميع الحيوانات وتم ضرب المختار و مرافقيه بأعقاب البنادق. سيكون هناك عدد كبير من الجنازات هناك [كذا] يمكنني تخيلها(64). وعندما تلقت الشرطة تقريراً مفاده قيام المتمردين بقطع الطريق وحفر الخنادق و إقامة الحواجز بالقرب من قرية شفا عمرو " احتج السكان بأن المتمردين أجبروهم على القيام بهذا الأعمال التخريبية, غير أن هذا لم يعفهم من غرامة قدرها 700 جنيه فلسطيني بالإضافة إلى إصلاح الطريق (65). ولا يعدّ مثل هذا المبلغ ضئيلاً ومن الصعب تأمينه, وعلى سبيل المقارنة كان راتب الشرطي البريطاني في أواخر الثلاثينات يصل إلى 11 جنيه فلسطيني شهرياً و 18 جنيه لمعاون المفتش, وهي أجور جذابة استقطبت المجندين من الشرطة للعمل في فلسطين. و قد تباينت قيمة الغرامات, غير أنها يمكن أن تصل إلى خمسة آلاف جنيه فلسطيني يتعين دفعها فوراً إما نقداً أو على هيئة منتجات مثل الحيوانات والبيض والحبوب؛ ففي قرية الطيرة (أو الطيبة فالترجمة من العربية إلى العبرية إلى اللغة الإنجليزية ليست واضحة)، دفع الفلاحون ما قيمته 2000 جنيه غرامة بأن تركوا بيوتهم و أخذوا معهم فقط ما يمكنهم حمله(66), كان الفلاحين يعانون من ديون دائمة، حيث حاول مختار القرية جمع الغرامات من الفلاحين الذين لا يملكون مواشي في الغالب و لا عشيرة و لا طعام. وكان الأساس المنطقي للغرامات في بعض الأحيان غريباً، فقد كانت السلطات تغرّم القرى بسبب حرائق الغابات في أشهر الصيف، بافتراض أن الفلاحين المحليين يجب أن يكونوا قد بدأوا هذه الأعمال الضارة(67) . كما طلب من بعض القرويين التوقيع على سندات تصل قيمتها إلى 100 جنيه بالإضافة إلى ضمانات إضافية لضمان حسن سلوكهم. وبطبيعة الحال يؤدي عدم الدفع إلى السجن(68). وبينما حسّن البريطانيون أساليبهم في تتبع المتمردين، فلم تتغير الأساليب المتعلقة بالتعامل مع القرى إثر العمليات العسكرية إلا قليلاً خلال الثورة. وعندما قتل المتمردون ضابطاً من سلاح الجو الملكي البريطاني في كمين نصبوه على بعد حوالي خمسة عشر كيلومتر إلى الجنوب من حيفا في 18 شباط-فبراير 1938،( أسفر الكمين أيضاً عن إصابة سيدة بريطانية بجروح أثناء مرورها) أحضر الجيش إلى المكان كلاب تقصي أثر كانوا قد استوردوها خصيصاً من جنوب أفريقيا، وعندما التقطت الكلاب الرائحة (69). كان من المتوقع أن يكون مسارها باتجاه وادي المغار ثم إلى قرية إجزم " السيئة", كانت العملية بقيادة الرائد كلاي وتحت إمرته سرية وأقل من فصيل واحد يرافق عمل كلاب تقصي الأثر, في حين أعطيت للفصيلة الرابعة مهمة جمع حوالي 2300 رأس ماعز و 200 من الأغنام للمصادرة كعقاب لسكان المنطقة لارتكابهم الجريمة. و سرعان ما أخذت الكلاب الطريق العام ثم انتقلت إلى وادي المغار ثم إلى إجزم, حيث وضعت “علامة" على أحد المنازل الواقعة على الطرف الشمالي للقرية, ثم عادت الكلاب إلى الطريق الساحلي وهناك تم وضع علامة أخرى تؤدي إلى نفس القرية, ولكن هذه المرة إلى منزل يقع في الجهة المقابلة للمنزل الأول تبين عند تفتيشه أن أصحابه غائبين. تم تطويق القرية بالكامل وتفتيشها, وأرسلت التقارير التي تبين نتائج عمل الكلاب إلى مقر اللواء في حيفا, وفي الصباح الباكر جاءت الأوامر بهدم المنزلين... ويشير سيدني بير أحد عناصر الشرطة الذي كان متواجداً في إجزم إلى السلوك الوحشي لعملية " البحث"، التي كانت عملية صعبة للغاية كما تم الدفع بشكوى من قبل البعثة الأنغليكانية في فلسطين حول سلوك الجيش (70).
إن استخدام كلاب تقصي الأثر من فصيلة الدوبرمان التي جلبت خصيصا من جنوب أفريقيا يظهر مدى زيف الطريقة التنفيذية التي تكمن في جعل القرويون يقومون بأعمال لفائدة الجيش البريطاني، وكبح المتمردين من خلال تسليط مزيد من معاناة العقاب الجماعي والأعمال الانتقامية التي ستقع لا محالة على كاهل القرويين وقراهم التي يظهر فيها نشاط للمتمردين. ويزعم البعض أن استخدام الكلاب لابد أن يكلل بالنجاح دائماً بسبب وصولهم إلى بعض المشتبه بهم؛ ولكن في مرات أخرى كان الكلب يقود رجال الشرطة إلى أمكنة بعيدة ,فذات مرة قادتهم الكلاب إلى رجل أعمى, فاعتبر أنه السارق بسبب نباح الكلب في وجهه(71). فبمجرد أن ينبح الكلب نحو شخص فلسطيني أو مسكن لابد للشرطة أن تجد في المكان أو مع الشخص بضعة "طلقات" لتأكيد الذنب, ومن ثم تقوم المحكمة بفرض العقوبة النهائية لحيازة المتهم على دليل إدانته مهما كان الدليل تافهاً. وكانت السلطات تعاقب القرى التي تكون أقرب ما يمكن لمكان الحادث أو لاعتقادهم أن قرية معينة مؤيدة للمتمردين-وسوف تسمى قرية : سيئة" -مثلما حصل مع بلدة إجزم- مقابل القرية "الجيدة" -التي ترفض التعاون مع المتمردين-, وتظهر مصطلحات سيئ و جيد بشكل منتظم في ملفات الشرطة البريطانية. ففي إحدى العمليات، قادت الكلاب الشرطة إلى منزل في قرية نعيم حيث عثر رجال الشرطة على اثنين من العرب" المعروفين بطباعهم السيئة" (72) . فأخبروا صاحب المنزل بأنهم سوف يدمرون بيته ما لم يقدم للشرطة المعلومات التي يطلبونها. وبعد فرض غرامة جماعية قدرها خمسون جنيهاُ فلسطينياً على مختار القرية انسحب البريطانيون ليعودوا بعد عدة أيام فيستولوا على الحبوب بقيمة الخمسين جنيهاً كما طلبوا من الفلاحين و من المختار إنزال حوالي 100 كيلوغرام من المتفجرات لتفجير المنزل ثم قاموا بجمع السكان على أطراف البلدة لمتابعة مشهد التفجير(73).
اعتمدت القوات البريطانية سياسة فرز القرى, فقد كانت تدمر القرى العربية المسلمة في حين تترك القرى الدرزية المجاورة التي اعتبروها معادية للثورات. وكما ذكر أحد ضباط الشرطة، امتاز الدروز على الدوام " بالود ويشعرون بالبهجة لمجرد رؤيتهم عناصر الشرطة, لقد كانوا يكنون كراهية شديدة للعرب. و يتمتعون بمظهر أكثر نظافة من العرب و ينتمون لعرق أفضل و يفترض أنهم من أحفاد الصليبيين الإنجليز والفرنسيين" (74). كما أفاد الجنود بأنهم لم يواجهوا متاعب تذكر في تعاملهم مع الدروز و مع المسيحين العرب في فلسطين, لاسما حول بلدة الناصرة ذات الأغلبية المسيحية(75). وكما وصفت نشرة فيلق همبشير الأمر" قد نذكر أن المغار هي القرية العربية المسيحية التي لا تكن عداءً للسلطات كما هو حال بعض القرى الأخرى, وبالتالي لم يتم البحث هذه المرة .... الدروز شعب ودود وعلاقاتنا معهم كانت ودية للغاية" (76). غير أن السلطات فرضت غرامة على المسيحيين في الناصرة ودمرت منازلهم في العام 1939 بعد غارة المتمردين، على الرغم من إظهار رجال الدين المسيحيين المحليين ولائهم للحكومة, وقد لاحظ رجل دين أنغليكاني أن السعادة سوف تغمر قلوب الإرهابيين" حين يعرفون أن الغرامة قد فرضت, ويقال أن الشوارع امتلأت بالشعارات التي تسم شعب الناصرة بالخونة"(77). وقد استندت عملية فرز القرى على معلومات استخبارية ضعيفة، كما تظهر رسائل أحد ضباط الشرطة إلى الوطن: "من الصعب جدا القبض على الجناة حيث لا يوجد على الإطلاق أية معلومات يمكن العمل بموجبها ولا يمكنك الحصول على أي دعم من سكان القرى. قد تتبع كلاب الشرطة في قرية ما بناء على معلومات غامضة, فيتم سحق و حرق هذه القرية, ولكن في الليلة التالية يتم قطع الأسلاك في جزء آخر من الطريق ..وهكذا إلى ما لانهاية" (78).و يذكر إليوت فوستر, وهو طبيب بريطاني كان يعمل في الخليل عن تأثير العيش في ظل الاحتلال العسكري البريطاني المتواصل في مدينة الخليل خلال الثورة. كان يعمل فوستر-الذي اعتاد على الحياة المحلية- في مستشفى سانت لوقا في الخليل وأجرى عمليات جراحية في القرى النائية, وقد عايش فترات العمليات العسكرية المكثفة التي خاض فيها الجيش والشرطة معارك ضد المقاتلين المحليين, فأثناء قيام قوات الجيش و الشرطة البحث عن المتمردين ومحاربتهم وما يرافق ذلك من دمار و تخريب كان يرافق ذلك انهيار في سيادة القانون, فيحدث إطلاق نار عشوائي على العرب لمجردهم تصادف وجودهم في مواقع القتال أو "مناطق إطلاق النار الحر" كما كانت تسمى, وبينما حاول بعض الضباط كبح جماح الرجال، نزح السكان العرب المحليون حول الخليل والريف المحيط بها خوفاً على حياتهم، ولم يحدث هذا النزوح بسبب أعمال المتمردين, بل بسبب العنف الذي كان يمارسه الجنود والشرطة. وقد كتب فوستر يقول" كل من كان يرى رجال الجيش في هذه الأيام كان يفر مثل الأرنب-لقد هربت بنفسي من وجههم"(79). و كثيراً ما كان يتعرض فيه العرب القريبين من أرض المعركة إلى إطلاق النار على يد عناصر الجيش أثناء اشتباكهم مع المتمردين, حتى لو كان هؤلاء العرب شيوخاً كباراً في السن أو فتياناً صغار يرعون مواشيهم في البراري, وقد أحضر فوستر العديد من السكان المحليين إلى المشفى للعلاج يومياً جراء الإصابة بأعيرة نارية, وكان الأمر أكثر وضوحاً عندما كان يعالج أحد المتمردين الحقيقيين, فقد كانت الإصابات في معظم الأحيان ناجمة طلقات نارية عشوائية من القوات البريطانية. وقد عرض فوستر تقريراً توثيقاً جيداً يصف رجال الشرطة الذين أعدموا عربياً مشتبهاً به في وضح النهار في تشرين الأول / أكتوبر 1938 كان قد اقترب من سيارة تابعة للشرطة في حي المنشية في يافا، ما أثار نوع من الغضب العارم لدى السكان الأوروبيين غير البريطانيين، وهناك العديد من الأمثلة لقيام قوات الشرطة بعمليات سرقة متكررة لأموال العرب، بما في ذلك الأطفال الصغار( يتم سرقة ما في جيوبهم من مصروف يومي (80) .) وقد أدى الإعدام الذي شهده الأوروبيون غير البريطانيين إلى قيام السلطات بالتحقيق في القضية وتوقيع التهم على أربعة ضباط شرطة- الذين استفادوا من الحد الأدنى من أحكام الاستئناف- ولكن هذه من الحالات النادرة التي عرضت على المحاكم (81). و في تشرين الأول / أكتوبر 1938 سرقت هذه القوات حتى رئيس شمامسة الطائفة الأنغليكانية في القدس, واعتدوا بسوء المعاملة على الصبي العربي الذي تركه رئيس الشمامسة للاهتمام ببعض شؤونه(82). بالنسبة للجنود، كانت أنشطتهم غير مقيدة، وكان عملهم هو" سحق رأس أي شخص[ بالمعنى الحرفي] يتعدى أو يخرق القانون، وإذا لم يكن يرغب بسحق راسه فيمكنه أن يطلق عليه النار. قد يبدو هذا وحشياً وقاسياً, ولكن في الواقع كان الهدف جذاب و بسيط وقد تفهم الجنود ذلك"(83). و لم تقم روايات الفيالق و نشراتها المعاصرة للأحداث بإخفاء مثل هذه الأعمال الانتقامية و التدمير و الغرامات الجماعية إلا ما ندر، فكانت تسجل هذه الروايات كيف كان يتم "ضرب" القرى و حرق المنازل، واحتجاز الرجال في أقفاص" بناء على أوامر عليا" بسبب نشاط ما للمتمردين في الجوار(84) . في المقابل, كانت تستخدم عبارات ملطفة مثل" كان البحث جذرياً بما فيه الكفاية لابتزاز الفلاحين "(85) . وسوف تصف النشرات تحطيم القرى بلغة أقل ما يقال عنها هادئة و أنيقة، كما هو الحال مع فوج إسكس في" تكييس" قرية سخنين (التورية المقصودة هنا واضحة لاشك عن نوعية العقاب ) يومي الخامس و العشرين و السادس و العشرين من كانون أول-ديسمبر 1937، من خلال القوة البدنية التي لا تصل إلى مرحلة التعذيب المباشر أ التدمير السافر و الصارخ-أو لم يتم الإبلاغ عنها (86). وقوبلت الشكاوى المتكررة من بعض العرب و رجال الدين الأنغليكان بخصوص الأعمال الانتقامية و الاحترازية في فلسطين و المدعومة بالأدلة المباشرة بالإنكار و بوعود التحقيق بشأنها(87).
وبعيداً عن السياسات الرسمية الرامية إلى كسر عزيمة الفلاحين الفلسطينيين، كانت هناك أيضاً أعمال وحشية غير رسمية ارتكيها جنود وضباط و صف ضباط الخدمة العسكرية, وفي حين أن هذه الأعمال لا تشكل سوى جزءً يسيراً من قصص الانتقام الرسمية والعقاب الجماعي، غير أنها ساهمت في ترويع وإرهاب المدنيين الفلسطينيين العاديين، وكان الضباط الميدانيين يقومون في بعض الأحيان بعقاب, أو ببساطة قبول مستوى من التوحش العرضي الطارئ من قبل رجالهم. وفي حين أن الاعتداءات التي يرتكبها العسكريون كانت في بعض الحالات أعمال انتقامية رداً على الهجمات ضد الجنود ووسيلة لهزيمة المتمردين، فإن الرغبة في إلحاق المعاناة بالآخرين لعبت دوراً في الحدث. وكما لاحظ قائد فوج إسيكس في نهاية العام 1937، فإن عمليات البحث العقابية ضد القرى العربية "تتمتع بها جميع الرتب"(88). فعلى سبيل المثال , كان من الشائع أن يجبر الجيش البريطاني العرب على الركوب معهم في قوافلهم لمنع الهجمات بالألغام. وكثيراً ما كانوا يضعوهم على أغطية محركات شاحناتهم, أو يضعوهم كرهائن على أسطح صغيرة في الأجزاء الأمامية من القطارات, لمنع عمليات القنص أو الألغام. ولترك أثر رادع, كما يقول أحد الضباط " كان يتم وضع الأولاد المشاكسين الذين نقبض عليهم في الأقفاص في هذه المعسكرات, في سيارات أمام القافلة" (89). وكان الجيش يخبر العرب بأنه سوف يتم إطلاق النار على أي شخص منهم يحاول الفرار(90). وكان بعض سائقي الشاحنات البريطانيين يستخدمون المكابح بقوة عند انتهاء الرحلة مما يتسبب بوقوع العرب من على أغطية المحركات فيؤدي إلى قتل البعض منهم أو تشوههم, كما يستحضر ذلك بوضوح و صراحة آرثر لين الجندي من فوج مانشستر(91) :".... عندما تنتهي من واجبك، وتلاحظ أن لا شيء حصل, لا قنابل أو ما شابه ذلك سوف يقوم السائق بتشغيل محرك سيارته مرة أخرى فينزلق الرجل" الملون" المسكين من على سطحها, وسوف يكون محظوظاً لو لم تنكسر ساقه من جراء ذلك, وإن كان غير محظوظ فسوف تصدمه الشاحنة القادمة من الخلف أثناء سقوطه. ولكن لا أحد يعير بالاً له أو يقوم برفعه و التقاطه من الأرض, فكما تعلم كنا نحن السادة هناك, كنا الزعماء وكل ما نفعله لابد أن يكون صواباً وعلى حق .... حسناً أنت تعرف أنك لم تعد بحاجة إليه بعد الآن, فقد أنجز وظيفته على أكمل وجه. و لهذا يقول بيل أوشر[الضابط القائد] أنه كان عليه التوقف لأنه قبل ذلك بفترة طويلة كانوا يضعون المتمردون الجرحى على أغطية السيارات. لقد تركت القوات البريطانية الجرحى العرب يموتون في ساحة المعركة(92) فضلاً عن المعاملة السيئة التي كان يتلقاها المقاتلون الذين يتم إلقاء القبض عليهم في أرض المعارك أثناء محاولتهم سحب جرحاهم أو قتلاهم من الميدان (93).
كان الجندي لين من فوج مانشستر، في حالة اشتباك ضد مقاتلين في معركة قتل فيها عدد من الجنود البريطانيين وقدم صورة مثيرة للقلق يصف فيها ما حدث للسجناء العرب الذين تم أسرهم بعد القتال، والذين تم إعادتهم إلى المعسكر وربطهم على الأعمدة، وكانوا في حقيقة الأمر تعرضوا للركل و الضرب ... ... ومن قام بذلك هو من جلبهم على العربات إلى المعسكر حيث قام الشباب هناك بضربهم و ومهاجمتهم....[ فيسأله المحاور بماذا كانوا يضربونهم] فيجيب الجندي بأي شيء .... أي شيء يقع بين أيديهم ويعثرون عليه أمامهم, بأعقاب البنادق, بالحراب, بغمد الحربة, بالقبضات و الأحذية, أي شيء .كان من بينهم أحد الحمقى المساكين استطيع أن أخمن أنه كان بمثل عمري, وكنت قد سمعت فيما مضى من الناس أنه يمكنك أن تخرج عينك من مكانها و تنظفها و تعيدها إلى مكانها مرة أخرى, لقد كنت مؤمناً فعلاً بهذا المعتقد, ولكن ليس بالصورة التي رأيتها هنا, فقد كانت عين الرجل مدلاة إلى شفته أو على خدّه, لقد اقتلعت بأكملها من محجرها وبقيت معلقة هناك في مكان ما على وجهه الذي كان يقطر دماً, وعندما سئل عن سبب قيام الجنود بذلك رد لين ببساطة، "مثلي مثل أي جندي, لم يكن يهمني إن كان هذا الشخص إنجليزي أو ألماني أو ياباني أو أيّاً يكن. لقد كان هو المنتصر[ يقصد الجندي] هو الرئيس وعليك أن تتقبل الأوامر التي يعطيها لك, لا يهمني ما تقوله, ذلك ما كرره على مسامعي لاحقاً [وقع لين أسيراً في قبضة اليابانيين في العام 1942]. ولكن حتى اليوم, فثمة هناك وحش يربض في كل رجل سواء كنت أعرفه أم لا , وسواء كنت أهتم لوجوده أم لا قد يكون الملكة الكبيرة أو شخص غريب يمر بقربك ولكن في كل الأحوال ثمة وحش كامن فيه في مكان ما وفي حالة مثل تلك التي قلتها لك سوف يتحين الفرصة للخروج"(94). بعد ذلك يصف لين كيف قام الرجال بتدمير خيامهم الخاصة,
وهو عمل سمح به الضابط حتى يتمكن رجاله من الانطلاق بسرعة، ولكن مع كل التحطيم في معسكرهم تجاهل الجنود المعتقلين العرب. أحد ضباط الصف- يصفه لين بأنه يعاني من اضطراب- قاد الأسرى العرب إلى مخزن الأسلحة ليعرض لهم جميع الأسلحة هناك وتحدث معهم باللغة الإنجليزية، وهو ما لم يفهمه العرب. وكان على وشك السماح للعرب الخروج عبر بوابة المعسكر قبل أن يوقفه أحد الضباط. ثم قام الجنود بقتل المعتقلين العرب قبل أن يرسلهم الجيش إلى سجن عكا(95) ... وفي الخلف لم يقم أي من الشباب بفعل شيء في الوقت الذي تجمعنا فيه جميعاً ووقفنا وشكلنا صفين من الرجال مع الفؤوس و المقابض و البعض بالحراب و أغمدتها والبعض بالبنادق، كل شيء, أعمدة و أوتاد خيام وغيرها. وتم إرسال المتمردين واحدا في كل مرة من خلال هذا ما تسميه؟ القفاز, وكانوا مربوطين وتم دفعهم حتى وصلوا إلى الطرف الآخر. وعليهم الجري بسرعة للوصول مباشرة إلى الطرف الآخر حيث عربة الشرطة التي ستمضي بهم إلى عكا. ومن كان يموت منهم يتم نقله إلى عربات أخرى ليلقى به قرب إحدى القرى.
كانت هذه التجاوزات تمثل رد الجنود على المتمردين الذين جرحوا أو قتلوا رفاق لهم في المعارك، و يصبح أي سجين أو قرية أو الفلاحين هدفاً لهجوم انتقامي، وهو ما لاحظته المصادر العربية أيضاً (96). لكن الروايات البريطانية تذكر بالتفصيل حالات طعن العرب الأبرياء بالحراب (97) , والقتل الجماعي بالبنادق الرشاشة للمقاتلين في أرض المعركة على يد رجال فوج رماة أولستر الملكي وفوج ويست كينت عندما كانوا يستسلمون لهم بالقرب من جنين. "في أحد المرات قامت مجموعات من فوج أولستر و فوج ويست كنت بالقبض على 60 شخصاً منهم [العصابات العربية] في أحد الأودية, فخرجوا رافعين أيديهم للأعلى فانهالت عليهم قذائف الرشاشات. لقد تفحصتهم بعد ذلك, كان معظمهم فتيان بأعمار ما بين 16 و 20 سنة قادمين من سوريا.... لا توجد بالطبع مثل هذه الأخبار في الصحف, لذلك ما تقرأه في الصحف هو ما يكفي لتهدئة شعور القلق و عدم الارتياح العام السائد في إنكلترا"(98). وهناك أيضا مسألة الأساليب التي استخدمتها "فرق الليل الخاصة" التابعة لـ "أوردي وينغيت" التي كان خليط من جنود بريطانيين و مقاتلين صهاينة وحدوا جهودهم للتصدي للعرب في الجليل، وكما يشير السير هيو فوت أحد المسؤولين الاستعماريين , فقد كان عمل فرق الليل الخاصة "قاسياً و متطرفاً" وكانت مسؤولة عن تعذيب و جلد و إعدام العرب وإساءة معاملتهم وفقاً لمصدر آخر- ولكنه موضوع خارج نطاق هذه المادة(99).
نالت الممارسات الوحشية للشرطة الفلسطينية [ الانتدابية] ودائرة السجون بعض الموافقة الرسمية. وقد أذن السير تشارلز تيغارت، وهو ضابط شرطة رفيع المستوى من الهند، بإنشاء مراكز للتعذيب عرفت مجازاً باسم "مراكز التحقيق العربية"، حيث ينال المشتبه به " الدرجة الثالثة" من إجراءات التحقيق حتى" يبق الحمصة" كما يقال و يعترف بالمعلومات و الأسرار التي بحوزته [ الدرجة الثالثة من الاستجواب تعبير ملطف عن عمليات التعذيب التي يتعرض لها المعتقلون مثل إلحاق الألم المضاعف الجسدي و الذهني لانتزاع الاعترافات منهم , وهو أسلوب قديم مستخدم , ففي العام 1931 وجدت لجنة ويكرشان أن" تقنية" الدرجة الثالثة من التعذيب تستخدم على نطاق واسع داخل الولايات المتحدة الأمريكية...وتعتمد هذه التقنية على الأساليب التي ابتعتها محاكم التفتيش الإسبانية إبان "حروب الاستعادة" في القرن السادس عشر و التي كانت تستند على ممارسة حب الأعصاب على الضحية و التعامل بوحشية مفرطة و حرمان المعتقل من الطعام و الشراب و النوم ... إلخ, المترجم]. وأحد هذه الأساليب تمثل في عدم إغلاق الحي اليهودي في القدس الغربية إلا بعد أن اشتكى المسؤولون الاستعماريون مثل إدوارد كيث روتش للمندوب السامي (100). واستخدم المحققون ما ندعوه الآن وسيلة التعذيب بـ"الإغراق" في هذه المراكز(101). وأثار كيث روتش هذه المسألة بقوله أن "الممارسات المشكوك فيها" التي يقوم بها ضباط إدارة البحث و التحقيقات الجنائية على المشتبه فيهم أتت بنتائج عكسية سواء من حيث المعلومات التي تم جمعها أو من حيث أثر ذلك على ثقة السكان المحليين في الشرطة(102). أما بالنسبة لرئيس شمامسة الطائفة الأنغليكانية في فلسطين، فقد أشار إلى أن سبب العنف يعود لانتهاكات الشرطة بدلاً من الرد عليه(103). وكان قد كتب إلى السكرتير الأول لسلطة الانتداب في فلسطين في حزيران-يونيو 1936 يشرح بالتفصيل شكاوى العرب اليومية من تعرضهم للضرب على يد رجال الشرطة الهائجين, واختم رسالته بوصف تعرض أحد رجال الشرطة للتوبيخ لإحضاره أحد المشتبهين بهم دون أن يقوم بضربه- "وقد أتته الأوامر بضرب المشتبه به" , هكذا كانت أوامر الشرطة(104). وتقدم رسائل الشرطي سيدني بير لذويه حكماً شخصياً صريحاً على "وحشية الشرطة" بقوله" إنها الطريقة الوحيدة مع هؤلاء الناس"(105). و كانت عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء والتعذيب والضرب والعنف العام أمراً شائعاً بالنسبة لضباط الشرطة البريطانيين في فلسطين و الذين عمل معهم سيدني بير خلال أحداث الثورة العربية. ويناقش بير تقنية الاستجواب من "الدرجة الثالثة" للمشتبه بهم من العرب إلى جانب الضرب العام وتحطيم المحلات والبيوت العربية في كل مكان تقريباً. وبدى الكثير من الممارسات الوحشية كسلوك عرضي تدميري متعمد، لكنه كان عند الشرطة والجنود بمثابة معركة عادلة و حميدة -"صيد المتمردين" مازال الرياضة الكبرى التي يستمتع بها جميع المعنيين(106). وجاء معظمهما على شكل ضرب في الشارع وليس في مراكز التعذيب الشريرة، ولكن الآثار يمكن أن تكون شديدة، شيء مما يمكن التغاضي عنه في الوصف على غرار التوصيفات الرياضية الواردة في العديد من المذكرات: "كان معركة عادلة جيدة مع الكثير من السكاكين والزجاجات التي تتطاير حولنا. يساعدهن الكثير من النساء المتخصصات في إسقاط الأواني المنزلية و آلات التجفيف و الأغطية من النوافذ على رؤوسنا التعيسة سيئة الحظ (107). وهكذا، ذكر دوغلاس دوف ضابط الشرطة البريطاني عما كان يحدث في عشرينيات القرن الماضي عن آثار عقب البندقية التي تلقاها أحد العرب بعدما قام أحد زملاء داف بضربه (108).... كان موقفنا هو ذاته موقف البريتون الذين احتفوا باليوبيل الماسي, فالنسبة لنا, كل من هم غير أوروبيين كانوا “ملونين" و فقط الغربيين" غير البريتون" هم أكثر جدارة بقليل منهم [ يستخدم داف هنا كلمة Wog و هي كلمة عامية في لغة الإنجليزية الأسترالية والإنجليزية البريطانية. وتستخدم في العادة بمعاني إثنية أو عرقية، وتعتبر كلمة مهينة وعدائية. وتستخدم في أستراليا للتدليل على طيف واسع من الناس, لاسيما سكان حوض المتوسط, وتعد في بريطانيا كلمة مهينة وعنصرية وهي تشير إلى كل ما هو " غير أبيض" أو ذو بشرة داكنة أو يهودي, بما في ذلك سكان حوض المتوسط( و من ضمنهم الأوروبيين الجنوبيين) و الهند و أجزاء من آسيا مثل جزر الهند الشرقية-المترجم ]. لقد شعرت بالغثيان حين حوّل أحد عناصر السرايا في نابلس علبة سجائر قديمة تحتوي دماغ رجل انفصلت جمجمته بعقب بندقيته ...لقد أصبت بالقرف من رؤية وجه ذلك الدركي المزهر وبيده علبة تبغ ممتلئة حتى نصفها بدماغ بشري يفخر بها و يلوح بعقب بندقيته كدليل على براعته، لقد غيّر هذا المنظر شيء ما بداخلي. فهؤلاء الذين يمتلكون جلوداً غير تلك التي يمتلكها الإنسان الغربي اصبحوا بالنسبة لي بشراً . لقد كتب داف ببساطة عندما تحدث عن الاضطراب الجماهيري للفلسطينيين المسلمين في العام 1922: "لو أن لغتنا العربية كانت أفضل لكنا تعاطفنا معهم، على الرغم من أنني أشك في ذلك، بالنسبة لمعظمنا كنا مصابين بدرجة عالية من الشعور بالتفوق على "الأعراق الأقل منا " ونادراً ما اعتبرنا هؤلاء الناس بشراً(109) . سيحاول ضباط الشرطة الدوس بعرباتهم على العرب"، حيث أن السيطرة على العرب تشبه سيطرنا على الكلاب في إنكلترة , كلاهما لا يحتاجان إلى التبليغ عنهما"(110).
علاوة على ذلك، وفي الأيام الأولى من عهد الشرطة في فلسطين كان العديد من مجندي الوحدات الملكية الإيرلندية السابقين [ وتعرف هذه الوحدات باسمBlack and Tans] و" الاحتياط " الذين شاركوا في حرب الاستقلال الإيرلندية (1919-1921 (, وهكذا جاءوا يحملون معهم تجربة هذا الصراع الوحشي، متشربين القوة بروح صعبة عندما قدموا للخدمة كشرطة في البلاد". و يقول رئيس شمامسة الطائفة الأنغليكانية لسكرتيره في القدس" شعرت للحظة بقلق بالغ من المنهج الذي تستخدمه" الوحدات الإيرلندية" في عملها كعناصر شرطة، وقد كان لدي أدلة دامغة على ذلك "(111). كانت الصلابة مسلية في بعض الأحيان, مثلما تلقى الشرطي سيدني بير منديلاً من الوطن مما دفعه للرد" أخشى أنني لن أكون قادراً على استخدامها هنا،" الوحدات الإيرلندية" الذين كانوا بداية هذه القوة لا ينظرون إلى هذه الأشياء المخملية بتكرم لطيف. فهم يعتقدون أن السيطرة بقوة على الكلب إنما هي القوة ذاتها كما هي وليست لشيء آخر, وبالتالي فإن العرب يبدون متحدين بسبب الأساليب الناعمة التي تتبعها الشرطة معهم (112). كان هناك أيضا بعض التأثير الفاشي داخل قوة الشرطة، وكان يتعين على السلطات إصدار أوامر تحظر تقديم التحية النازية في الأماكن العامة, وفي مناسبة أخرى، اشتكى اليهود عندما ظهرت فرقة مكافحة الشغب في تل أبيب وإشارة الصليب المعقوف قد رسمت على دروعهم القصيرة(113). ورأى ضباط الشرطة البريطانية خدمتهم أقرب ما تكون إلى عمل فيلق اللفيف الأجنبي الفرنسي، وكثير منهم كان يشير إلى ذلك صراحة" فيلق اللفيف الأجنبي البريطاني, مع الأخطاء أيضاً"- ويبدو أن البعض قد تصرف وفقاً لذلك(114). وقد وصل الأمر بلامبالاة رجال الشرطة أن يقوموا" بجلد" سجين بالهراوات المطاطية دون أدنى اهتمام برجل الدين الذي كان بانتظارهم لتقديم بلاغ عن سيارته المسروقة و الذي شاهد كل شيء بأم عينه(115) .قد تكون عملية " الجلد" هذه هي ذات المثال الذي ورد في ملفات البعثة الأنغليكانية في القدس التي شهد فيها رجل دين على عملية ضرب وحشي لمشتبه به أدت إلى تحطم أسنانه قبل أن يتم الاعتداء عليه بالضرب المبرح على يد رجال الشرطة يعاونهم رجل آخر يرتدي ملابس مدنية قد يكون ضابط من المخابرات العسكرية يعمل مع الشرطة(116). ثم جاء رجل ثان يرتدي ملابس مدنية، لكني اعتبرته من رجال الشرطة البريطانية، ورأيته يضع قفل مزدوج الذراع على الرجل من الخلف، ثم يضربه على رأسه و جسمه بطريقة لا استطيع وصفها إلا بأنها وحشية وقاسية. توقف الرجل لمرة أو مرتين وذهب إلى الآخرين في المركز، وبطريقة غير مسؤولة ومتعجرفة قال "أنا آسف جداً" - " آسف جداً"، ثم شرع في لكم السجين و ضربه في المركز من جديد, وجاء رجل ثالث بثياب مدنية و يرتدي قبعة ناعمة, أعتقد أنه بريطاني و ربما كان عضواً في قوة الشرطة، ولكن اعتقدت أنه جندياً بثياب مدنية ... ولكن هذا الرجل أيضا شن هجوم عنيف وشرس على السجين، ولكمه على رأسه و جسده, شعرت بالانزعاج و القلق البالغ إزاء احتمال أن أحد الرجال الذين كانوا في المركز، والذين ضربوا أول شخص تم جلبه لم يكن من الشرطة، بل جندياً - كان هذا الرجل الذي كان يرتدي القبعة الناعمة .... لقد خدمت لعامين قسيساً في أحد سجون إنكلترة، وخلال أداء واجباتي لم أشهد بشكل متكرر الطرق التي يستخدمها رجال الشرطة وأمراء السجون ضد الرجال المحتجزين أو الذين يقضون فترات سجن طويلة، و يمكنني القول أن ما رايت هنا أسقمني و ملأني بأكثر الشكوك خطراً ..
لم يؤدي وجود السلطة إلى القيام بشيء يذكر لمكافحة عنف الشرطة، حيث اضطر الأسقف الأنغليكاني في القدس إلى التعارض مع رقيب في الشرطة الذي كان يهدد-تحت تأثير الشراب أو الاضطراب العقلي- صبي مدرسة أثناء تواجده في سيارة الأسقف (117). وقال شرطي آخر للأسقف إنه كان لديه أوامر من المندوب السامي بالتعرض للعرب(118). و عندما كان يناقش رجال الدين مثل هذه القضايا على الهاتف، كانت الخطوط تنقطع فجأة:" فيما يتعلق بمحادثتنا الهاتفية هذا الصباح، أشعر بأن بعض الناس كانوا يستمعون ثم فجأة يغلقون سماعاتهم حالما نبدأ بنقاش الجوانب الخطيرة للوضع في فلسطين "(119). ومن جهة الطرف المتلقي، قدم الفلسطينيون شكاوى متكررة إلى السلطات. فقد كتب شاب إلى البريطانيين يشرح فيه بالتفصيل المعاملة السيئة التي تلقاها والده عبد الحميد شومان الذي كان يعمل مدير مصرف والذي اعتقلته السلطات يوم 20 شباط / فبراير 1938 في القدس، نقل البريطانيون الأب إلى سجن عكا ثم معسكر الاعتقال" المزرعة" (قرب عكا) قبل أن ينتهي به المطاف في مستشفى سجن عكا بعد ما زعم أنه تعرض للضرب المبرح من قبل حراس السجن الذين تركوه غير قادر على المشي (120). وهناك العديد من الروايات الأخرى باللغة العربية عن تعرض المشتبه فيهم للتعذيب، وتفجير العرب إلى أشلاء بعد دفعهم طوال الطرق التي زرعها البريطانيون بالألغام، وعن الإجراءات البريطانية حيث يتركون أعداداً هائلة من المعتقلين في العراء في أقفاص تحت الشمس دون طعام , أو تلك القصص التي تتحدث عن العمليات البريطانية المتمثلة في زرع قنابل ضخمة حيفا، أو عن تعرض الرجال للضرب المبرح بواسطة الحبال الرطبة أو اللكم أو تحطيم الاسنان أو حرق اقدامهم بالنفط (121). أما من كان يتعرض للكم , فقد كان يضرب حتى يتم القضاء عليه, كما تم استخدام " الإبر" مع بعض المشتبه بهم, كما أطلقت الكلاب على البعض الآخر, وفي هذا الصدد, يذكر أن وحدات مساعدة بريطانية و يهودية مشتركة أساءت معاملة العرب بجعلهم يحملون حجارة ثقيلة عليهم ثم ينهالون عليهم بالضرب حامل تسقط تلك الحجارة منهم, كما استخدم الحراس لحراب ضد الرجال الذين كانوا يحرمونهم من النوم ويجبروهم على ارداء أجراس حول أعناقهم ثم يطلبون منه أن يرقصوا (122). وتظهر العرائض المقدمة عبر البعثة الأنغليكانية، احتجاج المعتقلون العرب في سجون فلسطين على المعاملة المتطرفة التي كان يقوم بها الحراس, إلى الحد لذي يجعل بعض السجناء يقفزون طلباً للموت من النوافذ العالية هرباً من خاطفيهم، وقد كانوا يربطون خصاهم بحبال , ويتم تعذيبهم بواسطة ألواح خشبية مثبت عليها مسامير, أو ربط إصبع القدم الكبير بسلك مشدود، أو نزع شعر وجوههم ورؤوسهم، وكان السجناء يمتلكون أدوات خاصة لنزع الأظافر، فضلاً عن استخدام أسياخ ساخنة حتى الاحمرار ضد المحتجزين، وكان يتم الاعتداء الجنسي على السجناء، وكانوا يستخدمون ضدهم الزيت المغلي و يجبروهم على احتساء المشروبات المسكّرة, بالإضافة إلى الصعق الكهربائي، وحقن المعتقل بالماء حتى تنتفخ بطنه, كما كانت هناك عمليات إعدام وهمية (123) , وكما قال أحد البريطانيين المقيمين في فلسطين: "بعد مقتل [لويس] أندروز [مساعد مدير المنطقة في الجليل] [في 26 سبتمبر / أيلول 1937 على يد مسلحين عرب], طلبت الشرطة الإذن بتعذيب السجناء لسحب المعلومات منهم, وتم ضمان هذا الإذن عن طريق المكتب الاستعماري .
رفض العديد من ضباط الشرطة البارزين في القدس الاعتماد عليه وقد غادر أحدهم البلاد منذ ذلك الحين.(124). وادعى العرب أن ضباط الشرطة أخضعوا المشتبهين للضرب المبرح مما دفع هؤلاء بتقديم اعترافات كاذبة. وهكذا، "من أجل انتزاع ملفق منه, و نتيجة لهذه الطريقة [إجراءات التحقيق الشديدة والضرب] كان مجبراً تحت من أجل التغلب على هذه الطريقة الفظيعة ضد جسده وروحه لكي يعترف بأنه أعطى للإرهابيين الآخرين ذات مرة - قنبلة أو قنبلتين ومسدس " (125).
.....................
ملاحظات
العنوان الأصلي للمقالة : The Banality of Brutality: British Armed forces and the Repression of the Arab Revolt in Palestine 1936-1939
المؤلف: MATTHEW HUGHES
الناشر: English Historical Review Vol. CXXIV No. 507, pp. 314–354.(2009)
المترجم: محمود الصباغ



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القذافي والأسد والشرعية السياسية و إدارة أوباما
- الإرهاب اليهودي -الصهيوني و قيام دولة إسرائيل -5
- الإرهاب اليهودي -الصهيوني و قيام دولة إسرائيل -4
- الإرهاب اليهودي -الصهيوني و قيام دولة إسرائيل -3
- يوم أيوب؛أربعاء العطاء و الشفاء
- - الحاج- : حكاية الاستعمار و -دولة الحدود- 1
- العنصرية في لبنان:العنزة بتخلّف عنزة
- -مكبّعه ورحت امشي يُمّه بالدرابين الفقيرة-: ومن مثل الموسيقا ...
- الصهبجية:بين مطرقة الفن الهابط وسندان الزمن الجميل
- زفرة أبو عبد الله الصغير الأخيرة
- الدون كيشوت وتابعه سانشو في مخيم اليرموك(2)
- إسرائيل من الداخل:يهودية الدولة،والانقلاب الإشكنازي
- الإرهاب اليهودي -الصهيوني و قيام دولة إسرائيل (2)
- مولد الصورة في الوعي البشري :بورتريه غيفارا مثالاً
- على جدار النكسة: درس في اللجوء؛ -كفر الما-والبيان رقم-66-
- الإرهاب اليهودي-الصهيوني و قيام دولة إسرائيل(1)
- فلسطين الصهيونية: بين مجتمع مستوطنين ووطن قديم لشعب جديد : ا ...
- تلك اللحظة التي هرمنا من أجلها
- حلم ثورة لم تأت : The Company You Keep
- متعة كاهن


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024 / فهد سليمانفهد سليمان
- تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020- / غازي الصوراني
- (إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل ... / محمود الصباغ
- عن الحرب في الشرق الأوسط / الحزب الشيوعي اليوناني
- حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني / أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
- الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية / محمود الصباغ
- إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين ... / رمسيس كيلاني
- اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال / غازي الصوراني
- القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال ... / موقع 30 عشت
- معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو ... / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - تفاهة الشر: القمع البريطاني لثورة 1936 في فلسطين -1