سلمان رشيد محمد الهلالي
الحوار المتمدن-العدد: 6382 - 2019 / 10 / 17 - 00:24
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
رغم ان الدكتور علي الوردي – وبصفته ليبراليا ومحافظا – يكن للعهد الملكي في العراق (1921 – 1958) تقديرا ظاهرا وتبجيلا واضحا (وان كان لايخلوا من النقد المبطن) , الا انه من جانب اخر كان يحمل الكثير من الاحترام والاعتزاز لزعيم الجمهورية العراقية ورئيس الوزراء عبد الكريم قاسم (1958 – 1963) وهذا التقدير والثناء اتخذ صور شتى من العبارات والاوصاف , سيما تقديره لقضية الحياد السياسي والحزبي والايديولوجي الذي تميز به الزعيم قاسم (او ادعائه ذلك على الاقل) وسط طوفان الاحتراب والصراع والانقسام السياسي في البلاد عقب ثورة تموز 1958 واعلان الجمهورية العراقية . فقد اكد الوردي في كتابه (الاحلام بين العلم والعقيدة)(ان الرجل اعلن غير مرة انه فوق الميول والاتجاهات واعتقد انه صادق فيما قال . ولكني مع ذلك لااستطيع ان اعد موقفه هذا خاليا من الدقة والحراجة . انه ليس قائد حزب انما قائد بلد تتصارع فيه الاحزاب , وهو اذن معرض للحيرة اكثر من تعرض اي قائد حزبي لها , وكلما تاملت في حراجة موقفه هذا شعرت بالثقل الهائل الموضوع على عاتقه . ساعده الله انه لايستطيع ان يتجاهل اهمية الحماس الشعبي في تاييد الثورة التي تكاثر عليها الاعداء , وهو لايستطيع كذلك ان يجاري هذا الحماس الى الدرجة التي اندفع بها المتعصبون المتسرعون بين يديه من جهة . البلد يحتاج الى استقرار ومن جهة اخرى ثورة تحتاج الى تاييد ولابد للرجل من ان ينظر في هذه الجهة تارة وفي تلك الجهة تارة اخرى) . كما اثنى الوردي على الزعيم قاسم في خاتمة كتابه هذا بالقول(اني اشعر بالعجز في سياسية صف واحد من الطلاب حين يشتد الجدل بينهم فكيف بالرجل وهو يقود ثورة كبرى كثورة 14 تموز ,وفي مجتمع كالمجتمع العراقي . ومهما يكن الحال فاننا يجب ان ننحني رؤوسنا اعترافا بما وهب الرجل من مهارة في قيادة سفينة البلد بين هاتيك الامواج المتلاطمة) . الا ان المفارقة ان مدح الدكتور الوردي لشخص الزعيم عبد الكريم قاسم قابله نقدا صريحا وظاهرا لمرحلة حكمه التي تميزت – كما قلنا – بالصراعات السياسية والحزبية والايديولوجية بين التيارات الفكرية والتوجهات السياسية في البلاد اتخذ ابعادا خطيرة من الاحتراب التصفوي والاقتتال الدموي والانبعاث الشعبوي والغوغائي في المجتمع العراقي راح ضحيته الالاف من الاشخاص المتحزبين منهم والابرياء المستقلين , انعكس بصورة او باخرى على خلخلة مفهوم الدولة (الهش في الاساس) وبداية انهيارها التدريجي حتى سقوطها المريع عام 2003 . وقد اتخذ نقد الدكتور علي الوردي لمرحلة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم وما بعدها نقاط عده اهمها :
1 . نقد انطلاق النزعة الغوغائية والسلوكيات الشعبوية في العمل السياسي والصراع الحزبي في البلاد , والتي تميزت بالعنف والقتل والسحل في الشوراع للمخالفين والمنافسين الاخرين من اتباع التوجهات الاخرى , او من يشك بمعارضته للنظام السياسي الجديد . وقد صور تلك المظاهر والسلوكيات تفصيلا في الصفحات الاخيرة من كتابه (الاحلام بين العلم والعقيدة) وحلل بواعثها النفسية والاجتماعية والتاريخية تحليلا رائعا ومتميزا وصريحا كعادته في الموضوعية والجراة في طرح تلك الاشكالات والسلوكيات الغريبة والموتورة . وقد اكد الوردي (اشتد الصراع الحزبي عندنا هذه الايام واخذ كل حزب يشتم خصومه وينسب اليهم التطرف والطيش واقتراف الجرائم , وقد ضاعت الحقيقية العلمية في هذا الصراع العنيف . وفي رايي اننا ينبغي ان لانتمادى في شتائمنا الحزبية بحيث نغفل عما يختفي وراء الاحزاب من طبيعة اجتماعية , فالحزب الذي ينسب الاعمال الفظيعة الى خصومه لايدري انه هو نفسه قد يقوم بها - او بجزء منها على الاقل - لو سنحت له الفرصة الملائمة , فهو يعيش في نفس المجتمع الذي يعيش فيه خصومه , وهو اذن مصاب بنفس العلل التي اصيب بها من يعيشون في مثل ظروفه ) . وذكر الوردي ان القضية ليست قضية احزاب بقدر ما هى قضية مجتمع مازوم ومتخلف (انها ليست مشكلة احزاب بمقدار ماهى مشكلة مجتمع مريض تعاودت عليه الادواء والمصائب على مدى اجيال متعاقبة , ونحن اذ نهمل النظر اليها من هذه الناحية , قد نساعد في تكرارها في بلدنا مرة بعد مرة ) .
2 . نقد تغاضي المسؤولين الحكوميين والقادة الحزبيون عن تلك السلوكيات الشعبوية العنيفة وتبريرها واستغلالها لتصفية الخصوم وتاجيج الشارع وتعبئة الجماهير لصالح احزابهم وافكارهم . وبين الوردي ذلك صراحة بالقول (مما يلفت النظر ان بعض مفكرينا في عهد الثورة اخذوا يمتعضون من الاشارة الى الغوغاء اعتقادا منهم ان الغوغاء جزء من الشعب , او هم الشعب ذاته , وهذا خطا من شانه ان يؤدي الى عواقب اجتماعية ضارة . الواقع ان الشعب غير الغوغاء , فارادة الشعب تتمثل في القرارات الهادفة الرصينة التي تنبعث من مصلحة الاكثرية , اما الغوغاء فكثيرا ماتظهر اصواتهم بشكل هياج محموم لارادع له ولاهدى فيه) .
3 . نقد النزعة الانقلابية عند العراقيين . فقد ذكر الوردي (ان المرحلة الراهنة تميزت باحداث سياسية عنيفة . فقد تتابعت فيها الانقلابات والانتفاضات والوثبات يتلو بعضها بعضا ,فكان كل حدث من هذه الاحداث بمثابة مدرسة شعبية تحرك الاذهان نحو السياسة وتزيد من عدد المولعين بها . وبهذا اصبح المجتمع العراقي كانه ساحة نزال يتصاول الناس فيها بالمبادىء السياسية ...... وصارت الاحداث السياسية مجالا للتنفيس , حيث يستطيع الفرد بها ان يشبع رغبته في التذمر او يضع اللوم على فشله , لذا وجدنا الناس يفرحون بكل انقلاب يجري في نظام الحكم , فهم يتباشرون به ويهتفون له ويصفقون اعتقادا منهم انه يفتح لهم طريق الامل , فاذا مضت عليه الايام اخذ بريق الامل يتضاءل في اعينهم , فهم لم يصلوا الى ماكانوا يطمحون اليه , عندئذ يطلبون انقلابا جديدا . ومن هنا يصح القول : كل انقلاب يحمل معه بذرة نقيضه) . وبين الوردي ايضا ان من المستحيل نجاح الانقلابات السياسية في حل الاشكالات المستعصية التي يرزح تحت ظلها المجتمع العراقي (لان اي انقلاب مهما كان - ولو قامت به الملائكة - ليس بمقدوره ان يلبي مطاليب الناس جميعا , ولاسيما اذا اخذنا بنظر الاعتبار هذا العدد الهائل من ابناء الجيل الجديد الذين انفتح امامهم سبيل الترقي واشتد بهم الطموح نحو المعالي , لابد ان يشعر الكثير منهم بخيبة امل تجاه الانقلاب بعد فترة قصيرة او طويلة , فهم يرون غيرهم ممن هو دونهم في الاخلاص والكفاح قد وصل الى ماكان يطمح اليه , فلماذا لم يصلوا هم ؟) .
4 . نقد الصراع السياسي والحزبي المتطرف في العراق وانقسام المجتمع الى شيوعيين يساريون وقوميين متطرفين . فقد ذكر الوردي في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي)(ان الحدة في الوعي السياسي التي شهدناها في العراق لم تكن مقصورة على فترة الحرب العالمية الثانية , وهى لم تنشا بين ليلة وضحاها , بل هى قد نشات قبل ذلك ,ثم جاءت الحرب فعملت على توسيع نطاقها وعلى تركيزها في النفوس . وعندما انقسم العالم بعد تلك الحرب الى معسكرين متنازعين انعكس صدى النزاع في العراق ,فانقسم سكانه الى فريقين متعاديين ينهش احدهما في الاخر ويريد ان يشرب من دمه) . وقد عزى الوردي استفحال هذه الظاهرة الى طبيعة العراقيين الجدلية بقوله (لاشك ان هناك عوامل لعبت دورها في هذا الانقسام والتباغض , ولكني اميل الى الظن ان الزعة الجدلية التي ورثها اهل العراق من اسلافهم كانت من جملة تلك العوامل , ان لم تكن اهمها) . واكد الوردي انتقال هذه النزعة من الجدل الديني والمذهبي الى الجدل السياسي بقوله (ان النزعة الجدلية كانت قوية الاثر في المجتمع العراقي منذ زمن بعيد , انما هى كانت في الماضي مقتصرة على المواضيع الدينية , ولم يكن لها شان في السياسة الا قليلا ,فقد كان الناس حينذاك يتجادلون حول العقائد الدينية , وكل فريق منهم يدعي انه وحده صاحب الحق فيها , ثم اتي بالبراهين العقلية والنقلية لكي يدعم رايه . وعندما حلت المرحلة الراهنة بالعراق فانفتح بها النظام الطبقي وضعفت العقيدة الدينية في الجيل الجديد , اخذت النزعة الجدلية تتحول من مجالها الديني القديم الى مجالها السياسي الجديد) .
بل ان الوردي اكد مخاوفه الشخصية من تنامي النزعة الغوغائية بعد ثورة تموز 1958 في العراق بقوله (اود ان اصارح القارىء بقول قد لايرتضيه مني وهو اني كنت في العهد البائد – يقصد الحكم الملكي – اخشى من غضب الحكام , وقد اصبحت في العهد الجديد اخشى من غضب الغوغاء , وارجو من القارىء ان لايسىء فهم قولي هذا , فالغوغاء ظاهرة اجتماعية موجودة في كل مجتمع شهدنا اثرها في العراق كما شهدناه في مختلف البلاد والمجتمعات , وكلما اشتد الجدل في بلد ازداد خطر الغوغاء فيه) . ومن اجل ذلك وجدنا ان الوردي لم ينشر سوى كتابا جدليا واحدا خلال فترة حكم عبد الكريم قاسم وهو (الاحلام بين العلم والعقيدة) (وكتاب اخر غير جدلي هو منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته) , فيما سبق ان نشر خلال السنوات الاخيرة من الحكم الملكي خمسة كتب دفعة واحدة . والسبب كما ذكره ليس الخشية من السلطة القاسمية , وانما الخوف من الغوغاء المنضمين للاحزاب الثورية بشقيها الماركسي الشيوعي والقومي البعثي . وقد ظهر تاثير الاحزاب على السلطة في الغاء برنامج اجتماعي كان يقدمه الوردي في تلفزيون العراق عام 1960 بعنوان (انت تسال ونحن نناقش) , رغم انه حصل على الشعبية الاولى عند العراقيين في احدى الاستفتاءات الخاصة عن افضل البرامج التلفزيونية .
لقد وصف الدكتور الوردي في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) ماحصل في العراق بعد ثورة تموز (بالهزة) واكد ان تلك (الهزة نبشت من المجتمع العراقي ماكان مدفونا ,واوضحت ماكان غامضا ,وقد يصح القول بانها اعطتنا من الدروس بمقدار مااخذت من الضحايا) . وارجع الوردي بواعثها البنيوية واللاشعورية الى نوازع قديمة ترجع الى العهد العثماني . فقد اكد (ان الشعب العراقي في العهد العثماني يعاني تنازعا شديدا بين فئاته المختلفة , ولكن تنازعه ذاك كان قائما على اساس العصبية القبلية او البلدية او الطائفية ومااشبه , ثم مرت بعد زوال العهد العثماني فترة امدها اربعون عاما تقريبا ,والظاهر ان تلك الفترة لم تكن كافية لان ينسى الشعب تنازعه القديم , فلما حلت به الهزة في عام 1958 عاد الشعب يتنازع من جديد ..... وظهر التنازع الجديد وهو مصبوغ بطلاء من الشعارات والمبادىء الحديثة , غير انه كان في اعماقه يحتوي جذوره القديمة , وهو في الواقع غير قادر ان يتخلص منها , اذ هى كامنة في اللاشعور تحاول الانفجار عند سنوح الفرصة) .
واما الفريق عبد الكريم قاسم فكان يحمل من جانبه ايضا تقديرا كبيرا واعتزازا بالدكتور علي الوردي حتى انه اهدى له صورته الشخصية فيه توقيعه الشخصي ردا على اهداء الوردي لمجموعة من مؤلفاته للفريق قاسم . فقد ذكرت احدى الصحف العراقية انذاك نص الخبر الاتي (الزعيم الكريم يثمن مؤلفات الدكتور علي الوردي ويطلب منه المثابرة على الكتابة والتاليف ..... ارسل سكرتير رئيس الوزراء لشؤون الصحافة رسالة تثمين الى الدكتور علي الوردي صاحب كتاب الاحلام بين العلم والعقيدة وهذا نص الرسالة : الاخ الدكتور علي حسين الوردي – بغداد .... تحية عاطرة لاستاذي العزيز : تلقى سيادة الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء ببالغ الغبطة والسرور هديتكم مجموعة من مؤلفاتكم النفسية الرائعة , وفي الوقت الذي يشكر لكم فيه سيادته شعوركم النبيل ويقدر عواطفكم الكريمة التي تفيض وطنية واخلاصا , فانه يتمنى من اعماق قلبه ان تزيدوا في جهودكم الادبية لبناء صرح كياننا الجمهوري الخالد ومايتطلبه من التجديد في العادات والتقاليد التي يجب ن تسير جنبا الى جنب مع الحرية وانطلاق التفكير . انتهز هذه الفرصة لاقدم لكم احترامي والشخصي مشفوعا بتمنياتي الصحيحية (كذا) راجيا لكم النجاح المطرد في مساعيكم وانتم تنعمون بحلل السعادة والرفاه تحت ظل جمهوريتنا العزيزة الخالدة . ارسل اليكم نسخة من تصوير سيادة زعيمنا البطل الغالي مذيلة بتوقيعه عربونا لمجهودكم الفكري , وتفضلوا بقبول فائق الاحترام . الرئيس سعيد الدوري سكرتير رئيس الوزراء لشؤون الصحافة) .
#سلمان_رشيد_محمد_الهلالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟