أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - تل المطران...















المزيد.....



تل المطران...


صباح هرمز الشاني

الحوار المتمدن-العدد: 6378 - 2019 / 10 / 13 - 16:51
المحور: الادب والفن
    


وأنا أقرأ هذه الرواية، لمعرفتي لخلو سهل نينوى من مدينة بأسم (تل المطران)، ولوجود دير قريب من مدينة ألقوش، يعرف بأسم القديس (ربان هرمز)، سرعان ما ترآى لي بأن أحداثها، تجري في هذين المكانين. ولكن بحكم تعامل المؤلف مع عمل فني وليس وثائقي، وتحاشيا لوقوعه بالمباشرة، فقد أرتآى أن يستنتج المتلقي بنفسه المدينة التي تجري فيها أحداث الرواية، أو يتخيلها. وذلك بين واحدة من المدن الثلاث التي يأتي على ذكرها والقريبة من مدينة الموصل، وهي القوش وبطنايا وتلكيف، وشخصيا أميل الى أن الأحداث تقع في المدينة الأولى، لذا فإن مدينة الموصل هي في الرواية، أغلب الظن مدينة ألقوش، حسب ما جاء في وصفها من قبل السارد، وتخيلي لها، وهكذا بالنسبة لتل المطران كذلك، هي دير ربان هرمز، إنطلاقا من السببين ذاتهما. وهذا ما يتأكد في نهاية الرواية، وذلك بعد أن يستيقظ السارد من حلمه الطويل الذي تجري فيه أحداث الرواية، ويفقه أن لا وجود في سهل نينوى لمدينة بأسم تل المطران، وإنما ثمة فندق بهذا الأسم في مدينة الموصل، وكان هناك مدينة أسمها تل مطران، أو تل مطيران، وهي في الحقيقة لم تكن مدينة، بقدر ما كانت حامية انكليزية، وقد دمرها الانكليز في الثلاثينيات، وهجرها أهلها الى القرى القريبة كالقوش وبطنايا وتلكيف. والمؤلف حين يأتي على ذكر المدن الثلاث، إنما يذكرها بقصدية، لوجود دير ثاني الى جانب دير ربان هرمز، القريب من هذه المدن وهو دير مار متي، في إشارة واضحة الى وقوع أحداث الرواية في واحدة من هذه المدن، وأحد هذين الديرين: ( الى مدينة ترقد على خاصرة الجبل، هذه هي مدينة تل المطران).
وبناء على هذا الفهم التأويلي لعنوان الرواية الذي لو جاء تحت عنوان (نخرايا) وهذا ما سأتطرق اليه لاحقا لكان أكثر إنسجاما مع المتن الحكائي للرواية. أقول بناء على هذا الفهم التأويلي لعنوان الرواية وأماكن وقوع أحداثها المبني على التزاوج بين الواقع والخيال من جهة، وبالتعويل على النبوءة والتنجيم وقراءة الكف من جهة أخرى، فقد حذا السارد (الغريب= نخرايا) الذي ينوب عن المؤلف بعملية السرد على خطى ضابط الأوركسترا، أو اللحن الموسيقي الذي تبدأ كل نغمة من نغماته الموسيقية بقرار وتنتهي بجواب، وعلى غرار السمفونيات الموزعة على مجموعة من الحركات. يبدأ القرار الأول في هذه الرواية من نقطة إلتقاء السارد بصافيناز وينتهي في الجواب المتمثل في إتخاذ السارد بقرار السفر، بينما تبدأ الحركة الأولى من النقطة نفسها التي ألتقيا فيها السارد وصافيناز، وتنتهي بدخول السارد الى مدينة تل المطران. ويبدأ القرار الثاني من سفر السارد الى تل المطران، وينتهي بممارسة الجنس. والحركة الثانية تبدأ من الفوضى التي يحدثها السارد في سوق المدينة، جراء خوف أهلها منه، كونه نخرايا، وخوفه هو منهم أيضا الى ممارسة السارد العملية الجنسية مع شميران، والحركة الثالثة من نهاية الحركة الثانية الى مصرع القس على يد السارد وهروبه من البيعة.
يعمد السارد في تكوين هذه النغمات لبناء معمارية روايته الفنية الى لفت الإنتباه عبر القرار الذي يثيره الى وجود مثلب ما في الحدث أو الشخصية، معبرا عنه عن طريق الرمز، ومنهيا إياه بجواب، يفوق القرار بتصاعده نحو إشتداد المثلب. وهو بهذه التقنية التي تعتمد على التمهيد والتذييل، إنما يوظف تقنية ثانية الى جانب تقنية القرار والجواب، ألا وهي الإيحاء، كما في بداية الرواية، عندما يدخل السارد المكتبة: (ليواجهه الخشب المخرز بلون اليود، يشيع في المكان فضاء من الدفء والرائحة النفاذة، ليحس كأنه يعوم تحت غطاء صمغي كثيف أسدل على عينيه رؤية مضببة). وهذه الجملة القرارية، إشارة واضحة الى لقاء السارد بصافيناز أوغلو التي (أذعن لها)، كما جاءت على لسانه في الجملة اللاحقة جوابا لها:( إذعان من يغمض عينيه منتظرا الموت برقة). ولكن جواب هذا القرار لا يبلغ ذروته إلآ في الإيحاء الذي تتنبأ فيه صافيناز للسارد الى قتل القس، من خلال تحذيره من المرأة التي تأتي متأخرة، (في إيماءة الى شميران)، (وتخفي تحت عباءتها سكينا صغيرة). أو كما في الجواب الذي يليه، وهو (يشعر بشخص يراقبه، وحين يلتفت، يرى صبية في العشرين من عمرها ترتدي معطفا شبيها بعطف صافيناز)، في إشارة الى إيلين زوما التي خدعته بتظاهرها بالنوم، أثر إنتهائها من سرد حكايتها المأساوية له، بإضاءة النور في غرفتها بعد ان غادرها، مثلها مثل صافيناز التي خدعته بإرساله الى تل المطران، بالإضافة الى خشيته من شخص آخر يتبعه، خوفا من أن يطعنه بسكين، في إيحاء آخر الى تحذير صافيناز من سكين شميران، وممارسة الجنس معها:( فأنحسر السائل الاسود الذي يشكل كلسون المرأة وحمالة نهديها وأصبحت عارية تماما، وضحك بوجهه الصغير في الظلام ضحكة شيطانية).
إن الحركات الثلاث في الرواية، تمر بمجموعة من المراحل النغمية التي تتسم بالقرار والجواب التي لا يتحقق الهدف المنشود من كل حركة من حركاتها إلآ عندما تبلغ ذروتها، لا من حيث أهميتها فحسب، وإنما أيضا من حيث إشتراك نهاية الحركتين الأولين بصفة واحدة، وهي ممارسة الجنس، وبداياتهما بالفوضى التي تتركها فعل الشخصيات وأحداث الرواية. في الحركة الأولى بهروب أهالي مدينة تل المطران من السارد، وفي الحركة الثالثة بالعكس، بمطاردة أهالي المدينة للسارد. في الأولى خوفا منه، والثانية، خوفا منهم. تهرب أهالي مدينة تل المطران من الغريب، لأن الكلدان يخشون من الغرباء، إنطلاقا من نبوءة لفتاة كردية مؤداها: حين يأتي الغريب ويموت القاشا عيسى اليسوعي سيظهر النبي المخلص. ويهرب الغريب منهم لأن شميران تخرج الى الملأ وتعلن أن الغريب قتل القس.
ولو تابعنا التموجات التي تمر بها الرواية في نزولها وصعودها بين القرار والجواب، وعلى نحو خاص من لحظة دخول السارد الى الموصل، لوجدنا أن الإيحاء الى ما سيحدث، غالبا ما يقترن بالرمز، وبالإعتماد على التقلبات الجوية، ذلك أن لدخول السارد مدينة تل المطران دلالته وأهميته في آن، دلالته لما سيأتي به من شر، وأهميته لتحقيق نبوءة الفتاة الكردية. تمر هذه الحركة وهي الحركة الأولى في الرواية بثلاثة قرارات يقابلها ثلاث أجوبة. ولأننا سبق وأن أشرنا الى القرار والجواب الأولين، فما يهمنا هنا هو القرارين والجوابين اللذين يأتيان بعد دخول السارد الى المدينة، تحقيقا للحركة الأولى في الرواية.
يبدأ القرار الأول بوصف الطبيعة في كل ما تحتويها من الأرض والسماء والفضاء والشارع والقرى، بما يوحي الى عدم إستقرار الجو، من حيث إنقشاع الضباب، وتلبد الغيوم، والفضاء الرمادي، لتأخذ وتيرة القرار بالتصاعد بشكل تدريجي، إستعدادا للإنتقال الى المرحلة الثانية منه، وهي بروز علامات عدم إستقرار الجو من خلال شروع (الغيوم بنث مطرها الخفيف حتى أصبح الشارع الأسفلتي زلقا). وكلاهما القرار والجواب يتساويان بالمراحل التي يمر فيها كل منهما، وهي ثلاثا. في المرحلة الأولى من الجواب. طفق: (المطر ينهمر بقوة حتى تحولت السماء الى خراطيم من الماء، فاخذت الشاحنة تخوض في ضحضاحه خوضا، ثم أندفعت المياه نحونا فأراعني هول تفجرها وعنف تدفقها وإندفاعها المخيف. . .). وفي المرحلة الثانيةL تنعدم الرؤية، ويطلع ضياء قرمزي براق، ما يؤدي بالسارد وسائق الشاحنة أن يطلقا صرخات ذعر مبحوحة). وفي المرحلة الثالثة، تنفذ ببلوغ ذروتها عن طريق الجنس. أي بطريقة تختلف عن الجوابين الأولين، ولا تأتي بطريقة مباشرة، وإنما بإستخدام أسلوب الإستعارة من خلال ممارسة الجنس مع الطبيعة، في إشارة الى ممارسة الجنس مع شميران، لبيان أن ما حدث من فوضى كونية على طريق تل المطران، كان بسبب شميران، في إيماءة الى تحقيق نبوءة صافيناز أوغلو من تحذيراتها من شميران: ( . . . كنت أحاول إختراقها والتوغل فيها بجسدي كله، كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها الطبيعة وهي عارية تفتح فخذيها وتتنهد، وكنت أشعر بالإنتصاب الذي يجتاح كل جسدي ولم تكن لي سوى رغبة واحدة هي أن أقذف بنفسي من زجاجة الشاحنة وأرتمي هنالك ميتا عاريا وأخوض في الطبيعة، أخوض في ضحضاحها هزات عنيفة متتالية ثم أسكن).
وإذا كانت الحركة الأولى والثانية تبدآن بالفوضى وينتهيان بالجنس، فإن الحركة الثالثة تبدأ بالجنس وتنتهي بالهروب، أي بعكس الحركة الأولى والثانية، فقد بدأت الحركة الثالثة بالجنس، بينما الحركتان الأولى والثانية بالفوضى، لتحذو حذوهما، ولكن ليس بشكل متسلسل، بل بما يمنحانه من مضمون في الجنس والفوضى.
بفعل الحركات الثلاث التي أستطاعت أن تبث الفوضى والجنس في بداية ونهاية كل حركة من الحركات الثلاث للرواية، وبتأثيرها على الفوضى والجنس الناجمين عنهما، أفرزت الرواية أجواء وأحداث وشخصيات غريبة وغير مألوفة. إبتداء من شخصية السارد الذي قبل بسهولة مزاولة مهنة تعليم الأطفال في تل المطران، وبالحدث الذي باغته في سوق المدينة، أثناء هروب الناس منه، مرورا بشخصية القس خوشابا المتخمة بأفكار متطرفة وعدوانية، بعكس الرسالة التي تنشدها ديانته تماما الداعية الى السلام، وإنتهاء بشخصية شميران الميالة الى نزعة التآمر لتخون من أجل السلطة والمال، ليس صديقيها المقربين السارد والقس فقط، وإنما أهالي المدينة أيضا، بإعلانها عن قتل القس من قبل السارد.
بقدر ما يبدو قبول السارد بسهولة مزاولة مهنة التعليم في تل المطران، مسألة غريبة، لخروج صافيناز أوغلو بنتائج سيئة تنتظره، وتحذيره إيلينا من صافيناز، كونها إمرأة خطيرة، بالقدر نفسه يبدو قبول شخص ما من غير الديانة المسيحية التعليم في الكنائس، مسألة غريبة أيضا، لوجود من أبناء الطائفة الكلدانية وفرة من الشباب القادر على تعليم اللغة العربية. كما أن المختار وهو جد شميران، يرفض الإستعانة بغير المسيحيين للتعليم في بلدتهم، ذلك أن أبنته التي هي أم شميران، تسبب أحد المعلمين من الذين ينتمون الى الديانة الأسلامية قبل واحد وعشرين عاما بمقتل والدتها. ولكن لأن لعبة المؤامرة لا تكتمل وتعد ناقصة بإنسحاب الغريب منها، بالرغم من مخاوفه الشديدة من عواقبها الوخيمة، إلا أنه يخوض غمارها تحت هذه الذريعة ويتواصل معها الى النهاية. وكلا المنحين، منحى صافيناز ومنحى السارد، يتسمان بالتناقض، الأول بتزكية السارد في أول لقاء معه، والثاني في إتخاذ قرار السفر لتعليم أطفال تل مطران، ومعرفته المسبقة بخطورة صافيناز. ولا تتوقف غرابة الأحداث والشخصيات عند هذا الحد، وإنما تمتد الى خوف وهلع أهل مدينة تل المطران من السارد الغريب أثناء دخوله فيها، بمسوغ أن الكلدان يخشون الغرباء كما يخشون الموت، إنطلاقا من نبوءة لفتاة كردية قالت: حين يأتي الغريب ويموت القاشا عيسى اليسوعي سيظهر النبي المخلص. كما أن حض صافنياز أوغلو للسارد لتعليم اللغة العربية لأبناء تل المطران وتزكيته من أول لقاء به، ودون أن تعرف أي شيء عن ماضيه، يثير أكثر من سؤال، سيما أن الكنائس المسيحية معروفة بحذرها في تعاملها مع الغريب، وخاصة إذا كان هذا الغريب من الديانات الأخرى. ولكن سرعان ما يجلو مصداقية إثارة هذه الأسئلة، لتحل محلها المخاوف، عندما تخبر ليليان السارد، بأن صافيناز أوغلو إمرأة خطيرة. . .
إبتداء من هذه الجملة تتضح حبكة الرواية القائمة على المؤامرات، بالإستناد الى مقولة قاشا التي مؤداها: (كل شيء يعود بعد أن ينجز دورته.). وإذا كان القس خوشابا على رأس المتآمرين، فإن شميران والسارد هما أول المتنفذين لها، وصافيناز أوغلو في مطلع من أشعل فتيلها، وساهم أهل المدينة في حياكة هذه المؤامرات بوعي أو دون وعي منه، من خلال الإنصياع الذليل لتقاليد الكنيسة وكل ما تأمر به بدون نقاش أو ردة فعل، والتشهير بسمعة إيلين زوما. وتجري أحداث حياكة هذه المؤامرات، كما لو كان قد خطط لها مسبقا وبدقة متناهية من جميع الأطراف، بما فيهم أهل البلدة، بإستثناء إيلين زوما الضحية، وتشترك كل شخصيات الرواية في تنفيذها إنطلاقا من مصالحها التي تختلف وقد تتفق مع مصالح الشخصيات الأخرى. فمصلحة القس خوشابا في الإعلان عن موت الأب عيسى اليسوع لأهل المدينة، هو بهدف ظهور النبي، متجسدا في شخصيته، والإستيلاء على السلطة، للقضاء على نصف البشرية، تحقيقا لآرائه المتطرفة. بينما تسعى شميران الى الحصول على الكنز المخبأ لدى جدها، والسارد على جزء من هذا الكنز بالإضافة الى جسد شميران. وهكذا أيضا بالنسبة لأهالي المدينة البسطاء، إبتداء من زيا خوري وشقيقه يوسف، مرورا بجولي والصبية الأرمنية، وإنتهاء بفريدة وتيمور وإيلين زوما.
ويمكن إعتبار إرسال السارد (الغريب) من قبل صافيناز أوغلو الى تل المطران لتعليم الأطفال، تحديدا الى عيسى اليسوعي، مع أنها لابد تعلم بمرضه البالغ حد الإحتضار، لكونه قريبا منها، أنموذجا لهذا التناقض، وما يزيد من حجم التناقض، كتابة رسالة اليه، تزكي فيها السارد لقبوله معلما لأطفال تل المطران، بالرغم من أنها كما كانت على علم بمرضه، وعلى معرفة تامة برفض عيسى اليسوعي لتعليم أطفال تل المطران من قبل غير أبناء الديانة المسيحية للأسباب الآنفة الذكر، وهي تقول له: ( لي صديق يرعى بيعة الكلدان الكاثوليك في مدينة تل المطران، الأب عيسى اليسوعي هل تعرفه كان صديقا للأب لويس شيخو صاحب مجلة المشرق في بيروت. كان قد طلب مني ان أهيء له معلما أو كما يقولونها هم بالسريانية رابي لتعليم أطفال تل المطران اللغة العربية ماذا تقول؟
لبروز معالم المؤامرة أكثر وضوحا، عبر تحقيق صافيناز هدفها بإرسال السارد الى تل المطران بالتعويل على إختلاق مسوغات لا تستند الى الواقع، يطرح هذان السؤالان نفسيهما بإلحاح للتأكيد على هذا التناقض:
- ترى كيف وبأي طريقة طلب الأب عيسى اليسوعي من صافيناز أن تهيء له معلما، وهو ضد تعليم أطفال تل المطران من غير الديانة المسيحية، لمروره بتجربة أليمة لا يرغب أن تتكرر مرة ثانية؟
- هل من المعقول أن صافيناز لا تعرف بأن الأب عيسى قد بلغ به المرض حد الإحتضار، وأن مواجهته صعبة، بدليل أن الغريب لم يلتق به إلا وقد أشرفت الرواية على نهايتها تقريبا؟ وعل الأغلب فإن القس خوشابا قد أخر لقاء السارد باليسوعي، بالإتفاق مع صافيناز ليباشر بأداء وظيفته.
والشيء نفسه ينطبق على التناقضات القائمة في شخصية القس. ففي الوقت الذي يظهر فيه القس مطلعا على مختلف الأجناس الثقافية من كتب الأدب والفن والفلسفة واللاهوت، ويكتب الشعر، يتسم فكره بآراء متطرفة وعدوانية تجاه البشر، وهذا ما يكاد أن ينسحب الى شخصية شميران، فهي في الوقت الذي تسعى فيه الى قتل القس، تتفق معه في بعض آرائه، كما أنها في الوقت الذي لجأت فيه الى يوسف ليلعب سحره في إجتذاب الغريب اليها، تخونه بإعلانها في قتله للنبي.
يتبع السارد الذي ينوب المؤلف عملية السرد، تقنية التمهيد والتذييل في كل تناقض يواجه الشخصية. فقد أستخدم الفضاء الداخلي والفضاء الخارجي، قبل لقائه بصافيناز أوغلو، أي فضائين متناقضين، وعلى شاكلة أحداث وشخصيات روايته. البرودة والمطر في الخارج، والدفء الذي يغمر الداخل. الخارج تمثل الأحداث، والداخل تمثل الشخصية. وبشكل اوضح، أن السارد يجهل ما ستصادفه من أحداث، ولكن رغم ذلك فهو جذل ومنتشي: ( وما أن كنت منغمسا في هذا المشهد حتى شعرت بشيء غريب هيمن على المكان بأسره ، كانت هناك إمراة في الأربعين من عمرها، أنسلت من شمال العارضة الخشبية مخترقة مقصورة الإستعارة. . . ). وبعد اللقاء بها على التناقض أيضا المبني على الخوف من العمل في تعليم أطفال تل مطران، يقابله الشعور بعدم قدرته على رفض هذا العمل: (لا لأني لم اكن قادرا على مواجهة هذه الإرادة التي تدفعني بقوة نحو شيء مرسوم في يدين وملتصق بها مثل خط من التيزاب). وتقنية التمهيد والتذييل مثلما يعتمدها السارد في لقائه مع صافيناز، يعول عليها كذلك أثناء دخوله مدينة تل المطران وخروجه منها، ولكن في هذه الحالة، عبر غرابة الحدث، وليس من خلال التناقضات التي تواجه الشخصية، تحديدا أثناء مروره بالسوق الصغير الذي يتوسط ميدان المدينة، حيث يدب الخوف والهلع في نفوس الذين يشاهدونه لينقلب السوق الى فوضى عارمة، موظفا اللقطة السينمائية في تجسيد هذا الحدث الإستهلالي للإيحاء بتحقيق نبوء الفتاة الكردية.
التمهيد:
( في الواقع كانت هذه الشابة السريانية قد فاجأتني بذعرها، فأضطربت وبدأت أتقدم نحوها لتهدئتها، إلا انها أرتدت أمامي الى الخلف، ثم تعثرت بالحبل الذي ربطت به التصاوير وأدوات الزينة فقلبت القفص وفر منه الدجاج مذعورا، وحين رأت فرار الدجاج زعقت بصوت مبهم بالسريانية وهربت. وفي تلك اللحظة أنضم بغلها الى هروبها وجر الحبل بذيله وسحل قفص الدجاج على الأرض، وعندما قطع الساحة من منتصفها أضطربت السخول قالبة قوارير العطر وعلب مساحيق الزينة، فأنتقلت الفوضى الى السوق بأجمعه. . . ). ص50.
التذييل:
( كل شيء مضبب في ذهني ولا أستطيع أن أتبين بوضوح، ولكني أعرف أن كل شيء حدث مثلما حدث في المرة الأولى مع تغير طفيف في التفاصيل، كل شيء يعود مرة أخرى بدورته ، لكن بشكل مختلف عن المرة الاولى. . . ).ص 363.
الى جانب تقنية الحركة الموسيقية والغرابة في الأحداث والشخصيات وتناقضها، أستخدم السارد تقنية الإيحاء بشكل ملفت للنظر. و بغض النظر عن تحذيرات صافيناز للسارد التي تتنبأ فيها، لما سيواجهه في مدينة تل المطران، وتعد هذه التنبؤات بمثابة إيحاءات أيضا، فإن أول إيحاء يأتي في الرواية، يطرح بصيغة السؤال من قبل المسز نادر على السارد للدلالة على صحة توقعها في عودته من تل المطران سالما: (ما رأيك أن يكون تأريخ إرجاعه لدى عودتك من تل مطران؟). أما الإيحاء الثاني يأتي على لسان ليليان، وهي تقول له ) : أنك لن تستطيع الحياة في البرودة دون إمرأة) في إشارة الى علاقته بها، والعلاقة التي ستربطه بشميران. ويرد عليها: ( ومن قال سأبقى دون إمرأة ) للتأكيد على إقامة هذه العلاقة. بينما توحي الفتاة التي صرخت في وجه السارد وهي تدفعه بيدها في مستهل دخوله سوق المدينة، ولاذت بالفرار الى الشارع، الى الشر الذي سيحل بالمدينة. وجملة:(كان أحدهم يجثو على ركبتيه أمام أيقونة موضوعة في المدخل، يتوسل ويستنجد مشيرا إلي بيده اليمنى، ثم يشبك يديه الى الأعلى ممسكا بمسبحته)، تدل الى أن هذا الشخص يدعو الله أن ينقذ أهالي مدينة تل المطران من شر الغريب القادم. معززا هذا الإستدلال بجملة:( وكان الجمع وراءها بملامحه المذعورة الباكية). كما أن الراهب الواقف وراء الراهبة ويرمق السارد بنظرات ثابتة واثقة)، تدل الى المعنى ذاته. والفتاة التي تقف خلف الراهب وترمقه بعينين خضراويين، الى الإنجذاب اليه، في إشارة مبطنة الى أنها (شميران). وتتطور هذه النظرة في الجملة اللاحقة الى إهتزاز الشفتين، ليتغير المعنى من الإنجذاب الى التهيؤ للجنس. وتعبر تنهيدتها في مكان آخر وهي تنظر نحوه عن المعنى السابق نفسه. وتوحي الإبتسامة الماكرة للقس وهو يضحك ويدير رأسه الى جهة الحجرة التي تسكنها (جولي)، بعد أن رفع علكة صغيرة ورماها في المنفضة وقال:( للمرة الأولى تترك جولي علكتها. . .) الى مغازلتها للسارد، في سعي منها لإغوائه. كما أن جملة:( جلست الى جانبي، خلعت العمامة من رأسها /ويقصد شميران/ وهزت شعرها الذي انسدل على الأكتاف فتلامس كتفانا برقة. . . ) توحي الى المعنى ذاته. أما إخبار يوسف خوري السارد بأن شميران تحبه وحين ينام معها ستحبه أكثر ويوم بعد يوم ستغلي شرورها حتى تقتله. إذ بالرغم من أن هذه النبوءة تتحقق، من خلال سعي شميران في قتل السارد من قبل أهالي المدينة، غير أن سعيها هذا لم يفلح، لهروب السارد قبل أن تلحق به الجماهير الثائرة. وتصب جملة يوسف خوري وهو يناول السارد قطعة خبز ممسوحة بدم من حيض شميران قائلا له:( إذا أكلتها لن تقتلك شميران وإذا لم تأكلها سوف تقتلك) تصب بالإتجاه ذاته للجملة السابقة، ذلك أنه تناولها من يد يوسف وقضمها بسرعة. والصورة التي يراها السارد في غرفة شميران ويشبهها بصورته، بينما هي صورة والدها، توحي الى أن كل شيء يعود بعد أن ينجز دورته، كما يقول القس خوشابا. في إشارة الى قتل القس وهروب السارد.
وبموازاة نفور أهالي تل المطران من السارد، وعلاقته بالقس وشميران، بالإضافة الى جولي والصبية الأرمنية، تجلو بالمقابل أحداث أسرة زيا الخوري وزوجته إيلين زوما من جهة، وأسرة تيمور وزوجته العاهرة فريدة من جهة أخرى، أقول (أسرة) لأن تيمور يتزوج فريدة فيما بعد.
إن وجود الأسرتين بشخصياتهما الأربع في خضم أحداث إشتعال نار الفتيل بين السارد والقس وشميران، لم يأت عن فراغ، وإنما لإجراء وجه المقارنة بين موقف زوجي فريدة وإيلين زوما، من مسالة الخيانة الزوجية، مع أن الثانية ليست كذك، إلآ أن دعايات الناس، ربما لكونها جميلة بشكل غير طبيعي، وأحبها الكل ولم تحب سوى زوجها، روجوا لها غدرا بعلاقتها تارة مع شقيق زوجها وتارة أخرى مع وردة، ما جعل زوجها يقتنع بهذه الدعايات، الأمر الذي يؤدي به الى قتلها. بينما يعرف تيمور قبل أن يتزوج فريدة، أنها لا تخونه مع السارد فقط، وإنما هي عاهرة تمارس الجنس من أجل الحصول على المال، ومع أي كائن كان، ورغم ذلك فإنه يقبلها كزوجة له.
أما لو قارنا خيانة شميران مع خيانة فريدة، فإننا نلاحظ إن خيانة فريدة مع تيمور، قياسا بخيانة شميران مع القس والسارد وأهل البلدة، لا تساوي شيئا، ذلك أن خيانة فريدة قد تكون لها مبررات، تتمثل في العوز المادي، بينما شميران بالعكس تعيش في منتهى الرفاهية، كمعلمة للأطفال، وحفيدة القس عيسى اليسوعي الذي يخفي في قصره، خزينة من الثروات التي ستعود ملكيتها اليها بعد موته. وها هي تمارس الجنس مع السارد على القطع الذهبية. ولعل تأييدها لبعض آراء وأفكار القس الفلسفية، جعلا من خيانتها تبلغ حدا من الصعب وصفها، وهي تدلي بهذا التصريح الخطير للسارد لتكشف عن نيتها المبيتة تجاه القس، وعن فكرها الإرهابي:(أفكاره كبيرة وأنا أحترمها وأرى أن نتبعه وفي الوقت ذاته أن نحوله لصالحنا لا أن يولينا الى صالحه). لقد خانت القس لئلا يرتقي الى مستوى النبوة، وخانت السارد لأن النبوءة الكردية لا تتحقق إلآ من خلاله.
إن ما يروم المؤلف من خلال هذه المقارنة التأكيد عليه، هو أن المجتمعات الصغيرة والمغلقة على نفسها، كمجتمع تل المطران، أقل عرضة للتطير الأخلاقي من المجتمعات الكبيرة كمدينة الموصل، ولكنها في الوقت نفسه أكثرعرضة للدعايات، وذلك بفعل الكبت والتخلف المستتشرين فيها، ولعل نصيحة القس خوشابا للسارد من الإبتعاد عن نتانة العامة، هي دفاعا عن إيلين زوما في كونها ضحية، وتعرية عن زيف المجتمع وتخلفه، وما يؤكد ذلك هو ورود هذه النصيحة، بعد تعليقه على العلكة التي تركتها جولي في المنفضة. وربما كانت نصيحته هذه للسارد لكي يتجنب شميران أيضا لأنه في اللقاء ذاته يحاول إبعاد السارد عن الدير، حيث تعيش شميران وهو يقول له:( لقد تدبرت أمر سكنك في شارع النبي دانيال، ستذهب هناك. يناسبك المكان بشكل أفضل). صحيح أن القس يهدف بالحثالة السوقة والنشالين والأغبياء، ولكنه في مكان آخر لا يستثني أي فرد في المجتمع دون أن يكون كذلك، وهو يقول:( لم يعد هناك نخبة إنما غوغاء، والمجتمعات كلها من الحثالة العامة.
وفي هذا اللقاء مع السارد الذي حوله القس الى حوار فلسفي مع نفسه، كمن لا وجود أو لا صوت للسارد، ما عدا صوته الذي لا يخلو من الآراء السياسية المتطرفة، وقوعا تحت تاثير هولاكو وبسمارك، يكشف عن قبح ما هو مستور تحت ردائه الأسود من قمة رأسه الى أخمص قدميه، وهو يوجه السارد لأن يكون وقحا وجافا وقويا وساخطا ولا مباليا مع الحثالة، أي المجتمع كله، أو كما يقول هو : ( لنعود الى زمن الإرهاب الإرستقراطي الى زمن التغطرس). منهيا حواره الإنفرادي الأقرب الى الخطاب والمنولوج الداخلي بجملة:( علينا ان نتخلص من نصف البشرية).
ترى هل إن شميران هي من ضمن نصف هذه البشرية ؟!
سؤال يطرح نفسه بحكم علاقة المصلحة التي تربط بينهما، وهذا السؤال يشمل أيضا أهالي المدينة الذين فروا فزعا من السارد، أثناء دخوله سوق المدينة، في كونهم متخلفون، وكذلك يشمل الذين روجوا لخيانة إيلين مع زوجها، بإعتبارهم يعانون من الكبت الجنسي. فإذا كان الحال كذلك، فلا واحد من أهل المدينة يبقى على قيد الحياة، ما عدا شخص واحد، ألا وهو القس فقط.
وحلا لإشكالية فلسفة القس الإرهابية بالقضاء على نصف البشرية لتبقى الفئة النخبوية منها على وجه الأرض فقط، بمسوغ أن الحثالة هي التي باتت تحكم المجتمع. بالأحرى لمواجهة هذه الإشكالية وأفكار القس، فقد جاء السارد بشخصية بسيطة، وهي إمرأة جميلة في الثلاثين من عمرها، تبيع في دكانها الصغير الكيمر والمربى، جاءها ليبرهن أن كل فلسفات الأرض ونظرياتها وكل ما كان يتحدث به القاشا من تنوير، لا يعادل كلمة العافية ببساطتها وعفويتها التي قالتها له أثناء تمتعه بفطوره الصباحي، جاء بها، ليجري مقارنة بين كلمة العافية التي نطقتها هذه الفتاة باللغة السريانية، وبين الخطاب الذي القاه عليه القس وهو يتمتع بلذة عارمة: ( كاد أن يغمى علي من الفرح، وكنت أشعر بنوع من الحبور أمام هذه الكلمة البسيطة (بالعافية) الخارجة من القلب، كنت أشعر بنوع من التحليق أمام هذا المشهد العذب بكل بدائيته وطرافته. . . كنت عاجزا عن الرد ، بل كانت لدي الرغبة أن أتدحرج على الأرض أمام هذه السريانية وأموء لها مثل هر، كانت لدي رغبة لا تقاوم بأن أتحول الى شخص آخر، شخص يتحسس كل شيء بنبضه وروحه، كانت لدي رغبة ان أوقف هذا التبلد الذي يغلف الإنسان ويجعله مثل البغل يأكل الشعير دون الشعور بجمال الوادي الذي أمامه وقد تصاعد منه البخار). وما زاد من جمالية هذا المشهد وتكوينه هو إتباع تقنية الإستهلال والتذييل فيه، حيث جاء عقب الحوار الدائر بين السارد والقس مباشرة.
كما أن شخصية إيلين زوما الى جانب شخصية بائعة الكيمر والحلوى، تعبر عن النموذج العفوي الذي لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تخون زوجها، بل بالعكس، إذا تطلب الأمر تضحي من أجله، وهذا ما فعلته عندما أستسلمت بهدوء، مثل ديدزمونة لعطيل لطعنات سكين زوجها. وهي بهذه التضحية، تتصدى للشر والإرهاب، وتناصر الخير والإنسانية ضد أراء وأفكار القس المقيتة. ومثله مثل مشهد بائعة الكيمر والمربى، يُستخدم فيه تقنية الإستهلال والتذييل، من خلال تفكيره بالبائعة (بياتريس)، على أساس الجمال التي تتمتع به إيلين، وعلاقاتها المشبوهة كما عرف أكثر من مصدر. إذ بوجودها كان يشبع رغبته، قبل إلتقائه بإيلين زوما، بالتعويل على اللقطات السينمائية القريبة الى أفلام المطاردة، وذلك عبر متابعة إيلين زوما له، آخذا بالسير وراءها، بعد أن عرف أن خطواتها تقصده، وقد كتبت له رسالة على الثلج، تطلبه فيها أن يتابعها لأمر هام معه. وأثر إستقرارهما في منزلها تعترف إيلين زوما للسارد:( لأنه نخرايا، ولأن كل تل المطران تتحدث عن خيانتها والكل يصدق ذلك حتى القاشا، ويهمها أن يعرف ولو واحدا على الأرض بانها بريئة: أريد أن أعترف لك رابي. . . . أنا ميتة . . زيا راح يعود بعد يومين وراح يقتلني لأنو مقتنع. . .).
إن إستسلام إيلين الضحية بدون مقاومة لطعنات زوجها، لإرتيابه بها، لمجرد الدعايات فقط، كأرتياب عطيل بدزدمونة لخيانتها له مع كاسيو، بفعل وشاية ياغو، يحدو بالرواية عبر هذا المشهد أن تكون في تناص مع مسرحية عطيل لشكسبير.
وإذا كانت التقنية الموظفة تسير على منهج معين من بداية الرواية الى نهايتها، فإن موضوعها يتقيد بالنهج ذاته في وحدته. إبتداء من شخصيات الرواية، ماعدا شخصية السارد والحوذي وتيمور وفريدة، ومرورا بالمكان، حيث تدور الأحداث في مدينة تل المطران المسيحية والكنيسة، وإنتهاء بالمهنة التي كان يزاولها الكلدان منذ القدم وهي مهنة السحر وقراءة الكف.
تقوم ثلاث شخصيات بالسحر وقراءة الكف وعملية التنجيم، تحقيقا لوحدة الموضوع مع العنصرين الآخرين، وهي شخصية صافيناز أوغلو التي يأتي ذكرها في بداية الرواية فقط، ثم تختفي، والشخصية الثانية هي يوسف خوري مع قططه الثلاث، والثالثة هي القس خوشابا. بقدر ما للشخصية الأولى والثالثة من أهمية وتأثيرها على الأحداث، بيد أن الشخصية الثانية التي هي شخصية يوسف خوري، لتصويرها بشكل غير مألوف وغريب اللذين يدعوان الى التعاطف معه والنفور منه في آن، تجذب الإنتباه اليها أكثر من الشخصيتين الأخريين وبنظرة لا تخلو من الإنبهار، سيما في قصة حبه المأساوية مع إيلين زوما التي أحبته في البداية، ولكنها عندما شاهدت شقيقه زيا الذي كان وسيما وأجمل منه تتخلى عنه وتتزوج زيا، الأمر الذي يدفعه لأن يترك المدينة قاصدا مدينة الشيخان، ليتعلم هناك فنون السحر والدجل.
إن قطط يوسف خوري في هذه الرواية أقرب الى قطة رواية فرانكشتاين في بغداد ( نابو) لأحمد سعداوي، منه الى القطتين في رواية آخر الملائكة لفاضل العزاوي، ذلك لتحول القطتين في آخر الملائكة الى رجلين هما هارون وإحسان دلي، بهدف منحهما سمة الملوكية وصفات تتجاوز الإنسان الإعتيادي، بينما تفتقر قطط بدر والسعداوي الى هذه السمة، وهي التحول، فقد أكتفى الأول بوصفهن والثاني بتحرك (نابو) داخل منزل ايليشوا وعلى سطحه، وأن يغفو أحيانا عند قدميها، وأحيانا أخرى يمسح فروه بردائها. بينما يأتي وصف القطط الثلاث في هذه الرواية على الوجه التالي: ( وعند قدمي يوسف وقفت ثلاث قطط سود بعيون خضر شبيهة بعيونه الحادة الساطعة، يرمقنني بنفس الشدة والكثافة، أستقرين على الأقدام الخلفية، وقد تحركت اذنابهن يمينا وشمالا بصورة هادئة. . .). في الروايات الثلاث، تلعب القطط بدون ريب دورا كبيرا في إضفاء نوع من أجواء السحر المشوب بالرهبة والخوف في الفضاء الذي تتواجد فيه، ولكن هذ لا يقلل من دور يوسف خوري في إشاعة هاتين الصفتين، ليس في قذارة المكان الذي ينام عليه فحسب، بل في طريقة كلامه بصوت غريب قادم من مكان، كأنه قادم من مقبرة، وإبتساماته وضحكاته المتكررة بمناسبة أو غير مناسبة وبشكل مفاجيء، فضلا عن غبائه في عدم التركيز على موضوع معين، وأحاديثه المقرفة عن النساء، وإفتخاره في مكانته في المدينة بين النساء والرجال: (كلهم يحتقرني، أعرف ذلك، الكل يشتمني هنا ويقول عني سحار. . ولكنهم سيأتون عندي لأنهم بحاجة لي . . .).
أما القس خوشابا أن يكون سحارا، فهذه ليست مسألة غريبة، وإنما مضحكة أيضا، ولم يدع كتابا في الأدب والفلسفة والتأريخ إلآ وقد أطلع عليه. فهو كذلك من خلال قدرته بما يمتلكه من خزين معرفي في تأثيره على الآخرين، ولكن ليس نحو الخير بل بإتجاه الشر، الشر الكامن في السريالية الدينية التي كان يؤمن بها، ويظن أنها قدر البشرية. وها هو السارد يبدي إعجابه بكتابه لأنه مكتوب بلغة ساحرة، ويعلق عليه قائلا :( ولكن الأفكار التي يتضمنها كانت مضحكة نوعا ما ومثيرة للسخرية في أحيان كثيرة، وإن كان بعضها يحمل شيئا من المعقولية، فقد كانت غريبة غرابة فادحة، وجريئة وسريالية الى أبعد حد).
وبالعودة الى بداية المقال، حيث كانت ملاحظتي حول عنوان الرواية الموسوم: ( الطريق الى تل المطران)، مفضلا عليه عنوان (نخرايا) للأسباب التالية:
- إن هذا العنوان سرياني ويعني الغريب.
- إن المتن الحكائي للرواية يدور حول المسيحيين، وأحداثها في مدينة مسيحية كذلك.
- وإذا كانت عقدة الرواية لا تفك إلآ بوسطة الغريب، أي قتل القس وظهور النبي، فإن هذا يعني أن النخرايا هو المحور الرئيس للرواية وبطلها. وهو كذلك أي بطل الرواية، لسرده أحداث الرواية بالنيابة عن المؤلف.
- أن هذا العنوان سيعزز من وحدة موضوع الرواية بإضافة عنصر جديد الى العناصر التي ساهمت في بناء وحدة الموضوع.
- إن هذا العنوان سيعود بالقاريء العربي الى رواية الغريب لألبير كامو، من خلال عملية القتل التي تحدث بالسكين في الروايتين، وفي تناص معها.



#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تمر الأصابع. . لمحسن الرملي
- ابناء و أحذية بين أكون أو لا أكون .. و بين .. إقناع الشيء مق ...
- مسرحيات فريدريش ديرنمات بين الكوميديا السوداء وإختلاف الشخصي ...
- مسرحيات يوسف العاني بين الرمز والموروث الشعبي . .
- في مسرحيتين لفيليمير لوكيتش
- بين شفرات الحافلة
- مسرحيات سترندبيرغ . . . بين الخيانة الزوجية وإقتران البداية ...
- مسرحيات أبسن= إسترجاع الماضي + المناقشة + الشخص الثالث.
- مقاربة بين مسرحيات سترندبيرغ وأبسن
- جدلية الانتماء والخيانة في مسرحيات يوسف الصائغ
- مسرحيات توفيق الحكيم....والمسخ
- مقاربة بين روايتي الكافرة و حجر الصبر
- الرجع البعيد بين تقنية الأيحاء وعملية التطهير
- وحدها شجرة الرمان . . بين تقنية المكان. . وعملية التناص
- الآنسة جوليا.. وحلم التحرر من السلطة
- السمات المشتركة في مسرحيات ابسن
- مناطق التغريب في مسرحيات بريخت
- تينيسي ويليامز.. والكوميديا السوداء
- هل مسرحية ايفانوف فاشلة...؟..!
- مسرحيات محي الدين زنكنة في توظيف الرمز للبناء الدرامي


المزيد.....




- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
- معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا ...
- نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - تل المطران...