|
عزل الوضع السياسي عن المصالح الإجتماعية قاد إلى النفوذ الأجنبي والوصاية الدولية
المنصور جعفر
(Al-mansour Jaafar)
الحوار المتمدن-العدد: 1556 - 2006 / 5 / 20 - 10:31
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
عـزل الوضـع السيـاسي عن المصالح الإجتـماعيـة قاد إلى النفـوذ الأجنبـي والوصاية الدوليـة التـحرر الطبـقي والإقليـمي من رأس المـال المحلي والدولي ضـرورة للحريـة الوطنيـة. كينـونة جـديدة للنـضال ضـد المـركز المحلي والمـركز الدولي.
الأزمة السودانية نتيجة منطقية لتركيبتها التاريخية المحلية والدولية في فترة السنوات الممتدة بين سنة 1898 وسنة1930 قام الإستعمار البريطاني و(تابعه) الإسلامي العثماني المصري، بقوة الإنتصار العسكري ومستتبعاته من الأوامر العسكرية والقرارات الإدارية، بتجريد السودانيين من مواردهم وقطع إنسياب تعاملاتهم، على علاتها. حيث قام الإستعمار بفرض وتعزيز وجوده في السودان وسطوته بقسر السودانيين وإخضاعهم لألياته وأهدافه بهذه القرارات والأوامر التي شملت منع حمل السلاح، ومصادرة الأراضي وتملكها، وأحوال العملة و الضرائب والعوائد، والتجارة والشركات، وقمع النشاط الثوري الهدام لسلطة الإستعمار ونظمه، وكلل ذلك الوضع القمعي والسالب بإجراءات للتحكم في صدور الصحف والرقابة عليها.
كذلك عمد الإستعمار بعد ثورة 1924 إلى إستغلال الفوارق الطبقية التاريخية في السودان وأشكالها الأثنية والطائفية في تفريق النشاط الوطني ضده، كما صعد الميز الناشيء بين القوى العسكرية والقوى المدنية، وكذلك فاقم الميز المهني والسياسي بين القوى المدنية في جهة والنقابية العمالية والزراعية في جهة أخرى، وبين عموم القوى المرتبطة بالإقتصاد الرأسمالي الحديث ومدنيته وتنظيماته وقوانينه والقوى المرتبطة بالإقتصاد القديم بريفيته وقبيليته وأعرافه .
وضد هذا الميز وهذه التفرقة كانت أعظم إتجاهات التنسيق بين الإتجاهات المتقدمة والمتاخرة للحرية الإجتماعية والوطنية في مدن السودان وأريافه إتجاهات مصطنعة بنضال "الجبهة المعادية للإستعمار" في السودان التي جمعت القوى الشيوعية والوطنية في جبهة أعرض هي"الجبهة الوطنية" التي تأسست في أواخر الأربعينيات ودشنت نضالاتها في الأبيض وعطبرة ومدني والخرطوم في أوائل الخمسينيات، وقد كانت تلك الجبهة الوطنية بسكرتارية وقيادة شهيد الطبقة العاملة والحزب الشيوعي الشفيع أحمد الشيخ، ورأسها الشيخ. محمد بخيت "حبة" .
كما تمثل هذا التنسيق في مصر في الجبهة المتحدة لنضال العمال والطلاب والفلاحين والموظفين والجنود المعروفة بـ "لجنة الطلبة والعمال" التي سيرها المناضل الشيوعي السوداني عبده دهب حسنين، وشيوعيو مصر مارسيل إسرائيل وهنري كورييل، وهلئيل(خليل) شفارتز(عمل مديراً في قناة جونقلي أوائل الثمانينيات) وهم يهود من أصل فرنسي، وكانت تلك اللجنة الصغيرة العظمى بسكرتارية متحولة قادها حيناً المناضل الشيوعي السوداني البطل والطبيب والنائب البرلماني الضليع فيما بعد، عز الدين علي عامر، وقد رأس جانب من تلك اللجنة المرحوم فؤاد محي الدين وزير الصحة ثم رئيس الوزراء المصري الأسبق في اواخر عهد السادات، وقد ضمت اللجنة في جانب منها جناح "الطليعة" في حزب الوفد الذي كان يمثل حزب الغالب في العدد من المصريين منذ ثورة 1919 في مصر-، مع عداوة ذاك الجناح اليساري – الليبرالي للإقطاع والملكية والإنكليز ونشاطه لطردهم من مصر والسودان.
وإزاء الحلف المشترك للإستعمار والرجعية الذي تمثل في مصر في تضافر الإنكليز وملك مصر وتوابعه من باشاوات الإقطاع الرجعيين والإخوان المسلمين وتمثل في السودان في الجمعية التشريعية لزعماء الطوائف والقبائل ومواليهم من كبار موظفي الإدارة الإستعمارية، كانت التطورات السياسية والإجتماعية لنشاط هذه الجباه الكفاحية المشتركة في مصر والسودان بإضراباتها ومظاهراتها ومواكبها العارمة ضد قوى ومظاهر الإستعمار والرجعية قد قادت -مع مؤثرات أخرى- إلى تأسيس تنظيم الضباط الأحرار في الجيش المصري، وإندلاع ثورة 23يوليو 1952 المجيدة بقيادة جمال عبد الناصر، وإلغاءها الملكية وطردها الإنكليز وإقرارها بحق السودان في تقرير مصيره بعدما كانت السياسات الرجعية في مصر تعتبر السودان بحسم وإطلاق بعيد عن التاريخ والعقلانية جزءاً لا يتجزأ من مشتملات السيادة المصرية بينما كانت تلك السياسات الرجعية تتفاوت في تقديرها لأولوية أخراج الإنكليز من مصر متعللة مرة بإستبداد القصر والأخوان ومرات ُأخركانت تتعلل بإطلال وتقدم الديكتاتورية الحمراء وسعيها لإلغاء الإقطاع والملكية الرأسمالية وتأميم البنوك .
وبنضال الشيوعيين في السودان ومصر قادت تطورات النضال المشترك إلى إحداث ظروف موجبة لتضافر عناصر النضال الوطني السوداني لأجل تثبيت حق السودانيين في تقرير مصيرهم أولاً، ثم الإتجاه به فيما بعد تثبيته وممارسته إما إلى جهة الوحدة الثورية مع مصر ضد الإستعمار والإستغلال والجهل والمرض أو إلى جهة الإستقلال الوطني.
ومع فوز الإتحاديين بالإنتخابات في السودان، كان الإتجاه المفترض هو تحقيق الوحدة مع مصر، لكن التيار الأزهري كان جارفاً في رفض الصلة مع الثورية الجديدة المجهجهة والتغير عن الإتجاه الملغم دولياً إلى الإشتراكية مع مصر التي كانت تدعم التيارات الإتحادية الأخري في السودان، إضافة إلى قوة نفوذ حزب الأمة بإرتباطاته القبيلية والإنكليزية وهو الحزب الذي شكل النصف السياسي للإرداة البرلمانية في السودان وقت كان الأزهري متجهاً إلى حكم البلاد. كما ترافق الإتجاه إلى الإستقلال مع زيادة النشاط الدعائي للأخوان والدوائر الإنكليزية ضد ممارسات عبد الناصر العسكرية ضد الاخوان المسلمين في مصر الذين حاولوا بأشكال نجيبية ومنشية فاشلة، إسقاطه ثم إغتياله، إضافة إلى قيام بريطانيا يومياً بممارسة الإغتيال المعنوي لعبد الناصر وحكم مصر الثوري الجديد في إذاعتها الشهيرة، وفي ألسنة ساستها العرب وإعلامهم الإسلامي في الجزيرة والقومي العربي في لبنان وسوريا والعراق .
وبعيداً عن الأصول والتشعبات الكانفة للعلاقة السوفييتة "المنشفية" ــ الأمريكية ضد بريطانيا، وكذا العلاقة البريطانية ـــ الأمريكية ضد الشيوعية والسوفييت، وعلاقة هاتين العلاقتين بأحوال (السلام) و(التعاون الدولي) و(التعايش السلمي) والطرق الوطنية والقومية إلى التحرر الوطني والإشتراكية، يمكن التركيز على إن عملية إستقلال السودان،والتشكل السياسي الأول لدولته ونشاطاته قد طبعت في دوائره العليا بشعارين هما: شعار تحرير لا تعمير (عند الأزهريين) و شعار لاشيع ولا طوائف ولا أحزاب ديننا الإسلام ووطننا السودان (عند الأميين)
وقد طغى (نفوذ) هذين الشعارين وقائليهما العلمين على مسيرة حكومات السودان منذ الإستقلال وحتى إنقلاب عبود الذي دعمته الولايات المتحدة والدوائر الطائفية ذات الأملاك الواسعة والعلاقات البريطانية والعلاقات المصرية (إبان صدام عبد الناصر وبقية الشيوعيين المصريين بعد المؤتمر العشرين) حيث جاوز عبود نهج ذينك الشعارين في تجاهل المطالب النقابية والإجتماعية الشعبية إلى قيام حكمه العسكري بممارسة قمعها في المدن وشن الحرب عليها في الجنوب.
وفي جانب آخر ماثلت حالته حالة هذين الشعارين في السودان، تم في فبراير 1956 إستيلاء المناشفة الجدد على مقاليد الأمور في الحزب الشيوعي للسوفييت، بتأثيره العالمي المعروف، فاصلين في تنظيره وممارساته طبيعة عملية التغيير الإجتماعي الإقتصادي عن طبيعة الأدوات الإدارية والعمالية لتخطيط وتوزيع الموارد والجهود اللازمة لإنتاج ضرورات المجتمع في جانب وعن الطبيعة المطلقة للسلطة العمالية فيه (ديكتاتورية البرولتاريا) التي تقوم في ظل التكوين العمالي لجملة المجتمع -بشكل حزبي وإداري منظوم- بممارسة مهام التنمية والدفاع، التي تأكدت صدقيتها ببناء الإتحاد السوفييتي في أقل من عقد واحد من السنين 1927-1936 دون أن يستعمر دولة أو يؤسس بنكاً دولياً كما تاكدت تلك الصحة الموضوعية بنجاح الإتحاد السوفيتي الغض الناشئ الغض من هزيمة وتدمير الدولة العدوانية الشرسة للرأسمالية في ألمانيا التي كانت حينذاك أقوى دولة رأسمالية في العالم، ومساعداته القيمة لحركات التحرر من الصين إلى جنوب أفريقيا !
وقد إنتهى كل ذلك بإحتفاظ المناشفة بالمراكز الوسيطة والتحتية الحساسة في الحزب الشيوعي وتكليلهم جهدهم بتجزئة وحلحلة الشيوعية بصورة أشد صراحة بداية من المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي، ولكن في جهة هذا الفصل، يمكن الإشارة إلى إن إتجاه المناشفة الفاصم بين الحاجة والهدف والعمل المؤدي لتحقيق هذا الهدف، كان إتجاهاً متنافراً مع التنظير العلمي للشيوعيين بالوحدة النسبية بين الطبيعة الصماء والطبيعة الإجتماعية، وحقيقة تمثل وسريان قوانين الطبيعة في الطبيعة الإجتماعية، والحتمية التاريخية لتحقيق هذه القوانين الطبيعية لنتائجها في الواقع الإجتماعي.
وفي تنافرالمنشفيك وإتجاههم إلى التجريب والليبرالية في جهة وتعارض هذا التجريب وليبراليته وتضاده مع الإشتراكية العلمية والماركسية اللينينية المنهكة بالحصار والحرب الخارجية ضد الشيوعية وصرامة ستالين في الداخل، كان إتجاه المنشفيك الفاصم بين الشيء في وجوده والشيء في ذاته متسقاً ومتوائماً مع الإنفصال التاريخي القديم بين العملين العضلي والذهني، وبين النظر المألوف بين الناس إلى وجود الطبيعة ووجود الأشياء والعلاقات والقيم فيها والإعتقاد بتراتبها ككل قيماً عليا ودنيا، وإنفصام وجود الأشياء بين مظهر وجوهر، مثلما بين النبات والثمرة، وبين العمل والربح، وبين العمل ورأس المال، حيث لكل مجاله ووطبيعة وجوده المختلفة عن غيره!! مما يجعل القضايا العامة بهذا الطريق التجريبي في التفكير قضايا متباينة تضحى فيها القضايا الوطنية لوحدها والإجتماعية لوحدها والطبقية لوحدها! حيث بهذا الإنذرار والهوام لا يعود هناك تاريخ ولا تراكم إقتصادي أو معرفي، ولا تغير، ولاتبدل في وجوه الحياة، مثل الماء في حالة تفريق ذراته لا يعود ماء.
فكذا أعاد المناشفة الذين كان أكثرهم من أنصار "اليهودية السياسية" الإعتبار إلى ضحايا الستالينية الثلاث وهم: التعامل بالنقود، والصهيونية السياسية، وإتجاهات السوق والليبرالية. وأعتقد إن هذا التحول قد شكل أحد المؤثرات الدولية على حركة الثورة في العالم والسودان ضمن مؤثرات أخرى دولية ومحلية أخرى دفعت جميعها إلى تموضع الحركة الثورية وتركزها في بعض إتجاهات ومسارات ونواحي برنامج المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوداني المسمى "طريق السودان للسلم والإشتراكية".
ففي خضم سير الحركة الثورية في ذلك الطريق الوطني والأممي نشأ تيار (قوى) يضاد الشمولية والعموم في ذلك البرنامج القديم ويفصل نسبياً وبشكل دقيق بين مهام التقدم الإجتماعي الإقتصادي الطويلة الأجل والمهام الآجلة للتطور السياسي لتثبيت الحقوق والإرداة السياسية للشعب السوداني، توطئة لممارسته السياسية ومطالبته بحقوقه. وقد تبلور هذا التيار بصورة عامة في ما عرف بإسم "الطريق البرلماني" وهو الطريق الذي رفضه بقوة الشهيد عبد الخالق محجوب مرات عددا، مثلما رفض كذلك "الطريق الإنقلابي" مرات عددا.
وفي مواجهة المحاولات النابليونية أو الستالينية للعسكريين في العالم الثالث لتأميم نضال الطبقة العاملة والقيام بـ(حشد) هذه الطبقة وحزبها ودغم نضالاتهم بتطور الدولة تحت القيادة الفردية الضعيفة طبقياً للعسكريين كانت العودة إلى هذا الطريق البرلماني -ضمن كثير من العودات في العالم- قوية في السودان خاصة بعد هزيمة "الحركة التصحيحية" في يوليو 1971 وإعدام قادة الحزب الشيوعي السوداني والطبقة العاملة والضباط الثوريين، ورزح كثير من الشيوعيين والنقابيين والحقوقيين في المعتقلات والسجون، وقيام القوى الإمبريالية الأمريكية والبريطانية ومعها قوى الرجعية الإقليمية والمحلية -بعد مآئة سنة من كميونة باريس 1871- بإغراق للنضال الطبقي السوداني في بحر من الدماء الزاكية. وقد تعززت هذه العودة إلى الطريق البرلماني بتأثير سيطرة المؤسسات الماليـة الدوليـة "البنك الدولي" و"صندوق النقد الدولي"، ونشاط البنوك الإسلامية، و"سياسات السوق" التي فرضتها على جملة مجريات الإقتصاد والسياسة السودانية بعيداً عن الحالة الفعلية لـ(تطور| تدهور) الإنتاج في السودان وتدهور المكانة العددية والسياسية للطبقة العاملة فيه جراء مركزة الموارد والسلطات وزيادة وتائر التهميش والقمع.
ولكن على غير الإعتقاد المعمم جداً والشائع بان الحرية السياسية تفتح الطريق للتطور الإقتصادي الإجتماعي (وليس التنمية) فقد عجزت الكينونة الشكلية للديمقراطية في كافة البلاد المهمشة دولياً عن العيش والبقاء في ظروف إحتكار الثروة والسلطة، فكذلك فشلت النظم الليبرالية والبيروقراطية المسماة جميعاً بالديمقراطية في العيش في السودان تحت سيادة التفاوت الظالم والطغيان الطبقي والإقليمي الذي يحدثه الإحتكار الرأسمالي المتنوع الأشكال- لتوزيع الموارد، والتمركز الذي يقود إليه في مجال توزع السلطات، والتوترات الإجتماعية الثقافية السياسية التي يحدثها الإحتكار والتمركز بحرية السوق في سلب مجتمعات السودان المختلفة.
الأزمة العامة لتمركز رأس المال العالمي وفشل المحاولات الجزئية لنفيه في السودان بالتماش مع طبيعة المال كعصب للحياة، كان كيان الدول المستعمرة في هذا الوضع الإستعماري التقليدي المعروف في عمومه، موصولاً في تاريخه ومستقبله بنشوء الوضع الإستعماري الحديث بالشرط الذي أوجبه المجتمع الدولي لإعترافه بإستقلال الدول الساعية إلى (الحرية) شرطاً لازماً موجباً يتمثل في موافقة (السلطة) الجديدة آنذاك، على إحترام وقبول وإتباع النظم والقوانين الدولية التي سُنت رويداً رويدا بين نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 وبعد بداية الأزمة الكورية -آيام مقاطعة الإتحاد السوفييتي للأمم المتحدة- وإلزام هذا الشرط لـ(إقرار) سيادة الدول والإعتراف بها.
وتشمل هذه النظم والقوانين والأحكام طبيعة العملة والتحاويل المالية والقوانين الناظمة للتبادلات التجارية للدولة المعنية مما يحدد الموقف الإقتصادي للدولة الجديدة في العالم ، من خلال إرتباط علاقة هذه النظم والقوانين وأثارها بتقسيم العمل والقيم الدولي، والتنظيم الرأسمالي الغالب في هذا التقسيم بما فيه من: تبخيس للإنتاج الزراعي وإغلاء لقيم المنتجات الصناعية، وتحكم في أسعار الطاقة، وفي حركة التمويل، حيث قادت جميع مفاعلات الشروط السابقة وهذه الأوضاع المرتبطة بالقوة الإمبريالية في السوق العالمي إلى إفلاس جميع الدول التي إستقلت حديثاً وكانت تتبع هذا النهج الفاصل بين متطلبات الإستقلال السياسي ومتطلبات إستقلال المنتجين في تلك الدول ، بما في ذلك حاجة هذا الإستقلال (بحكم الدور التحويلي الرائد للصناعة في الإقتصاد) إلى ضرورة تحكم المنتجين الصناعيين في موارد ووسائل عيش مجتمعاتهم وتوزيع جهودهم وثمرات كدحهم.
وقد عزل هذا الفصل ــ القائم من جهة واحدة ــ الكينونات السياسية للدول وما تطالب به في علاقاتها الخارجية الإقتصادية والديبلوماسية من حرية وعدالة عن الكينونة الإجتماعية لهذه الدول والعلاقات الإنتاجية التي تفرضها في داخلها على مجتمعاتها المنتجة بما فيها من تهميش وإستغلال. وهي العلاقات التي أدت متواليات تفاقمها إلى وقوع إقتصاداتها وأحوال مجتمعاتها تحت سيطرة المؤسسات الإمبريالية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مروراً بالوصفات السمية المصيبة بالشلل والقاتلة للجهود الإنماء والحياة الحرة الكريمة بدءاً بتحكم هذه المؤسسات في توزيع موارد ومصروفات الدول وليس إنتهاءاً بإجراءات حرية السوق وخصخصة موارد ومصالح مجتمعات هذه الدول وزهق آمالها في حياة حرة كريمة.
وجملة يمكن القول إن الحصيلة الموضوعية لهذا الطريق البرلماني في ظروف التخلف والتبعية تمثلت في تحكم المؤسسات المالية الدولية بالطبيعه الطبقية الرأسمالية لهذا الطريق ومشتبهاته وإنتهاءه وإنتهاءها إلى زيادة التمايز والتناحر بين الدول وبعضها، وبين الطبقات في داخل كل دولة وفي نطاق العالم، مما قاد بدوره إلى حالة متفاقمة من التوتر والمطالب والتجاهلات والإنتفاضات والقمع والتمردات والإنقلابات، والثورات المحلية الطابع ذات الأهداف القومية والإنسانية، مثلما أدى إلى حملات عسكرية وإعلامية ديبلوماسية بشعة لوأد تلك الثورات وإخمادها وتشويهها وخنقها وقتلها ومحاولة محو آثارها التي تشبه آثار الشمس في الطبيعة.
وقد عبر هذا الحال العالمي والسوداني عن إنسداد الطريق الأحدي لتغيير الأوضاع العامة بأشكاله المختلفة النقابية (أكتوبر) والبرلمانية، والإنقلابية، والثورية الإقليمية، وعلى تراوحه شكلاً بين التدين والعلمانية، كما كشف هذا الحال عن خبث كثير من السياسات الدولية الرأسمالية في مسائل الإعتراف بإستقلال الدول، و(مساعدتها) و(دعم الإصلاحات) فيها وإعادة هيكلة إقتصاداتها وجملة أوضاعها بالتالي. ويمكن تعزيز هذا الإستنتاج خاصة بقراءة تلك السياسات والمساعدات مع ما سببته من زيادة في الفقر في دول العالم الوليدة وفي داخل أقاليمها، وماتبع ذلك الفقر وسوء التغذية الإقتصادية من قمع وفساد وتوترات وثورات وقمع، كذلك بالنظر إلى قيام "المجتمع الدولي" بمزج سياسات السلام وحرية السوق في حزمة سياسية واحدة تثبت مع الحريات العامة حرية السوق التي تنخر هذه الحريات وتزيد التفاوت والتناحر والإضطراب في ظروف شح الموارد الخارجية والإقتقار إلى مستعمرات تزيت بمنتجاتها المبخسة مفاصل هذه الحريات.
وبقرآءة هذا الجمع اللئيم بين حريات الناس وحرية السوق ضد تساويهم، يمكن فحص حقيقة دعوى قيام "قوى المجتمع الدولي" بمحاولة علاج الحروب التي نشأت أصلاً بتناقض وتعارض المصالح الإقتصادية والسياسية بين المراكز المالية والسياسية المحلية والدولية والقوى والمجالات التي همشتها هذه المراكز، وهو تعارض لم يزل قائماً بل ويزيد. وهذا الغباش والخبث في السياسات الدولية هو نتيجة موضوعية لأزمة النظام الإمبريالي العالمي القائمة والماثلة في التناقض بين حاجة النظام لزيادة أرباحه بزيادة الإنتاج المادي أو التصريف لما ينتجه، وما تتطلبه هذه الزيادة من زيادة إستثماراته في الألات والتقنيات والإنفاق عليها إستثمارات ونفقات تزيد بإطلاق وتزيد معها قيمة السلع التي ينتجها مما يصعب تصريفها في ظل زيادة المعروضات والخفض العام للأجور الحقيقية. كماإن أزمة النظام الإمبريالي العالمي متصلة بتقليله لعدد العمال والمنتجين بصورة تقلل بدورها عدد المستهلكين وتضعف القدرة الشرائية في السوق. وهو وضع أزوم يمكن تلخيصه في ثلاث نقط هي: زيادة الربح أو المحافظة عليه تتطلب من رأس المال إنفاقاً على الإنتاج أو توفيراً لنفقته. زيادة الإنفاق على الألآت والتقنيات تزيد قيم البضائع والسلع عن قدرة الناس على شرائها. عدم الإنفاق و(توفير) قيمة العمل الجارية يضعف الإنتاج ويضعف القدرة على الإستهلاك.
وهذا الوضع الثلاثي المتعارض عملياً ومنطقياً هو أساس القول الشيوعي بوجود "الأزمة الرأسمالية".
ومع زيادة التزاحم والمضاربة تصبح إمكانات المعالجة الإقتصادية الواضحة لهذه الأزمة القديمة أقل وتزيد إمكانات المعالجة السياسية لها وتكثر، بيد إن زيادة المعالجة السياسية بما تتطلبه من ممارسة للقوة العسكرية بأشكال إغرائية أو إرهابية فإنها عادة ماتزيد نفقات الدول وخسائرها وضرائبها في دوامة منحطة بقوى الإنتاج وبقوى العالم أجمع حيث تدمرالتناسق المنشود بين إمكانات العالم وحاجات وآمال شعوبه.
تحولات الإستعمار الخارجي والإستعمار الداخلي يمكن تناول الأزمة الرأسمالية، كأزمة بنيوية تنشأ أيضاً في جوانب الحياة الأخرى بصور مختلفة، وخاصة في التعاملات الأحدية التي تختلق وتجمع القيم وتركزها بـ(ـقيمة عليا) تجرد مكوناتها ومتصرفاتها، بالتدريج، من إمكانات التبادل معها.
وتعد الأزمة البنيوية لوجود وحركة رأس المال العالمي أحد أهم مؤسسات التحول العالمي من حالة الإستعمار القديم إلى حالة الإستعمار الحديث وتحول ما يسمى بـ"السياسات الدولية" إلى حالة الفرض المباشر للمصالح الإمبريالية على الدول والمجتمعات الساعية إلى التحرر، وتثبيت هذه المصالح الإمبريالية في الدول المتحررة بحزمة من الضغوط الشاملة السياسية والإقتصادية والديبلوماسية والإعلامية والإستخبارية والإنقلابية والعسكرية المباشرة وغير المباشرة.
وقد واكب هذا التحول في السياسة الدولية تطور عدد من العوامل الدولية رافقت زيادة نهم رأس المال إلى الربح وتضييقه عملياً لإمكانات الأسواق ودهورته قدرات كثير من المستهلكين وإسهامه العشواء والمقصود في تركز دوائر الإستهلاك وزيادة التزاحم بين الدول المصنعة، حيث نشأت على النطاق الدولي ظواهر حدت من أشكال ربحه وتغذيته القديمة وتطلبت من رأس المال العالمي زيادة تدخلاته المباشرة، وهذه العوامل هي:
أزمة عجز كثير من الدول عن دفع الديون التي فرضت عليها سياسياً وعن ملاحقة فوائدها المتفاقمة.
أزمة تصنيع وتجارة الأسلحة أمام زيادة الفقر في الدول وزيادة أشكال من التعاون بينها، وتقدم الدول المستهلكة في مجالات صنعه وتقنيته، وزوال ما سمي بالخطر السوفييتي الذي كان يدر الكثير على شركات التسليح في تعاقدات متضاعفة مع جيوش الدول الإمبريالية، ثبتت للمجمع المالي الصناعي العسكري وساساته دور المركز القائد للسياسات الرأسمالية الدولية.
أزمة تصنيع سلع الإستعمال المنزلي المعمرة مثل السيارات، المواقد، الثلاجات، الأثاث، الأجهزة البصرية والسمعية ..إلخ، وأزمة تصنيع المنتجات المعدة لتلبية حاجات الإستهلاك الفردي المنظفات، والملابس، والأحذية، والحلوى والمشروبات.. إلخ، حيث أصبحت أغلب دول العالم قادرة على إنتاج هذه البضائع والسلع وسد الحاجة إليها .
فهذه المجالات الثلاث التي كانت القوى الإمبريالية تسترزق منها، إضمحلت إمكاناتها وفوائدها، وأضحت العناصر الرأسمالية تتجه في جانب إلى المضاربة في الأسهم والسندات وأسعار العقارات والمجالات الخيالية والإفتراضية لرأس المال في جنبات الفضاء الإلكتروني مطلقة أرقاماً لا سند لكثير منها في الواقع المادي لحياة معظم الناس. بينما في جانب أخر أضحت سياسات الدول الإمبريالية المقدمة في وسائط الإعلام بـإسم "السياسات الليبرالية الجديدة" وحيناً بـإسم "السياسات المحافظة الجديدة" أكثر ميلاً لتسويق الحياة في داخل تلك الدول وفي نطاق دول العالم الأخرى وذلك بوسيليتين متلازمتين هما:
العسف الداخلي: أي العسف بالحقوق الإجتماعية والسياسية بالخطوات المتدرجة والمتواصلة للحد من الضمانات الإجتماعية المقررة للمواطنين للعيش والعلاج والتنقل والسكن والحد من الحقوق النقابية لهؤلاء المواطنين ومن حريات التعبير والتنظيم التي ثبتتها ثوراتهم القديمة حتى وصل الحال بمجلس أوربا في 2006 إلى الإتجاه لمساواة الشيوعية بالنازية ومحاولة تحريمها، إضافة إلى التعسف ضد المهاجرين واللاجئين.
العسف الخارجي: ويشمل العسف الإقتصادي السياسي والديبلوماسي بحقوق الدول وميزانياتها والتمزيق الإقتصادي السياسي والإعلامي لوشائج مجتمعاتها، ومفاقمة التناقضات القائمة فيها والتمنع عن الحد من مقدماتها ثم التدخل عسكرياً بقوة القانون الدولي وسطوته السياسية لفرض الإستقرار وحماية المواطنين وحرية السوق.
أحوال للشبه والإختلاف في عناصر القوى الإمبريالية مع زيادة تقدم أحوال وتحالفات الصين والهند وروسيا ودول أمريكا الجنوبية وزيادة المنافسة الأوربية أضحت أفريقيا هي المجال المفتوح -بضعفها المبرمج- لفرض المصالح المباشرة للقوى الإمبريالية، وهي مصالح تبدو جمعاً ومتشابهة من حيث كيانها العام، وإن كان وجودها الفعلي يتأثر بعوامل دقيقة متباينة مثل التباين التاريخي بين الكتلة الأنجلو ساكسونية-البروتستانتية الأمريكية البريطانية وتوابعها الماثلة في كندا واستراليا ونيوزلاند، والكتل الأخري في أوربا اللاتينية الكاثوليكية بما فيها فرنسا، والدور الأسباني الهسباني القادم سكانياً في الولايات المتحدة، إضافة إلى الدور العالمي والأممي لكثير من قوى ألمانيا، كذلك هناك تباين بين الكتلة الأنجلوساكسونية-البروتستانتية وقوى الدول السلافية والأرثوذودكسية المطلة على البلقان والمقاربة في آن واحد للولايات المتحدة للشرق الأوسط، إضافة لقوى عددا في آسيا الوسطى. وواقعياً يمكن التمييز في التدخلات الدولية بين المكانة الإستراتيجية للدولة المتدخل فيها وموقعها في جوار روسيا أو ألمانيا مثلاً والطبيعة الداخلية المستقرة لتلك الدول ومجتمعاتها السكانية أو أن تكون تلك الدولة في قارة أفريقيا المتقلبة. إضافة إلى وضع إعتبار لحجم وطبيعة وإمكانات وجود ونشاط مجتمعات الدول المتدخل ضدها في داخل الولايات المتحدة. فمن هذا التعدد والتنوع يمكن القول في مجرى الوقائع الدولية إن الأمور ليست كلها بيضاء أو سوداء.
كذلك يمكن الإشارة في جانب آخر إلى عدد من النقط الساطعة والنقط المظلمة يمكن بتجميعها رسم لوحة لإمكانات أفريقيا في مقاومة التواجد العسكري الأمريكي الإمبريالي والحد من تحويل أفريقيا من جديد إلى مستعمرة تقليدية بعدما قامت كثير من الحكومات السابقة والحاضرة في افريقيا بتحويل أقاليم دولها إلى ما هو أسوأ من ذلك، بتوجيه المؤسسات المالية الدولية.
من تلك النقاط إن سواد الرأي العام الأوربي (الغربي قديماً) والأمريكي أضحى معارضاً لسياسة التدخلات العسكرية والتوسع فيها، خاصة إن كثير من عمليات الإرهاب المتزامنة في روسيا ولندن والعراق وإيران وافغانستان والصين، وباكستان والهند، ومصر قد تتيح ببساطة لأي جماعات منظمة ذات خبرة بالإتصالات والمواقيت السياسية تحويلها وإستغلالها لمصلحتــ(ـها) ضد المصالح الأوربية والأمريكية. وفي ذلك لا ينسى كثير من الناس إن كثير من إختصاصي الأسلحة الكيماوية والبيولوجية في هذا العالم يمكن إعدادهم بإرادة وعزيمة سياسية معينة وتأهيلهم لمقاومة النشاطات الإستعمارية.
وفي كل الأحوال فإن مقتضيات أو توابع عملية تقدم اليسار الإسرائيلي بقيادة عصام مخول أو أقصى اليمين الصهيوني بقياداته الإيرانية أو العراقية أو المغربية في لجة التوتر الدقيق للحكم في إسرائيل ومؤثراته الأمريكية، والدولية يمكن بحذق معين، أن يسهم في تشكل أو في تطور هذا المشروع بأشكال عددا. فشلت في العناية بها حكومات الجبهة الإسلامية أو مخابراتها التي كانت تشتغل مع إسرائيل في بروكسل وموناكو ومدريد بطريقة المراهقة التي تريد أن تجذب حكيماً، بأن تكشف له عن فخذيها وإمكانات الإستثمار فيها دون أن تحسب قدرتها السياسية على ضمان هذه الإستثمارات على المدى الطويل 50 عاماً مثلاً.
الداء والدواء في خضم التاريخ والوضع الدولي والأفريقي كان تفاقم الأزمة القائمة في السودان موصولاً بسبب من عزل عملية إستقلاله السياسي عن عملية إستقلال القوى المنتجة في مجتمعاته، وحصرها وإستضعافها وجعلها نهباً للمركز الرأسمالي في السودان بإرتباطاته البريطانية القديمة والمتنوعة منذ دعم الإستعمار البريطاني لتسليح بعض القبائل العربية ضد علي دينار وترخيصه لأفرادها بحمل السلاح، ثم تغذيته لمحسوبيها بعد (الإستقلال) كذلك الإرتباطات الأمريكية لهذا المركز الطبقي المتصلة بالمؤسسات الدولية وتمويلها لحكوماته ومشاريعها ودعمها للدول التي تسانده.
وحقيقةً تاريخ، إن كثير من التدخلات الدولية كانت تشكل في أول أمرها إعانة للضعيف والمضطهد والمظلوم، ونصرة على القوي المتجبر الظالم، ولكنها بالتدرج تتحول إلى بجثومها على بلاده وموارده إلى ضيف ثقيل على المحرر ومستوطن لأراضيه وإلى نقمة عامة على من أتت لإنقاذهم.
وفي ذلك يمكن مراجعة تاريخ (الفتوحات) التي لم يزل كثير من الناس يعتقد في أنها كانت نعمة على كثير من الشعوب والقوميات المضطهدة والمهمشة في الممالك المجاورة لقريشيي وسط الجزيرة مثل القبط واليهود والعرب في ممالك الروم في مصر والشام واليمن، وكلدان العراق وأشورييه وحنفاءه وأعرابه ويهوده في ممالك فارس، وتخوم بيزنطة، وموور أسبانيا، دون أن يمعن هؤلاء المعتقدين بإطلاق معنى "الحرية" في مفردة "الفتوحات" النظر إلى السبب في توالي الإنتفاضات والثـورات في تلك الأطراف والأقاليم والأمصار.
وهي ثورات تواصلت إلي أوآخر القرن التاسع عشر وحتى العقود الأولى من القرن العشرين بدأت مع تفجر الثورات البلغارية والبلقانية والعراقية والكردية والسورية والأرمنية والمهدية في السودان والسنوسية في ليبيا، وثورة البايات في تونس، ومتواليات هذه الثورات التي إنتهت في (الشرق الأوسط) بالهجوم الفرنسي والبريطاني الرأسمالي العسكري، وإحتلال هذه البلاد بمسميات قانونية مختلفة بدعوى نشر المدنية والحضارة فيها في مواجهة تخلف الإقطاع والتناحر المحلي والدولي الذي كان ينتجه، ، وكان ذلك صحيحاً إلى حد ما ولكنه لم يكرس في الواقع بتلك المدنية الرأسمالية والعسكرية إلا طابعاً حديثاً للطغيان والإستعمار لم يختلف في إستلابه لحرية وكرامة الأنسان كثيراً عن سوابقه من نظم التراتب الطبقية.
وقد كانت جل تلك الثورات على طاغوت التراتب الطبقي، منذ ما قبل قتل الخليفة عثمان، وحتى الآن دالة واضحة إن العدالة في كل بلد ترتبط في أحوالها سياسةً وإقتصاداً، بكينونة إجتماعية عقلانية داخلية من التناسب بين حاجات الناس وسلطان توزع مواردهم وجهودهم، ومدى حظوهم بثمرات هذه الجهود وتلبيتهم بها لحاجاتهم ونجاحهم بها في إعمار أوضاعهم ونفوسهم وأذهانهم.
ومع فشل المشروع الأحدي الرأسمالي في العالم والسودان بأشكاله الليبرالية والبيروقراطية في معالجة الأبعاد المتنوعة للحالة الإستعمارية الدولية والداخلية، أضحى وضع السودان تحت المراقبة والوصاية الدولية بشكلها الحديث وضعاً منطقياً ونتيجة موضوعيية للتطورات الدولية والمحلية للنظام الرأسمالي العالمي والمحاور التي قادت فيها سياساته الإقتصادية والمالية الدولية الأوضاع والعلاقات الداخلية في كثير من دول العالم الثالث والسودان منها إلى حالة متفاقمة نحرية من التمركز والتهميش، تهدد الأمن والسلم العالميين.
ومع تقدم مهام وأعداد القوات الأجنبية في السودان وإرتكازها لوجستياً على الإرادة السياسية الأمريكية والبريطانية التي أضحت مقودة بدورها بأوضاع مصالحها وقواتها الأخرى في أنحاء العالم تتضح في التاريخ السياسي وتمثل بشكل جديد ــ متقدم موضوعيا عن سابقه ــ مهمات التحرر الوطني وإقرار السيادة الشعبية والوطنية وتعزيزها حيث إن السودان اليوم ومنذ سنوات طوال أضحى بلا سيادة شعبية أو وطنية.
الجبـهة العدوة للإستــعمار الداخلي والإستــعمار الخارجي أبرز المهمات التي تتطلبها حالة تلاشي السودان القديم وإندثار سيادته الشعبية منذ زمان طويل جداً وتدهور سيادته السياسية هي تأسيس جبهة للعدالة والحرية الطبقية والوطنية من احوال استئثار وإحتكار الموارد والسلطات والنقص في ضرورات عيش الناس وتكالبهم وتناحرهم عليها. وتقوم هذه الجبهة بتنسيق النضالات العدلية والوطنية القائمة والقادمة تعزز بها الصلة المفقودة بين التحرر الإجتماعي والطبقي والتحرر السياسي.
وتحتم الطبيعة الوقائية والحيوية لهذه الجبهة المنشودة للعدالة والحرية الوطنية ومهامها في مواجهة مخاطر التمزق الداخلي والإحتلال الأجنبي الشروع الفوري في بنائها بتجميع قواها المشتتة حالياً والمعاجلة بنظم هذه القوى والجهود قاعدياً وفوقياً بواسطة القوى الإجتماعية السياسية الأكثر تضرراً من النظام الواحدي المحلي والدولي الذي كان سائداً في السودان القديم.
وجملةً، فإن هذه القوى التي يفترض أن يكون غالبها الإجتماعي العام من تجمعات نساء وعمال وشبيبة القوميات المضطهدة والمهمشة في السودان القديم، تفترض دوراً مشتركاً أعظم للقوى الثوريةالحاضرة في المراكز والأطراف أي الحزب الشيوعي السوداني وبقية قوى السودان الجديد في الجنوب ودارفور وشرق السودان وفي شماله ووسطه.
ويكمن الجذر الطبقي لقيادة هذه القوى في تحالف ثوري للطبقة العاملة الصناعية والزراع والرعاة ومن يواليهم من مثقفين ومهنيين ثوريين. وتقع مهمة تشكيل وتكريب التنظيم السياسي لهذا التحالف على عاتق الطبقة العاملة الصناعية -رغم قلة عددها- لأن طبيعة ووضع عيشها وضرورة بقاءها وخبرتها المهنية الصناعية في تنسيق العناصر وتجميع القوى والإمكانات والخبرات وإضافة القيم وتوليدها، وإتصالها بأحوال الريف والمدينة تفرض عليها أكثر من غيرها مهمة قيادة الإنتقال بالسودان من حال النقص والجوع والخسارة والتفتت والإحتلال إلى حال متقدمة ومتناسقة لإتحاد القوى المنتجة التي كانت مقموعة ومضطهدة في السودان القديم، بصورة تجعلها بإمكانات الإنتاج الصناعي تزهر في المستقبل منسقة للنشاطات الزراعية والرعوية ومثمرة لها لصالح منتجيها ومجتمعاتهم.
وعلى مسودة جبهة العدل والحرية هذه، أيا ماكان إسمها الذي ستنشأ به فعلاً وتنضج في مستقبل الآيام، تقوم إمكانات أوسع للتنسيق مع القوى الوطنية التي تحرص على مقاومة النظم والمشاريع الحديثة للإستعمار في السودان التي أضحت تمزج بين التواجد السياسي والتقني والمالي والتواجد الأيديولوجي والعسكري.
وتقوم الطبيعة النضالية لهذا التنسيق المضطرد والمتطور على الشمولية في النظر إلى القضايا الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والدولية وكينونتها الثقافية التقليدية منها والعلمية، وحساب حركة هذه الكينونة الثقافية جهة الرجعية أو التقدم نحو الثورة والتحرر في المجرى والسياق العام للطبيعة الإجتماعية وحركة التاريخ. كما تعقد بهذا الشمول النوعي والتارخي عملية تنويعها وإفرادها للمهام كحركة تحرير شمولية.
وبطبيعتها، فإن النظرة الشمولية تستبعد النظر الجزئي للأمور العامة، وتناول القضايا منفصلة عن أبعادها وهياكلها، ولا تتطلع إلى خلق قوة إجتماعية كبرى دون أن تحقق بناء قوة ثورية وتحررية صلدة في المجتمع كذلك تتعارض شمولية التغيير الإجتماعي وثوريته مع المحاولات الدائبة والقديمة لحل مشكلات الدولة السودانية ومجتمعاتها بالتجزئة والقطعة (القطاعي).
فهذه المحاولات الجزئية البرلمانية وغيرها فشلت مرتين في القيام بمجتمعات ودولة السودان ، ففي المرة الأولى وضعت دولة السودان تحت الوصاية الدينية لأحزاب السادة ثم الرئيس الإمام ثم الحزب الشيخ واخيراً الحزب الحوار وهو حقيقة الحزب الشيخ الأصيل في تنزله فعلي عثمان وصحبه هم الذين بنوا بنشاطهم "الحركة الإسلامية" الحديثة، بينما كان الترابي بيرقهم السياسي وعلامتهم التجارية. وقد إستمرت هذه الوصاية الدينية على تطور مجتمعات السودان حتى إستعر تحرر السودان منها هذه بنضال الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الشهيد جون قرنق، وكانت المرة الثانية هي وضع السودان تحت نوع من أنواع الوصاية الدولية في هذا الزمن الحاضر بإشراف مجلس الأمن وقبول جميع قوى البرجوازية السودانية الحاكمة والمعارضة، التي عجزت أو إمتنعت بالطريق البرلماني أو بالطريق البيروقراطي عن التغيير الجذري لموازين السلطة والثروة أو التعامل الموضوعي مع مقوماته ونتائجه.
إتساق النظر والعمل والهدف بهذه النظرة الشمولية، التي تحاول إستيعاب تآكل وتلاشي السودان الرأسمالي القديم ومقوماته في ظل الخصخصة والعولمة وديكتاتورياتهما الدولية والمحلية، تتطلب الإعداد لبناء ثوري تحرري في حال الوضع الجديد يختلف في تركيبه العضوي والنظري والتنظيمي عن البناءات المأزومة للإصلاح أو للثورة بـ(القطاعي) في السودان القديم إختلافاً يميل إلى الشمول في النظر والعمل وإلى الثورة فيهما بأكثر من التوائم والقبول والإذعان بالقطاعي لشروط وضغوط المؤسسات الدولية.
ولكن هذا التعامل النضالي الثوري مع جوانب الوضع العام للسودان القديم بأشكاله وعناصره السياسية والإعلامية والإقتصادية والعسكرية والمعلوماتية والإستخبارية يوافق الطبيعة المعتادة لوجود هذه العناصر وخصائصها والتنوع الحيوي فيها. وهو توافق مرجعه الإعتبار بما كان يضر المقاومات الأولى من نظرة أحدية لعوامل الحياة ودفوعها وتجمع هذه المقاومات الأولى في شكل واحد للنضال، ومحاولة الإفادة بأكثر ما عزز قوى هذه الفصائل وعضد نضالها وهو تنوع فصائلها وتناسق أعمالها جيشاً واحداً تخفق أجنحته كما العقاب. وفي حال تحول الحماية الدولية لأهلنا في دارفور والجنوب وشرق السودان والجزيرة والشمالية وضواحي الخرطوم وكثير من بيوتها الوسطى إلى حال للتحكم والقهر والعدوان -كما يحدث في العراق الآن- فإن عناصر التعاملات الوطنية السياسية والإعلامية والإقتصادية والعسكرية والمعلوماتية والإستخبارية الكامنة والمهمشة في القوى الثورية في الهوامش والمراكز تشتد في هذا الحال وتتصل في كثير من أقانيمها بالطبيعة النضالية العسكرية القتالية المتجددة لحركة الثورة والتحرر الطبقي والإجتماعي والشعبي والسياسي في السودان ضد قوى الإحتكارات المحلية والدولية في السودان ومراكزها الثابتة فيه والمتحركة، كما إن حركة الثورة والتحرر السوداني تواشج في وصلها حلقات النضال ما يلائمه من إمكانات أممية ودولية وفق تقدير القيادات الإقليمية المباشرة في كل منطقة ثورية من مناطق السودان القديم. وفي هذا النضال من المعروف والثابت تاريخاً إن النصر معقود بلواء الشعوب.
#المنصور_جعفر (هاشتاغ)
Al-mansour_Jaafar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محجوب شريف
-
خزريات بابل ينشدن الزنج والقرامطة
-
هوية الأزمة في موضوع أزمة الهوية: عناصر أولية
-
المسألة اليهودية في السودان
-
أفراح الحزب والدموع دجلة وفرات على وجه العراق
-
إدانة الهجوم الدموي لجمهورية مصر العربية على لاجئين من السود
...
-
أناشيد إسماعيلية لخزريات بابل المعاصرة
-
قيـامـة النبي في كـوش
-
الوقت العصيب العراق
-
من الجهود المبذولة لحل الحـزب الشيـوعي وتصفيه وجوده العلني ا
...
المزيد.....
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
-
شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه
...
-
الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع
...
-
حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق
...
-
بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا
...
-
وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل
...
-
الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا
...
-
وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني
...
-
تأثير الشخير على سلوك المراهقين
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|