|
ليلى والذئاب: الفصل الثالث/ 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6371 - 2019 / 10 / 6 - 00:22
المحور:
الادب والفن
مأمور الدرك، واسمه " طراد آغا "، كان قد استعاد نفسه بصعوبة لدى الخروج من المضافة. في تالي الأيام، كانت صورةُ ستّ الحُسن، التي جعلها الخيالُ أكثرَ بهاءً مما كانت عليه وهيَ أمام عينيه، ما تنفكّ تجرح أحاسيسه. ولكنها كانت أياماً ثلاثة، حَسْب. فما أن انقضت مدة العزاء، إلا وثلاثة من نسوة آله كنّ في الطريق إلى شرق الحي، المعرَّف ب " رأس الحارة ". في ذلك النهار، كانت فاتي منشغلة بشؤون المطبخ حينَ جاء حَسّو، ابن وجيه العائلة، كي يُخبرها أن أمه تريدها في الحال. سارت إذاً وراء الصبي، ملتحفة بملاءة سوداء فوق ثوبها المنزليّ بينما رأسها ملموم كله كالكعكة بمنديل زاهي الألوان. وعليها كان أن تجمد في مكانها، مرتعدة بعض الشيء، لما علمت بأنّ النسوة الغرباء أتينَ من أجل رؤيتها. في المقابل، لم يبدُ على النسوة ما يوحي بالتحمس لعرض ما لديهن. ربما دارت في رؤوس الثلاثة فكرة واحدة: أين هيَ الدرّة الفريدة، المتهدل من تحت منديلها خصلات الشعر القرمزيّ، مِنْ هذه المخلوقة المرتعدة الفائح منها رائحة البصل والثوم! مع ذلك، أعربت كبيرةُ الوفد عن سعادتها: " ما شاء الله، هذه إذاً فاتي؟ "، قالتها مشددةً على الاسم. ومن الصعب، بالطبع، تصوّر ردة فعل المُخاطَبَة لما أُبلغت على الأثر بأنّ مأمور الدرك ذاك، الذي التقت به منذ بضعة أيام في مضافة هذه الدار، يطلبها زوجةً له. هكذا مضت الدقائق ثقيلة على قلب فاتي، لحين أن استأذنت النسوة الغريبات بالذهاب بعدما أكّدن بأن الأمرَ بعد الآن سيكون من شأن الرجال. لما عادت إلى منزلها، وأخبرت شملكان مفصّلاً بموضوع الخطبة، ما كان من هذه الأخيرة إلا القول بنبرة ساهمة: " هوَ مأمور الدرك إذاَ، الشابُ الأسمر ذو الملامح الوسيمة والمهيبة في آنٍ معاً؟ ". في حقيقة الحال، أنّ فاتي كانت بالكاد قد انتبهت لوجود المأمور في خلال فترة التحقيق معها.
*** في أواخر صيف ذلك العام، زفّت فاتي إلى ابن أخي كبير آل " زركلي "؛ العائلة الأرستقراطية، المعروفة بكثرة أملاكها الزراعية، الموزعة بين أراضي الجولان وحوران. حملتها إلى بيت حميها كرّوسةٌ، قادها ابنُ عمها أوسمان، الذي كان للصدفة قد عرفَ العريس قبلاً في إحدى سهراته بالحارة الجديدة. بيت الزوجية، كان يقع في أحد أزقة هذه الحارة، وكانت واجهته، المتعددة النوافذ والأبواب، تطل على منظر الشام ـ كأغلب بيوت السفح. مثلما ذكرنا فيما سبق، أنّ منازل تلك المنطقة كانت تُجاري العمارةَ الدمشقية؛ وإن لم تكن تماثلها في التصميم ونوعية مواد البناء. كون طراد آغا لديه زوجة وأولاد، يستأثرون بالحجرات العلوية من المنزل، فإنّ عروسه ستمنح منذ اليوم التالي غرفةً في الدور الأرضيّ كانت بالأصل مخصصة لحفظ المؤن. أما ليلة الدخلة، فإن العروسين قضياها في أكثر حجرات الدار اتساعاً وبذخاً. لا ندري، أكان لسوء فأل فاتي أو حُسنه، أنّ عريسها لم يقع صريعاً لما رفعَ البرقع وأبصر وجهها. لا لأنها غير جميلة، وإنما كونه قد ناجى لعدة ليالٍ صورةَ الأخرى ذات الشعر القرمزيّ والسحنة البهية البريئة، الأشبه بما لدى الأطفال. سأل عروسه أولاً، وكان في غاية الصدمة، عمن تكون. ظلت صامتة، ولم تكن أقل دهشة. أعمل فكره هنيهة أخرى، قبل أن يعود ويستدرك: " آه، نسيت أنك لا تعرفين العربية "، قالها كمن يخاطب نفسه. بعد عدة أشهر، لما أنطلق لسان فاتي باللهجة الشامية، سألها زوجها ذات ليلة عمن دعاها ب " الفتاة الصغيرة "، التي تعهدت الترجمة لها في خلال التحقيق. ردّت فاتي باقتضاب: " إنها شملكان، امرأة أوسمان ابن عمي ". علّقَ وكأنه يكلم شخصاً آخر: " أوسمان، ذلك الرجل الظريف والشرّيب! ". بقيت فاتي تضغط على جرح كرامتها سنيناً. لم تبُح بأمر سرّ زواجها إلا لربيبتها وابنة أخيها، ليلو، وكانت هذه قد أضحت عندئذٍ امرأة. *** شملكان، مثل أغلب نساء ذلك الزمن، كان لها جرحٌ ما يني ينفتحُ بعد كل ولادة. الأولاد، كانوا يتركون الدنيا بسبب هذه العلّة أو تلك، دونَ أن يكمل واحدهم العام على الأغلب. كانت ليلو تكبرُ عاماً بعد كل ربيع جديد، بينما فقدت شملكان مظهرَ الأطفال البريء بسبب توالي المحن. غير أنّ ملاحة امرأة أوسمان لم تتأثر، بل ولقد زادت مع نضج أطرافها. من ناحية أخرى، تخفف ما بنفس شملكان، كونها أضحت بمثابة الأم بالنسبة للأخرى. ولا كذلك كان حالُ والد ليلو، الذي صار يعاني من الوحدة على أثر زواج شقيقته. هذه الأخيرة، مثلما علمنا، كانت قبل ذهابها لمنزل رجلها قد كلمت موسي بشأن بقاء ابن عمهما في البيت. فلما تزوجت فاتي، رحبَ بالفكرة وأبلغ ابن عمه ألا حاجة له ببناء بيتٍ جديد. أوسمان، في المقابل، خيّبَ ظنّ موسي؛ بأنه لا يصلح للعمل وإنما لقضاء السهرات تحت ضوء القمر الجميل وبصحبة الخلان والخمر. قبيل عرس فاتي، ذهبَ إلى سوق الخيل وجرّب قيادة إحدى الكرّوسات ثم ما لبث أن عرضَ على صاحبها أن يشتريها مع خيلها. ستصبح هذه أول كرّوسة يملكها رجلٌ من سَريْ حاري ( رأس الحارة )، مما عنى أن صاحبها سيكتسب ربحاً وفيراً من مهنته. بينما كانت امرأته تعلّم ربيبتها شؤون خدمة المنزل، كانت خيل عربة رجلها تخبّ على طرقات سوق الجمعة لنقل الركاب إلى الحي مع مشترياتهم من لحوم وخضار وفاكهة. كونه ما يفتأ على مسلك الآباء الأولين، فضلاً عن تحرر فكره قياساً بالآخرين من آله ـ صار كل بضعة أشهر يأخذ امرأته وربيبتها لزيارة فاتي في الحارة الجديدة. في إحدى المرات، دخلَ طراد آغا إلى صالة الضيوف، وكان قادماً من الخارج. هنالك عند مدخل الصالة، وقف منبهتاً للحظات وكانت عيناه متعلقتين بالمرأة ذات الشعر القرمزيّ والتي كانت إذاك جالسة على الأريكة بكامل زينتها وبهائها. تمتم معتذراً، ثم تراجع إلى الخلف واختفى.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليلى والذئاب: الفصل الثالث/ 1
-
ليلى والذئاب: الفصل الثاني/ 5
-
ليلى والذئاب: الفصل الثاني/ 4
-
ليلى والذئاب: الفصل الثاني/ 3
-
ليلى والذئاب: الفصل الثاني/ 2
-
ليلى والذئاب: الفصل الثاني/ 1
-
ليلى والذئاب: الفصل الأول/ 5
-
ليلى والذئاب: الفصل الأول/ 4
-
ليلى والذئاب: الفصل الأول/ 3
-
ليلى والذئاب: الفصل الأول/ 2
-
ليلى والذئاب: الفصل الأول/ 1
-
عاشوريات
-
عصير الحصرم 76
-
عصير الحصرم 75
-
عصير الحصرم 74
-
عصير الحصرم 73
-
غرائب اللغات 2
-
عصير الحصرم 72
-
واقع، حلم ثم كابوس
-
الصعلوك
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|