رماز هاني كوسه
الحوار المتمدن-العدد: 6369 - 2019 / 10 / 4 - 19:20
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كثيرة أسماء الآلهة التي نقرأها في النقوش القديمة بمنطقة الهلال الخصيب . من هذه الأسماء اسم الإله بعل الذي يبرز بوضوح في النقوش الأوغاريتية في سوريا . أوغاريت المدينة الساحلية الكنعانية التي أعطت العالم الأبجدية الأولى . فالإله بعل الأوغاريتي هو عضو مهم بمجمع الآلهة الأوغاريتي و هو ابن للإله ايل كبير آلهة الشرق الأوسط سابقا من ساحل المتوسط الى اليمن. و كلمة بعل تعني السيد بمعنى السيد المالك و ليس كلقب اجتماعي الذي كان يستعمل له كلمات أخرى مثل مار أو أدون . و بقيت الكلمة حية لليوم بهذا المعنى في العربية حيث تطلق على الزوج و تصفه بالبعل ( السيد). و حول بعل تدور الأسطورة الأوغاريتية المعروفة التي تتحدث عن موت بعل و عودته للحياة . الإله بعل هنا يمثل إله العواصف و الامطار فهو نتاج المجتمع الزراعي و عبادته تعتبر من عبادات الخصب الضرورية لنجاح الدورة الزراعية التي تعتمد على مياه الأمطار . من هنا كان دوره أساسيا في المجمعات التي مجدته كإله . و قد تم تصويره بالنقوش الأوغاريتية على هيئة رجل حامل رمحا بشكل صاعقة يضرب بها الأرض فتورق و تخضر . و يوصف بعل بالأسطورة الاوغاريتية بأنه راكب للسحاب و يستخدم الغيوم في تنقلاته فنقرأ مثلا الإله كوثار حاسيس مخاطبا بعل :
وقال كوثار- حاسيس:
اسمع، يا بعل القوي
لتعي، يا أيها الراكب في السحاب
و نقرأ أيضا في نفس الأسطورة خطابا موجها لبعل :
أمطر، يا أيها الراكب في السحاب
الندى الذي تسكبه السماء
فالنصوص هنا توضح علاقة بعل المباشرة مع الغيوم و مع المطر . فهو يستخدم الغيوم في تنقلاته و يجعلها تمطر في المكان الذي يشاء . و من هنا بقي الاسم حيا لعصرنا الحالي عندما نقول عن الأراضي المسقية اعتمادا على مياه الأمطار بانها (أراضي بعل ) أي أراضي مروية بقدرة الإله .
من الأسماء الأخرى التي حملها إله العواصف و الأمطار هو الاسم (حدد ) و قد انتشرت عبادته بين سكان مدن سوريا الداخلية كحلب و دمشق ذات الثقافة الآرامية. و يعني اسم حدد بالآرامية الواحد فهو كان الإله الرئيس للآراميين كما يفسره خزعل الماجدي . يطرح أيضا ان الاسم مشتق من الحديد المعدن الذي تصنع منه السيوف الدمشقية و تدور حولها أسطورة ملخصها أن الإله حدد كان يضرب بالبرق جبل قاسيون مشكلا على سطحه معدنا كان الدمشقيون يجمعونه ليستعملونه في صنع السيوف الدمشقية الشهيرة و التي كان ينقش عليها عبارات تمجد حدد من قبيل ( حدد لم يخسر حربه من استعمل سيفك ) . و في عام 1979 عثر قرب تل حلف على نقش للملك حدد يسي ملك غوزانا يعود للقرن التاسع قبل الميلاد و هو نص بالاكادية والآرامية يذكر فيه اسم الإله حدد كمعبود في تلك المنطقة . كما عثر أيضا في قلعة حلب عام ١٩٩٦ على بقايا معبد للإله حدد و يعود البناء لنهاية الالف الثاني قبل الميلاد لفترة السيطرة الحثية على المنطقة مع كتابات تذكر اسم ملك يقف أمام الإله . و يظهر الإله حدد في نقوش جدارية اخرى راكبا عربته التي تجرها الثيران . فصورته هنا مشابهة للإله بعل الأوغاريتي الذي يركب السحاب كعربة له . حدد و بعل اسمين للإله نفسه إله العواصف و الأمطار.
الإله حدد كان معبودا رئيسيا بدمشق أيضا بنفس الفترة الزمنية و مكان معبده سابقا هو مكان الجامع الأموي حاليا و بقي من المعبد القديم حجر واحد موجود بمتحف دمشق يعود لفترة الملك حزائيل ملك دمشق . بفترة زمنية لاحقة تحول معبد حدد في دمشق إلى معبد للإله جوبيتر الروماني أثناء السيطرة الرومانية على سوريا و الذي يعني اسمه الأ جوفي( بيتر تعني الاب ) . اذا حاولنا التدقيق في صفات و وظائف الإله جوبيتر لوجدنا أنه أيضا يرتبط بعبادات الخصب بشكل مباشر فهو إله الأمطار و العواصف و كذلك مسؤول عن الزلازل و الظواهر الطبيعية و سلاحه الصاعقة التي يحملها بيده أما الطائر الذي يرمز له فهو النسر و قد تم أحيانا الدمج بين الشعارين بصورة نسر يحمل بمخلبه صاعقة للإشارة إلى جوبيتر . و بالاضافه لمعبد جوبيتر بدمشق كان له معبد ضخم في بعلبك . و من الممكن أن ما سهل تقبله من قبل السكان المحليين هو ارتباط جوبيتر بالأمطار و العواصف مثل المعبود السابق لهم حدد مما سهل عليهم تقبله و اعتبر مجرد تغيير في الإسم لا أكثر . رغم أن جوبيتر حمل وظائف حربية أيضا بالإضافة لوظيفته الزراعية . صورة جوبيتر لدى الرومان استندت إلى صورة زيوس كبير الآلهة اليوناني الذي يعتبر أيضا إله الأمطار و العواصف في الميثولوجيا اليونانية وبالإمكان التعرف على مصدر سلطاته من الأسطورة التي تتحدث عن حياته و ملخصها أن والده كرونوس خشي أن يقوم أحد أبنائه بقتله و الاستيلاء على سلطاته كما فعل كرونوس مع أبيه أورانوس . فقام كرونوس بابتلاع أبنائه الستة و لكن والدة زيوس استطاعت اخفاءه و حمايته ليكبر و يشن حربا على أبيه بمساعدة أخوته بعد أن أرغم كرونوس على أن يتقيأهم و بمساعدة الحلفاء الذين حررهم من سلطة أبيه فقام حلفاؤه باهدائه الصواعق كسلاح له. من هنا يرتبط زيوس بظواهر الطبيعة و الأمطار و العواصف بشكل مباشر .
نبقى بالميثولوجيا الأوروبية لنتعرف على إله آخر ارتبط بالعواصف و الأمطار هو الإله الشمالي ثور thor و يحمل اسما آخر هو دونار و هو مشتق من كلمة دونراز و التي تعني الرعد . هذا الإله يصور كشاب ذهبي الشعر و يحمل بيده مطرقة يضرب بها الأرض بقوة يزلزلها تحت أقدام أعدائه ( استعملت صورته و مطرقته في شخصية سينمائية هوليوودية تحمل نفس الإسم thor ) و ترك هذا الإله أثره على الثقافة البشرية لليوم و ذلك بيوم العبادة الخاص به الذي يسمى Thursday أو يوم ثور و هو يوم الخميس الذي كان مخصصا لعبادته . و كان لدونار وظيفة حربية أيضا بالإضافة لوظيفته الزراعية كنظيره جوبيتر و يبدو ذلك واضحا من صورته التي نقلته لنا راكبا عربة يجرها ماعزان و يقاتل أعداءه بصورة تذكرنا بمركبة الإله بعل راكب السحاب أو بمركبة الإله حدد التي وجدت منقوشة في الآثار المكتشفة بقلعة حلب . فالاله دونار هو إله الخصب للشعوب الآرية . و هو ما يدفعنا للانتقال لثقافة أخرى هي الثقافة الهندية التي تنتمي هي و الثقافة الأوروبية لنفس المجموعة اللغوية المسماة الهندوأوروبية . و نتعرف هناك على الإله اندارا و هو أحد الالهة الوافدين للحضارة الهندية مع الموجات البشرية الآرية التي استقرت بالهند و يعود للالف الثانية قبل الميلاد . و حسب النصوص الفيدية فإن الإله إندارا كان إلها للعواصف و الأمطار أيضا و حمل الصاعقة سلاحا له كمثل نظرائه في باقي الثقافات التي تحدثنا عنها . و الملفت للنظر هنا التشابه اللفظي بين الإله اندارا الهندي و الإله دونار الإسكندنافي و ممكن أن نرد ذلك للترابط اللغوي بين الثقافتين و انتمائها لمجموعة لغوية واحدة . مع العلم أن هناك دراسات جينية تطرح وجود ارتباط عرقي بين الشعوب هنا رغم التباعد الجغرافي . و هذه الدراسات ترجع الارتباط الجيني لموجات الهجرة الآرية التي انتقلت من شمال البحر الأسود و قزوين باتجاه الغرب و الجنوب و الشرق لتستقر بهذه المناطق .
من الهند شرقا الى أوروبا غربا نرى صورة نمطية واحدة لإله الخصب لدى هذه الثقافات المختلفة في العالم القديم مع اختلافات طفيفة تعود لخصوصية كل ثقافة . و مع الأيام بقي أثر هذه الصورة لإله الخصب موجودا في الابراهيميات و خصوصا في المسيحية و الإسلام . ففي المسيحية بقيت صورة بعل و حدد حية في هيئة القديس مارجرجس و هو يقتل التنين برمحه . أما إسلاميا فنراها بقيت في صورة الملاك المسؤول عن الرعد الذي يرد ذكره في حديث نبوي و نصه (عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أقبلت يهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد، ما هو؟ قال: ملَكٌ من الملائكة وُكلَ بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ـ فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: زَجْرُهُ السحابَ إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر، قالوا: صدقت.... الخ)..... فصورة ملاك الرعد هنا هي صورة مطابقة للإله بعل الأوغاريتي .
#رماز_هاني_كوسه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟