|
ملحمية اليابان وحميمية الإنسان
محمد عبيدو
الحوار المتمدن-العدد: 1554 - 2006 / 5 / 18 - 10:04
المحور:
الادب والفن
«أكيرا كيروساوا».. عبقري السينما اليابانية أو المعلم الأكبر كما يسميه المخرجون اليابانيون الجدد. والقاب أخرى كان ينتزعها بعد إخراج كل فيلم من أفلامه. [ولد في طوكيو 23/3/1910] وتوفي في أيلول 1998. ويعتبر «كيروساوا» الياباني. الأكثر شهرة خارج حدود بلاده. والياباني الأكثر عزلة فيها. ذلك أنه يجد صعوبة في تمويل أفلامه. وتعكس حياة كيروساوا الصراع الذي يخوضه فنان السينما الحقيقي في كل مكان من العالم. والثمن الذي يدفعه. لكي يعبر عن نفسه في إطار تحكمه قوانين السوق أكثر من أي فن آخر. فرغم النجاح الكبير الذي حققه كيروساوا على مختلف المستويات. منذ فوزه بالجائزة الكبرى لمهرجان فينسيا عام 1951. ثم بجائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي في نفس العام عن فيلمه «راشومون» وهو الفيلم الذي فتح السوق الغربية للأفلام اليابانية. ثم فوزه بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين عام 1952. عن فيلمه (حياة) وبجائزة الأسد الفضي في مهرجان فينيسيا عام 1954 عن فيلمه «الساموراي السبعة» ثم الدب الفضي مرة أخرى في مهرجان برلين عام 1958 عن فيلمه «الغابة المخيفة». رغم كل هذا النجاح، إلا أن الفشل التجاري لفيلمه «دودسكادن» عام 1969 أدى إلى تعطله عن العمل عدة سنوات. مما دفعه إلى محاولة الانتحار عام 1971. وبعد أن أنقذ كيروساوا من الموت بصعوبة. لم يتمكن من العمل في بلاده ولم ينقذه من أزمته غير ستديو موسفيلم في موسكو حيث أخرج «درسو أوزالا» فيلمه الوحيد في السبعينات، والذي فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان موسكو عام 1975، ثم بجائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي. ورغم نجاح دورسو أوزالا راح كيروساوا مثل أي مخرج مبتدئ يبحث عن عمل طيلة ثلاث سنوات، وفي عام 1978. بمساعدة من المخرجين فورد كوبولا وجورج لوكاس. وافقت الشركة الأمريكية فوكس بالمشاركة في تمويل فيلم «ظل المحارب» مع شركة توهو اليابانية، وليحصل كوروساوا عن فيلمه «ظل المحارب» على الجائزة الكبرى لمهرجان كان عام 1980. «كيروساوا» هو الولد السابع في العائلة، لأب مدرس في إحدى الكليات العسكرية، بعد أن ينهى دراسته الثانوية يتخصص –أكاديمياً- في فن التشكيل، واشتهر لفترة في هذا المجال، وأقام عدة معارض في اليابان، وذلك في الوقت نفسه الذي بدأ كيروساوا يهتم بالسينما بتشجيع من أخيه الأكبر «هيجو» الذي كان يعمل مفسراً للأفلام الصامته في دور العرض، ويحمل كل من الاثنين تقديراً عميقاً للأدب الروسي في القرن التاسع عشر الذي نجد أثره وشحنته الدرامية في معظم أعمال كيروساوا السينمائية فيما بعد. ويذكر كيروساوا أن معلوماته الأولية عن السينما تعود لأخيه الذي انتحر في السابعة والعشرين من عمره، وقد تأثر كيروساوا بوفاته كثيراً. في العام 1936 ينضم كيروساوا بصفة مساعد مخرج إلى إحدى الشركات السينمائية اليابانية (توهو، فيما بعد) ويستمر حتى العام 1942 يتدرب على يدي المخرج الياباني الكبير «ياماسان» ويعمل بإدارته في عدد من الأفلام الروائية والتسجيلية. و«كيروساوا» يجل «ياماسان» كثيراً ويعتبر أكبر وأغلى معلم بالنسبة له. فيما يلي وقفة مع أهم الأفلام التي أخرجها كيروساوا: جودوساغا: هو أول أفلام كيروساوا عام 1943 وهو يدور حول أحد أبطال المصارعة اليابانية. (أعاد كيروساوا إخراج هذا الفيلم بنفس الاسم عام 1945). الملاك الثمل (1948): مستحيل كما يقول «كيروساوا» أو أروي شيئاً من هذا الفيلم دون أن أتذكر بشكل خاص «توشيرو ميفوني» الذي يعرف بدقة كيف يقف أمام الكاميرا دون إضاعة متر واحد من الشريط السينمائي. إنه يمتلك إحساساً مذهلاً بالإيقاع لم يعرفه من قبله ممثل ياباني آخر. «كيروساوا» يبدو كشاعر مكتمل في هذا الفيلم. ديناميكية واضحة في حركة الكاميرا وعلاقة فريدة بين مجرم سكير وطبيب يحاول أن ينتزع رصاصة من كفه بعد مطاردة من قبل عصابة أخرى... وزعيمه الذي يعزف على غيتار قبل أن يقدم على ارتكاب جريمته. قصيدة تنتهي بمقتل الطبيب على يد زعيمه، العازف- القاتل، في مشهد مذهل وسط تخبطهما بين الدهانات البيضاء ويأسهما من الموت، اللاجدوى التي أرخت ستائرها على المجتمع الياباني بعد «هيروشيما» و«ناغازاكي». المبارزة الصامتة (1949): شرطي شاب يعود إلى بيته ظهراً وثمة حر شديد بعد تادية مهمة التدرب على الرماية، وفي الباص ووسط الازدحام ثمة من يسرق مسدسه الذي يحتوي خمس رصاصات.. السارق المجهول يقتل ثلاثة ويصيب رئيسه بالرابعة، فيما تكون الخامسة من نصيب الشرطي نفسه. لا نعرف شيئاً عن القاتل الذي يبقى حتى المشاهد الأخيرة دفيناً في لاوعي المشاهد حتى يظهر في المواجهة الأخيرة. القاتل يطلق النار وهو مذعور فيما يتهاوى الشرطي على موسيقى البيانو المنبعثة من شرفة تطل منها عازفة، ترى الجريمة، فتتثاءب وتعود لتعزف من جديد لحناً رتيباً، ينسجم تماماً مع نهارها. كثيرون قالوا للمخرج أن الفيلم صور اليابان في فترة ما بعد الحرب. وخلق الإحساس لدى اليابانيين بأن «أحداً ما سيقول لك عطلة سعيدة في أوتوبيس ما، سيسرق شيئاً وسيقتلك لاحقاً». راشومون (1950): عنوان الفيلم مستعد من مسرحية للكاتب الياباني «وبو ميتسو كاندز» و«راشومون» تعني الباب الداخلي للقصر. و«راشومون» حدد هوية المخرج لاحقاً وذلك من خلال دابه على تأصيل شاعرية الفيلم التي نستطيع تلمسها في أفلامه اللاحقة. يروي «كيروساوا» أن صديقة الحميم «شنيو بوها شيموتو» والذي كتب معه لاحقاً سيناريو «العيش» و«الساموراي السبعة» كان قد اقترح له قصة أخرى لكاتب آخر بعنوان «رجال ونساء» احتوت ثلاث قصص أضاف لها بنفسه قصة رابعة من قصص الكاتب نفسه. كتب كيروساوا في مذكراته عن راشومون: «كان السيناريو يحكي عن أناس يضلون الطريق في غاية أنفسهم، ومنها ينتقلون إلى غابة أكثر توحشاً..» «إن البشر لا يستطيعون أن يكونوا صادقين مع أنفسهم، حول أنفسهم، ولا يمكنهم الحديث عن أنفسهم بدون زخرفة، والسيناريو يصور أولئك الذي لا يستطيعون الحياة بدون أكاذيب فهم أناس يظنون أنفسهم أفضل مما هم عليه في الواقع، والفيلم يرينا كيف يتعلق الإنسان بالزيف والكذب حتى الممات. هناك شخصية تموت في الفيلم، ومع ذلك لا تتخلى عن أكاذيبها حين تتحدث مع عالم الأحياء عبر وسيط روحي، فالأنانية خطيئة يحملها الإنسان معه منذ يوم ميلاده، وهذا الفيلم عبارة عن شريط صور غريبة تقوم النفس بإعادة عرضها. أظهر راشومون البراعة الفنية الفائقة للمخرج، إذ تسرد أحداث القصة بأسلوب مثير مفعم بالحيوية، بلقطات محمومة متسلسلة عبر الغابة، مع أشعة الشمس التي تتلألأ عبر الأشجار في غموض يشبه غموض القضية وغموض الحقيقة ذاتها، وكذلك الموسيقى التي تشبه موسيقى البوليرو، وهي عوامل تألفت جميعها لتخلق جواً ينفس بالخطر، ومما لا شك فيه أن أداء الممثلين عمق من كثافة التوتر. فأداء توشيرو ميفوني لشخصية قاطع الطريق يجسد إحساساً متشابكاً بالتهديد الجسدي، كأسد يذرع قفصه جيئة وذهاباً، أمام ما سايوكي موري فإنه يطبع في الذهن شخصية المحارب النبيل بوقار يصيب المشاهد بقشعريرة، بينما أداء ما شيكو كيو لدور الزوجة التي تخفي شيئاً من الغسق داخل مظهرها المحتشم تجسد كل الغموض الذي لف موضوعات الفيلم الرئيسية. وقام بأداء دور الحطاب تاكاشي شيمورا أحد الممثلين المفضلين الذين مثلوا باستمرار مع كيروساوا. وخلال مسيرته الفنية المتميزة، طور كيروساوا العديد من السمات الفنية الخاصة التي يلمسها المشاهد في راشومون: ذلك الولع الشديد بالحدود القصوى للأنا وللمعاناة (فهو يقول إنني أحب الحدود القصوى للأشياء لأنها تنبض بالحياة)، واهتمامه بالشخصيات التي تظهر صلابة لا تهتز أمام الشدائد، وروح دعابة غير موقعة، واهتمام بكل ما هو مضحك، وفي الجزء الأخير من راشومون، يدرك المرء اقتراب المأساة من المهزلة، ويلتقط الإيحاء بأن التبريد الذاتي في رواية كل شخصية للحادثة قد يحاول إضفاء النبل على سلوك وحدث يتضح في الحقيقة، أنهما يتسمان بالحقارة والسخف والخسة. أما بداية الفيلم ونهايته، اللتان تمثلان إطار العمل فتبدوان بطيئتين وشاعريتين، بينما تثير العودة الكابوسية المتكررة للغابة الجزع والوجوم. غير أن الروايات المتباينة لما حدث لا تدعو إلى الملل، لأن الهدف من البحث ليس هو التفتيش عن حل للغز الجريمة، وإنما عن مفتاح كل شخصية على حدة، ويتمثل إنجاز كيروساوا العظيم في أنه جعل تحليلة للانحراف المعقد للنفس البشرية يبدو مثيرا لدرجة توقف شعر الرأس مثله مثل أي فيلم إثارة تقليدي. الأبله (1951): «للقلب البشري حدوده، وقد أقول أن قلب فيودور دوستويفسكي كان بدون أية حدود». هكذا يؤكد أكيرو كيروساوا الذي قدم لنا، عن رواية دوستويفسكي المعروفة. قصيدة طويلة وحوارات سيكولوجية عميقة حملتها في الأساس الرواية –الأصل، استطاع بعبقرية وشاعرية أن ينقلها للشاشة. إن رسمه لشخصية الأبلة أعطى انطباعاً أن كيروساوا عالم نفس من طراز رفيع وعموماً، فإن أفلمة أعمال ديستويفسكي مهمة شاقة قد لا يحلو لأي مخرج مهما بلغ شأنه أن يتجاسر ويقترب منها، تماماً مثل «هيتشكوك» الذي اكتفى بقراءة «الجريمة والعقاب» فيما تجاسر «كيروساوا» وأخرج الأبلة قائلاً: «إن ديستويفسكي يساعدني على العيش في هذا العالم وأنا أنتمي لابدعاته كلها». حياة (1952): يصنف كأحد أهم أعماله، إن الشخصية الرئيسية في الفيلم رجل بيروقراطي في منتصف العمر يعلم أنه مصاب بسرطان في المعدة وإنه يسير سريعاً نحو موت محتم، مما يسبب له صدمة في حياته التي يحياها والتي يدرك الآن كم كانت تافهة وفارغة، ويسمع بالصدفة حديثاً بين ابنه وزوجة ابنه يدرك منه إنهم لا يهتمون إلا بماله، ويكتشف كم كان بيروقراطياً عندما عرقل مشروع كان معداً لإنشاء ساحة لعب أطفال في أحد الأحياء الفقيرة، ويصمم أن يدفع بالمشروع إلى الأمام كتعويض عن حياته السابقة التي كانت دون أي معنى، كما تنشأ علاقة لطيفة ممتعة بينه وبين إحدى العاملات في مكتبة، ويمضي مضحياً بكل شيء من أجل الهدف الذي يستحوذ عليه، وينتهي الفيلم برسالة أن لا أحد يستطيع ترك هذه الحياة مخلفاً وراءه ذكرى سيئة. تتعامل الثيمات الأربع لفيلم «حياة» مع: كيف يتعين على الناس أن يعيشوا لكي يموتوا برضا، والمنافسات الصغيرة للبيروقراطية وعدم فاعليتها وعدم مسؤوليتها وتذلل البيروقراطيين لرؤسائهم، وعدم فاعليتهم تجاه المواطنين العاديين، ومع فجوة الأجيال بين الأب والابن، ومع مذهب اللذة، الذي ساد ما بعد الحرب. يتمركز الفيلم حول الثيمة الأساسية –معنى الحياة- بينما تدعم الثيمات الثلاث الأصغر التوتر المتأصل وتقوية عن طريق إظهار تناقض مثاليته وإظهار أن الحياة الحقيقية أمر مختلف. ومع ذلك فقد أعطى «كيروساوا» كلا من الثيمات الثانوية اهتماماً متساوياً، ورسمها جميعاً بكل صرامة وحدّة. الساموراي السبعة (1954): تصوير شاعري لأجواء القرون الوسطى مع الاقتراب بعدسة الكاميرا من أخلاقيات ومبادئ سادت في تلك القرون لدى فرسان «الساموراي». قرية صغيرة تتعرض كل عام لاجتياح من قبل قاطعي طرق مما يدفع باثنين من أهلها إلى الخروج للبحث عن سبعة مقاتلين أشداء من فرسان الساموراي. يتمكن الاثنان من إيجاد ضالتهم المنشودة ويعودون جميعهم للدفاع عن القرية ويقتلون الواحد تلو الآخر فيما يبقى حياً قائدهم الذي يدفنهم على إيقاعات نشيد ياباني من أغاني «الهايكو» يمجد الأخلاق والبطولة والعمل والحب.. لقد قلد الكثيرون حبكة الروايات التي قدمها كيروساوا. لكن لم يتمكن وأحج من مضاهاة أسلوبه. فمع مونتاجه الديناميكي، والاستخدام الجريء لعدسات التصوير المقربة لأخذ اللقطات القريبة الفجائية وغير الواضحة، والحركة البطيئة غير المتوقعة لمشاهد المعركة (قبل أن يصبح هذا عرفاً سينمائياً شائعاً بفترة طويلة)، فإن الساموراي السبعة يمثل أفلام الحركة والإثارة في أرقى مستوياتها الفنية. وعندما ينفخ كيروساوا حرارة براعته الفنية الفائقة، فإنه يبرز كواحد من أكثر صناع الأفلام العصرين نشاطاً وحيوية. الحضيض (1957): في هذا العام صور كيروساوا فيلمين، أخذت فكرة أحدهما عن مسرحية «ماكبث» شكسبير تحت عنوان «عرش الدم» والآخر باسم «الحضيض» عن مسرحية غوركي بنفس الاسم. لقد استخدم كيروساوا في «الحضيض» تكثيفاً جديداً للكاميرا، كما جعل أسرة الفيلم تكرر دورها لمدة ستة أسابيع بكامل مكياجهم وملابسهم وبكل الإضاءة والديكور المناسب. فكانت النتيجة نموذجاً للتمثيل محوطاً بعناية فائقة خدمت غايته بشكل تام في إظهار المشاهد المتتالية بشك لموجز ومحكم. لم يكن للفيلم بطل أو بطلة ومع ذلك فقد برع توشيرو ميفونة (الذي يعتبر منذ فيلم الملاك المخمور 1948 القاسم المشترك بكل أفلام كيروساوا) في دور اللص. اللحية (1965): يصل دكتور ناشئ إلى إحدى المستشفيات للعمل فيها إنه يبدو مأخوذاً بمهنته ويود أن يكون طبيباً ذا شأن، يعمل عند علية القوم ويعيش حياة مترفة بعيدة عن الفقر والمرض. ويلتقي بدكتور آخر معروف باللحية الحمراء وهو رجل ذو شخصية طاغية. راسخ العلم، يستثير الغضب من حوله بسبب قسوته الظاهرة التي يدير بها المستشفى. إن السيناريو يعرض الأحداث على مستويين: الأول رسم الشخصية والثاني تحديد تفاصيل الواقع بعلاقة الإنسان بالمكان- البيئة. ويستخدم كيروساوا شخصية الطبيب الناشئ لهدفين: الأول معالجة موقف الشخصية ذاتها «المتطورة» من موقف طبيب متعال باحث عن المجد والترف. إلى طبيب صاحب رسالة إنسانية والثاني التعرف على الواقع من خلال هذه الشخصية وعلاقتها بشخصية الدكتور ذي اللحية الحمراء. أي من خلال تطور هذه الشخصية عبر مشاهد الفقر والمرض والجهل التي يزخر بها مكان الحدث. درسو أوزالا {1975} : يقوم البناء الدرامي للفيلم على العلاقة بين رجلين: متناولاً الموضوع من خلفيتين اجتماعيتين مختلفتين. فتطورت العلاقة بينهما وأثرت عليهما وغيرت مواقفهما. فالأول صياد حياته جزء من الطبيعة. وقد استخدمه أرسينيف والذي كان يقود البعثة عبر الطبيعة. من أجل المساعدة في البحث عن معالم الحياة في سهول سيبيريا الشاسعة. ومن خلال ديرسو يبدأ أرسينيف باكتشاف المعنى الحقيقي للحياة. وعندما بدأ نظر ديرسو بضعف يأخذه أرسينيف ليعيش خارج بيئته فيقفل راجعاً إلى براريه المتوحشة. ولكنه يقتل على يد أحد اللصوص الذين أرادوا سرقة السلام الذي أهداه إياه أرسينيف لحماية نفسه. أن ذلك. يقدم المخرج في الفيلم وجهة نظر شخصية جداً حول العلاقة بين الإنسان والطبيعة ويصور لنا من خلال هذه العلاقة علاقة أكثر تحديداً وهي الحب والمشاعر الخاصة بين إنسان وإنسان آخر. ويطرح لنا المخرج أفكاره هذه من خلال «درسو أوزالا» الشخصية المحورية للأحداث و«أرسينيف» قائد فرقة الاستكشاف ومن خلالهما تتفرع أحداث الفيلم ذات الطابع التسجيلي لتكشف لنا عن الأبعاد الإنسانية العميقة بين الإنسان الذي لم تبد له مظاهر المدينة والحضارة وبين الطبيعة ثم بين الإنسان وإنسان آخر نشأ وترعرع في مجتمع حضاري يرفض أي شكل بدائي –متمثلاً في الفيلم بحياة الغابة-. الصفاء والنقاء الروحي الذي أظهره الفيلم لا يمكن أن يظهر في عالم اليوم إلا من أولئك الذين ظلوا يعيشون بعيداً عن جرف الحياة العصرية. ولا زالوا ملتصقين بالطبيعة ليكونوا جزءاً منها. ظل المحارب (1980): يتناول الفيلم لمحة حقيقية من تاريخ اليابان في الربع الأخير من القرن السادس عشر عندما كانت تتصارع عدة مقاطعات للفوز بالعاصمة (كيوتو). وقصة الفيلم تروي أن المحارب القوي وقائد إحدى القبائل توفي فجأة عام 1573. ولكن لم يعلن عن موته إلا بعد ثلاث سنوات حتى تتمكن القبيلة من السيطرة على الإثار المترتبة على موت قائدها. وفي هذه السنوات كان هناك شبيه له يمثل دوره. وهذا الشبيه في الفيلم مجرد لص فقير. إن المأساة، أو المأساة الكوميدية كما يطلق عليها كيروساوا في فيلم «ظل المحارب» ليست مأساة «البديل» كما أنها ليست مأساة إن هذا البديل هو بديل لسيد رغم أنه لص فقير. الفيلم يتضمن هذه المأساة في بعدها النفسي. وخاصة عندما يصدّق البديل أنه الأصل. وفي بعدها الاجتماعي. خاصة عندما يفتضح أمره عندما يفشل في امتطاء جواد السيد فيطرد شر طردة. ولكن فيلم «ظل المحارب» يعبر عن رؤية شاملة. إنه فيلم نهاية عصر. وسقوط لطبقة. وتأتي أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها تأثيراً في دقائق المعركة عندما ينهزم جيش الملك وتمتلئ الساحة بالجثث. وتتهاوى الأحصنة مقتولة. إنها النهاية الطبيعية للكذب والصراع على السلطة والذي يدفع ثمنه الجنود الذي أخفيت عنهم الحقيقة. ويستخدم المخرج طريقة التصوير البطيء. لتسجيل لحظة الموت للإنسان وللحصان. في لقطات فنية بارعة التنفيذ. تظل من أجمل المشاهد السينمائية في تاريخ السينما. ووسط هذا الدمار... والخراب... والدم... والجثث. ورائحة الموت التي تخيم على المكان كله وتصبغه بلون خانق وكئيب... وسط هذا كله يتقدم البديل المطرود، بملابسه الممزقة، ووجهه المجهد.. ليحمل سهماً من بين أكوام جثث الجنود.. ويجري في اتجاه الأعداء واثقاً من مصرعه.. ويصاب بطلقة سريعة.. ويسقط جثة دامية فوق مياه البحيرة التي تحوي رفات الملك الحقيقي.. ويتلون ماء البحيرة بلون الدم.. والجثة تطفو وبجواره. الأعلام الغرقى في المياه الحمراء.. وينتهي الفيلم وكأنه أغنية عذبة للموت!!. ران (1987): هو الفيلم العاشر. الذي أتاح لكيروساوا منذ فيلمه «هم الذين وطئوا ذنب النمر». أتاح بالنسبة لهذه الأفلام التي تدور حوادثها في حقبة زمنية قبل القرن العشرين. إن يعيد بناء الماضي. بإتقان في جانب الديكور والملابس، والتصرفات السلوكية حد العظمة. دون أن تؤثر هذه الحقبة الزمنية على السياق الدرامي الذي يحتاجها. رواية الفيلم مستوحاة من «الملك لير» لشكسبير تعتمد على موضوع الحرب القائمة بين الأب وأبنائه. هذا الموضوع الذي سبق وعرض في «ظل المحارب» حيث يموت البطل بعد أن ينفي أباه. أما في «ران» فإن هير يتورا ينكره أولاده. هنا مأساة هذه الحقبة المليئة بحروب لا تنتهي بين القبائل للحفاظ على سيادتها. وكيروساوا يستدعي الإلهة لكي تكون شهوداً على هذه الفاجعة. «ران» فيلم من السينما الدرامية (الصراع العائلي والسياسي كما في ظل المحارب). وسينما التاريخ (الصراع على السلطة كفيلمه الساموراي السبعة). والطبائع الإنسانية المتشائمة (راشومون) كذلك ترى في محور الفيلم شخصية هزلية (كيوامي مهرج الملك) والذي يعلق على أحداث التاريخ بشك أخلاقي ونقدي لاذع. إن الفيلم كله تجربة عظيمة في التعبير عن معاناة الإنسان تحت وطاة الطمع والخطيئة والانتقام. ودرس جدير بالتأمل في التمثيل والتصوير وحركة الكاميرا والتكوين السينمائي. يقول كيروساوا: «أرجو أن اقترب في فيلم ران من حقيقة السينما قدر المستطاع ففي أفلامي السابقة كانت لحظات معدودة قريبة من هذه الحقيقة. أما هنا فأنا أرغب في أن تسيطر السينما باستمرار». أحلام (1991): يتكون الفيلم من ثمانية أحلام. ويجعل كيروساوا من أحلامه الثمانية أو قصائده الثمانية مثل سوناتات شكسبير- قريبة في المسرح- شكلاً فنياً للتعبير لم يسبق له مثيل في الجمع. ولا أقول المزج بين العام والخاص فهي أحلام وكوابيس. وهي في نفس الوقت سيرته الذاتية. وسيرة بلاده اليابان في القرن العشرين. الذي عاشه من بدايته إلى نهايته. كما أنها قصة الحياة الإنسانية أيضاً كما يراها من واقع تراث اليابان الثقافي والفكري. نشيد آب الحزين (1991) كيروساوا الذي بلغ من العمر 81 سنة. مازال قادراً على تأليف حالة وجدانية عميقة تهز المتفرج في الصميم على السطح يبدو فيلمه الأخير «نشيد آب الحزين» عملاً خالياً من عناصر الإثارة حتى في أبسط قواعدها النفسية. لكن الحقيقة أن الفيلم يحتوي على شحنات متوالية من الألم والغضب تنفجر جميعها في المشهد الأخير في خمس دقائق لا تنسى بين كل أفلامه. «نشيد آب الحزين» فيلم حميم وعاطفي. أقرب إلى بعض أعماله في الخمسينات صورة ودودة لجدة عجوز تروي لأحفادها في عطلة الصيف قصة القنبلة الذرية الرهيبة. إنه عن جدة لديها شقيق عاش منذ سنوات بعيدة في الولايات المتحدة وها هي ترفض مجدداً السفر إليه رغم إلحاح أحفادها. لكن ذكرى إلقاء القنبلة النووية في التاسع من آب. فوق ناكازاكي. حيث تعيش الأسرة. والذي يقترب متسللاً إلى قلب الجدة. واهتمام الجيل الجديد بالتبحر بذلك التاريخ القريب مما يدفع الجدة إلى عملية تواصل بينها وبين الذاكرة المشروخة. ثم تلتقي بعجوز مثلها خسرت زوجها في ذلك الحين حيث تتجالسان صامتتين متواصلتين عبر المأساة الواحدة. وأخيراً موت شقيقها دون أن تتمكن من زيارته. يفجر كل تلك الأحاسيس في ذات الجدة. وفي يوم عاصف تنهمر فيه الأمطار بغزارة، تفقد رزانتها وتركض تحت مظلتها الصغيرة وفي بالها أن البرق فوقها هو ذاته برق القنبلة النووية التي ألقاها الأمريكيون. تركض ووراءها يركض أفراد العائلة تكسير الرياح أسلاك مظلتها وتزداد مواجهتها للجدة فتبدو مثل إنسان قرر مواجهة الألم بسيف قوي. اللقطة لا تنسى والفصل بكل مشاهدة يجسد كل تلك المعاني التي حفرها الفيلم بهدوء في البال. حتى بعد تجاوز الثمانينات من عمره يتراءى شغف كيروساوا السينمائي أقوى من شيخوخته ففي عام 1993 ينجر كيروساوا فيلمه الأخير «مادوا دايو». في الثالثة والثمانين ينجز كيروساوا عملاً عن مدرس ما زال غير جاهز للموت (و«مادا دايو» في اليابانية تعني ذلك تحديداً). قصته تبدأ في مطلع الأربعينات عندما يترك التعليم وتستمر إلى الحاضر. إنها حكاية معلم وتلامذته الذين كبروا وأصبحوا أرباب عائلات لكنهم ما زالوا يجلون هذا المعلم ويحترمونه.
#محمد_عبيدو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السينما الروسية بين الماضي والحاضر
-
سيرة حياة أليمة فان غوغ
-
كريستوف كيشلوفسكي :سينما الحوار و الشاعرية و الطرح الفلسفي
-
المخرج روبرت التمان : افلامه تصف امريكا العالقة بالوحل ، لاي
...
-
يوسف شاهين تجاوز الثمانين ومازال في شباب نشاطه
-
ستانلي كوبريك : سيرة حياته وأعماله
-
مشاكسات الورود
-
أحلام السينما وتمرد السوريالي لويس بونويل
-
تمارين العزلة
-
السينما الجزائرية بعد الحرب..
-
اضاءة على السينما الصينية
-
افلام السيرة الذاتية
-
الصهاينة و- الهولوكوست - سينمائيا
-
السينما والتاريخ العربي
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|