|
حكاية من محلة الباشا
حامد تركي هيكل
الحوار المتمدن-العدد: 6360 - 2019 / 9 / 24 - 04:27
المحور:
الادب والفن
1 يعرف سكان محلة الباشا كلهم غانما. فهو رجل طيب ومحترم جدا. يعمل بائعا في دكانه الصغير الذي فتحه من بيته مستغنيا عن غرفة الضيوف . يقع بيته في تقاطع دربونة ضيقة تتصل بزقاق عريض تطل عليه بيوت حسنة التصميم تتكون من طابقين من طراز الشناشيل البصرية . يربط هذا الزقاق جسر الغربان من جهة الشمال بشارع باب الزبير، اذ بعد ان يجتاز البراحة عند جامع أبي منارتين ينتهي هذا الزقاق بجدار ، ويتفرع في تلك النقطة الى فرعين ، أحدهما الى اليمين يسير متعرجا حتى يلتقي بشارع العرباين ، حيث كانت العربات التي تجرها الخيول تقف ، والتي كانت تنقل الناس الى المستشفى الجمهوري ، وحيث توجد بضع دكاكين للسراجين وباعة المواد التي تحتاجها عربات الخيل ، أما الأيسر فيتجه شرقا الى محلة السيف ، يتفرع منه فرع صغير ولكنه مهم يتجه الى الجنوب حيث يلتقي بشكل متعامد مع شارع باب الزبير عند مدخل سوق العقيل قرب صيديلية جبار. أما أهم موضع في هذا الزقاق فهو البراحة ، وهي ساحة تقع عليها مجموعة من الدكاكين ومخبز من جهة الشرق وجامع أبو منارتين من الجهة الغربية . على مقربة من بيت غانم تقريبا ثمة زقاق ضيق آخر يقود الى كنيسة .كان غانم يعمل في دكانه من الصباح الباكر وحتى أذان الظهر حين يغلق الدكان ويدخل بيته من باب داخلي يقوده مباشرة الى فناء البيت ، ثم يعود ليفتح باب الدكان عصرا الى ما بعد صلاة العشاء بساعة في أيام الشتاء وأكثر من ذلك في أيام الصيف. يعمل طيلة أيام الأسبوع فيبيع كل ما تحتاجه العائلات من مواد غذائية ومنزلية ، كان العمل يزدهر في يومي الجمعة والأحد حيث يفد الى المنطقة رواد من مناطق بعيدة للصلاة في الجامع والكنيسة. حتى أنه أصبح معروفا للمصلين القادمين من مناطق بعيدة وخاصة للنساء المسيحيات اللواتي أصبح التسوق من دكانه جزءً من برنامجهن ليوم الأحد. وحيث أنه موجود دائما في الدكان فلا يتذكر أحد أنه قد دخل مرة ذلك البيت . فحتى الضيف الذي يأتي لزيارته فهو يستقبله في الدكان ويستمر في عمله المعتاد. ربما لأنه لا يملك غرفة للضيوف أو ربما لأنه لا يحب أن يغلق دكانه . وحتى النسوة اللواتي حاولن غير مرة زيارة زوجته كان يدعوهن للجلوس معه أمام الدكان . ولتجنب الاحراج كن يعتذرن رغم أنهن كن في قرارة أنفسهن يحببن تجاذب أطراف الحديث معه لأسلوبه المرح ولحديثه الممتع ووجهه الجميل . كان طيبا ومحبوبا جدا وخاصة من قبل الاطفال ، اذ كان غالبا ما يقدم لهم شتى أنواع الحلويات من اللقم وقرص النعناع والمصقول مجانا. كان يبتسم للجميع ويتساهل في الأسعار كثيرا . وكان كثيرا ما يبيع العائلات كل ما تحتاجه على أن يدفعوا له عند توفر النقود لديهم، لذلك كان يحتفظ بدفتر كبير خصص لكل عائلة صفحة منه. وأحيانا يخصص صفحة لكل فرد حين يطلب منه الشباب أن يحتفظوا بسجل مشترياتهم الذي يتضمن السجائر بمعزل عن مراقبة آبائهم وأمهاتهم. وكان يفعل كل ما يطلب منه برضا وأريحية قل نظيرها. شملت مبيعات غانم فضلا عما يجلبه من محلات بيع الجملة ما كانت بعض العائلات تقوم باعداده في المنازل الفقيرة من محلات البلوش والصبخة كالطرشي واللبن الخاثر وليف الحمام الذي تنسجه النسوة ، فضلاعن المكانس والمراوح اليدوية والسلال والأطباق التي تصنعها النسوة من خوص النخيل في مناطق كوت الحجاج وكوت الدخيل خلف معمل المساميرالذي يقع الى الشمال من جسر الغربان . ثم شملت بعد ذلك بيض الدجاج والبط والتمر المكبوس والمعسل والدبس والخل وماء اللقاح والسبع مايات وغيرها من المنتجات التي لا يجد الناس محلا تتوفر فيه كما تتوفر في دكان غانم أغلب أيام السنة ، حتى اكتسب شهرة وشعبية لا مثيل لها أضافت الى سمعته الطيبة رصيدا آخرا فازدادت أرباحه . 2 فهيمة زوجة غانم، هي امرأة في الثلاثين من عمرها ، جميلة وهادئة . لم يسمعها أحد يوما وهي تتكلم ، حتى أن الجيران ظنوا أنها لا تعرف اللغة العربية . زعم بعضهم أنها فارسية ، فيما قال آخرون أنها بلوشية . ولكن أم خلدون المرأة التي أعتاد سكان محلة الباشا رؤيتها تجوب أزقة المحلة وتتكلم مع النسوة اللواتي يجلسن على دكات بيوتهن عصرا، والتي كثيرا ما كانت تلتصق بأحد الشبابيك المطلة على الزقاق لتكلم النسوة اللواتي في الداخل عندما لا تجد في الزقاق من تكلمه، كانت متأكدة أن فهيمة خرساء . فهيمة تعرفه أيضا فهو رجل بخيل ، ويحب محادثة النساء كثيرا ولكنه قليلا ما كان يكلمها . كانت تسترق السمع من خلال الباب الداخلي الذي يفصل الدكان عن البيت لأحاديثه مع الزبائن وخاصة النساء منهن، وكانت تشعر بالغيرة ، فهي لم تسمعه يتحدث معها باللطف نفسه . حتى أنها فكرت غير مرة بالهروب من البيت الى أهلها ، ولكنها لم تفعل لأنها لم تكن تجد في نفسها الشجاعة الكافية للافصاح عن الاسباب التي تدفعها للهروب. ليس هذا فحسب ، بل أنه كان يحرمها من زيارة أهلها الذين ما عادت تعرف الطريق اليهم ، ولم تكن متاكدة بعد كل تلك السنين ما اذا كانوا لا يزالون يسكنون البيت نفسه أم أنهم انتقلوا الى مكان آخر ، بل لم تعد متأكدة ما اذا كانوا أحياءً أم أموات . مرة طلبت منه زيارة أهلها ، ولكنه رفض بشدة متذرعا بأنه يكدُّ ليل نهار من أجل توفير لقمة العيش لها وليس لديه مجال لمثل تلك الأمور . ولم تعد تجرؤ على مثل ذلك الطلب مرة أخرى. فهيمة تعرف أنها تحبه ، وتعرف انه كان يحبها كثيرا رغم أنهما لم يرزقا بطفل ، الا أنها لم تعد متأكدة من بقاء ذلك الحب في قلبه. 3 جبار رجل قصير القامة عابس الوجه دائما هو الآخر في الثلاثين من العمر يعمل شرطيا سريا أو مسئولاعن الأمن في المنطقة. كان يعرف الجميع ويعرفه الجميع أيضا ، بل كانوا يخشونه ويمقتونه. كان نادرا ما يتكلم مع أحد وهو يذرع أزقة محلة الباشا جيئة وذهابا بين مقر عمله السري وبيته. جبار هو الآخر يعرف غانما جيدا . وغانم متأكد أن جبار يعرفه بشكل خاص ويعرف ماضيه الذي لا يعرفه أحد سوى جبار في كل محلة الباشا . ذات ليلة شتائية ماطرة وعندما كان غانم يهم بغلق باب الدكان ، كانت الميازيب الحديدية الناتئة من السطوح تسح مياه غزيرة ، كانت شلالات من الماء تصب على أرضية الزقاق. وبعض الشلالات تتقاطع في أكثر من موضع حيث تكون الميازيب متقابلة. شَكَّلَ صوتُ خرير الماء وصوت المطر وعصف الرياح في الزقاق ما يشبه الموسيقى الحزينة. لم يعد أحد يسير في الزقاق في تلك اللحظة ، فقد دخل الجميع بيوتهم. الا ان جبار وحده كان يسير بخطى ثابتة باتجاه دكان غانم. رفع العارضة الخشبية التي تفصل الدكان عن الزقاق ودخل . ظن غانم انه كان يريد الاحتماء حتى يخف المطر ، ولكن جبار بادره بلهجة باردة ميتة لا مشاعر فيها .( اسمع غانم اضبارتك صارت بيدي ، ولا أحد غيري يعرف عنها ، أخفيتها عن الجميع ، المدير نفسه لا علم له بها . باختصار رقبتك بيدي ). فقد وقعت بيد جبار اضبارة قديمة علاها التراب ، اضبارة مهملة من أرشيف الدائرة . كتب على جلدها البالي ( غانم عبد الهادي سالم مواليد 1932) . لفت الاسم انتباه جبار فراح يقلب الاضبارة ويقرأ محتوياتها وقد هاله ما عرف منها من معلومات . صيد ثمين لابد أن جبار سيستفيد منه بلا شك. لم ينبس غانم ببنت شفة . طلب جبار من غانم أن يعطيه موادا كثيرة ، بيدين مرتعشتين أحضر غانم كل ما طلبه جبار وحلقه ناشف لا يبله ريق، يرتجف بشكل غريب . تصور ان جبار سيفضحه في كل محلة الباشا ، وستكون سيرته على كل لسان ، وسيطلقون عليه أسماءً، وسيكرهونه بلا شك ، وسيعرفون ماضيه. واضب جبار بعد ذلك اليوم الماطر على أخذ كل ما يريده دون أن يدفع فلسا واحدا ودون أن يناقش الأمر مع غانم الذي خفَّ عنه روعه مع الأيام بعد أن تأكد أن غرض جبار ليس الا الحصول على ما يريد من مواد بالمجان. استمر ابتزاز جبار لغانم سنوات طويلة ، امتدت لتشمل كل سنوات الحصارتقريبا. 4 ساكو الرجل الاربعيني يعرف غانما أيضا . فهو يزوره مرة كل اسبوع ويجلس معه قليلا. يجلب اليه بسرية تامة كيسا فيه بضع زجاجات من العرق الذي يحبه غانم. عرق ممتاز يصنعه ساكو بنفسه في بيته ويبيعه على البارات وبعض الزبائن. وغانم لا يتأخر عن دفع ثمنه فهو ينقد ساكو ثمنه حالا. وكثيرا ما أبدى اعجابه بجودة العرق . يعرف ساكو ان غانما زبون دائم ومضبوط لا يجادل في السعر الذي ما انفك يزيده باستمرار. تجمع الرجلين أشياء كثيرة مشتركة ، فهما يحبان العمل وكسب الزبائن ، وغالبا ما كانا يتحدثان عن هذه الأمور. فضلا عن أنهما يعدان نفسيهما غريبين فقد قدم كل منهما من مكان مختلف ، ولذلك كانت أغلب الاحاديث التي يخوضانها تتمحور حول جمال الماضي. كما أنهما كانا أحيانا يتحدثان عن النساء، ويضحكان من قلبيهما . أدرك ساكو بعد مدة أن الاحاديث صارت متكررة وكأنها شريط مسجل، ومع ذلك استمرا عليها بالسعادة نفسها. في سنوات الحصار صارا يتحدثان عن أمور جديدة كالأسعار وشحة المواد وانخفاض اعداد الزبائن فضلا عن الحرب . 5 أما غانم فهو يعرف نفسه . فهو يكد بعمله ليس طمعا ولكن لأمر بسيط جدا ، فهو يريد أن يشغل نفسه وينسى . ينسى همومه لا غير. فهو بعد أن يغلق باب دكانه ينسحب بهدوء الى البيت ، ودون أن يتكلم مع زوجته يجلس ليستمتع بمشروبه مع بعض الأطباق التي تحرص زوجته على اعدادها من أجله. وجد في الشراب معينا له على نسيان آلامه قليلا. حاول أكثر من مرة أن يجد طريقة أخرى تساعده على قضاء الليل دون أن يشرب ولكن دون جدوى. فهو يعرف ان العمل كفيل بالنهار ولكن ماذا عن الليل. حاول مرة ان يجرب نصيحة شيخ جامع أبي منارتين الذي ما انفك يدعوه للحضور الى الجامع للصلاة . كانت يقول له ( تعال بنيَّ ستجد في صلاة الجماعة راحتك)، ولكنه لم يفعل. وحاول مرة أن يذهب الى الكنيسة مقتديا بالنساء والرجال كبار السن الذين يحملون أجسادهم المتعبة كل يوم أحد الى داخل الكنيسة الذي لابد أنها توفر لهم الراحة مما عانوه ويعانوه من متاعب الحياة ، ولكنه لم يفعل ، واكتفى بشرب عرق ساكو الجيد . كل ليلة ومنذ زمن بعيد لم يعد يتذكره كان يواضب على برنامجه اليومي بانتظام. وهو يعرف انه كان ينام بعد أن يثمل ، و كان يشعر أنه يمسي سعيدا ربما بعد أن يثمل، حتى أنه شك أنه كان يداعب زوجته قبل النوم ، لم يكن متأكدا من ذلك ولكنه كان يعتقد ان مثل هذه الأمور كانت تحدث، فهو متأكد تماما أنه ما زال يحبها حبا جما. أما ما يؤرقه فهو ذكرى بعيدة ما انفكت تطارده. كان يومها شابا صغيرا ، وكان عائدا مع أمه المريضة التي ذهب معها الى العشار كي يعاينها الطبيب. ولكي يصلا الى البيت كان عليهما ان يركبا الباص الخشبي على طريق أبي الخصيب ، ثم ينزلا في مكان معين على الطريق ثم يسيرا على طريق ترابي باتجاه الشط حيث ربط غانم الجالبوت العائد لعائلته. أجلس أمه في الجالبوت وراح يجذف باتجاه بيتهم الذي يقع في جزيرة العجيراوية وسط شط العرب. كان النهر يجري بسرعة كبيرة، ثمة سفن عملاقة تمر في عرض النهر متوجهة الى ميناء المعقل وأخرى راجعة منه باتجاه البحر. تعوَّد سكان القرى أن يلتقطوا الاخشاب متنوعة الأحجام والتي تلقيها السفن للانتفاع بها ، وهي أخشاب من نوعية ممتازة غالبا. جذَّف غانم حتى أصبح وسط التيار حين شاهد السفينة العملاقة تلقي بالاخشاب في تيار الماء الهائج. فرح ، وقرر التجذيف لالتقاط الاخشاب . استيقظ بداخله صياد شَّرِه، أو محارب عنيد ، كان يريد التقاط الأخشاب ليري الناس بطولته وليفرح بها والده ، ولتنتفع بها عائلته. وهو الذي رأى كم كان التقاط الألواح الخشبية عملا بطوليا في قريته وفي كل القرى المنتشرة على جانبي الشط. كيف له أن يفوت فرصة كهذه جاءت اليه على حين غرة . لو أنه كان واقفا على السدة لما سمح له أبوه ركوب الجالبوت لالتقاط الألواح الخشبية . نسي نفسه، ونسي كل شيء سوى التقاط الاخشاب . حذرته أمه المريضة المتكورة في مؤخرة الجالبوت مثل خرقة من القيام بمثل هذه المجازفة ، الا أنه لم يصغ. تعالت صيحات بعيدة من جهتي الشط ، كانت تتردد على حديد السفن العملاقة ، ( أتركها .. أتركها.. حذار) ، ولكنه لم يصغ. بذل جهدا ليعترض طريق لوح خشبي كبير كان يندفع مع تيار الماء بقوة . ما ان دنا اللوح من جالبوت غانم حتى أكتشف أنه كبير جدا . أندفع لوح الخشب كأنه صاروخ باتجاه الجالبوت ، لحظات ولم يعد هناك جالبوت ، فقد انشطر نصفين وتشظى كأنه لعبة أطفال مصنوعة من عيدان هشة. تشبث غانم ببقايا الجالبوت وبحث عن أمه ولكنه لم يجدها. اختفت وسط الأمواج والحطام وجرفها تيار النهر المندفع بقوة الى الخليج. تغيرت حياته منذ ذلك اليوم ، فقد وبخه أهله وغضب عليه أبوه ، وصار اسمه مقرونا بموت أمه. هرب من القرية الى غير رجعة . واختفت قريته هي الأخرى عندما اندلعت الحرب وتبعثر أهلها في الأصقاع . ولكن الألم استقر داخله بل كبر واستفحل مع مرور السنين. كان يبكي عندما يجلس الى طاولته الصغيرة ليشرب العرق ، يبكي أمه التي كان سببا في موتها ، والتي غيبها الماء الى الأبد. 6 عندما سمع غانم بموت جبار مقتولا، تنفس الصعداء قليلا . ولكن الأمور ساءت أكثر . فلم يعد أحد يشتري من دكانه بعد انتهاء الحصار. أصبحت البضائع الجديدة مبذولة في السوق . و أختفى سكان الزقاق وحل محلهم سكان جدد . لم تعد الفتيات الجميلات اللواتي كن يرتدين ملابس المدرسة الجميلة بتنانيرهن القصيرة وقمصانهن البيضاء يسرن ذهابا وأيابا في الزقاق، وبدلا عن ذلك حل محلهن نسوة متشحات بعباءات سوداء لم يعد غانم متأكدا ما اذا كن فتيات المدارس أم نسوة كبيرات . واختفت النسوة والرجال المسيحيون الذين كانوا يفدون الى الكنيسة التي صارت مجرد خرابة تسرح بها الكلاب السائبة والقطط ويبيت فيها المتسولون أحيانا. وقلَّ عدد المصلين في جامع أبي منارتين وتغير حالهم أيضا ، فاصبحوا يسرعون بعد الصلاة عائدين من حيث أتوا كانهم اشباح. تهدمت أغلب البيوت وسقطت الشناشيل الخشبية البالية او أسقطت عمدا من قبل السكان الجدد. وامتلأ الزقاق بالحفر والقاذرات والمياه الآسنة والجرذان والروائح النتنة، بعد أن كان لسنوات طويلة يعبق بالعطور المنبعثة من النساء ، وبروائح الطبخات اللذيذة المتسربة من داخل البيوت ، رائحة الكبة ورائحة مرقة الباميا ورائحة الكليجة والجرك وشاي العصر المعطر بالهيل وماء الورد. ولكن غانم ظل يجلس في دكانه يحملق في الفراغ . رجل عجوز لا يعرفه أحد من سكان محلة الباشا، ولا يعرف هو أحدا منهم. يجلس وكأنه ينتظر النسوة ليجلبن له منتجاتهن ، أو كأنه ينتظر ساكو الذي لم يعد له وجود يحمل اليه كيسا بداخله زجاجة عرق ممتاز. في يوم من أيام الشتاء البارد عُثرعليه ميتا على كرسيه القديم وسط دكانه الفارغ . يومها تبرع بعض المصلين الغرباء بحمل هذا الغريب الى جامع أبي منارتين المتهالك حيث تم غسل الجسد الذاوي وتكفينه . وعندما قرروا حمله الى المستشفى الجمهوري لاستخراج شهادة وفاة ، تذكروا ان ذلك يتطلب هوية الأحوال المدنية . ذهب عدد من الشبان الى دكانه المفتوح والخالي من أي شيء بحثا عن هويته، فوجدوا دفترا كبيرا يحتوي على اسماء زبائن مجهولين مثل أم علاوي ، مرزوق ، أم جوزيف وآخرين، مع اسماء لمشترياتهم الغريبة ، وديونهم البسيطة مثل عشر فلوس ، خمسين فلس ، مائة فلس في الصفحات الأولى ، أما في الصفحات الأخيرة فقد بدت الديون أكبر اذ كانت بالدنانير ثم انتهت ببضع آلاف من الدنانير، ووجدوا هويته القديمة ملصقة عليها صورته المصفرة والمجعدة موضوعة بداخل ذلك الدفتر. سأل الطبيب الشرعي ما أسم المتوفي ، ثم قرأ الأسم المثبت بالهوية بصعوبة ، وكتب في شهادة الوفاة ( غانم عبد النبي صالح مواليد 1930).
#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ساعة فجر
-
غضب
-
للحكاية أكثر من وجه
-
آخر ليلة في حياة كبش
-
آباء وأمهات
-
عيدية العيد
-
عصابة الكف الأسود
-
غطاء الرأس .. وظيفته ورمزيته
-
الحرب على الأرهاب: الدروس المستفادة من منظور حضري
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|