|
خالد جلال … يستعيدُ ذاكرةَ (نادية)
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 6358 - 2019 / 9 / 22 - 16:00
المحور:
الادب والفن
(هزمناهم، ليس حين غزَوناهم، بل حين أنسيناهم تاريخَهم.) حكمةٌ عظيمة قالها الشاعرُ الإغريقيّ "سيمونيدس" مُحذِّرًا أبناءَ وطنه من نسيان هُويتهم، الذي سيكون معه الانكسارُ وضياعُ الغد. أظنُّ أن "خالد جلال"، كان في خاطره ذلك الخاطرُ الخطِرُ المخيف، وهو يرسم خطّة بناء مسرحيته الجميلة "سينما مصر"، التي ليست عملاً استعراضيٍّا راقيًا وحسب، بل درسٌ وطنيٌّ بليغ في حتمية التمسّك بالجذور الماجدة واستعادة الذاكرة المنسية، من أجل تشييد غدٍ متحضّر. فالأمّةُ التي تنسى، أو تتناسى، تاريخَها، أمّةٌ محكومٌ عليها بالتيه والموات. تمامًا كالإنسان الذي يفقدُ ذاكرتَه، فيفقدُ غدَه. وماذا لو كان التاريخُ عظيمًا وعصيًّا على المحاكاة؟! هنا يُصبحُ النسيانُ جريمةً أخلاقية وخيانةً وطنية. وهذا المواطنُ المصريّ: "خالد جلال"، الذي قُدِّرَ له أن يكون مبدعًا وصانعَ مبدعين. وهذا وطنُه: مصرُ الذي قُدِّرَ له أن يكون ذا تاريخ عظيم، نسيه أبناؤه، أو كادوا. وقرّر المبدعُ أن يُنعش ذاكرتَنا حتى نستعيد من غياهب النسيان تاريخَنا الخالد العصيّ على التكرار. فاختار أشهرَ واقعة "فقدان ذاكرة" في تاريخ السينما المصرية. "نادية" العروس الجميلة في فستان زفافها تستعدُ لحفل عُرسِها، لكن غارةً جويّة من العدوّ الصهيوني أفقدها ذاكرتها مع زلزلة القصف، لتعيش شطرًا من عمرها في ثوب فتاة أخرى لا تشبهها اسمها "فوزية”. وجاء هذا العرض البديع "سينما مصر" لكي يساعد "نادية"، على استعادة ذاكرتها المفقودة، لكي تخلع ثوب "فوزية" المهترئ، وترتدي من جديد ثوبها الأنيق الذي يليق بجمالها؛ ثوب "نادية برهان صادق"، انتبهوا إلى دلالة الاسم. "نادية"، النادية النديّة هي: “مصر". وتاريخُها المنسيُّ هو "البرهانُ الصادق" على مجدها العظيم الذي غيَّبَه قسرًا، مع سبق الإصرار والترصّد، عصاباتٌ من الحاقدين، مثلما غيّب "شاكر" ذاكرة نادية لتصير فوزية، التي لا نعرفها ولا تعرفنا. باقة مكثّفة وثريّة من المشاهد الأشهر والأجمل في تاريخ السينما المصرية، أدّاها على خشبة المسرح سبعون شابّة وشابًّا، من نجوم الغد الموهوبين، في عرض تخرّجهم من قسم التمثيل بمركز الإبداع الفني، بعد تتلمذهم على يد "صانع اللآلئ" المخرج الكبير "خالد جلال". في تضفيرة إبداعية ذكية، خدّمت المشاهدُ المختلفة على على تيمة ضخ الذكريات في رأس "نادية" لكي تستعيد تاريخها، فتهمسُ في إشراقات التذكّر: “أنا نادية مش فوزية"، الجملة الأشهر في فيلم “الليلة الأخيرة” للعظيمة "فاتن حمامة"، والعظيم “محمود مرسي”. وخلال رحلة البحث عن الهوية، لم يقف إلى جوارها إلا طبيبٌ مثقّف آمن بها وصدّقها، في رمزية ذكية للنخبة التنويرية الواعية التي تُحاول استعادة هوية مصر من بين أنياب لصوص الهُوّيات سارقي الأمجاد. في المشهد ال "Master Scene"، يتجمّع أعداءُ مصرَ حول النحيلة الحسناء "نادية"، ليُعترفوا بحقدهم عليها وغيرتهم القاتلة من جمالها ونقائها وذكائها وتفوقها، والأخطر من “تاريخها” العظيم وريادتها للعالم في غَبَش الأزمنة السحيقة. “تعرفي يا نادية سحرتي كام واحد، وخليتي عنيه متعلقة بيكى؟ كام واحد حبك واتغير وكبر وبقى مستحيل هزيمته بسببك؟! لو فضلتي جميلة وعايشة يبقى لازم أنا أموت. لازم تموتي عشان أفضل أنا عايش. لازم تبقي من غير ملامح، مجنونة ناسية سكرانة، عجوزة شريرة تافهة. حاولي تاني ترجعي نادية مش هاتعرفي، مش هاتقدري. حاولت أخنقك، أخطفك، أسرقك… مقدرتش. فكان لازم أخليكي واحدة تانية مشوهة. يظهر انك مش عارفة مين عدوك، مش عارفة أنا مين!” ذلك المونولوج الذي قاله "شاكر" الشرير سارق ذاكرة نادية، يختصر جميع تشوهات مصر التي ضربتها منذ سبعينيات القرن الماضي، منذ تبدّلت هويتُها وصارت مسخًا لا يليق بماضيها العظيم. لكن "نادية" أفاقت وقررت أن تعود إلى ذاتها، فقالت للعدو بحسم وثقة: “أنا عارفة أنت مين. كتير زيك عدّى عليا؟ يتغير الشكل، اللون، اللغوة، الطريقة، لكن دايما الغرض واحد. وعمرك ما نلته ولا حد ناله. تعرف كام واحد حاول يموتني ومقدرش؟ واللي قبلك كانوا أذكى وأشرس، تيران تعالب ضباع. لكن يجوا لحد عندي ويستسلموا. أنا مش بموت يا شاكر. ولو قتلتني، باتولد كل يوم من جديد زي الشمس. لا باموت ولا بانطفي. عشان أنا عارفة أنا مين. أقع وأرجع أقف من تاني. أنا عارفة أنا مين. عارفة اسمي وأرضي وولادي وجدودي وتاريخ ميلادي. مش هاتقدر تنسّيني عشان أنا عارفة أنا مين.” من العسير اختصار تحية الموهوبين أصحاب ذلك العرض الاستعراضي الرائع في مقال كهذا. ومن العسير أن تشاهد ذلك العرض وتخرج منه دون أن تضربك النوستالجيا ويوجعك التذكّر ويُبهجك الأداء الفائق والإخراج العبقري، فيصرخُ فيك چينُ العراقة ويُجبرك على المشاركة في صنع مستقبل خالد يليق بذلك التاريخ الخالد. تحية احترام للمخرج الكبير وأبنائه الموهوبين. "الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن”. ***
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صَهٍ … إن مصرَ تتكلّم!
-
اعترافات أجدادي العِظام … السَّلفُ الصالح
-
ماعت التي ما ماعت ... في صالوني
-
جهادُ المصريين ضد الجهل والطائفية والإخوان
-
كانوا وسيمين … كنّ جميلات!
-
عنصريةُ اليد اليسرى!
-
ابحث عن نسختك الأجمل
-
الراهبُ … البون بون … الأخلاق
-
فولتير على القومي… يحاربُ العنفَ بالبهجة والتفاؤلتي
-
فولتير على القومي… يحاربُ العنفَ بالبهجة والتفاؤل
-
بناءُ الإنسان في مصر
-
المهرجان القومي لأبي العظماء السبعة
-
مصرُ يليقُ بكِ الفرح … الوزيراتُ يليقُ بكنّ الأبيض
-
الجرذان
-
زمن جابر عصفور
-
من ذكريات القناة … صمتَ الرئيسُ لتتكلَّمَ السفينة
-
مَن هم الأقليّة في مصر؟ (2)
-
الفلاتر الثلاثة … والأخلاق
-
مَن هم الأقليّة في مصر؟ (1)
-
الإخوان السفاحون…. لم يرحموا المرضى
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|