|
ديفيد لنش.. البحث عن الذات
محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.
(Mohamed Elfeki)
الحوار المتمدن-العدد: 6353 - 2019 / 9 / 17 - 18:41
المحور:
الادب والفن
لا يلجأ المخرج الأمريكي الكبير ديفيد لنش للمنطق العادي في أفلامه، بل يستبدله بمنطق الأحلام؛ وبتحديد أكثر: منطق الكوابيس. لكن ذلك لا يعني أن شخصيات لنش تعيش داخل كابوس ستفيق منه عاجلاً أو آجلاً؛ فالحقيقة أنها لن تفيق أبداً؛ والمُشاهد الذي يوافق على دخول مملكة لنش، يكون منذ البداية قد وافق على أن يحكم العالم المنطق الكابوسي.
أفلام لنش تعد المُشاهد في بدايتها بفيلم من نوعية (من الفاعل) (whodunit)، لكنه في الحقيقة وعد كاذب، فكشف هوية القاتل، والذي هو هدف أفلام (من الفاعل)، لا يهم لنش أساساً، ولا هو يسعى وراءه. لم يسعى مثلاً وراء القاتل الحقيقي في (الطريق المفقود)، ولا لكشف غموض جريمة القتل التي تفتتح فيلم (طريق مولهولاند)، ولا سار وراء جريمة القتل الغامضة التي يُقتل فيها أبطال الفيلم البولندي في فيلمه الروائي الأخير (مملكة الداخل). إن لنش يستخدم جريمة القتل بنفس استخدام هيتشكوك لما كان يُطلق عليه "الماكجوفين" (أو سمكة الرنجة الحمراء): أي كطعم لاصطياد المُشاهد؛ كعامل إغراء لإدخاله مملكته الأسلوبية الخاصة؛ مملكة لنش الكابوسية. وبدخول المُشاهد تلك المملكة، يسقط في سلسلة من الاستدراجات التي لا يستطيع الفكاك منها، والتي لا يصلح معها المنطق في فهم الأحداث؛ حيث يصبح اللامنطق هو المنطق في صرامته، ولا يملك المرء هنا إلا أن يستدعي رحلة (ك) في رواية القصر لكافكا، وهو يحاول جاهداً الوصول إلى القصر دون جدوى.
يؤسس لنش معمار أفلامه على المنطق الكابوسي، ويستخدم الألعاب السيريالية لتحقيق ذلك: تشويه المنظور (الدرامي والبصري)، لعبة المرايا المتقابلة (التي تعكس الصورة إلى ما لا نهاية)، لعبة العروسة الروسية (عروسة أصغر داخل عروسة أكبر، وهكذا)، الغرائبية (والتي هي أكبر من مجرد شذوذ بعض الشخصيات والسلوكيات؛ فهي منطق كامل صلد، يستطيع الصمود والدفاع عن نفسه في وجه المألوف)، الزمن الدائري (اللاخطي)، وتسييل الحواجز بين الذات والعالم.
إن مملكة لنش ليست مملكة من سهول وتلال، وصحاري وجبال، بل هي أساساً وحصرياً مملكة "الداخل"؛ مملكة النفس البشرية. وهي مملكة أسلوبية مستبدة، لا جمهورية شعبوية ديمقراطية. قد نستطيع رصد أشهر العناصر الأسلوبية درامياً وبصرياً لتلك المملكة في: سيولة الوجود بين الذات والعالم، منطق الحلم الكابوسي، المغالطات الحوارية التي تنفي قيمة الكلمات، المعاناة التي يسببها الشبق واستحواذ العامل الجنسي (والرغبات تبتلع الوجود ابتلاعاً)، والسادية المدفونة في أعماق الإنسان، الهوس بالتلصص، خداع النفس بالرومانسية والبراءة، النسيان، الأحلام كمصدر للمعرفة، ارتفاع سقف العنف، لاعقلانية الإنسان، الغموض، وتفضيل مناطق الظل في النفس البشرية، الإضاءات المعتمة للصورة، وأجواء الفيلم نوار، شكل الرحلة في الفيلم (رحلة من عماوة القلب إلى كابوسية التنوير)، التحولات الفجائية للشخصيات في الزمان والمكان والهوية، وتغير الذات من شكل إلى شكل، رهافة وجمالية شريط الصوت، التوائم المتناقضة، الاحتفاء بالشكل، الحنين إلى جماليات عقد الخمسينيات بأزيائها وإكسسواراتها وأدواتها المنزلية، الجنوح لمنطق الفلسفات الشرقية (وخصوصاً البوذية)، العلاقة الجدلية مع هوليوود (كراهية واحتياج في نفس الوقت. لنش هو حامل لواء التجريب والجنون والإسراف في هوليوود)، المشاهد التي لا تكتمل، وقطع التسلسل في السرد، الرموز الفلسفية التي لا تتكشف إلا عبر المشاهدات المتكررة لأعماله؛ خصوصاً ثلاثيته الأسلوبية الأروع والأكثر تعقيداً: (الطريق المفقود)، و(طريق مولهولاند)، و(مملكة الداخل).
في تلك الثلاثية ينفي لنش القوانين المعتادة للزمان والمكان، وينفي مفهوم وحدة الهوية، لصالح السيولة، والتغير الدائم، وعدم الاستقرار على حال، لكل من: الزمان والمكان والهوية. في (الطريق المفقود)، مثلاً: تتحول الشخصية الواحدة من: عازف ساكسفون اسمه فريد، إلى ميكانيكي سيارات يصغره كثيراً اسمه بيت. وتتحول زوجة الموسيقي (القتيلة) التي اسمها رينيه، إلى حبيبة الميكانيكي التي اسمها أليس. وبينما تلعب نفس الممثلة دوري البطولة النسائية، يلعب ممثلين مختلفين دوري البطولة الرجالية، وتستمر لعبة التحولات في الهويات على طول الفيلم، والذي يربطه شخصية غرائبية ليس لها اسم، ولكننا نعرف كنيته من تترات الفيلم: "الرجل الغامض".
أيضاً، في فيلم (طريق مولهولاند): يبدأ الفيلم بريتا التي تجلس في المقعد الخلفي لسيارة لموزين تسير عبر طريق مولهولاند في لوس آنجلوس، ثم نرى السائق يوجه مسدساً إلى رأسها، وتصطدم سيارة مسرعة بسيارتهما على النحو الذي تشتعل فيه السيارة، وُتقتل ريتا -على ما نفهم، لإن موتها الفعلي لا يظهر أبداً على الشاشة-، ثم نراها في اللقطة التالي تخرج من السيارة وكأنها تتعلم المشي للمرة الأولى، ونعرف أنها قد فقدت ذاكرتها، ثم تخوض فيما بعد رحلة تتعرف فيها على بيتي، التي تساعدها على البحث عن هويتها المنسية، وتتسمى مؤقتاً بـ (ريتا)، بعد أن التقطت الاسم من بوستر فيلم لريتا هيورات. وتتعقد رحلة البحث عن الهوية، على نحو تختلط فيه الهويات؛ فتسيل الحدود الفاصلة بين هوية ريتا مع هوية ممثلة سينمائية اسمها كاميللا، بينما تتداخل هوية بيتي مع هوية دايان عشيقة كاميللا والتي تنتحر لاحقاً في الفيلم.
أما في آخر أفلام الثلاثية (مملكة الداخل)، فيبدو لنا الفيلم كله وكأنه لعبة مرايا عظيمة: هناك الممثلة نيكي المُرشحة للقيام بدور شخصية اسمها سوزان في فيلم اسمه (نحو السماء في الغد الحزين). وقبل أن يتأكد حصولها على الدور، تزورها جارتها العرافة البولندية المسنة، وتتنبأ لها بأنها ستحصل فعلاً على الدور، وتحكي لها حكايتين مختلفتين (سنرى آثارهما وتوابعهما على طول الفيلم نفسه)، وبسبب ارتباك الجارة العجوز بشأن تاريخ اليوم، تنتقل الأحداث إلى المستقبل القريب، فنرى نيكي وهي تمثل دور سوزان في الفيلم الذي يتم تصويره، وتختلط هويتي نيكي وسوزان أثناء ذلك، وتختلط الأزمنة أيضاً ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، على نحو ترى فيه نيكي نفسها وهي تقوم بأفعال لم تكن تعلم أنها هي من قامت بها، بل وتختلط الهويتان الاثنتين للممثلة بهوية ثالثة هي هوية عاهرة تظهر لاحقاً في أحداث الفيلم الذي هو داخل الفيلم، ثم تختلط الثلاث هويات السابقة بهوية أحد الأرانب في عائلة الأرانب في المشهد المسرحي الغرائبي في الفيلم. ولا يقتصر الأمر على شخصية الممثلة التي تتعدد هوياتها خلال الفيلم الذي نشاهده، ولا خلال الفيلم الذي يتم تصويره داخل الفيلم، ولا خلال المسرحية التي هي داخل الفيلم الذي هو داخل الفيلم، فـ (مملكة الداخل) كله وبكل شخصياته عبارة عن متاهة كبيرة تختلط فيها هويات جميع الشخصيات، كما تتعدد انعكاسات الأحداث أيضاً، في لعبة مرايا جديرة بفنان عظيم. لكن مع التدقيق والمشاهدات المتكررة، يمكن التقاط ثلاثة خطوط رئيسية مستمرة معنا على طول الفيلم، يتم عكسها باستمرار خلال لعبة المرايا التي يلعبها لنش مع المُشاهد. هذه الخطوط الثلاثة هي: (1)- أطول مسرحية إذاعية في التاريخ (آكسون إن)، (2)- العاهرة الصغيرة مجهولة الاسم التي ُتسمى في تترات الفيلم "الفتاة الضائعة"؛ والتي تبكي باستمرار اثناء مشاهدتها لجهاز تليفزيون يُذيع مسرحية سيريالية لعائلة من الأرانب ، (3)- تصوير نيكي للفيلم السينمائي الجديد؛ والذي هو صورة مكررة من الفيلم البولندي المشؤوم (نحو السماء في الغد الحزين)؛ الذي ُقتل أبطاله أثناء التمثيل بسبب لعنة غامضة مرتبطة بحبكة الفيلم نفسه.
هذا النوع من العوالم الكابوسية، هذه المملكة التي ينتفي فيها الإدراك المعتاد لمنطقية الظواهر، ولخطية الزمن وتراتبيته، ولثبات المكان وتماسكه، ووحدانية الذات في الشخصية عينها، تضع الثقافة العالمية الراهنة في مأزق لا تستطيع معه إلا أن تحكم على أفلام لنش حكماً سلبياً؛ حكماً بأنها لا تستحق المشاهدة، أو حتى غير قابلة للمشاهدة. والنقاد الغربيون الذين حاولوا إيجاد مفاتيح لفهم مملكة لنش اقتصرت محاولات معظمهم على التفسير الفانتازي أو الخيالي. وبتعبير تزيفتان تودوروف: الأحداث التي لا يمكن تفسيرها من خلال معرفتنا بالعالم المعتاد لنا، نميل إلى تفسيرها على أنها خيالات أو أوهام. أي أنها صور ذهنية غير حقيقية لا تحدث في العالم الإمبريقي وغير قابلة للاختبار؛ وكأنها صور تنبثق من اللاوعي.
لكن إذا سلمنا بهذه القراءة الأقرب إلى التفسير السيكولوجي (والسيكولوجيا سلاح ذو حدين، يتحمل الشيء وعكسه، كما يخبرنا المحامي فيتوكوفتش في مرافعته في نهاية "الأخوة كارامازوف" لدوستويفسكي)، نقول إذا سلمنا بالتفسير السيكولوجي لشخوص وعوالم لنش؛ أي أنها عوالم ذهنية لا تجري إلا في لاوعي شخصياته السيكوباتية، فكيف لنا أن نفسر، على سبيل المثال، أن الذات الواحدة تنقسم إلى ذاتين، ثم تعرف إحدى الذاتين معلومات ووقائع يستحيل عليها أن تعرفها لو اقتصر الأمر على أنها جزء فقط من اللاوعي؟! كيف لنا أن نفسر، مثلاً، أن ريتا في فيلم (طريق مولهولاند) تشاهد بأم عينيها عشيقتها دايان منتحرة بعد مقتل ريتا نفسها بعدة أسابيع؟! ولو كان صحيح أن الميكانيكي الشاب هو وهم متخيل في العقل اللاواعي للموسيقي المسجون بتهمة قتل زوجته في فيلم (الطريق المفقود)، فكيف نفسر أن جميع الشخوص الأخرى تراه وتتفاعل معه؟! لا، إن ما يحدث في أفلام لنش يحدث درامياً ضمن منطق "الحياة الفعلية"، وليس ضمن منطق التخيلات والأوهام، ولا كامتدادات فانتازية داخل عقل الشخصية. إن عالم لنش لا يمكن تفسيره بحق وفقاً للسيكولوجيا، بل إن النظام الفلسفي الغربي بأكمله، والقائم -منذ أفلاطون- على ثنائية (الذات/الخارج)، لا يبدو قادراً على تقديم قراءة مقنعة لما يقوم به لنش في أفلامه.
حين تراني مرة أخرى لن تراني: متأثراً ربما بتأملاته الصوفية البوذية؛ لا يعتبر لنش العالم الظاهري المألوف لنا إلا مغالطة ووهم ينبغي نزع القناع الزائف عنه حتى تتكشف لنا الحقيقة؛ والتي هي موجودة دائماً، ولكنها تغيب عنا، لانغماسنا في تفاهات الوجود اليومي، تماماً كما يغيب السكر الذائب في الماء، فلا نراه، بالرغم من وجوده هناك. وإذا كان العالم الظاهري هو خدعة تمنعنا من رؤية الحقيقة، فينبغي إذن التخلص منه؛ أي التخلص من قوانين الزمان والمكان، ومن ثقل الجسد وحضوره الفيزيقي.
ولذلك يخوض الموسيقي في (الطريق المفقود) رحلة للبحث عن ذاته الحقة، كما تخوض ريتا في (طريق مولهولاند) رحلة لاكتشاف نفسها الضائعة، وهو أيضاً نفس مسعى الممثلة نيكي في (مملكة الداخل). ولا تخوض الشخوص في مملكة لنش رحلة البحث عن الذات إلا بعد أن تعصف بهم تجربة قاسية عنيفة. في (الطريق المفقود)؛ شكوك الموسيقي في سلوك زوجته هو بداية الرحلة للبحث عن الذات الحقة، والغيرة التي تشتعل في قلب الميكانيكي الشاب عندما تخبره عشيقة رجل المافيا بما يجبرها على القيام به من أفعال شبقية تحت تهديد السلاح، هو أيضاً بداية رحلته لاكتشاف الذات. وفي (طريق مولهولاند)؛ تصويب المسدس إلى ريتا في سيارتها ثم قتلها، هو أيضاً بداية رحلة بحثها عن نفسها. وفي (مملكة الداخل) تبدأ رحلة البحث عن الذات بالنسبة لنيكي في أعقاب خيانتها لزوجها؛ وهي المرأة المحافظة المتحفظة.
في هذا السياق، يمكننا أن نفهم ما جرى في لحظة معينة في بروفة التمثيل التي تجريها نيكي مع زميلها الممثل في (مملكة الداخل). فقبيل إقامة نيكي لعلاقة مع زميلها الممثل، تسمع دربكة غريبة في كواليس الديكور، وتكتشف فيما بعد أنها هي ذاتها التي سببتها وهي تتفرج على نفسها من وراء الكواليس بعد عدة أسابيع من البروفة نفسها؛ وكأن الإنسان هنا يفتح عينيه على الحقيقة المرة: أنه هو هو السبب. يماثل ذلك في فيلم (الطريق المفقود) الصوت الذي سمعه الموسيقي فريد في بداية الفيلم والذي يخبره بأن: "ديك لورنت قد مات"، والذي يتضح في نهاية الفيلم أنه صوته هو نفسه، تماماً مثل الصرخة الأنثوية التي سمعها (والتي أطلقها هو نفسه أيضاً) وهو يحكي لزوجته عن الكابوس الذي وافاه في حجرة نومهما؛ وكأن النفس هنا أيضاً تصبح هي نفسها أداة عذابها.
لا تبدأ رحلة البحث عن الذات إلا عبر التخلي أولاً عن المنطق الجاري المعتاد. ولذلك نجد النسيان حاضراً دائماً في أفلام لنش. في (الطريق المفقود) لا يتذكر الموسيقي الذي قتل زوجته أنه قتلها. وفي (طريق مولهولاند) تفقد ريتا ذاكرتها فلا تتذكر شيئاً عن حياتها الماضية. إن ما يبدو وكأنه فقد للهوية، وضياع لذاكرة ريتا، هو، على العكس، البداية للتعرف على الذات الحقة. الفقد هنا هو بداية الامتلاء. إن ريتا تتخلص من قناع زائف للذات، سعياً للعثور على ذاتها الحقيقية. ويلعب لنش هنا بعظمة على المفارقة: إن ريتا وصديقتها بيتي تبحثان عن هوية ريتا القديمة (الحقيقية كما تظنان، وكما يظن المُشاهد)، عبر البحث في التاريخ الشخصي السابق لريتا: أقربائها، معارفها، الأماكن التي اعتادت التردد عليها... إلخ، في حين أنه من المستحيل العثور على الذات (الحقة) لريتا بتلك الطريقة، لأن تلك الطريقة لن تقود إلا إلى هوية ميتة، تم التخلص منها بالفعل منذ البداية من أجل القيام برحلة اكتشاف الذات، أي أنها لن تقود إلا إلى كاميللا التي ُقتلت في بداية الفيلم على طريق مولهولاند الذي هو طريق يصل بين تلال مدينة لوس آنجلوس (مدينة الملائكة) وبين ستوديوهات هوليوود (وكأنه طريق الآمال بالسعادة والتحقق). إذن المسعى الذي تقوم به ريتا وبيتي هو مسعى مستحيل، ولن يقود إلا إلى طريق مسدود (كما يقود طريق مولهولاند نفسه إلى أبواب هوليوود المغلقة في وجه الآملين)؛ إنه طريق مستحيل، كما كان الطريق إلى القصر في رواية كافكا مستحيلاً على (ك).
ولكن من هو الإنسان الذي وصل إلى حالة من معرفة الذات الحقة، ولم يعد يعاني من الانقسامات الثنائية في الشخصية؟! إن هناك دلائل كثيرة تشير إلى أن صورة ذلك الإنسان قد تم التعبير عنها في شخصيات "فوق طبيعية"؛ إنسان حقق تعاليه، ونجح في رحلته، ووصل إلى هدف زرادشت. من أبرز تلك الشخصيات في أفلامه شخصية "الرجل الغامض" في (الطريق المفقود)، وأيضاً، وبتنويعة مختلفة قليلاً، شخصية "الوحش المتشرد" في (طريق مولهولاند). فالرجل الغامض مثلاً، هو صلة الوصل ما بين الموسيقي والميكانيكي الشاب من ناحية، وما يقوله لأحدهما يقوله للآخر بنفس النص: "لقد تقابلنا من قبل، ألا تتذكر؟!... في منزلك نفسه!". والرجل الغامض هو الوحيد في الفيلم الذي لا يعاني من الانقسامات الثنائية في الشخصية، وهو نفسه الذي يراقب بدم بارد تجمع كل الشخصيات المنقسمة على نفسها، والتي تجتمع قرب نهاية الفيلم في فندق الطريق المفقود، بل إنه يساعد الموسيقي في قتل غريمه رجل المافيا في المواجهة بينهما في آخر الفيلم؛ وكأن الذات هنا تنتقم من الشر بعد تعذر خلاصها، أو كأن لنش يقول إن القضاء على الانقسامات الثنائية داخل النفس البشرية والعثور على هويتها الحقة يتطلب فعلاً عنيفاً؛ فعلاً عنيفاً لابد له من مساعدة خارجية من ذات أخرى عرفت الطريق وعثرت على هويتها.
وعلى ذلك تكون مملكة لنش أقرب إلى رؤية شوبنهاور منها إلى رؤية نيتشه. فقوى الشر التي تحتويها النفس البشرية لا يعتبرها لنش انعكاساً لأكثر الجوانب الإبداعية والبطولية في النفس الإنسانية، بقدر ما هي تعبير عن الحلقة الدائرية المفرغة للألم والمعاناة التي تدور فيها تلك النفس؛ والتي قد تنجح في إخفاء الشر الذي تحمله بداخلها، دون أن تنجح في التخلص من هذا الشر؛ لإن صفة "الرشد" تنتفي من الإرادة الإنسانية، على عكس رؤية كانط وهيجل لرشدية وعقلانية الإرادة البشرية. هناك مقولة مهمة تعبر عن قناعة لنش بشأن الإنسان والعالم، ترد في فيلم (وحش في الأعماق)، تقول: "العالم ما هو إلا وحش في أعماقه، حتى وإن بدا مجنوناً على السطح". هذه الثنائية سنجدها مبثوثة في كل أفلامه من أولها لآخرها: التوحش في الباطن، والجنون في الظاهر؛ ذلك الجنون الذي هو ربما البديل عن الانتحار الذي تكلم عنه دوستويفسكي وسماه "الانتحار المنطقى" (وعبر عنه أعظم تعبير في شخصية كيريلوف في روايته "الشياطين")، ثم نيتشه من بعده، ثم ألبير كامو من بعدهما؛ ذلك الانتحار (والجنون في حالة لنش) الذي يصبح حتمياً لدى الإنسان الصادق إذا ما اكتشف حقيقة الوجود العبثية.
من المهم ملاحظة أنه كلما تعمقت الشخصية في رحلة البحث عن الذات، أمعن لنش في تكسير المنطق العادي، وقوانين الزمان والمكان، رابطاً ربطاً طردياً ما بين نجاح البحث عن الذات وبين رفض العالم الظاهري وقوانينه المنطقية والموضوعية؛ وكأن ذلك هو الطريق الوحيد الذي يمكن عبره الوصول إلى المعرفة الحقة. وكأن الحقيقة الكبرى في مملكة لنش هي: دوام التحولات، وزيف الثبات، وأن الوهم والمغالطات والتشوهات إنما تنشأ من رفض الإنسان الاعتراف بذلك، ومحاولته إضفاء ما يظن أنه الوحدة والعقلانية والموضوعية على الوجود. إن الطريق الوحيد الصحيح في مملكة لنش هو الطريق الرافض لوحدة الوجود، فالذات مكونة من شظايا لعدة ذوات، ولكنها ليست حاصل جمع هذه الذوات في ذات واحدة: هل السيارة هي المحرك فقط؟! أم هي العجلات؟! أم هي صندوق التروس؟! أم هي مقود القيادة؟! من المؤكد أن السيارة ليست شيئاً واحداً فقط من تلك الأجزاء المختلفة. لكن في مملكة لنش، لا يُشكل أيضاً مجموع هذه الأجزاء السيارة نفسها. إن السيارة في مملكة لنش هي شيء مختلف عن مجموع أجزاءها؛ ربما كانت صوتاً فقط، وربما لم توجد يوماً بوصفها ذاتاً مستقلة.
ومن هنا نفهم السيولة الكبيرة والتحولات في الهويات وعوالم المرايا في مملكة لنش: من الموسيقي إلى الميكانيكي إلى الموسيقي، ومن الزوجة إلى أليس في (الطريق المفقود)، من كاميللا إلى ريتا إلى كاميللا، ومن دايان إلى بيتي إلى دايان في (طريق مولهولاند)، ومن نيكي إلى سوزان إلى العاهرة إلى الأرنبة في (مملكة الداخل): إنها تجليات لصور متنوعة، معكوسة من خلال مرايا تعكس شظايا الذات التي تخوض رحلة محكوم عليها بالفشل للعثور على نفسها؛ رحلة لن تزيد الظلمات إلا كثافة.
وهكذا ينتفي المنطق من مملكة لنش، والتي تتأسس على الإيمان بأن الإنسان يخدع نفسه بمحاولة فرض المنطقية على العشوائية والعبثية سعياً نحو نوع من الإحساس بالنظام في ظل الفوضى التي تغلف الوجود بأكمله. حتى أنه يكثف في أفلامه هذه العبثية وتلك الفوضى بأن يعمل على خلق مزيد من التشويه، ومزيد من التلاعب بالواقع، ومزيد من التناقضات المنطقية، والمغالطات الحوارية، في منطق كابوسي يربك المُشاهد إلى الدرجة التي لا يمكنه معها الانزعاج من التحولات الحادة في الشخصيات، ولا من قطع التسلسل في الحبكة. إن طريقة لنش في استدعاء منطق الكوابيس، وتشويه الواقع، هي طريقة الفنان السريالي الذي يقوم بتسييل الفواصل بين عالمي الحلم والواقع، للوصول إلى الحقائق الكبرى للعالم والوجود، تلك الحقائق التي ربما تختفي تحت السطح المخادع للواقع اليومي. إن ما يفعله لنش يشبه ما يقوم به المصور السريالي من استخدام منظورات مشوهة، وتلاعب ببعدي الطول والعرض (الزمان والمكان في حالة لنش)، من أجل التعبير عن البعد الثالث (الذات الحقيقية عند لنش) المختفي عن نظر الإنسان المشغول بتفاهات الصراع اليومي. إن مراياه تعكس صورة العالم، ولكنها ليست مرايا مستوية، إنها مرايا محدبة ومقعرة؛ لا تشوه من أجل التشويه، بل من أجل الكشف: كشف جوهر الإنسان، وحقيقة الوجود.
*****
فلموجرافيا: ولد ديفيد لنش في ولاية مونتانا بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1946. وبالإضافة إلى عرض لوحاته التشكيلية في أنحاء كثيرة من العالم، وابتكاره لنوع خاص من القهوة يحمل اسمه، وقيامه بحملات للتبرع لصالح نوع معين من الرياضات الصوفية البوذية، وتأليفه لمناهج دراسية في المدارس الابتدائية الأمريكية تحفز التأمل عند الأطفال، فقد قام أيضاً بصنع عدد من الأفلام القصيرة، وأفلام الكرتون، والأفلام التسجيلية، وأصدر عدة ألبومات موسيقية، وقام بتصميم الديكورات الداخلية لبعض المطاعم ونوادي الدسكو في فرنسا وأمريكا، وأخرج عدداً من الإعلانات التجارية، وأغاني الفيديو-كليب. وبالإضافة إلى ذلك صنع أيضاً أربعة مسلسلات تلفزيونية أهمها: (مدينة توينز بيك، 1990-1991). صنع ديفيد لنش للآن 10 أفلام روائية طويلة، هي: 1- الرأس الماحية، 1976. 2- الرجل الفيل، 1980. 3- كوكب ديون، 1984. 4- المخمل الأزرق، 1986. 5- وحش في الأعماق، 1990. 6- مدينة توينز بيك: سيري معي أيتها النيران، 1992. 7- الطريق المفقود، 1997. 8- حكاية ستريت، 1999. 9- طريق مولاهولاند، 2001. 10- إمبراطورية الداخل، 2006.
#محمد_الفقي (هاشتاغ)
Mohamed_Elfeki#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عضو الكوكلوكس كلان الأسود
-
ياسوجيرو أوزو.. فن التثبيت
-
قواعد اللعبة
-
مايكل أنجلو أنطونيوني.. ظاهريات الغياب
-
هتشكوك.. الإنسان بوصفه طريدة
-
نموذج للسخافة الهوليودية في عصر النيولبرالية
-
عن اللوحة الاستهلالية لفيلم المومياء
-
البطل الهوليودي في عصر النيولبرالية
-
تشارلي .. فسيولوجيا الإنسان الأول
-
سينما جان بيير ملفيل.. أزهار الشر
-
لماذا نعارض إصلاح السيسي؟ - (2)
-
لماذا نعارض إصلاح السيسي؟ - (1)
-
عن سينما أندريه تاركوفسكي
-
كافكا والأمل
-
دوستويفسكي والألم
-
ذوق الجماهير.. الفن في عصر النيولبرالية
-
حديقة الديناصورات، والإرهاب أيضاً
-
مرحباً في صحراء الدراما المصرية
-
القفزة الإيمانية لذوي السجلات الإجرامية
-
تزييف التاريخ في سينما هوليود
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|