دينا سليم حنحن
الحوار المتمدن-العدد: 6344 - 2019 / 9 / 7 - 21:19
المحور:
الادب والفن
من قصص الحروب - قصة واقعية
سقطت المدينة وبقي البهلوان
بقلم: دينا سليم حنحن
امتلأت الحديقة بالرصاص، وتناثرت العباريد والظروف(1) في الأنحاء، تشتتت الأصوات، واحتلّ الصراخ الأجواء، وانتشر الضجيج في المكان، لاذت الطفلات الثلاث بالجدار واختبأن خلف شجرة القشطة، إلا الطفلة هالة التي علقت وحيدة في وسط الحديقة دون أن تفهم كيف يستنجدون، والله أعلم كيف ابتكرت بمخيلتها القصيرة فكرة ما حتى أبقتها على قيد الحياة.
حوصرت وتاهت وصرخت مذعورة، ركضت خطوتين ثمّ توقفت بطبقها المصنوع من النحاس متخلية عن ملاءتها التي سقطت بين قدميها . هبت والدتها نحوها والتقطتها وخلصتها من القذف الذي استمر ساعات، لكن قبل أن تصل إليها نزلت رصاصة داخل الطبق، فطار من بين يدي الطفلة، وحطّ في بقعة بعيدة، وبقي فيها بشكله المقعر الذي يشبه وجه البهلوان سنين كثيرة.
تسمرت الطفلة في مكانها مشدوهة لا تعلم ماذا يحدث، وأرادت اللحاق به حتى تكمل لقمتها، لكنها لم تعثر عليه.
أصبح فضول ابنة الرابعة حول ما يجري أقوى من أيّ فضول، لم يتوقف الرصاص وضاع الطبق، وبقي الجرح دمغة على ظهر كفّها حتى سنوات حياتها السبعين.
قبل أن تأتي النهاية، وقبل أن تسقط المدينة، التقطت الأمّ ابنتها الصغيرة، وأدخلتها الدار، وأجلستها بجانب أخواتها اللواتي استطعن الهروب من الحديقة إلى داخل البيت، احتضن بعضهنّ، وتماسكن جيدا، فرحل الخوف عن قلوبهن الصغيرة
وعادت الطيور المذعورة إلى وكرها، إلى حضن الأم الدافئ، ولم تتجرأ الأخوات الخروج من البيت كلّ واحدة على حدا بعد ذلك نهائيا، أيضا بعد اقترانهنّ برجال غرباء، يا لهذا التماسك العجيب.
اكتظ الأفق بالغبار، واحترقت الشمس بلهيبها، وخيم صمت مهيب على المدينة التي حفلت بالذعر والفزع، لكن بعد عدة ساعات تبدلت الأجواء، وسكنت الضوضاء.
ماذا يجري؟
هل هي البداية فقط أم هي النهاية المحتمة؟ وهل سقطت المدينة بكلّ هذه السهولة وانتهى الأمر، هل انتهى كلّ شيء بهذه السرعة؟
مرعب هدوء ما بعد العاصفة...مرعب هدوء ما قبل العاصفة.
لقد انتهى كلّ شيء بأقصى سرعة، وعاشت الأخوات فيما بعد مع بعضهنّ حتى يسردن الحكايات على أحفادهن، لعلهم يتفكرون ويستذكرون، لكن، هل سيكترثون بما حدث في الماضي؟ وهل سيبحثون عن أسباب سقوط المدينة في النكبة؟ ربما.
...
(1) العباريد: مفردها العبرود، المقذوف، وهو رأس الرصاصة. الظروف: مفردها الظرف، هو القسم الموجود فيه البارود، والذي يخرج من السلاح بعد الإطلاق.
#دينا_سليم_حنحن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟